بيان
غرض السورة هو توحيده تعالى بمعناه الأعم أعني أن للإنسان ربا هو رب العالمين جميعا منه يبدأ كل شيء و إليه ينتهي و يعود كل شيء، أرسل رسلا مبشرين و منذرين يهدي بهم عباده المربوبين إلى دينه الحق، و لذلك نزلت معظم آياتها في صورة الحجاج على المشركين في التوحيد و المعاد و النبوة، و اشتملت على إجمال الوظائف الشرعية و المحرمات الدينية.
و سياقها - على ما يعطيه التدبر - سياق واحد متصل لا دليل فيه على فصل يؤدي إلى نزولها نجوما.
و هذا يدل على نزولها جملة واحدة، و أنها مكية فإن ذلك ظاهر سياقها الذي وجه الكلام في جلها أو كلها إلى المشركين.
و قد اتفق المفسرون و الرواة على كونها مكية إلا في ست آيات روي عن بعضهم أنها مدنية.
و هي قوله تعالى: «و ما قدروا الله حق قدره»: آية - 91 إلى تمام ثلاث آيات، و قوله تعالى: «قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم:» آية - 151 إلى تمام ثلاث آيات.
و قيل: إنها كلها مكية إلا آيتان منها نزلتا بالمدينة، و هما قوله تعالى: «قل تعالوا أتل» و التي بعدها.
و قيل: نزلت سورة الأنعام كلها بمكة إلا آيتين نزلتا بالمدينة في رجل من اليهود، و هو الذي قال: «ما أنزل الله على بشر من شيء» الآية.
و قيل: «إنها كلها مكية إلا آية واحدة نزلت بالمدينة، و هو قوله تعالى: «و لو أننا نزلنا إليهم الملائكة» الآية.
و هذه الأقوال لا دليل على شيء منها من جهة سياق اللفظ على ما تقدم من وحدة السياق و اتصال آيات السورة، و سنبينها بما نستطيعه، و قد ورد عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) و كذا عن أبي و عكرمة و قتادة: أنها نزلت جملة واحدة بمكة.
قوله تعالى: «الحمد لله الذي خلق السماوات و الأرض و جعل الظلمات و النور» افتتح بالثناء على الله و هو كالمقدمة لما يراد بيانه من معنى التوحيد، و ذلك بتضمين الثناء ما هو محصل غرض السورة ليتوسل بذلك إلى الاحتجاج عليه تفصيلا، و تضمينه العجب منهم و لومهم على أن عدلوا به غيره و الامتراء في وحدته ليكون كالتمهيد على ما سيورد من جمل الوعظ و الإنذار و التخويف.
و قد أشار في هذا الثناء الموضوع في الآيات الثلاث إلى جمل ما تعتمد عليه الدعوة الدينية في المعارف الحقيقية التي هي بمنزلة المادة للشريعة، و تنحل إلى نظامات ثلاث: نظام الكون العام و هو الذي تشير إليه الآية الأولى، و نظام الإنسان بحسب وجوده، و هو الذي تشتمل عليه الآية الثانية، و نظام العمل الإنساني و هو الذي تومىء إليه الآية الثالثة.
فالمتحصل من مجموع الآيات الثلاث هو الثناء عليه تعالى بما خلق العالم الكبير الذي يعيش فيه الإنسان، و بما خلق عالما صغيرا هو وجود الإنسان المحدود من حيث ابتدائه بالطين و من حيث انتهائه بالأجل المقضي، و بما علم سر الإنسان و جهره و ما يكسبه.
و ما في الآية الثالثة: «و هو الله في السماوات و في الأرض، بمنزلة الإيضاح لمضمون الآيتين، السابقتين و التمهيد لبيان علمه بسر الإنسان و جهره و ما تكسبه نفسه.
فقوله: «خلق السماوات و الأرض و جعل الظلمات و النور» إشارة إلى نظام الكون العام الذي عليه تدبر الأشياء على كثرتها و تفرقها في عالمنا في نظامه الجاري المحكم إلا عالم الأرض الذي يحيط به عالم السماوات على سعتها ثم يتصرف بها بالنور و الظلمات اللذين عليهما يدور رحى العالم المشهود في تحوله و تكامله فلا يزال يتولد شيء من شيء، و يتقلب شيء إلى شيء، و يظهر واحد و يخفى آخر، و يتكون جديد و يفسد قديم، و ينتظم من تلاقي هذه الحركات المتنوعة على شتاتها الحركة العالمية الكبرى التي تحمل أثقال الأشياء، و تسير بها إلى مستقرها.
