بيان
الآيات من تتمة الاحتجاجات على المشركين في التوحيد و ما يرتبط به من المعارف في النبوة و المعاد، و هي ذات سياق متصل متسق.
قوله تعالى: «قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله» إلى آخر الآية.
أمر بأن خبرهم بورود النهي عليه عن عبادة شركائهم هو نهي عن عبادتهم بنوع من الكناية ثم أشار إلى ملاك النهي عنها بقوله: «قل لا أتبع أهواءكم» و هو أن عبادتهم اتباع للهوى و قد نهي عنه ثم أشار بقوله: «قد ضللت إذا و ما أنا من المهتدين» إلى سبب الاستنكاف عن اتباع الهوى و هو الضلال و الخروج عن جماعة المهتدين و هم الذين اتصفوا بصفة قبول هداية الله سبحانه، و عرفوا بذلك، فاتباع الهوى ينافي استقرار صفة الاهتداء في نفس الإنسان، و يمانع إشراق نور التوحيد على قلبه إشراقا ثابتا ينتفع به.
و قد تلخص بذلك كله بيان تام معلل للنهي أو الانتهاء عن عبادة أصنامهم، و هو أن في عبادتها اتباعا للهوى، و في اتباع الهوى الضلال و الخروج عن صف المهتدين بالهداية الإلهية.
قوله تعالى: «قل إني على بينة من ربي و كذبتم به» إلى آخر الآية.
البينة هو الدلالة الواضحة من البيان و هو الوضوح، و الأصل في معنى هذه المادة هو انعزال شيء عن شيء و انفصاله عنه بحيث لا يتصلان و لا يختلطان، و منه البين و البون و البينونة و غير ذلك، قد سميت البينة بينة لأن الحق يبين بها عن الباطل فيتضح و يسهل الوقوف عليه من غير تعب و مئونة.
و المراد بمرجع الضمير في قوله: «و كذبتم به» هو القرآن و ظاهر السياق أن يكون التكذيب إنما تعلق بالبينة التي هو (صلى الله عليه وآله وسلم) عليها على ما هو ظاهر اتصال المعنى، و يؤيده قوله بعده: «ما عندي ما تستعجلون به» إلخ، فإن المحصل من الكلام مع انضمام هذا الذيل: أن الذي أيد الله به رسالتي من البينات و هو القرآن تكذبون به، و الذي تقترحونه علي و تستعجلون به من الآيات ليس في اختياري و لا مفوضا أمره إلي فليس بيننا ما نتوافق فيه لما أني أوتيت ما لا تريدون و أنتم تريدون ما لم أوت.
فمن هنا يظهر أن الضمير المجرور في قوله: «و كذبتم به» راجع إلى البينة لكون المراد به القرآن، و أن قوله: «ما عندي ما تستعجلون به» أريد به نفي التسلط على ما يستعجلون به بالتكنية فإن الغالب فيما يقدر الإنسان عليه و خاصة في باب الإعطاء و الإنفاق أن يكون ما يعطيه و ينفقه حاضرا عنده أو مذخورا لديه و تحت تسلطه ثم ينفق منه ما ينفق فقد أريد بقوله: «ما عندي» نفي التسلط و القدرة من باب نفي الملزوم بنفي اللازم.
و قوله: «إن الحكم إلا لله» إلخ، بيان لسبب النفي، و لذلك جيء فيه بالنفي و الاستثناء المفيد للحصر ليدل بوقوع النفي على الجنس على أن ليس لغيره تعالى من سنخ الحكم شيء قط و أنه إلى الله سبحانه فحسب.
كلام في معنى الحكم و أنه لله وحده
مادة الحكم تدل على نوع من الإتقان يتلاءم به أجزاء و ينسد به خلله و فرجه فلا يتجزى إلى الأجزاء و لا يتلاشى إلى الأبعاض حتى يضعف أثره و ينكسر سورته، و إلى ذلك يرجع المعنى الجامع بين تفاريق مشتقاته كالإحكام و التحكيم و الحكمة و الحكومة و غير ذلك.
و قد تنبه الإنسان على نوع تحقق من هذا المعنى في الوظائف المولوية و الحقوق الدائرة بين الناس فإن الموالي و الرؤساء إذا أمروا بشيء فكأنما يعقدون التكليف على المأمورين و يقيدونهم به عقدا لا يقبل الحل و تقييدا لا يسعهم معه الانطلاق، و كذلك مالك سلعة كذا أو ذو حق في أمر كذا كان بينه و بين سلعته أو الأمر الذي فيه نوعا من الالتيام و الاتصال الذي يمنع أن يتخلل غيره بينه و بين سلعته بالتصرف أو بينه و بين مورد حقه فيقصر عنه يده، فإذا نازع أحد مالك سلعة في ملكها كأن ادعاه لنفسه أو ذا الحق في حقه فأراد إبطال حقه فقد استوهن هذا الإحكام و ضعف هذا الإتقان ثم إذا عقد الحكم أو القاضي الذي رفعت إليه القضية الملك أو الحق لأحد المتنازعين فقد أوجد هناك حكما أي إتقانا بعد فتور، و قوة إحكاما بعد ضعف و وهن، و قوله: ملك السلعة لفلان أو الحق في كذا لفلان حكم يرتفع به غائلة النزاع و المشاجرة، و لا يتخلل غير المالك و ذي الحق بين الملك و الحق و بين ذيهما، و بالجملة الآمر في أمره و القاضي في قضائه كأنهما يوجدان نسبة في مورد الأمر و القضاء يحكمانه بها و يرفعان به وهنا و فتورا، و هو الذي يسمى الحكم.
فهذه سبيل تنبه الناس لمعنى الحكم في الأمور الوضعية الاعتبارية ثم رأوا أن معناه يقبل الانطباق على الأمور التكوينية الحقيقية إذا نسبت إلى الله سبحانه من حيث قضائه و قدره فكون النواة مثلا تنمو في التراب ثم تنبسط ساقا و أغصانا و تورق و تثمر و كون النطفة تتبدل جسما ذا حياة و حس و هكذا كل ذلك حكم من الله سبحانه و قضاء، فهذا ما نعلقه من معنى الحكم و هو إثبات شيء لشيء أو إثبات شيء عند شيء.
و نظرية التوحيد التي يبني عليها القرآن الشريف بنيان معارفه لما كانت تثبت حقيقة التأثير في الوجود لله سبحانه وحده لا شريك له، و إن كان الانتساب مختلفا باختلاف الأشياء غير جار على وتيرة واحدة كما ترى أنه تعالى ينسب الخلق إلى نفسه ثم ينسبه في موارد مختلفة إلى أشياء مختلفة بنسب مختلفة، و كذلك العلم و القدرة و الحياة و المشية و الرزق و الحسن إلى غير ذلك، و بالجملة لما كان التأثير له تعالى كان الحكم الذي هو نوع من التأثير و الجعل له تعالى سواء في ذلك الحكم في الحقائق التكوينية أو في الشرائع الوضعية الاعتبارية، و قد أيد كلامه تعالى هذا المعنى كقوله: «إن الحكم إلا لله»: الأنعام: 57 يوسف: 67 و قوله تعالى: «ألا له الحكم»: الأنعام: 62 و قوله: «له الحمد في الأولى و الآخرة و له الحكم»: القصص: 70 و قوله تعالى: «و الله يحكم لا معقب لحكمه»: الرعد: 41 و لو كان لغيره تعالى حكم لكان له أن يعقب حكمه و يعارض مشيته، و قوله: «فالحكم لله العلي الكبير»: المؤمن: 12 إلى غير ذلك، فهذه آيات خاصة أو عامة تدل على اختصاص الحكم التكويني به تعالى.
و يدل على اختصاص خصوص الحكم التشريعي به تعالى قوله: «إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم:» يوسف: 40 فالحكم لله سبحانه لا يشاركه فيه غيره على ظاهر ما يدل عليه ما مر من الآيات غير أنه تعالى ربما ينسب الحكم و خاصة التشريعي منه في كلامه إلى غيره كقوله تعالى: «يحكم به ذوا عدل منكم»: المائدة: 95 و قوله لداود (عليه السلام): «إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق»: ص: 26 و قوله للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «أن احكم بينهم بما أنزل الله»: المائدة: 49 و قوله: «فاحكم بينهم بما أنزل الله»: المائدة: 48 و قوله: «يحكم بها النبيون»: المائدة: 44 إلى غير ذلك من الآيات و ضمها إلى القبيل الأول يفيد أن الحكم الحق لله سبحانه بالأصالة و أولا لا يستقل به أحد غيره، و يوجد لغيره بإذنه و ثانيا، و لذلك عد تعالى نفسه أحكم الحاكمين و خيرهم لما أنه لازم الأصالة و الاستقلال و الأولية فقال: «أ ليس الله بأحكم الحاكمين»: التين: 8 و قال «و هو خير الحاكمين»: الأعراف: 87.
و الآيات المشتملة على نسبة الحكم إلى غيره تعالى بإذن و نحوه - كما ترى - تختص بالحكم الوضعي الاعتباري، و أما الحكم التكويني فلا يوجد فيها - على ما أذكر - ما يدل على نسبته إلى غيره و إن كانت معاني عامة الصفات و الأفعال المنسوبة إليه تعالى لا تأبى عن الانتساب إلى غيره نوعا من الانتساب بإذنه و نحوه كالعلم و القدرة و الحياة و الخلق و الرزق و الإحياء و المشية و غير ذلك في آيات كثيرة لا حاجة إلى إيرادها.
و لعل ذلك مراعاة لحرمة جانبه تعالى لإشعار الصفة بنوع من الاستقلال الذي لا مسوغ لنسبته إلى هذه الأسباب المتوسطة كما أن القضاء و الأمر التكوينيين كذلك، و نظيرتها في ذلك ألفاظ البديع و البارىء و الفاطر و ألفاظ أخر يجري مجراها في الإشعار بمعاني تنبىء عن نوع من الاختصاص، و إنما كف عن استعمالها في غير مورده تعالى رعاية لحرمة ساحة الربوبية.
و لنرجع إلى ما كنا فيه من تفسير الآية فقوله تعالى: «إن الحكم إلا لله» أريد بالحكم فيه القضاء التكويني، و الجملة تعليل للنفي في قوله: «ما عندي ما تستعجلون به» و المعنى - على ما يعطيه السياق - أن الحكم لله وحده و ليس إلي أن أقضي بيني و بينكم، و هو الذي تستعجلون به باستعجالكم بما تقترحون علي من الآية.
