بيان
الآيات ختام السورة و هي تحتوي على خلاصة الغرض من دعوته (صلى الله عليه وآله وسلم) في السورة و أنه متلبس بالعمل بما يدعو إليه، و فيها خلاصة الحجج التي أقيمت فيها لإبطال عقيدة الشرك.
قوله تعالى: «قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم» إلى آخر الآيتين.
القيم بالكسر فالفتح مخفف القيام وصف به الدين للمبالغة في قيامه على مصالح العباد، و قيل: وصف بمعنى القيم على الأمر.
يأمر الله سبحانه أن يخبرهم بأن ربه الذي يدعو إليه هداه بهداية إلهية إلى صراط مستقيم و سبيل واضح قيم على سالكيه لا تخلف فيه و لا اختلاف دينا قائما على مصالح الدنيا و الآخرة أحسن القيام - لكونه مبنيا على الفطرة - ملة إبراهيم حنيفا مائلا عن التطرف بالشرك إلى اعتدال التوحيد و ما كان من المشركين، و قد تقدم توضيح هذه المعاني في تفسير الآيات السابقة من السورة.
قوله تعالى: «قل إن صلاتي و نسكي و محياي و مماتي لله - إلى قوله - أول المسلمين» النسك مطلق العبادة، و كثر استعماله في الذبح أو الذبيحة تقربا إلى الله سبحانه.
أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) ثانيا أن يخبرهم بأنه عامل بما هداه الله إليه متلبس به كما أنه مأمور بذلك ليكون أبعد من التهمة عندهم و أقرب إلى تلقيهم بالقبول فإن من أمارة الصدق أن يعمل الإنسان بما يندب إليه، و يطابق فعله قوله.
فقال: قل: إنني جعلت صلاتي و مطلق عبادتي - و اختصت الصلاة بالذكر استقلالا لمزيد العناية بها منه تعالى - و محياي بجميع ما له من الشئون الراجعة إلي من أعمال و أوصاف و أفعال و تروك، و مماتي بجميع ما يعود إلي من أموره و هي الجهات التي ترجع منه إلى الحياة - كما قال: كما تعيشون تموتون - جعلتها كلها لله رب العالمين من غير أن أشرك به فيها أحدا فأنا عبد في جميع شئوني في حياتي و مماتي لله وحده وجهت وجهي إليه لا أقصد شيئا و لا أتركه إلا له و لا أسير في مسير حياتي و لا أرد مماتي إلا له فإنه رب العالمين، يملك الكل و يدبر أمرهم.
و قد أمرت بهذا النحو من العبودية، و أنا أول المسلمين لله فيما أراده من العبودية التامة في كل باب و جهة.
و من هنا يظهر أن المراد بقوله: «إن صلاتي و نسكي و محياي و مماتي لله» إظهار الإخلاص العبودي أو إنشاؤه فيما يرجع إليه من شئون العبادة و الحياة و الموت دون الإخبار عن الإخلاص في العبادة و الاعتقاد بأن مالك الموت و الحياة هو الله تعالى، و الدليل على ما ذكرنا قوله: «و بذلك أمرت» فظاهر أنه أمر بجعل الجميع لله سبحانه بمعنى واحد لا بجعل الأولين له إخلاصا و تسليما و الاعتقاد بأن الأخيرين له إلا بتكلف.
و في قوله: «و أنا أول المسلمين» دلالة على أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أول الناس من حيث درجة الإسلام و منزله فإن قبله زمانا غيره من المسلمين، و قد حكى الله سبحانه ذلك عن نوح إذ قال: «و أمرت أن أكون من المسلمين»: يونس: 72 و عن إبراهيم في قوله: «أسلمت لرب العالمين»: البقرة: 131 و عنه و عن ابنه إسماعيل في قولهما: «ربنا و اجعلنا مسلمين لك»: البقرة: 128 و عن لوط في قوله: «فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين»: الذاريات: 36 و عن ملكة سبإ في قوله: «و أوتينا العلم من قبلها و كنا مسلمين»: النمل: 42 إن كان مرادها الإسلام لله.
و قولها: «و أسلمت مع سليمان لله رب العالمين»: النمل: 44 و لم ينعت بأول المسلمين أحد في القرآن إلا ما يوجد في هذه الآية من أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يخبر قومه بذلك، و ما في سورة الزمر من قوله: «قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين و أمرت لأن أكون أول المسلمين»: الزمر: 12.
و ربما قيل: إن المراد أول المسلمين من هذه الأمة فإن إبراهيم كان أول المسلمين و من بعده تابع له في الإسلام، و فيه أن التقييد لا دليل عليه، و أما كون إبراهيم أول المسلمين فيدفعه ما تقدم من الآيات المنقولة.