و الجعل في قوله: «و جعل الظلمات» إلخ بمعنى الخلق غير أن الخلق لما كان مأخوذا في الأصل من خلق الثوب كان التركيب من أجزاء شتى مأخوذا في معناه بخلاف الجعل، و لعل هذا هو السبب في تخصيص الخلق بالسماوات و الأرض لما فيها من التركيب بخلاف الظلمة و النور، و لذا خصا باستعمال الجعل.
و الله أعلم.
و قد أتى بالظلمات بصيغة الجمع دون النور، و لعله لكون الظلمة متحققة بالقياس إلى النور فإنها عدم النور فيما من شأنه أن يتنور فتتكثر بحسب مراتب قربه من النور و بعده بخلاف النور فإنه أمر وجودي لا يتحقق بمقايسته إلى الظلمة التي هي عدمية، و تكثيره تصورا بحسب قياسه التصوري إلى الظلمة لا يوجب تعدده و تكثره حقيقة.
قوله تعالى: «ثم الذين كفروا بربهم يعدلون» مسوق للتعجب المشوب بلوم أي إن الله سبحانه بخلقه السماوات و الأرض و جعله الظلمات و النور متوحد بالألوهية متفرد بالربوبية لا يماثله شيء و لا يشاركه، و من العجب أن الذين كفروا مع اعترافهم بأن الخلق و التدبير لله بحقيقة معنى الملك دون الأصنام التي اتخذوها آلهة يعدلون بالله غيره من أصنامهم و يسوون به أوثانهم فيجعلون له أندادا تعادله بزعمهم فهم ملومون على ذلك.
و بذلك يظهر وجه الإتيان بثم الدال على التأخير و التراخي فكأن المتكلم لما وصف تفرده بالصنع و الإيجاد و توحده بالألوهية و الربوبية ذكر مزعمة المشركين و أصحاب الأوثان أن هذه الحجارة و الأخشاب المعمولة أصناما يعدلون بها رب العالمين فشغله التعجب زمانا و كفه عن التكلم ثم جرى في كلامه و أشار إلى وجه سكوته، و أن حيرة التعجب كان هو المانع عن جريه في كلامه فقال: الذين كفروا بربهم يعدلون.
قوله تعالى: «هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا» يشير إلى خلقه العالم الإنساني الصغير بعد الإشارة إلى خلق العالم الكبير فيبين أن الله سبحانه هو الذي خلق الإنسان و دبر أمره بضرب الأجل لبقائه الدنيوي ظاهرا فهو محدود الوجود بين الطين الذي بدأ منه خلق نوعه و إن كان بقاء نسله جاريا على سنة الإزدواج و الوقاع كما قال تعالى: «و بدأ خلق الإنسان من طين، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين»: السجدة: - 8.
و بين الأجل المقضي الذي يقارن الموت كما قال تعالى: «كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا يرجعون»: العنكبوت: - 57 و من الممكن أن يراد بالأجل ما يقارن الرجوع إلى الله سبحانه بالبعث فإن القرآن الكريم كأنه يعد الحياة البرزخية من الدنيا كما يفيده ظاهر قوله تعالى: «قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين، قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين، قال إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون»: المؤمنون - 114، و قال أيضا: «و يوم تقوم الساعة يقسم المجرمون، ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون، و قال الذين أوتوا العلم و الإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث و لكنكم كنتم لا تعلمون»: الروم: - 56.
و قد أبهم أمر الأجل بإتيانه منكرا في قوله: «ثم قضى أجلا» للدلالة على كونه مجهولا للإنسان لا سبيل له إلى المعرفة به بالتوسل إلى العلوم العادية.
قوله تعالى: «و أجل مسمى عنده» تسمية الأجل تعيينه فإن العادة جرت في العهود و الديون و نحو ذلك بذكر الأجل و هو المدة المضروبة أو آخر المدة باسمه، و هو الأجل المسمى، قال تعالى: «إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه»: البقرة: - 282 و هو الأجل بمعنى آخر المدة المضروبة، و كذا قوله تعالى: «من كان يرجوا لقاء الله فإن أجل الله لآت»: العنكبوت: - 5 و قال تعالى في قصة موسى و شعيب: «قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك - إلى أن قال - قال ذلك بيني و بينك أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي»: القصص - 28 و هو الأجل بمعنى تمام المدة المضروبة.