و على هذا فقوله: «ما عندي ما تستعجلون به» مستعمل استعمال الكناية كأنهم باقتراحهم إتيان آية أخرى غير القرآن كانوا يقترحون عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقضي بينه و بينهم و لعل هذا هو السر في تكرار لفظ الموصول و الصلة في الآية التالية حيث يقول تعالى: «قل لو أن عندي ما تستعجلون به» و كان مقتضى ظاهر السياق أن يقال: لو أن عندي ذلك، و ذلك أنه أريد بقوله: «ما تستعجلون به» في الآية الأولى لازم الآية و هو القضاء بينه و بينهم على ما جرت به السنة الإلهية، و في الآية الثانية نفس الآية، و من المحتمل أيضا أن يكون أمر الكناية بالعكس من ذلك فيكون المراد بما تستعجلون به هو القضاء بالصراحة في الآية الأولى، و الآية بالتكنية في الآية الثانية.
و قوله: «يقص الحق و هو خير الفاصلين» قرأ عاصم و نافع و ابن كثير من السبعة بالقاف و الصاد المهملة من القص و هو قطع شيء و فصله من شيء و منه قوله تعالى: «و قالت لأخته قصيه»: القصص: 11، و قرأ الباقون بالقاف و الضاد المعجمة من القضاء، و قد حذف الياء من الرسم على حد قوله تعالى: «فما تغن النذر»: القمر: 5 و لكن من القراءتين وجه، و مآلهما من حيث المعنى واحد فإن قص الحق و فصله من الباطل لازم القضاء و الحكم بالحق و إن كان قوله: «و هو خير الفاصلين» أنسب مع القص بمعنى الفصل.
و أما أخذ قوله «يقص الحق» من القص بمعنى الإخبار عن الشيء أو بمعنى تتبع الأثر على ما احتمله بعض المفسرين فمما لا يلائم المورد: أما الأول فلأن الله سبحانه و إن قص في كلامه كثيرا قصص الأنبياء و أممهم غير أن المقام خال عن ذلك فلا موجب لذكر هذا النعت له و توصيفه تعالى به.
و أما الثاني فلأن محصل معناه أن سنته تعالى أن يتبع الحق و يقتفى أثره في تدبير مملكته و تنظيم أمور خليقته، و الله سبحانه و إن كان لا يحكم إلا الحق و لا يقضي إلا الحق إلا أن أدب القرآن الحكيم يأبى عن نسبة الاتباع و الاقتفاء إليه تعالى، و قد قال تعالى فيما قال: «الحق من ربك»: آل عمران: 60 و لم يقل: الحق مع ربك، لما في التعبير بالمعية من شائبة الاعتضاد و التأيد و الإيهام إلى الضعف.
كلام في معنى حقيقة فعله و حكمه تعالى
فعله و حكمه تعالى نفس الحق لا مطابق للحق موافق له، بيان ذلك أن الشيء إنما يكون حقا إذا كان ثابتا في الخارج واقعا في الأعيان من غير أن يختلقه وهم أو يصنعه ذهن كالإنسان الذي هو أحد الموجودات الخارجية و الأرض التي يعيش عليها و النبات و الحيوانات التي يغتذي بها، و الخبر إنما يكون حقا إذا طابق الواقع الثابت في نفسه مستقلا عن إدراكنا و الحكم و القضاء إنما يكون حقا إذا وافق السنة الجارية في الكون فإذا أمر الآمر بشيء أو قضى القاضي بشيء فإنما يكون حكم هذا و قضاء ذاك حقا مطلقا إذا وافق المصلحة المطلقة المأخوذة من السنة الجارية في الكون، و يكون حقا نسبيا إذا وافق المصلحة النسبية المأخوذة من سنة الكون بالنسبة إلى بعض أجزائه من غير نظر إلى النظام العام العالمي.
فإذا أمرنا آمر بالتزام العدل أو اجتناب الظلم فإنما يعد ذلك حقا لأن نظام الكون يهدي الأشياء إلى سعادتها و خيرها، و قد قضى على الإنسان أن يعيش اجتماعيا، و قضى على كل مجتمع مركب من أجزاء أن يتلاءم أجزاؤه و لا يزاحم بعضها بعضا، و لا يفسد طرف منه طرفا، حتى ينال ما قسم له من سعادة الوجود، و يتوزع ذلك بين أجزائه المجتمعين، فمصلحة هذا النوع المطلقة هي سعادته في الحياة، و يطابقها الأمر بالعدل و النهي عن الظلم فكل منهما حكم حق، و لا يطابقها الأمر بالظلم و النهي عن العدل فهما من الباطل، و التوحيد حق لأنه يهدي إلى سعادة الإنسان في حياته الحقيقية، و الشرك باطل لأنه يجر الإنسان إلى شقاء مهلك و عذاب خالد.
و كذلك القضاء بين متخاصمين إنما يكون حقا إذا وافق الحكم المشروع المراعى فيه المصلحة الإنسانية المطلقة أو مصلحة قوم خاص أو أمة خاصة، و المصلحة الحقيقية - كما عرفت - مأخوذة من السنة الجارية في الكون مطلقا أو نسبيا.
فقد تبين أن الحق أيا ما كان إنما هو مأخوذ من الكون الخارجي و النظام المنبسط عليه و السنة الجارية فيه، و لا ريب أن الكون و الوجود مع ما له من النظام و السنن و النواميس فعله سبحانه منه يبتدىء و به يقوم، و إليه ينتهي، فالحق أيا ما كان و المصلحة كيفما فرضت يتبعان فعله و يقتفيان أثره، و يثبتان بالاستناد إليه لا أنه تعالى يتبع الحق في فعله و يقفو أثره فهو تعالى حق بذاته و كل ما سواه حق به.
و نحن معاشر الآدميين لما كنا نطلب بأفعالنا الاختيارية تتميم نواقص وجودنا و رفع حوائج حياتنا، و كانت أفعالنا ربما طابقت سعادتنا المطلوبة لنا و ربما خالفت اضطررنا في ذلك إلى رعاية جانب المصلحة التي نذعن بأنها مصلحة أي فيها صلاح حالنا و سعادة جدنا و أدى ذلك إلى الإذعان بقوانين جارية و أحكام عامة، و اعتبار شرائع و سنن اجتماعية لازمة المراعاة واجبة الاتباع لموافاتها المصلحة الإنسانية و موافقتها السعادة المطلوبة.
و أدى ذلك إلى الإذعان بأن للمصالح و المفاسد ثبوتا واقعيا و ظروفا من التحقق منحازا عن العالمين: - الذهن و الخارج - منعزلا عن الدارين: - العلم و العين - و هي تؤثر أثرها في خارج الكون بالموافقة و المخالفة فإذا طابقت أفعالنا أو أحكامنا المصالح الواقعية الثابتة في نفس الأمر ظهرت فيها المصلحة و انتهت إلى السعادة، و إذا خالفتها و طابقت المفاسد الواقعية الحقيقية ساقتنا إلى كل ضر و شر، و هذا النحو من الثبوت ثبوت واقعي غير قابل للزوال و التغير فللمصالح و المفاسد الواقعية و كذا لما معها من الصفات الداعية إلى الفعل و الترك كالحسن و القبح و كذا للأحكام المنبعثة منها كوجوب الفعل و الترك مثلا لكل ذلك ثبوت واقعي يتأبى عن الفناء و البطلان، و يمتنع عن التغير و التبدل و هي حاكمة فينا باعثة لنا إلى أفعال كذا أو صارفة، و العقل ينال هذه الأمور النفس الأمرية كما ينال سائر الأمور الكونية.
ثم لما وجدوا أن الأحكام و الشرائع الإلهية لا تفارق الأحكام و القوانين الإنسانية المجعولة في المجتمعات من جهة معنى الحكم، و كذا أفعاله تعالى لا تختلف مع أفعالنا من جهة معنى الفعل حكموا بأن الأحكام الإلهية و الأفعال المنسوبة إلى الله سبحانه كأفعالنا في الانطباق على المصالح الواقعية و الاتصاف بصفة الحسن، فللمصالح الواقعية تأثير في أفعاله تعالى و حكومة على أحكامه و خاصة من حيث إنه تعالى عالم بحقائق الأمور بصير بمصالح عباده.
و هذا كله من إفراط الرأي، و قد عرفت مما تقدم أن هذه أحكام و علوم اعتبارية غير حقيقية اضطرنا إلى اعتبارها و جعلها الحوائج الطبيعية و ضرورة الحياة الاجتماعية لا خبر عنها في الخارج عن ظرف الاجتماع، و لا قيمة لها إلا أنها أمور متقررة في ظرف الوضع و الاعتبار يميز بها الإنسان ما ينفعه من الأعمال مما يضره، و ما يصلح شأنه مما يفسده، و ما يسعده مما يشقيه.
و قد ساقت العصبية المذهبية الطائفتين الباحثتين عن المعارف الدينية في صدر الإسلام إلى تقابل عجيب بالإفراط و التفريط في هذا المقام فطائفة - و هم المفوضة - أثبتوا مصالح و مفاسد نفس أمرية و حسنا و قبحا واقعيين هي ثابتة ثبوتا أزليا أبديا غير متغير و لا متبدل و هي حاكمة على الله سبحانه بالإيجاب و التحريم، مؤثرة في أفعاله تكوينا و تشريعا بالحظر و الترخيص فأخرجوه تعالى عن سلطانه، و أبطلوا إطلاق ملكه.
و طائفة - و هم المجبرة - نفت ذلك كله، و أصرت على أن الحسن في الشيء إنما هو تعلق الأمر به، و القبح تعلق النهي به، و لا غرض و لا غاية في تكوين و لا تشريع، و أن الإنسان لا يملك من فعله شيئا و لا قدرة قبل الفعل عليه كما أن الطائفة الأولى ذهبت إلى أن الفعل مخلوق للإنسان و أن الله سبحانه لا يملك من فعل الإنسان شيئا و لا تتعلق به قدرته.
و القولان - كما ترى - إفراط و تفريط فلا هذا و لا ذاك بل حقيقة الأمر أن هذه و نظائرها أمور اعتبارية وضعية لها أصل حقيقي و هو أن الإنسان - و نظيره سائر الحيوانات الاجتماعية كل على قدره - في مسيره الحيوي الذي لا يريد به إلا إبقاء الحياة و نيل السعادة ناقص محتاج يرفع جهات نقصه و حاجته بأعماله الاجتماعية الصادرة عن الشعور و الإرادة فاضطره ذلك إلى أن يصف أعماله و الأمور التي تتعلق بها أعماله في طريق الوصول إلى غاية سعادته و التجنب عن شقائه بأوصاف الأمور الخارجية من حسن و قبح و وجوب و حرمة و جواز و ملك و حق و غير ذلك و يجري فيها نواميس الأسباب و المسببات فيضع في إثر ذلك قوانين عامة و خاصة، و يعتقد لذلك نوعا من الثبوت الذي يعتقده للأمور الحقيقية حتى يتم له بذلك أمر حياته الاجتماعية.