و أما قوله تعالى حكاية عن إبراهيم و إسماعيل في دعائهما: «و من ذريتنا أمة مسلمة لك»: البقرة: 128. و قوله: «ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين»: الحج: 78 فلا دلالة فيهما على شيء.
قوله تعالى: «قل أ غير الله أبغي ربا و هو رب كل شيء» إلخ، هذه الآية و التي بعدها تشتملان على حجج ثلاث هي جوامع الحجج المذكورة في السورة للتوحيد، و هي الحجة من طريق بدء الخلقة، و الحجة من طريق عودها، و الحجة من حال الإنسان و هو بينهما و بعبارة أخرى الحجة من نشأة الحياة الدنيا و النشأة التي قبلها و التي بعدها.
فالحجة من طريق البدء ما في قوله: «أ غير الله أبغي ربا و هو رب كل شيء» و من المعلوم أنه إذا كان رب كل شيء كان كل شيء مربوبا له فلا رب غيره على الإطلاق يصلح أن يعبد.
و الحجة من طريق العود ما يشتمل عليه قوله: «و لا تكسب كل نفس إلا عليها» إلى آخر الآية، أي أن كل نفس لا تعمل عملا و لا تكسب شيئا إلا حمل عليها و لا تزر وازرة وزر أخرى حتى يحمل ما اكتسبته نفس على غيرها ثم المرجع إلى الله و إليه الجزاء بالكشف عن حقائق أعمال العباد، و إذا كان لا محيص عن الجزاء و هو المالك ليوم الدين فهو الذي تتعين عبادته لا غيره ممن لا يملك شيئا.
و الحجة من طريق النشأة الدنيا ما في قوله: «و هو الذي جعلكم خلائف» إلخ، و محصله أن هذا النظام العجيب الذي يحكم في معاشكم في الحياة الدنيا و هو مبني على خلافتكم في الأرض و اختلاف شئونكم بالكبر و الصغر و القوة و الضعف و الذكورية و الأنوثية و الغنى و الفقر و الرئاسة و المرئوسية و العلم و الجهل و غيرها و إن كان نظاما اعتباريا لكنه ناش من عمل التكوين منته إليه فالله سبحانه هو ناظمه، و إنما فعل ذلك لامتحانكم و ابتلائكم فهو الرب الذي يدبر أمر سعادتكم، و يوصل من أطاعه إلى سعادته المقدرة له و يذر الظالمين فيها جثيا، فهو الذي يحق عبادته.
و قد تبين بما مر أن مجموع الجملتين: «و لا تكسب كل نفس إلا عليها و لا تزر وازرة وزر أخرى» سيق لإفادة معنى واحد و هو أن ما كسبته نفس يلزمها و لا يتعداها، و هو مفاد قوله: «كل نفس بما كسبت رهينة»: المدثر: 38.
قوله تعالى: «و هو الذي جعلكم خلائف الأرض» الخلائف جمع خليفة أي يستخلف بعضكم بعضا أو استخلفكم لنفسه في الأرض و قد مر كلام في معنى هذه الخلافة في تفسير قوله تعالى: «إني جاعل في الأرض خليفة»: البقرة: 30 في الجزء الأول من الكتاب، و معنى الآية ظاهر بما مر من البيان، و قد ختمت السورة بالمغفرة و الرحمة.
بحث روائي
في الكافي، بإسناده عن ابن مسكان عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله: «حنيفا مسلما» قال: خالصا مخلصا ليس فيه شيء من عبادة الأوثان:. أقول: و رواه في البرهان، البرقي بإسناده عن ابن مسكان عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): و فيه: «خالصا مخلصا لا يشوبه شيء» و هو بيان المراد لا تفسير بالمعنى.
و في تفسير العياشي، عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لا يقول: درجة واحدة إن الله يقول: درجات بعضها فوق بعض، إنما تفاضل القوم بالأعمال.
أقول: و هو من نقل الآية بالمعنى فإن الآية هكذا: «و رفع بعضكم فوق بعض درجات» و في موضع آخر «و رفعنا بعضهم فوق بعض درجات»: «الزخرف: 32» و الظاهر أن قوله: «بعضها فوق بعض» من كلامه (عليه السلام) و الحديث إنما ورد في تفسير مثل قوله تعالى: «هم درجات عند الله» لا في تفسير الآية التي نحن فيها فإيراده في ذيل هذه الآية من سهو الراوي، و ذلك أن قوله (عليه السلام) في ذيله: «إنما تفاضل القوم بالأعمال» لا ينطبق على الآية كما لا يخفى.
تم و الحمد لله
|