و الظاهر أن الأجل بمعنى آخر المدة فرع الأجل بمعنى تمام المدة استعمالا أي أنه استعمل كثيرا «الأجل المقضي» ثم حذف الوصف و اكتفي بالموصوف فأفاد الأجل معنى الأجل المقضي، قال الراغب في مفرداته: يقال للمدة المضروبة لحياة الإنسان «أجل» فيقال: دنا أجله عبارة عن دنو الموت، و أصله استيفاء الأجل، انتهى.
و كيف كان فظاهر كلامه تعالى أن المراد بالأجل و الأجل المسمى هو آخر مدة الحياة لإتمام المدة كما يفيده قوله: «فإن أجل الله لآت» الآية.
فتبين بذلك أن الأجل أجلان: الأجل على إبهامه، و الأجل المسمى عند الله تعالى.
و هذا هو الذي لا يقع فيه تغير لمكان تقييده بقوله «عنده» و قد قال تعالى: «و ما عند الله باق»: النحل: - 96 و هو الأجل المحتوم الذي لا يتغير و لا يتبدل قال تعالى: «إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة و لا يستقدمون»: يونس: 49.
فنسبة الأجل المسمى إلى الأجل غير المسمى نسبة المطلق المنجز إلى المشروط المعلق فمن الممكن أن يتخلف المشروط المعلق عن التحقق لعدم تحقق شرطه الذي علق عليه بخلاف المطلق المنجز فإنه لا سبيل إلى عدم تحققه البتة.
و التدبر في الآيات السابقة منضمة إلى قوله تعالى: «لكل أجل كتاب، يمحوا الله ما يشاء و يثبت و عنده أم الكتاب»: الرعد: 39 يفيد أن الأجل المسمى هو الذي وضع في أم الكتاب، و غير المسمى من الأجل هو المكتوب فيما نسميه بلوح المحو و الإثبات، و سيأتي إن شاء الله تعالى أن أم الكتاب قابل الانطباق على الحوادث الثابتة في العين أي الحوادث من جهة استنادها إلى الأسباب العامة التي لا تتخلف عن تأثيرها، و لوح المحو و الإثبات قابل الانطباق على الحوادث من جهة استنادها إلى الأسباب الناقصة التي ربما نسميها بالمقتضيات التي يمكن اقترانها بموانع تمنع من تأثيرها.
و اعتبر ما ذكر من أمر السبب التام و الناقص بمثال إضاءة الشمس فإنا نعلم أن هذه الليلة ستنقضي بعد ساعات و تطلع علينا الشمس فتضيء وجه الأرض لكن يمكن أن يقارن ذلك بحيلولة سحابة أو حيلولة القمر أو أي مانع آخر فتمنع من الإضاءة، و أما إذا كانت الشمس فوق الأفق و لم يتحقق أي مانع مفروض بين الأرض و بينها فإنها تضيء وجه الأرض لا محالة.
فطلوع الشمس وحده بالنسبة إلى الإضاءة بمنزلة لوح المحو و الإثبات، و طلوعها مع حلول وقته و عدم أي حائل مفروض بينها و بين الأرض بالنسبة إلى الإضاءة بمنزلة أم الكتاب المسمى باللوح المحفوظ.
فالتركيب الخاص الذي لبنية هذا الشخص الإنساني مع ما في أركانه من الاقتضاء المحدود يقتضي أن يعمر العمر الطبيعي الذي ربما حددوه بمائة أو بمائة و عشرين سنة و هذا هو المكتوب في لوح المحو و الإثبات مثلا غير أن لجميع أجزاء الكون ارتباطا و تأثيرا في الوجود الإنساني فربما تفاعلت الأسباب و الموانع التي لا نحصيها تفاعلا لا نحيط به فأدى إلى حلول أجله قبل أن ينقضي الأمد الطبيعي، و هو المسمى بالموت الاخترامي.
و بهذا يسهل تصور وقوع الحاجة بحسب ما نظم الله الوجود إلى الأجل المسمى و غير المسمى جميعا، و أن الإبهام الذي بحسب الأجل غير المسمى لا ينافي التعين بحسب الأجل المسمى، و أن الأجل غير المسمى و المسمى ربما توافقا و ربما تخالفا و الواقع حينئذ هو الأجل المسمى البتة.
هذا ما يعطيه التدبر في قوله: «ثم قضى أجلا و أجل مسمى عنده» و للمفسرين تفسيرات غريبة للأجلين الواقعين في الآية: منها: أن المراد بالأجل الأول ما بين الخلق و الموت و الثاني ما بين الموت و البعث،، ذكره عدة من الأقدمين و ربما روي عن ابن عباس.