فترانا نعتقد أن العدل حسن كما أن الورد حسن جميل، و الظلم قبيح شاءه كما أن الميتة المنتنة كذلك، و أن المال لنا كما أن أعضاءنا لنا، و العمل الكذائي واجب كما أن الآثار واجبة لعللها التامة، و على هذا القياس، و لذلك ترى أن هذه الآراء تختلف بين الأقوام إذا اختلفت مقاصد مجتمعاتهم فترى هؤلاء يحسنون ما يقبحه آخرون و تجد طائفة تلغي من الأحكام ما تعتبره أخرى، و تلفى أمة تنكر ما تعرفه أمة أو تعجبها ما يستشنعه غيرها، و ربما تترك سنة مأخوذة ثم تؤخذ ثم تترك في أمة واحدة على نسق الدوران بحسب مراحل السير الاجتماعي و مساسه بلوازم الحياة، هذا في المقاصد التي تختلف في المجتمعات، و أما المقاصد العامة التي لا يختلف فيه اثنان كأصل الاجتماع و العدل و الظلم و نحو ذلك فما لها من وصف الحسن و القبح و الوجوب و الحرمة و غيرها لا تختلف البتة و لا يختلف فيه، هذا فيما يرجع إلينا.
و الله سبحانه لما قلب دينه في قالب السنن العامة الاجتماعية اعتبر في بيانه المعارف الحقيقية المسبوكة في قالب السنن الاجتماعية ما نعتبره نحن في مسير حياتنا فأراد منا أن نفكر فيما يرجع إلى معارفه، و نتلقى ما يلقيه إلينا من الحقائق كما نفكر و نتلقى ما عندنا من سنن الحياة فعد نفسه ربا معبودا، و عدنا عبادا مربوبين، و ذكرنا أن له دينا مؤلفا من عقائد أصلية و قوانين عملية تستعقب ثوابا و عقابا و أن في اتباعه صلاح حالنا، و حسن عاقبتنا، و سعادة جدنا على نحو المسلك الذي نسلكه في آرائنا الاجتماعية.
فهناك عقائد أصلية يجب علينا أن نعتقد بها و نلزمها، و هناك وظائف عملية و قوانين إلهية في العبادات و المعاملات و السياسات يجب علينا أن نعمل بها و نراعيها كما أن الأمر في جميع المجتمعات الإنسانية على ذلك.
و هذا هو الذي يسوغ لنا أن نبحث عن المعارف الدينية اعتقادية أو عملية كما نبحث عن المعارف الاجتماعية اعتقادية أو عملية، و أن نستند في المعارف الدينية من الآراء العقلية و القضايا العملية بعين ما نستند إليه في المعارف الاجتماعية فالله سبحانه لا يختار لعباده من الوظائف و التكاليف إلا ما فيه المصلحة التي تصلح شأنهم في دنياهم و آخرتهم، و لا يأمر إلا بالحسن الجميل، و لا ينهى إلا عن القبيح الشائه الذي فيه فساد دين أو دنيا، و لا يفعل إلا ما يؤثره العقل، و لا يترك إلا ما ينبغي أن يترك.
إلا أنه تعالى ذكرنا مع ذلك بأمرين: أحدهما: أن الأمر في نفسه أعظم من ذلك و أعظم فإن ذلك كله معارف مأخوذة من مواد الآراء الاجتماعية و هي في الحقيقة لا تتعدى طور الاجتماع، و لا ترقى إلى عالم السماء كما قال: «إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون، و إنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم»: الزخرف: 4 و قال في مثل ضربه: «أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا و مما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق و الباطل:» الآية الرعد: 17 و قال (صلى الله عليه وآله وسلم): إنا معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم، إلى غير ذلك مما ورد في الكتاب و السنة.
و ليس معنى هذا البحث نفي الحسن و المصلحة مثلا عن أفعاله تعالى بمعنى إثبات ما يقابله حتى يستتبع ذلك إثبات القبح و المفسدة أو سقوط أفعاله عن الاعتبار العقلائي كأفعال الصبيان تعالى عن ذلك كما أن نفي البصر بمعنى الجارحة عن العقل لا يوجب إثبات العمى له أو سقوطه عن مرتبة الإدراك بل تنزيه عن النقص.
و ثانيهما: أن جهات الحسن و مزايا المصالح و إن كانت تعلل بها أفعاله تعالى و شرائع أحكامه و تبين بها وظائف العبودية كما تعلل بها ما عندنا من الأحكام و الأعمال العقلائية إلا أن بين البابين فرقا و هو أنها في جانبنا حاكمة على الإرادة مؤثرة في الاختيار فنحن بما أنا عقلاء إذا وجدنا فعلا ذا صفة حسن مقارنا لمصلحة غير مزاحمة بعثنا ذلك إلى اقتراف العمل و إذا وجدنا حكما على هذا النعت لم نتردد في تقنينه و حكمنا به و أجريناه في مجتمعنا مثلا.
و ليست هذه الوجوه و العلل أعني جهات الحسن و المصلحة إلا معاني أخذناها من سنة التكوين و الوجود الخارجي الذي هو منفصل من أذهاننا مستقل دوننا فأردنا في اختيار الأعمال الحسنة ذوات المصلحة أن لا نخبط في مسيرنا و تنطبق أعمالنا على سنة التكوين و تقع في صراط الحقيقة، فهذه الجهات و المصالح معان منتزعة من خارج الأعيان متفرعة عليه، و أعمالنا متفرعة على هذه الجهات محكومة لها متأثرة عنها، و الكلام في أحكامنا المجعولة لنا نظير الكلام في أعمالنا.
و أما فعله تعالى فهو نفس الكون الخارجي و الوجود العيني الذي كنا ننتزع منه وجوه الحسن و المصلحة و كانت تتفرع عليه بما أنها انتزعت منه فكيف يمكن أن يعد فعله تعالى متفرعا عليها محكوما لها متأثرا عنها، و كذلك أحكامه تعالى المشرعة تستتبع الواقع لا أنها تتبع الواقع فافهم ذلك.
فقد تبين: أن جهات الحسن و المصلحة و ما يناظرها في عين أنها موجودة في أفعاله تعالى و أحكامه، و في أفعالنا و أحكامنا بما نحن عقلاء تختلف في أنها بالنسبة إلى أعمالنا و أحكامنا حاكمة مؤثرة، و إن شئت قلت دواع و علل غائية، و بالنسبة إلى أفعاله و أحكامه تعالى لازمة غير منفكة و إن شئت قلت: فوائد مطردة، فنحن بما أنا عقلاء نفعل ما نفعل و نحكم ما نحكم لأنا نريد به تحصيل الخير و السعادة و تملك ما لا نملكه بعد، و هو تعالى يفعل ما يفعل و يحكم ما يحكم لأنه الله، و يترتب على فعله ما يترتب على فعلنا من الحسن و المصلحة، و أفعالنا مسئول عنها معللة بغاياتها و مصالحها، و أفعاله غير مسئول عنها و لا معللة بغاية لا يملكها بل مكشوفة بلوازمها و نعوتها اللازمة و لا يسأل عما يفعل و هم يسألون فافهم ذلك.
و هذا هو الذي يهدي إليه كلامه عز اسمه كقوله تعالى: «لا يسأل عما يفعل و هم يسألون»: الأنبياء: 23 و قوله: «له الحمد في الأولى و الآخرة و له الحكم»: القصص: 70 و قوله: «و يفعل الله ما يشاء»: إبراهيم: 27 و قوله: «و الله يحكم لا معقب لحكمه»: الرعد: 41.
و لو كان فعله تعالى كأفعالنا العقلائية لكان لحكمه معقب إلا أن يعتضد بمصلحة محسنة و لم يكن له ليفعل ما يشاء بل ما تشير إليه المصلحة المقارنة، و قوله: «قل إن الله لا يأمر بالفحشاء»: الأعراف: 28 و قوله: «يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله و للرسول إذا دعاكم لما يحييكم»: الأنفال: 24 و غير ذلك من الآيات التي تعلل الأحكام بوجوه الحسن و المصلحة.
قوله تعالى: «قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني و بينكم» إلى آخر الآية، أي لو قدرت على ما تقترحونه علي من الآية و الحال أنها بحيث إذا نزلت على رسول لم تنفك عن الحكم الفصل بينه و بين أمته لقضي الأمر بيني و بينكم، و نجي بذلك أحد المتخاصمين المختلفين و عذب الآخر و أهلك، و لم يعذب بذلك و لا يهلك إلا أنتم لأنكم ظالمون، و العذاب الإلهي إنما يأخذ الظالمين بظلمهم، و هو سبحانه أنزه ساحة من أن يشتبه عليه الأمر و لا يميز الظالمين من غيرهم فيعذبني دونكم.
ففي قوله تعالى: «و الله أعلم بالظالمين» نوع تكنية و تعليل أي إنكم أنتم المعذبون لأنكم ظالمون و العذاب الإلهي لا يعدو الظالمين إلى غيرهم، و في الجملة إشارة إلى ما تقدم من قوله تعالى: «قل أ رأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك إلا القوم الظالمون:» آية: 47.
قوله تعالى: «و عنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو» إلى آخر الآية.
ذكروا في وجه اتصال الآية بما قبلها أن الآية السابقة لما ختمت بقوله: «و الله أعلم بالظالمين» زاد الله سبحانه في بيانه فذكر أن خزائن الغيب أو مفاتيح تلك الخزائن عنده سبحانه لا يعلمها إلا هو، و يعلم كل دقيق و جليل.
و هذا الوجه لا يتضح به معنى الحصر الذي يدل عليه قوله: «لا يعلمها إلا هو» فالأولى أن يوجه الاتصال بما يشتمل عليه مجموع الآيتين السابقتين أعني قوله: «قل إني على بينة من ربي - إلى قوله - و الله أعلم بالظالمين» حيث يدل المجموع على أن ما كانوا يقترحونه من الآية و ما يستتبعه من الحكم الفصل و القضاء بينه و بينهم إنما هو عند الله لا سبيل إليه لغيره فهو العالم بذلك الحاكم به، و لا يغلط في حكمه الفصل و تعذيب الظالمين لأنه أعلم بهم فهو عالم بالغيب لا يشاركه فيه غيره، و عالم بكل ما جل و دق لا يضل و لا ينسى، ثم زاد ذلك بيانا بقوله: «و عنده مفاتح الغيب» الآية فبين به اختصاصه تعالى بعلم الغيب و شمول علمه كل شيء، ثم تمم البيان بالآيات الثلاث التي تتلوها.
و بذلك تصير الآيات جارية مجرى ما سيقت إليه نظائرها في مثل المورد كقوله تعالى في قصة هود و قومه: «قالوا أ جئتنا لتأفكنا عن آلهتنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين. قال إنما العلم عند الله و أبلغكم ما أرسلت به:» الأحقاف: 23.
ثم نقول: المفاتح جمع مفتح بفتح الميم و هو الخزينة، و ربما احتمل أن يكون جمع مفتح بكسر الميم و هو المفتاح، و يؤيده ما قرىء شاذا: «و عنده مفاتيح الغيب» و مآل المعنيين واحد فإن من عنده مفاتيح الخزائن هو عالم بما فيها قادر على التصرف فيها كيف شاء عادة كمن عنده نفس الخزائن إلا أن سائر كلامه تعالى فيما يشابه هذا المورد يؤيد المعنى الأول فإنه تعالى كرر في كلامه ذكر خزائنه و خزائن رحمته - و ذلك في سبعة مواضع - و لم يذكر لها مفاتيح في شيء من كلامه قال تعالى: «أم عندهم خزائن ربك»: الطور: 37 و قال: «لا أقول لكم عندي خزائن الله»: الأنعام: 50 و قال: «و إن من شيء إلا عندنا خزائنه»: الحجر: 21 و قال: «و لله خزائن السماوات و الأرض»: المنافقون: 7 و قال: «أم عندهم خزائن رحمة ربك»: ص: 9 فالأقرب أن يكون المراد بمفاتح الغيب خزائنه.
و كيف كان فقوله: «و عنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو» مسوق لبيان انحصار العلم بالغيب فيه تعالى إما لأن خزائن الغيب لا يعلمها إلا الله، و إما لأن مفاتيح الغيب لا يعلمها غيره تعالى فلا سبيل لغيره إلى تلك الخزائن إذ لا علم له بمفاتيحها التي يتوصل بها إلى فتحها و التصرف فيها.
و صدر الآية و إن أنبأ عن انحصار علم الغيب فيه تعالى لكن ذيلها لا يختص بعلم الغيب بل ينبىء عن شمول علمه تعالى بكل شيء أعم من أن يكون غيبا أو شهادة فإن كل رطب و يابس لا يختص بما يكون غيبا و هو ظاهر فالآية بمجموعها يبين شمول علمه تعالى لكل غيب و شهادة، غير أن صدرها يختص ببيان علمه بالغيوب، و ذيلها ينبىء عن علمه بكل شيء أعم من الغيب و الشهادة.
و من جهة أخرى صدر الآية يتعرض للغيوب التي هي واقعة في خزائن الغيب تحت أستار الخفاء و أقفال الإبهام، و قد ذكر الله سبحانه في قوله: «و إن من شيء إلا عندنا خزائنه و ما ننزله إلا بقدر معلوم:» الحجر: 21 أن التي في خزائن الغيب عنده من الأشياء أمور لا يحيط بها الحدود المشهودة في الأشياء، و لا يحصرها الأقدار المعهودة، و لا شك أنها إنما صارت غيوبا مخزونة لما فيها من صفة الخروج عن حكم الحد و القدر فإنا لا نحيط علما إلا بما هو محدود و مقدر، و أما التي في خزائن الغيب من الأشياء فهي قبل النزول في منزل الشهود و الهبوط إلى مهبط الحد و القدر، و بالجملة قبل أن يوجد بوجوده المقدر له غير محدودة مقدرة مع كونها ثابتة نوعا من الثبوت عنده تعالى على ما تنطق به الآية.
فالأمور الواقعة في هذا الكون المشهود المسجونة في سجن الزمان هي قبل وقوعها و حدوثها موجودة عند الله ثابتة في خزائنه نوعا من الثبوت مبهما غير مقدر و إن لم نستطع أن نحيط بكيفية ثبوتها فمن الواقع في مفاتح الغيب و خزائنه الأشياء قبل حدوثها و استقرارها في منزلها المقدر لها من منازل الزمان، و لعل هناك أشياء أخر مذخورة مخزونة لا تسانخ ما عندنا من الأمور الزمانية المشهودة المعهودة، و لنسم هذا النوع من الغيب غير الخارج إلى عرصة الشهود بالغيب المطلق.
و أما الأشياء بعد تلبسها بلباس التحقق و الوجود و نزولها في منزلها بالحد و القدر فالذي في داخل حدودها و أقدارها يرجع بالحقيقة إلى ما في خزائن الغيب و يرجع إلى الغيب المطلق، و أما هي مع ما لها من الحد و القدر فهي التي من شأنها أن يقع عليها شهودنا و يتعلق بها علمنا فعند ما نعلم بها تصير من الشهادة و عند ما نجهل بها تصير غيبا، و من الحري أن نسميها عند ما تصير مجهولة لنا غيبا نسبيا لأن هذا الوصف الذي يطرؤها عندئذ وصف نسبي يختلف بالنسب و الإضافات كما أن ما في الدار مثلا من الشهادة بالنسبة إلى من فيها، و من قبيل الغيب بالنسبة إلى من هو في خارجها، و كذا الأضواء و الألوان المحسوسة بحاسة البصر من الشهادة بالنسبة إلى البصر، و من الغيب بالنسبة إلى حاسة السمع، و المسموعات التي ينالها السمع شهادة بالنسبة إليه و غيب بالنسبة إلى البصر، و محسوساتهما جميعا من الشهادة بالنسبة إلى الإنسان الذي يملكهما في بدنه و من الغيب بالنسبة إلى غيره من الأناسي.
و التي عدها تعالى في الآية بقوله: «و يعلم ما في البر و البحر و ما تسقط من ورقة إلا يعلمها و لا حبة في ظلمات الأرض و لا رطب و لا يابس» من هذا الغيب النسبي فإنها جميعا أمور محدودة مقدرة لا تأبى بحسب طبعها أن يتعلق بها علمنا و لا أن يكون مشهودة لنا فهي من الغيب النسبي.
و قد دلت الآية على أن هذه الأمور في كتاب مبين فما هو الذي منها في كتاب مبين؟ أ هو هذه الأشياء من جهة شهادتها و غيبها جميعا أم هي من جهة غيبها فقط؟ و بعبارة أخرى: الكتاب المبين أ هو هذا الكون المشتمل على أعيان هذه الأشياء لا يغيب عنه شيء منها و إن غاب بعضها عن بعض أم هو أمر وراء هذا الكون مكتوبة فيه هذه الأشياء نوعا من الكتابة مخزونة فيه نوعا من الخزن غائبة من شهادة الشهداء من أهل العالم فيكون ما في الكتاب من الغيب المطلق.
و بلفظ آخر الأشياء الواقعة في الكون المعدودة بنحو العموم في الآية أ هي واقعة بنفسها في الكتاب المبين كما تقع الخطوط بأنفسها في الكتب التي عندنا أم هي واقعة بمعانيها فيه كما تقع المطالب الخارجية بمعانيها بنوع من الوقوع في ما نكتبه من الصحائف و الرسائل ثم تطابق الخارج مطابقة العلم العين؟.
لكن قوله تعالى: «ما أصاب من مصيبة في الأرض و لا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها»: الحديد: 22 يدل على أن نسبة هذا الكتاب إلى الحوادث الخارجية نسبة الكتاب الذي يكتب فيه برنامج العمل إلى العمل الخارجي، و يقرب منه قوله تعالى: «و ما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض و لا في السماء و لا أصغر من ذلك و لا أكبر إلا في كتاب مبين»: يونس: 61 و قوله: «لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات و لا في الأرض و لا أصغر من ذلك و لا أكبر إلا في كتاب مبين»: سبأ: 3 و قوله: «قال فما بال القرون الأولى، قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي و لا ينسى»: طه: 52 إلى غير ذلك من الآيات.
فالكتاب المبين أيا ما كان هو شيء غير هذه الخارجيات من الأشياء بنحو من المغايرة، و هو يتقدمها ثم يبقى بعد فنائها و انقضائها كالبرنامجات المكتوبة للأعمال التي تشتمل على مشخصات الأعمال قبل وقوعها ثم تحفظ المشخصات المذكورة بعد الوقوع.
على أن هذه الموجودات و الحوادث التي في عالمنا متغيرة متبدلة تحت قوانين الحركة العامة و الآيات تدل على عدم جواز التغير و الفساد فيما يشتمل عليه هذا الكتاب كقوله تعالى: «يمحو الله ما يشاء و يثبت و عنده أم الكتاب»: الرعد: 39 و قوله: «في لوح محفوظ»: البروج: 22 و قوله: «و عندنا كتاب حفيظ»: ق: 4 فالآيات - كما ترى - تدل على أن هذا الكتاب في عين أنه يشتمل على جميع مشخصات الحوادث و خصوصيات الأشخاص المتغيرة المتبدلة لا يتبدل هو في نفسه و لا يتسرب إليه أي تغير و فساد.
و من هنا يظهر أن هذا الكتاب بوجه غير مفاتح الغيب و خزائن الأشياء التي عند الله سبحانه فإن الله تعالى وصف هذه المفاتح و الخزائن بأنها غير مقدرة و لا محدودة، و أن القدر إنما يلحق الأشياء عند نزولها من خزائن الغيب إلى هذا العالم الذي هو مستوى الشهادة، و وصف هذا الكتاب بأنه يشتمل على دقائق حدود الأشياء و حدود الحوادث، فيكون الكتاب المبين من هذه الجهة غير خزائن الغيب التي عند الله سبحانه، و إنما هو شيء مصنوع لله سبحانه يضبط سائر الأشياء و يحفظها بعد نزولها من الخزائن و قبل بلوغها منزل التحقق و بعد التحقق و الانقضاء.
و يشهد بذلك أن الله سبحانه إنما ذكر هذا الكتاب في كلامه لبيان إحاطة علمه بأعيان الأشياء و الحوادث الجارية في العالم سواء كانت غائبة عنا أو مشهودة لنا، و أما الغيب المطلق الذي لا سبيل لغيره تعالى إلى الاطلاع عليه فإنما وصفه بأنه في خزائنه و المفاتح التي عنده لا يعلمها إلا هو بل ربما أشعرت أو دلت بعض الآيات على جواز اطلاع غيره على الكتاب دون الخزائن كقوله تعالى: «في كتاب مكنون، لا يمسه إلا المطهرون»: الواقعة: 79.
فما من شيء مما خلقه الله سبحانه إلا و له في خزائن الغيب أصل يستمد منه، و ما من شيء مما خلقه الله إلا و الكتاب المبين يحصيه قبل وجوده و عنده و بعده غير أن الكتاب أنزل درجة من الخزائن، و من هنا يتبين للمتدبر الفطن أن الكتاب المبين - في عين أنه كتاب محض - ليس من قبيل الألواح و الأوراق الجسمانية فإن الصحيفة الجسمانية أيا ما فرضت و كيفما قدرت لا تحتمل أن يكتب فيها تاريخ نفسه فيما لا يزال فضلا عن غيره فضلا عن كل شيء في مدى الأبد.