و منها: أن الأجل الأول أجل أهل الدنيا حتى يموتوا، و الثاني أجل الآخرة الذي لا آخر له، و نسب إلى المجاهد و الجبائي و غيرهما.
و منها: أن الأجل الأول أجل من مضى، و الثاني أجل من بقي من سيأتي، و نسب إلى أبي مسلم.
و منها: أن الأجل الأول النوم، و الثاني الموت.
و منها: أن المراد بالأجلين واحد، و تقدير الآية الشريفة: ثم قضى أجلا و هذا أجل مسمى عنده.
و لا أرى الاشتغال بالبحث عن صحة هذه الوجوه و أشباهها و سقمها يسوغه الوقت على ضيقه، و لا يسمح بإباحته العمر على قصره.
قوله تعالى: «ثم أنتم تمترون» من المرية بمعنى الشك و الريب، و قد وقع في الآية التفات من الغيبة إلى الحضور، و كأن الوجه فيه أن الآية الأولى تذكر خلقا و تدبيرا عاما ينتج من ذلك أن الكفار ما كان ينبغي لهم أن يعدلوا بالله سبحانه غيره، و كان يكفي في ذلك ذكرهم بنحو الغيبة لكن الآية الثانية تذكر الخلق و التدبير الواقعين في الإنسان خاصة فكان من الحري الذي يهيج المتكلم المتعجب اللائم أن يواجههم بالخطاب و يلومهم بالتجبيه كأنه يقول: هذا خلق السماوات و الأرض و جعل الظلمات و النور عذرناكم في الغفلة عن حكمه لكون ذلك أمرا عاما ربما أمكن الذهول عما يقتضيه فما عذركم أنتم في امترائكم فيه و هو الذي خلقكم و قضى فيكم أجلا و أجل مسمى عنده؟.
قوله تعالى: «و هو الله في السماوات و في الأرض» الآيتان السابقتان تذكران الخلق و التدبير في العوالم عامة و في الإنسان خاصة، و يكفي ذلك في التنبه على أن الله سبحانه هو الإله الواحد الذي لا شريك له في خلقه و تدبيره.
لكنهم مع ذلك أثبتوا آلهة أخرى و شفعاء مختلفة لوجوه التدبير المختلفة كإله الحياة و إله الرزق و إله البر و إله البحر و غير ذلك، و كذا للأنواع و الأقوام و الأمم المتشتتة كإله السماء و إله هذه الطائفة و إله تلك الطائفة فنفى ذلك بقوله: «و هو الله في السماوات و في الأرض».
فالآية نظيرة قوله: «و هو الذي في السماء إله و في الأرض إله و هو الحكيم العليم»: الزخرف: 84 مفادها انبساط حكم ألوهيته تعالى في السماوات و في الأرض من غير تفاوت أو تحديد، و هي إيضاح لما تقدم و تمهيد لما يتلوها من الكلام.
قوله تعالى: «يعلم سركم و جهركم و يعلم ما تكسبون» السر و الجهر متقابلان و هما وصفان للأعمال، فسرهم ما عملوه سرا و جهرهم ما عملوه جهرا من غير ستر.
و أما ما يكسبون فهو الحال النفساني الذي يكسبه الإنسان بعمله السري و الجهري من حسنة أو سيئة فالسر و الجهر المذكوران - كما عرفت - وصفان صوريان لمتون الأعمال الخارجية، و ما يكسبونه حال روحي معنوي قائم بالنفوس فهما مختلفان بالصورية و المعنوية، و لعل اختلاف المعلومين من حيث نفسهما هو الموجب لتكرار ذكر العلم في قوله: «يعلم سركم و جهركم و يعلم ما تكسبون».
و الآية كالتمهيد لما ستتعرض له من أمر الرسالة و المعاد فإن الله سبحانه لما كان عالما بما يأتي به الإنسان من عمل سرا أو جهرا، و كان عالما بما يكسبه لنفسه بعمله من خير أو شر، و كان إليه زمام التربية و التدبير كان له أن يرسل رسولا بدين يشرعه لهداية الناس على الرغم مما يصر عليه الوثنيون من الاستغناء عن النبوة كما قال تعالى: «إن علينا للهدى»: الليل: 12.
و كذا هو تعالى لما كان عالما بالأعمال و بتبعاتها في نفس الإنسان كان عليه أن يحاسبهم في يوم لا يغادر منهم أحدا كما قال تعالى: «أم نجعل الذين آمنوا و عملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار»: ص: 28.