فقد بان بما مر من البحث أولا: أن المراد بمفاتح الغيب الخزائن الإلهية التي تشتمل على الأشياء قبل تفريغها في قالب الأقدار، و هي تشتمل على غيب كل شيء على حد ما يدل عليه قوله تعالى: «و إن من شيء إلا عندنا خزائنه و ما ننزله إلا بقدر معلوم»: الحجر: 21.
و ثانيا: أن المراد بالكتاب المبين أمر نسبته إلى الأشياء جميعا نسبة الكتاب المشتمل على برنامج العمل إلى نفس العمل ففيه نوع تعيين و تقدير للأشياء إلا أنه موجود قبل الأشياء و معها و بعدها، و هو المشتمل على علمه تعالى بالأشياء علما لا سبيل للضلال و النسيان إليه، و لذلك ربما يحدس أن المراد به مرتبة واقعية الأشياء و تحققها الخارجي الذي لا سبيل للتغير إليه فإن شيئا ما لا يمتنع من عروض التغير عليه إلا بعد الوقوع، و هو الذي يقال: إن الشيء لا يتغير عما وقع عليه.
و بالجملة هذا الكتاب يحصي جميع ما وقع في عالم الصنع و الإيجاد مما كان و ما يكون و ما هو كائن من غير أن يشذ عنه شاذ إلا أنه مع ذلك إنما يشتمل على الأشياء من حيث تقدرها و تحددها، و وراء ذلك ألواح و كتب تقبل التغيير و التبديل، و تحتمل المحو و الإثبات كما يدل عليه قوله تعالى: «يمحوا الله ما يشاء و يثبت و عنده أم الكتاب» فإن المحو و الإثبات - و خاصة إذا قوبلا بأم الكتاب - إنما يكونان في الكتاب.
و عند ذلك يتضح اتصال الآية أعني قوله: «و عنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو» إلى آخر الآية بما قبلها من الآيات فإن محصل الآيتين السابقتين أن الذي تقترحونه علي من الآيات القاضية بيني و بينكم ليس في مقدرتي، و لا الحكم الحق راجع إلي بل هو عند ربي في علمه و قدرته و لو كان ذلك إلي لقضي بيني و بينكم و أخذكم العذاب الذي لا يأخذ إلا الظالمين لأن الله يعلم أنكم أنتم الظالمون و هو العالم الذي لا يجهل شيئا أما أنه لا سبيل إلى الوقوف و التسلط على ما يريده و يقضيه من آية قاضية فلأن مفاتح الغيب عنده لا يعلمها إلا هو، و أما أنه أعلم بالظالمين و لا يخطئهم إلى غيرهم فلأنه يعلم ما في البر و البحر و يعلم كل دقيق و جليل، و الكل في كتاب مبين.
فقوله تعالى: «و عنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو» راجع إلى الغيب المطلق الذي لا سبيل لغيره تعالى إليه، و قوله: «لا يعلمها» «إلخ» حال و هو يدل على أن مفاتح الغيب من قبيل العلم غير أن هذا العلم من غير سنخ العلم الذي نتعارفه فإن الذي يتبادر إلى أذهاننا من معنى العلم هو الصورة المأخوذة من الأشياء بعد وجودها و تقدرها بأقدارها و مفاتح الغيب - كما تبين - علم بالأشياء و هي غير موجودة و لا مقدرة بأقدارها الكونية أي علم غير متناه من غير انفعال من معلوم.
و قوله: «و يعلم ما في البر و البحر» تعميم لعلمه بما يمكن أن يتعلق به علم غيره مما ربما يحضر بعضه عند بعض و ربما يغيب بعضه عن بعض، و إنما قدم ما في البر لأنه أعرف عند المخاطبين من الناس.
و قوله: «و ما تسقط من ورقة إلا يعلمها» اختص بالذكر لأنه مما يستصعب الإنسان حصول العلم به لأن الكثرة البالغة التي في أوراق الأشجار تعجز الإنسان أن يميز معها بعضها من بعض فيراقب كلا منها فيما يطرأ عليه من الأحوال، و يتنبه على انتقاصها بالساقط منها إذا سقط.
و قوله: «و لا حبة في ظلمات الأرض و لا رطب و لا يابس» إلخ، معطوفات على قوله: «من ورقة» على ظاهر السياق، و المراد بظلمات الأرض بطونها المظلمة التي تستقر فيها الحبات فينمو منها ما ينمو و يفسد ما يفسد فالمعنى: و لا تسقط من حبة في بطون الأرض المظلمة و لا يسقط من رطب و لا من يابس أيا ما كانا إلا يعلمها، و على هذا فقوله: «إلا في كتاب مبين» بدل من قوله: «إلا يعلمها» سد مسده، و تقديره إلا هو واقع مكتوب في كتاب مبين.
و توصيف الكتاب بالمبين إن كان بمعنى المظهر إنما هو لكونه يظهر لقارئه كل شيء على حقيقة ما هو عليه من غير أن يطرأ عليه إبهام التغير و التبدل و سترة الخفاء في شيء من نعوته، و إن كان المبين بمعنى الظاهر فهو ذلك أيضا لأن الكتاب في الحقيقة هو المكتوب، و المكتوب هو المحكي عنه، و إذا كان ظاهرا لا سترة عليه و لا خفاء فيه فالكتاب كذلك.
قوله تعالى: «و هو الذي يتوفاكم بالليل و يعلم ما جرحتم بالنهار» التوفي أخذ الشيء بتمامه، و يستعمله الله سبحانه في كلامه بمعنى أخذ الروح الحية كما في حال الموت كما في قوله في الآية التالية: «حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا».
قد عد الإنامة توفيا كما عد الإماتة توفيا على حد قوله: «الله يتوفى الأنفس حين موتها و التي لم تمت في منامها»: الزمر: 42 لاشتراكهما في انقطاع تصرف النفس في البدن كما أن البعث بمعنى الإيقاظ بعد النوم يشارك البعث بمعنى الإحياء بعد الموت في عود النفس إلى تصرفها في البدن بعد الانقطاع، و في تقييد التوفي بالليل كالبعث بالنهار جري على الغالب من أن الناس ينامون بالليل و يستيقظون بالنهار.
و في قوله تعالى «يتوفاكم» دلالة على أن الروح تمام حقيقة الإنسان الذي يعبر عنه بأنا لا كما ربما يتخيل لنا أن الروح أحد جزئي الإنسان لا تمامه أو أنها هيئة أو صفة عارضة له، و أوضح منه دلالة قوله تعالى: «و قالوا أ ءذا ضللنا في الأرض أ ئنا لفي خلق جديد بل هم بلقاء ربهم كافرون، قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون»: السجدة: 11 فإن استبعاد الكفار مبني على أن حقيقة الإنسان هو البدن الذي يتلاشى و يفسد بانحلال التركيب بالموت فيضل في الأرض، و الجواب مبني على كون حقيقته هو الروح النفس و إذ كان ملك الموت يتوفاه و يقبضه فلا يفوت منه شيء.
و قوله: «و يعلم ما جرحتم بالنهار» الجرح هو الفعل بالجارحة و المراد به الكسب أي يعلم ما كسبتم بالنهار، و الأنسب أن يكون الواو حالية و الجملة حالا من فاعل يتوفاكم، و يتصل حينئذ قوله: «ثم يبعثكم فيه» بقوله: «و هو الذي يتوفاكم» إلخ، من غير تخلل معنى أجنبي فإن الآيتين في مقام شرح وقوع التدبير الإلهي بالإنسان في حياته الدنيا و عند الموت و بعده حتى يرد إلى ربه، و الأصل العمدة من جمل الآيتين المسرودة لبيان هذا المعنى قوله تعالى: «و هو الذي يتوفاكم بالليل و يعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه - أي في النهار - ليقضى أجل مسمى و يرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا و هم لا يفرطون. ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق» فهذا هو الأصل في المقصود، و ما وراء ذلك مقصود بالتبع، و المعنى و هو الذي يتوفاكم بالليل و الحال أنه يعلم ما كسبتم في النهار، ثم يبعثكم في النهار إلخ.
قوله تعالى: «ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى» إلخ.
سمي الإيقاظ و التنبيه بعثا محاذاة لتسمية الإنامة توفيا و جعل الغرض من البعث قضاء الأجل المسمى و هو الوقت المعلوم عند الله الذي لا يتخطاه حياة الإنسان الدنيوية كما قال: «فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة و لا يستقدمون»: الأعراف: 34.
و إنما جعل قضاء الأجل المسمى غاية لأنه تعالى أسرع الحاسبين، و لو لا تحقق قضاء سابق لأخذهم بسيئات أعمالهم و وبال آثامهم، كما قال: «و ما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم و لو لا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم»: الشورى: 14 و القضاء السابق هو الذي يشتمل عليه قوله تعالى في قصة هبوط آدم (عليه السلام): «و لكم في الأرض مستقر و متاع إلى حين»: الأعراف: 24.
فالمعنى أن الله يتوفاكم بالليل و الحال أنه يعلم ما كسبتم في النهار من السيئات و غيرها لكن لا يمسك أرواحكم ليديم عليها الموت بل يبعثكم في النهار بعد التوفي لتقضى آجالكم المسماة ثم إليه مرجعكم بنزول الموت و الحشر فينبئكم بما كنتم تعملون.
قوله تعالى: «و هو القاهر فوق عباده» قد تقدم الكلام فيه في تفسير الآية 17 من السورة.
قوله تعالى: «و يرسل عليكم حفظة» إلخ، إطلاق إرسال الحفظة من غير تقييد لا في الإرسال و لا في الحفظة ثم جعله مغيا بمجيء الموت لا يخلو عن دلالة على أن هؤلاء الحفظة المرسلين شأنهم حفظ الإنسان من كل بلية تتوجه إليه و مصيبة تتوخاه، و آفة تقصده فإن النشأة التي نحن فيها نشأة التفاعل و التزاحم، ما فيه من شيء إلا و هو مبتلى بمزاحمة غيره من شيء من جميع الجهات لأن كلا من أجزاء هذا العالم الطبيعي بصدد الاستكمال و استزادة سهمه من الوجود، و لا يزيد في شيء إلا و ينقص بنسبته من غيره فالأشياء دائما في حال التنازع و التغلب، و من أجزائه الإنسان الذي تركيب وجوده ألطف التراكيب الموجودة فيه و أدقها فيما نعلم فرقباؤه في الوجود أكثر و أعداؤه في الحياة أخطر فأرسل الله إليه من الملائكة حفظة تحفظه من طوارق الحدثان و عوادي البلايا و المصائب و لا يزالون يحفظونه من الهلاك حتى إذا جاء أجله خلوا بينه و بين البلية فأهلكته على ما في الروايات.
و أما ما ذكره في قوله: «إن عليكم لحافظين. كراما كاتبين. يعلمون ما تفعلون»: الانفطار: 12 فإنما يريد به الحفظة على الأعمال غير أن بعضهم أخذ الآيات مفسرة لهذه الآية، و الآية و إن لم تأب هذا المعنى كل الإباء لكن قوله: «حتى إذا جاء أحدكم الموت» إلى آخر الآية، كما تقدم يؤيد المعنى الأول.
و قوله: «توفته رسلنا و هم لا يفرطون» الظاهر أن المراد من التفريط هو التساهل و التسامح في إنفاذ الأمر الإلهي بالتوفي فإن الله سبحانه وصف ملائكته بأنهم يفعلون ما يؤمرون، و ذكر أن كل أمة رهن أجلهم فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة و لا يستقدمون فالملائكة المتصدون لأمر التوفي لا يقصرون عن الحد الواجب المحدود المكشوف لهم من موت فلان في الساعة الفلانية على الشرائط الكذائية فهم لا يسامحون في توفي من أمروا بتوفيه و لا مقدار ذرة فهم لا يفرطون.
و هل هذه الرسل هم الرسل المذكورون أولا حتى تكون الحفظة هم الموكلين على التوفي؟ الآية ساكتة عن ذلك إلا ما فيها من إشعار ضعيف بالوحدة غير أن هؤلاء الرسل المأمورين بالتوفي كائنين من كانوا هم من أعوان ملك الموت لقوله تعالى: «قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم»: السجدة: 11.
و نسبة التوفي إلى هؤلاء الرسل ثم إلى ملك الموت في الآية المحكية آنفا ثم إلى الله سبحانه في قوله: «الله يتوفى الأنفس»: الزمر: 42 من قبيل التفنن في مراتب النسب فالله سبحانه ينتهي إليه كل أمر و هو المالك المتصرف على الإطلاق، و لملك الموت التوسل إلى ما يفعله من قبض الأرواح بأعوانه الذين هم أسباب الفعل و وسائله و أدواته كالخط الذي يخط القلم و ورائه اليد و وراءهما الإنسان الكاتب.
قوله تعالى: «ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق» إشارة إلى رجوعهم إلى الله سبحانه بالبعث بعد الموت، و توصيفه تعالى بأنه مولاهم الحق للدلالة على علة جميع ما تقدم من تصرفاته تعالى بالإنامة و الإيقاظ و التدبير و الإماتة و البعث، و فيه تحليل لمعنى المولى ثم إثبات حق المولوية له تعالى، فالمولى هو الذي يملك الرقبة فيكون من حقه جواز التصرف فيها كيفما شاء، و إذ كان له تعالى حقيقة الملك، و كان هو المتصرف بالإيجاد و التدبير و الإرجاع فهو المولى الحق الذي يثبت له معنى المولوية ثبوتا لا زوال له بوجه البتة.
و الحق من أسماء الله الحسنى لثبوته تعالى بذاته و صفاته ثبوتا لا يقبل الزوال و يمتنع عن التغير و الانتقال و الضمير في «ردوا» راجع إلى الآحاد الذي يومىء إليه سابق الكلام من قوله: «حتى إذا جاء أحدكم الموت» فإن حكم الموت يعم كل واحد و يجتمع به آحادهم نفس الجماعة، و من هنا يظهر أن قوله: «ثم ردوا» ليس من قبيل الالتفات من الخطاب السابق إلى الغيبة.
قوله تعالى: «ألا له الحكم» إلخ، لما بين تعالى اختصاصه بمفاتح الغيب و علمه بالكتاب المبين الذي فيه كل شيء، و تدبيره لأمر خلقه من لدن وجدوا إلى أن يرجعوا إليه تبين أن الحكم إليه لا إلى غيره، و هو الذي ذكره فيما مر من قوله: «إن الحكم إلا لله» أعلن نتيجة بيانه فقال «ألا له الحكم» ليكون منبها لهم مما غفلوا عنه.
و كذلك قوله: «و هو أسرع الحاسبين» نتيجة أخرى لسابق البيان فإنه تبين به أنه تعالى لا يؤخر حساب أعمال الناس عن الوقت الصالح له، و إنما يتأخر ما يتأخر ليدرك الأجل الذي أجل له.
قوله تعالى: «قل من ينجيكم من ظلمات البر و البحر تدعونه» إلى آخر الآية كأن المراد بالتنجية من ظلمات البر و البحر هو التخليص من الشدائد التي يبتلى بها الإنسان في خلال الأسفار إذا ضرب في الأرض أو ركب البحر كالبرد الشديد و الأمطار و الثلوج و قطاع الطريق و الطوفان و نحو ذلك، و أشق ما يكون ذلك على الإنسان في الظلمات من ليل أو سحاب أو ريح تثير عجاج الأرض فيزيد في اضطراب الإنسان و حيرته و ضلاله طريق الاحتيال لدفعه، و لذلك علقت التنجية على الظلمات، و كان أصل المعنى الاستفهام عمن ينجي الإنسان من الشدائد التي يبتلى بها في أسفاره في البر و البحر فأضيفت الشدائد إلى البر و البحر بعناية الظرفية ثم أضيفت إلى ظلمات البر و البحر لأن للظلمات تأثيرا تاما في تشديد هذه المكاره، ثم حذفت الشدائد و أقيمت الظلمات مقامها فعلقت التنجية عليها فقيل: ينجيكم من ظلمات البر و البحر.
و إنما خصت الظلمات بالذكر و إن كان المنجي من كل مكروه و غم هو الله سبحانه كما يذكره في الآية التالية لأن أسفار البر و البحر معروف عند الإنسان بالعناء و الوعثاء و الكريهة.
و التضرع إظهار الضراعة و هو الذل و الخضوع على ما ذكره الراغب، و لذلك قوبل بالخفية و هو الخفاء و الاستتار فالتضرع و الخفية في الدعاء هما الإعلان و الإسرار فيه، و الإنسان إذا نزلت به المصيبة يبتدىء فيدعو للنجاة بالإسرار و المناجاة ثم إذا اشتدت به و لاح بعض آثار اليأس و الانقطاع من الأسباب لا يبالي بمن حوله ممن يطلع على ذلته و استكانته فيدعو بالتضرع و المناداة ففي ذكر التضرع و الخفية إشارة إلى أنه تعالى هو المنجي من مصائب البر و البحر شديدتها و يسيرتها.
و في قوله: «لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين» إشارة إلى أن الإنسان يضيف في هذه الحالة التي يدعو لكشفها إلى دعائه عهدا يقدمه إلى ربه و وعدا يعده به أن لو كشف الله عنه ليكونن من الشاكرين و يرجع عن سابق كفره.
و أصل هذه العدة مأخوذ من العادة الجارية بين أفراد الإنسان بعضهم مع بعض فإن الواحد منا إذا أعيته المذاهب و أحاطت به البلية من مصيبة قاصمة أو فقر أو عدو و استغاث لكشف ما به من كرب إلى أحد الأقوياء القادرين على كشفه بزعمه وعده بما يطيب به نفسه و يقوي باعث عزيمته و فتوته، و ذلك بثناء جميل أو مال أو طاعة أو وفاء كل ذلك لما أن الأعمال الاجتماعية التي تدور بيننا كلها معاملات قائمة بطرفين يعطي فيها الإنسان شيئا و يأخذ شيئا لأن الحاجة محيطة بالإنسان ليس له أن يعمل عملا أو يؤثر أثرا إلا لنفع عائد إلى نفسه، و مثله سائر أجزاء الكون.
لكن الله سبحانه أكرم ساحة أن تمسه حاجة أو يطرأ عليه منقصة لا يفعل فعلا إلا ليعود نفعه إلى غيره من خليقته فوجه التوحيد في مقابلة الإنسان له بوعد الشكر و الطاعة في دعائه الفطري هو أن الإنسان إذا نزلت به النازلة، و انقطعت عنه الأسباب و غابت عن مسرح نظره وسائل الخلاص وجد أن الله سبحانه هو السبب الوحيد الذي يقدر على كشف ما به من غم، و أنه الذي يدبر أمره منذ خلقه و يدبر أمر كل سبب فوجد نفسه ظالما مفرطا في جنب الله سبحانه لا يستحق كشف الغم و رفع الحاجة من قبله تعالى لما كسبت يداه من السيئات، و حملت نفسه من وبال الخطيئة فعندئذ يعد ربه الشكر و الطاعة ليصحح ذلك استحقاقه لاستجابة دعائه و كشف ضره.
و لذلك نجده أنه إذا نجي مما نزل به النائبة ذهب لوجهه ناسيا لما عهد به ربه و وعده من الشكر كما قال تعالى في ذيل الآية التالية: «ثم أنتم تشركون».
قوله تعالى: «قل الله ينجيكم منها و من كل كرب ثم أنتم تشركون» قال الراغب في مفرداته:، الكرب الغم الشديد، قال تعالى: «و نجيناه و أهله من الكرب العظيم» و الكربة كالغمة، و أصل ذلك من كرب الأرض بسكون الراء و هو قلبها بالحفر فالغم يثير النفس إثارة ذلك و قيل في مثل: الكراب على البقر و ليس ذلك من قولهم: الكلاب على البقر، في شيء، و يجوز أن يكون الكرب من كربت الشمس إذا دنت للمغيب، و قولهم: إناء كربان أي قريب نحو قربان أي قريب من الملء، أو من الكرب بفتحتين و هو عقد غليظ في رشا الدلو، و قد يوصف الغم بأنه عقد على القلب يقال: أكربت الدلو، انتهى.
و قد أضيف في هذه الآية كل كرب إلى ظلمات البر و البحر ليعم الجميع فإن إنسانا ما لا يخلو في مدى حياته من شيء من الكروب و الغموم فالمسألة و الدعاء عام فيهم سواء أعلنوا به أو أسروا.
فملخص المراد بالآية أنكم في الشدائد النازلة بكم في ظلمات البر و البحر و غيرها إذا انقطعتم عن الأسباب الظاهرة و أعيت بكم الحيل تشاهدون بالرجوع إلى فطرتكم الإنسانية أن الله سبحانه هو ربكم لا رب سواه و تجزمون أن عبادتكم لغيره ظلم و إثم و الشاهد على ذلك أنكم تدعونه حينئذ تضرعا و خفية، و تعدونه أن تشكروه بعد ذلك و لا تكفروا به إن أنجاكم لكنكم بعد الإنجاء تنقضون ميثاقكم الذي واثقتموه به و تستمرون على سابق كفركم، ففي الآيتين احتجاج على المشركين و توبيخ لهم على حنث اليمين و خلف الوعد.