بحث روائي
في الكافي، بإسناده عن الحسن بن علي بن أبي حمزة قال قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن سورة الأنعام نزلت جملة، شيعها سبعون ألف ملك حتى أنزلت على محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فعظموها و بجلوها فإن اسم الله عز و جل فيها في سبعين موضعا، و لو يعلم الناس ما في قراءتها ما تركوها: أقول: و رواه العياشي عنه (عليه السلام) مرسلا.
و في تفسير القمي، قال حدثني أبي عن الحسين بن خالد عن الرضا (عليه السلام) قال: نزلت الأنعام جملة واحدة، يشيعها سبعون ألف ملك لهم زجل بالتسبيح و التهليل و التكبير فمن قرأها استغفروا له إلى يوم القيامة.
أقول: و رواه في المجمع، أيضا عن الحسين بن خالد عنه (عليه السلام): إلا أنه قال سبحوا له إلى يوم القيامة.
و في تفسير العياشي، عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن سورة الأنعام نزلت جملة واحدة و شيعها سبعون ألف ملك حين أنزلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فعظموها و بجلوها فإن اسم الله عز و جل فيها سبعين موضعا، و لو يعلم الناس ما في قراءتها من الفضل ما تركوها، الحديث.
و في جوامع الجامع، للطبرسي قال: في حديث أبي بن كعب عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: أنزلت علي الأنعام جملة واحدة يشيعها سبعون ألف ملك لهم زجل بالتسبيح و التحميد فمن قرأها صلى عليه أولئك السبعون ألف ملك بعدد كل آية من الأنعام يوما و ليلة:. أقول: و رواه في الدر المنثور، عنه بعدة طرق.
و في الكافي، بإسناده عن ابن محبوب عن أبي جعفر الأحول عن سلام بن المستنير عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن الله خلق الجنة قبل أن يخلق النار، و خلق الطاعة قبل أن يخلق المعصية، و خلق الرحمة قبل الغضب، و خلق الخير قبل الشر و خلق الأرض قبل السماء، و خلق الحياة قبل الموت، و خلق الشمس قبل القمر، و خلق النور قبل الظلمة.
أقول: خلق النور قبل الظلمة بالنظر إلى كون الظلمة عدميا مضافا إلى النور ظاهر المعنى، و أما نسبة الخلق إلى الطاعة و المعصية فليس يلزم منها بطلان الاختيار فإن بطلانه يستلزم بطلان نفس الطاعة و المعصية فلا تبقى لنسبتهما إلى الخلق وجه صحة بل المراد كونه تعالى يملكهما كما يملك كل ما وقع في ملكه، و كيف يمكن أن يقع في ملكه ما هو خارج عن إحاطته و سلطانه و منعزل عن مشيته و إذنه؟.
و لا دليل على انحصار الخلق في الإيجاد و الصنع الذي لا واسطة فيه حتى يكون تعالى مستقلا بإيجاد كل ما نسب خلقه إليه فيكون إذا قيل: إن الله خلق العدل أو القتل مثلا أنه أبطل إرادة الإنسان العادل أو القاتل، و استقل هو بالعدل و القتل بإذهاب الواسطة من البين فافهم ذلك، و قد تقدم استيفاء البحث عن هذا المعنى في الجزء الأول من الكتاب.
و بنظير البيان يتبين معنى نسبة الخلق إلى الخير و الشر أيضا، سواء كانا خيرا و شرا في الأمور التكوينية أو في الأفعال.
و أما كون الطاعة مخلوق قبل المعصية، و كذا الخير قبل الشر فيجري أيضا في بيانه نظير ما تقدم من بيان كون النور قبل الظلمة من أن النسبة بينهما نسبة العدم و الملكة، و العدم يتوقف في تحققه على الملكة و يظهر به أن خلق الحياة قبل الموت.
و بذلك يتبين أن خلق الرحمة قبل الغضب فإن الرحمة متعلقة بالطاعة و الخير و الغضب متعلق بالمعصية و الشر، و الطاعة و الخير قبل المعصية و الشر.
و أما خلق الأرض قبل السماء فيدل عليه قوله تعالى: «خلق الأرض في يومين - إلى أن قال - ثم استوى إلى السماء و هي دخان فقال لها و للأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين، فقضاهن سبع سماوات في يومين»: حم السجدة: 12.
و أما كون خلق الشمس قبل القمر فليس كل البعيد أن يستفاد من قوله تعالى: «و الشمس و ضحاها، و القمر إذا تلاها»: الشمس: 2 و قد رجحت الأبحاث الطبيعية اليوم أن الأرض مشتقة من الشمس و القمر مشتق من الأرض.