قوله تعالى: «قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم» إلى آخر الآية، قال الراغب في المفردات،: أصل البعث إثارة الشيء و توجيهه يقال: بعثته فانبعث، و يختلف البعث بحسب اختلاف ما علق به فبعثت البعير أثرته و سيرته، و قوله عز و جل: و الموتى يبعثهم الله أي يخرجهم و يسيرهم إلى القيامة - إلى أن قال - فالبعث ضربان: بشري كبعث البعير و بعث الإنسان في حاجة، و إلهي و ذلك ضربان: أحدهما: إيجاد الأعيان و الأجناس و الأنواع عن ليس و ذلك يختص به الباري تعالى و لم يقدر عليه أحد، و الثاني إحياء الموتى و قد خص بذلك بعض أوليائه كعيسى (عليه السلام) و أمثاله، انتهى.
و بالجملة في لفظه شيء من معنى الإقامة و الإنهاض، و بهذه العناية يستعمل في التوجيه و الإرسال لأن التوجيه إلى حاجة و الإرسال نحو قوم يكون بعد سكون و خمود غالبا، و على هذا فبعث العذاب لا يخلو من إشعار على أنه عذاب من شأنه أن يتوجه إليهم و يقع بهم، و إنما يمنع عن هذا الاقتضاء مانع كالإيمان و الطاعة، و للكلام تتمة سنوافيك.
و قال في المجمع،: لبست عليهم الأمر ألبسه إذا لم أبينه و خلطت بعضه ببعض و لبست الثوب ألبسه، و اللبس اختلاط الأمر و اختلاط الكلام، و لابست الأمر خالطته، و الشيع الفرق، و كل فرقة شيعة على حدة، و شيعة فلان تبعته، و التشيع الاتباع على وجه التدين و الولاء، انتهى.
و على هذا فالمراد بقوله: «أو يلبسكم شيعا» أن يضرب البعض بالبعض و يخلط حال كونهم شيعا و فرقا مختلفة.
فقوله: «قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم» ظاهره إثبات القدرة لله سبحانه على بعث العذاب عليهم من فوق أو من تحت، و القدرة على الشيء لا تستلزم فعله، و هو أعني إثبات القدرة على الفعل الذي هو العذاب كاف في الإخافة و الإنذار لكن المقام يعطي أن المراد ليس هو إثبات مجرد القدرة بل لهم استحقاق لمثل هذا العذاب، و في العذاب اقتضاء أن ينبعث عليهم إن لم يجتمعوا على الإيمان بالله و آياته كما مر من استفادة ذلك من معنى البعث، و يؤيده قوله بعد: «لكل نبأ مستقر و سوف تعلمون» فإنه تهديد صريح.
على أنه تعالى يهدد هذه الأمة صريحا بالعذاب في موارد مشابهة لهذا المورد من كلامه كقوله تعالى: «و لكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط - إلى أن قال - و يستنبؤنك أ حق هو قل إي و ربي إنه لحق و ما أنتم بمعجزين»: الآيات يونس: 47 - 53 و قوله: «إن هذه أمتكم أمة واحدة و أنا ربكم فاعبدون، و تقطعوا أمرهم بينهم» إلى آخر الآيات: الأنبياء: 93 - 97 و قوله تعالى: «فأقم وجهك للدين حنيفا - إلى أن قال - و لا تكونوا من المشركين، من الذين فرقوا دينهم و كانوا شيعا» إلى آخر الآيات: الروم: 30 - 45.
و قد قيل: إن المراد بالعذاب الذي من فوقهم هو الصيحة و الحجارة و الطوفان و الريح كما فعل بعاد و ثمود و قوم شعيب و قوم لوط، و بالذي من تحت أرجلهم الخسف كما فعل بقارون، و قيل: إن المراد بما من فوقهم العذاب الآتي من قبل كبارهم أو سلاطينهم الجبابرة و بما من تحت أرجلهم ما يأتيهم من قبل سفلتهم أو عبيدهم السوء، و قيل: المراد بما من فوق و بما من تحت الأسلحة النارية القتالة التي اخترعها البشر أخيرا من الطيارات و المناطد التي تقذف القنابل المحرقة و المخربة و غيرها و مراكب تحت البحر المغرفة للسفائن و الباخرات فإن الإنذار إنما وقع في كلامه تعالى و هو أعلم بما كان سيحدث في مملكته.
و الحق أن اللفظ مما يقبل الانطباق على كل من المعاني المذكورة و قد وقع بعد النزول ما ينطبق عليه اللفظ، و المحتد الأصلي لهذه الوقائع الذي مهد لها الطريق هو اختلاف الكلمة و التفرق الذي بدأت به الأمة و جبهت به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما كان يدعوهم إليه من الاتفاق على كلمة الحق، و أن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه و لا تتبعوا السبل فتفرق بكم.
قوله تعالى: «أو يلبسكم شيعا و يذيق بعضكم بأس بعض» ظاهره أنه أريد به التحزبات التي نشأت بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فأدى ذلك إلى حدوث مذاهب متنوعة ألبست لباس العصبية و الحمية الجاهلية و استتبعت حروبا و مقاتل يستبيح كل فريق من غيره كل حرمة و يطرده بمزعمته من حرمة الدين و بيضة الإسلام.
و على هذا فقوله: «أو يلبسكم شيعا و يذيق» إلخ، عذاب واحد لا عذابان و إن أمكن بوجه عد كل من إلقاء التفرق في الكلمة و إذاقة البعض بأس بعض عذابا مستقلا برأسه فللتفرقة بين الأمة أثر سوء آخر و هو طرو الضعف و نفاد القوة و تبعض القدرة لكن المأخوذ في الآية المعدود عذابا أعني قوله: «و يذيق بعضكم» إلخ، حينئذ بالنسبة إلى مجرد إلقاء الاختلاف بمنزلة المقيد بالنسبة إلى المطلق، و لا يحسن مقابلة المطلق بالمقيد إلا بعناية زائدة في الكلام، على أن العطف بواو الجمع يؤيد ما ذكرناه.
فبالجملة معنى الآية: قل يا رسول الله مخاطبا لهم منذرا لهم عاقبة استنكافهم عن الاجتماع تحت لواء التوحيد و استماع دعوة الحق إن لشأنكم هذا عاقبة سيئة في قدرة الله سبحانه أن يأخذكم بها و هو أن يبعث عليكم عذابا لا مفر لكم منه و لا ملاذ تلوذون به و هو العذاب من فوقكم أو من تحت أرجلكم، أو أن يضرب بعضكم ببعض فتكونوا شيعا و فرقا مختلفين متنازعين و متحاربين فيذيق بعضكم بأس بعض، ثم تمم البيان بقوله خطابا لنبيه: انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون، و المعنى ظاهر.
قوله تعالى: «و كذب به قومك و هو الحق قل لست عليكم بوكيل» قوم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هم قريش أو مضر أو عامة العرب و المستفاد من فحوى بعض كلامه تعالى في موارد أخر أن المراد بقومه (صلى الله عليه وآله وسلم) هم العرب كقوله: «و لو نزلناه على بعض الأعجمين، فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين، كذلك سلكناه في قلوب المجرمين، لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم، فيأتيهم بغتة و هم لا يشعرون»: الشعراء: 202 و قوله: «و ما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم»: إبراهيم: 4.
و كيف كان فقوله: «و كذب به قومك و هو الحق» بمنزلة التمهيد لتحقيق النبإ الذي يتضمنه الإنذار السابق كأنه قيل: يا أيتها الأمة اجتمعوا في توحيد ربكم و اتفقوا في اتباع كلمة الحق و إلا فلا مؤمن يؤمنكم عذابا يأتيكم من فوق أو من تحت أو من اختلاف و تحزب يستتبع سيفا و سوطا من بعضكم على بعض، ثم خوطب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقيل: إن قومك كذبوا بذلك فليستعدوا لعذاب بئيس أو بأس شديد يذوقونه.
و من هنا يظهر أولا: أن الضمير في قوله: «و كذب به» راجع إلى العذاب كما نسبه الآلوسي إلى غالب المفسرين، و ربما قيل: إنه عائد إلى تصريف الآيات أو إلى القرآن و هو بعيد، و ليس من البعيد أن يرجع إلى النبإ باعتبار ما تشتمل عليه الآية السابقة.
و ثانيا: أن هذا الخبر أعني قوله: «و كذب به قومك و هو الحق» بحسب ما يعطيه المقام في معنى ذكر أول خبر يمهد الطريق لنبإ موعود كأنه قيل: يجب على أمتك أن يجتمعوا على الإيمان بالله و آياته و يكونوا على تحرز و تحذر من أن يتسرب إليهم الكفر بالله و آياته و يدب فيهم اختلاف حتى لا ينزل عليهم عذاب الله سبحانه ثم قيل: إن قومك من بين جميع أمتك و من عاصرك أو جاء من بعدك من أهل الدنيا بادروا إلى نقض ما كان يجب عليهم أن يبرموه و كذبوا النبأ فانثلم بذلك الأمر فسوف يعلمون ذلك أن المكذبين للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو للقرآن أو لهذا العذاب ليسوا هم الأعراب خاصة و هم قومه (صلى الله عليه وآله وسلم) بل كذبته اليهود و أمم من غيرهم في زمانه و بعده و كان تكذيبهم و اختلافهم جميعا ذا أثر مثبت في ما هددوا به من العذاب فتخصيص تكذيب قومه بالذكر و الحال هذه يفيد ما ذكرناه.
و البحث التحليلي عن نفسية المجتمع الإسلامي يؤيد هذا الذي استفدناه من الآية فإن ما ابتليت به الأمة الإسلامية اليوم من الانحطاط في نفسيتهم و الوهن في قوتهم و التشتت في كلمتهم ينتهي بحسب التحليل إلى ما نشأت من الاختلافات و المشاجرات في الصدر الأول بعد رحلة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم يصعد ذلك إلى حوادث أول الهجرة و قبل الهجرة مما لقيه النبي من قومه، و ما جبهوه به من التكذيب و تسفيه الرأي.
و هؤلاء و إن تجمعوا حول راية الدعوة الإسلامية و استظلوا بظلها بعد ما ظهرت كلمة الحق و أنارت مشعلته لكن المجتمع الطيب الديني لم يصف من خبث النفاق، و قد نطقت آيات جمة من القرآن الكريم بذلك، و كان أهل النفاق لا يستهان بعددهم و من المحال أن يسلم بنية المجتمع من سيء أثرهم في نفسية أجزائه و لم يقدر على هضمهم هضما تاما يحيلهم إلى أعضاء صالحة في المجتمع مدى حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و لم يمكث وقودهم دون أن اشتعل ثم زاد اشتعالا و لم يزل، و الجميع يرجع إلى ما بدأ منه، و كل الصيد في جوف الفراء.