و في تفسير العياشي، عن جعفر بن أحمد عن العمركي بن علي عن العبيدي عن يونس بن عبد الرحمن عن علي بن جعفر عن أبي إبراهيم (عليه السلام) قال: لكل صلاة وقتان، و وقت يوم الجمعة زوال الشمس ثم تلا هذه الآية: «الحمد لله الذي خلق السماوات و الأرض - و جعل الظلمات و النور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون» قال: يعدلون بين الظلمات و النور و بين الجور و العدل.
أقول: و هذا معنى آخر للآية، و بناؤه على جعل قوله: «بربهم» متعلقا بقوله «كفروا» دون «يعدلون».
و في الكافي، عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن ابن فضال عن ابن بكير عن زرارة عن حمران عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألت عن قول الله عز و جل «قضى أجلا و أجل مسمى عنده» قال: هما أجلان أجل محتوم و أجل موقوف.
و في تفسير العياشي، عن حمران قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله: «قضى أجلا و أجل مسمى» قال: فقال هما أجلان أجل موقوف يصنع الله ما يشاء، و أجل محتوم.
و في تفسير العياشي، عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله: «ثم قضى أجلا و أجل مسمى عنده» قال: الأجل الذي غير مسمى موقوف يقدم منه ما شاء، و أما الأجل المسمى فهو الذي ينزل مما يريد أن يكون من ليلة القدر إلى مثلها قال: فذلك قول الله: «إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة و لا يستقدمون».
و فيه، عن حمران عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله: «أجلا و أجل مسمى عنده» قال: المسمى ما سمي لملك الموت في تلك الليلة، و هو الذي قال الله «فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة و لا يستقدمون» و هو الذي سمي لملك الموت في ليلة القدر، و الآخر له فيه المشية إن شاء قدمه، و إن شاء أخره.
أقول: و في هذا المعنى غيرها من الروايات المأثورة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، و الذي يدل عليه من معنى الأجل المسمى و غيره هو الذي تقدمت استفادته من الآيات الكريمة.
و في تفسير علي بن إبراهيم، قال: حدثني أبي عن النضر بن سويد عن الحلبي عن عبد الله بن مسكان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: الأجل المقضي هو المحتوم الذي قضاه الله و حتمه، و المسمى هو الذي فيه البداء يقدم ما يشاء و يؤخر ما شاء، و المحتوم ليس فيه تقديم و لا تأخير.
أقول: و قد غلط بعض من في طريق الرواية فعكس المعنى و فسر كلا من المسمى و غيره بمعنى الآخر.
على أن الرواية لا تتعرض لتفسير الآية فلا كثير ضير في قبولها.
و في تفسير العياشي، عن الحصين عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله: «قضى أجلا و أجل مسمى عنده» قال: ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): الأجل الأول هو ما نبذه إلى الملائكة و الرسل و الأنبياء، و الأجل المسمى عنده هو الذي ستره الله عن الخلائق.
أقول: و مضمون الرواية ينافي ما تقدمت من الروايات ظاهرا، و لكن من الممكن أن يستفاد من قوله: «نبذه» أن المراد أنه تعالى أعطاهم الأصل الذي تستنبط منه الآجال غير المسماة و أما الأجل المسمى فلم يسلط أحدا على علمه بمعنى أن ينبذ إليه نورا يكشف به كل أجل مسمى إذا أريد ذلك، و إن كان تعالى يسميه لملك الموت أو لأنبيائه و رسله إذا شاء، و ذلك كالغيب يختص علمه به تعالى، و هو مع ذلك يكشف عن شيء منه لمن ارتضاه من رسول إذا شاء ذلك.
و في تفسير البرهان، عن ابن بابويه بإسناده عن مثنى الحناط عن أبي جعفر أظنه محمد بن النعمان قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: «و هو الله في السماوات و في الأرض» قال: كذلك هو في كل مكان، قلت: بذاته؟ قال: ويحك إن الأماكن أقدار فإذا قلت: في مكان بذاته لزمك أن تقول: في أقدار و غير ذلك.
و لكن هو بائن من خلقه محيط بما خلق علما - و قدرة و إحاطة و سلطانا - و ليس علمه بما في الأرض بأقل مما في السماء، و لا يبعد منه شيء، و الأشياء له سواء علما و قدرة و سلطانا و ملكا و إرادة.
|