و ثالثا: أن قوله تعالى: «قل لست عليكم بوكيل» مسوق سوق الكناية أي أعرض عنهم و قل: إن أمركم غير مفوض إلي و لا محمول علي حتى أمنعكم من هذا التكذيب نصيحة لكم، و إنما الذي إلي بحسب مقامي أن أنذركم عذابا شديدا هو كمين لكم.
و من هنا يظهر أيضا: أن قوله: «لكل نبإ مستقر و سوف تعلمون» من مقول القول و تتمة قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لقومه كما يؤيده الخطاب في قوله: «و سوف تعلمون» فإن القوم إنما هم في موقف الخطاب بالنسبة إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا بالنسبة إليه تعالى.
و قوله: «لكل نبإ مستقر و سوف تعلمون» تصريح بالتهديد و إنباء عن الوقوع الحتمي و قد ظهر مما تقدم وجه صحة خطاب المشركين بما سيبتلى به الأمة الإسلامية من تفرق الكلمة و نزول الشدة فإن الأعراق تنتهي إليهم و ليس الناس إلا أمة واحدة يؤخذ آخرهم بما اكتسبه أولهم و يعود إلى أولهم ما يظهر في آخرهم علموا ذلك أو جهلوا، أبصروا من أنفسهم ذلك أو عموا قال تعالى: «بل هم في شك يلعبون، فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس هذا عذاب أليم ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون أنى لهم الذكرى و قد جاءهم رسول مبين ثم تولوا عنه و قالوا معلم مجنون إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون»: الدخان: 15.
تدبر في الآيات كيف أخذ آخرهم بما أجرمه أولهم أو هي في عداد ما تقدم نقله من آيات سورة يونس و الأنبياء و الروم، و في القرآن الشريف شيء كثير من الآيات المنبئة عما سيوافي الأمة من وخيم العاقبة و وبال السيئة ثم إدراك العناية الإلهية و من أسوإ التقصير إهمال الباحثين منا أمر البحث في هذه الآيات الكريمة على كثرتها و أهميتها و شدة مساسها بحال الأمة و سعادة جدها في دنياها و آخرتها.
قوله تعالى: «و إذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره» ذكر الراغب في المفردات، أن الخوض هو الشروع في الماء و المرور فيه، و يستعار في الأمور، و أكثر ما ورد في القرآن ورد فيما يذم الشروع فيه، انتهى.
و هو الدخول في باطل الحديث و التوغل فيه كذكر الآيات الحقة و الاستهزاء بها و الإطالة في ذلك.
و المراد بالإعراض عدم مشاركتهم فيما يخوضون فيه كالقيام عنهم و الخروج من بينهم أو ما يشابه ذلك مما يتحقق به عدم المشاركة، و تقييد النهي بقوله: «حتى يخوضوا في حديث غيره» للدلالة على أن المنهي عنه ليس مطلق مجالستهم و القعود معهم، و لو كان لغرض حق، و إنما المنهي عنه مجالستهم ما داموا مشتغلين بالخوض في آيات الله سبحانه.
و من هنا يظهر أن في الكلام نوعا من إيجاز الحذف فإن تقدير الكلام: و إذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا يخوضون فيها فأعرض عنهم «إلخ»، فحذفت الجملة المماثلة للصلة استغناء بها عنها، و المعنى - و الله أعلم - و إذا رأيت أهل الخوض و الاستهزاء بآيات الله يجرون على خوضهم و استهزائهم بالآيات الإلهية فأعرض عنهم و لا تدخل في حلقهم حتى يخوضوا في حديث غيره فإذا دخلوا في حديث غيره فلا مانع يمنعك من مجالستهم، و الكلام و إن وقع في سياق الاحتجاج على المشركين لكن ما أشير إليه من الملاك يعممه فيشمل غيرهم كما يشملهم، و قد وقع في آخر الآية قوله: «فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين» فالخوض في آيات الله ظلم و الآية إنما نهت عن مشاركة الظالمين في ظلمهم، و قد ورد في مورد آخر من كلامه تعالى: «إنكم إذا مثلهم»: النساء: 140.
فقد تبين: أن الآية لا تأمر بالإعراض عن الخائضين في آيات الله تعالى بل إنما تأمر بالإعراض عنهم إذا كانوا يخوضون في آيات الله ما داموا مشتغلين به.
و الضمير في قوله: «غيره» راجع إلى الحديث الذي يخاض فيه في آيات الله باعتبار أنه خوض و قد نهي عن الخوض في الآية.
قوله تعالى: «و إما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين» و «ما» في قوله: «إما ينسينك» زائد يفيد نوعا من التأكيد أو التقليل و النون للتأكيد، و الأصل و إن ينسك، و الكلام في مقام التأكيد و التشديد للنهي أي حتى لو غفلت عن نهينا بما أنساكه الشيطان ثم ذكرت فلا تهاون في القيام عنهم و لا تلبث دون أن تقوم عنهم فإن الذين يتقون ليس لهم أي مشاركة للخائضين اللاعبين بآيات الله المستهزئين بها.
و الخطاب في الآية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و المقصود غيره من الأمة فقد تقدم في البحث عن عصمة الأنبياء (عليهم السلام) ما ينفي وقوع هذا النوع من النسيان - و هو نسيان حكم إلهي و مخالفته عملا بحيث يمكن الاحتجاج بفعله على غيره و التمسك به نفسه - عنهم (عليهم السلام).
و يؤيد ذلك عطف الكلام في الآية التالية إلى المتقين من الأمة حيث يقول: «و ما على الذين يتقون من حسابهم من شيء» إلى آخر الآية.
و أوضح منها دلالة قوله تعالى في سورة النساء: «و قد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها و يستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين و الكافرين في جهنم جميعا»: النساء: 140 فإن المراد في الآية و هي مدنية بالحكم الذي نزل في الكتاب هو ما في هذه الآية من سورة الأنعام و هي مكية و لا آية غيرها، و هي تذكر أن الحكم النازل سابقا وجه به إلى المؤمنين، و لازمه أن يكون الخطاب الذي في قوله: «و إذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا» إلخ موجها إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و المقصود به غيره على حد قولهم: إياك أعني و اسمعي يا جارة.
قوله تعالى: «و ما على الذين يتقون من حسابهم من شيء» إلى آخر الآية.
يريد أن الذي يكتسبه هؤلاء الخائضون من الإثم لا يحمل إلا على أنفسهم و لا يتعداهم إلى غيرهم إلا أن يماثلوهم و يشاركوهم في العمل أو يرضوا بعملهم فلا يحاسب بعمل إلا عامله و لكن نذكرهم ذكرى لعلهم يتقون فإن الإنسان إذا حضر مجلسهم و إن أمكنه أن لا يجاريهم فيما يخوضون و لا يرضى بقلبه بعملهم و أمكن أن لا يعد حضوره عندهم إعانة لهم على ظلمهم تأييدا لهم في قولهم لكن مشاهدة الخلاف و معاينة المعصية تهون أمر المعصية عند النفس و تصغر الخطيئة في عين المشاهد المعاين، و إذا هان أمرها أوشك أن يقع الإنسان فيها فإن للنفس في كل معصية هوى و من الواجب على المتقي بما عنده من التقوى و الورع عن محارم الله أن يجتنب مخالطة أهل الهتك و الاجتراء على الله كما يجب على المبتلين بذلك الخائضين في آيات الله لئلا تهون عليه الجرأة على الله و آياته فتقربه ذلك من المعصية فيشرف على الهلكة، و من يحم حول الحمى أوشك أن يقع فيه.
و من هذا البيان يظهر أولا: أن نفي الاشتراك في الحساب مع الخائضين عن الذين يتقون فحسب مع أن غير العامل لا يشارك العامل في جزاء عمله إنما هو للإيماء إلى أن من شاركهم في مجلسهم و قعد إليهم لا يؤمن من مشاركتهم في جزاء عملهم و المؤاخذة بما يؤاخذون به، فالكلام في تقدير قولنا: و ما على غير الخائضين من حسابهم من شيء إذا كانوا يتقون الخوض معهم و لكن إنما ننهاهم عن القعود معهم ليستمروا على تقواهم من الخوض أو ليتم لهم التقوى و الورع عن محارم الله سبحانه.
و ثانيا: أن المراد بالتقوى في قوله: «و ما على الذين يتقون» التقوى العام و هو الاجتناب و التوقي عن مطلق ما لا يرتضيه الله تعالى، و في قوله: «لعلهم يتقون» التقوى من خصوص معصية الخوض في آيات الله، أو المراد بالتقوى الأول أصل التقوى و بالثاني تمامه، أو الأول إجمال التقوى و الثاني تفصيله بفعلية الانطباق على كل مورد و منها مورد الخوض في آيات الله، و هاهنا معنى آخر و هو أن يكون المراد بالأول تقوى المؤمنين و بالتقوى الثاني تقوى الخائضين و تقدير الكلام و لكن ذكروا الخائضين ذكرى لعلهم يتقون الخوض.
و ثالثا: أن قوله: ذكرى مفعول مطلق لفعل مقدر و التقدير و لكن نذكرهم بذلك ذكرى أو ذكروهم ذكرى أو خبر لمبتدإ محذوف و التقدير: و لكن هذا الأمر ذكرى أو مبتدأ لخبر محذوف و التقدير: و لكن عليك ذكراهم و أوسط الوجوه أسبقها إلى الذهن.
قوله تعالى: «و ذر الذين اتخذوا دينهم لعبا و لهوا» إلى آخر الآية، قال الراغب: البسل ضم الشيء و منعه و لتضمنه لمعنى الضم استعير لتقطيب الوجه فقيل: هو باسل و مبتسل الوجه، و لتضمنه لمعنى المنع قيل للمحرم و المرتهن بسل، و قوله تعالى: و ذكر به أن تبسل نفس بما كسبت، أي تحرم الثواب، و الفرق بين الحرام و البسل أن الحرام عام فيما كان ممنوعا منه بالحكم و القهر، و البسل هو المنوع منه بالقهر قال عز و جل: «أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا» أي حرموا الثواب، انتهى.
و قال في المجمع، يقال: أبسلته بجريرته أي أسلمته، و المستبسل المستسلم الذي يعلم أنه لا يقدر على التخلص - إلى أن قال - قال الأخفش: تبسل أي تجازى، و قيل: تبسل أي ترهن و المعاني متقاربة، انتهى.
و المعنى: «و اترك الذين اتخذوا دينهم لعبا و لهوا» عد تدينهم بما يدعوهم إليه هوى أنفسهم لعبا و تلهيا بدينهم، و فيه فرض دين حق لهم و هو الذي دعتهم إليه فطرتهم فكان يجب عليهم أن يأخذوا به أخذ جد و يتحرزوا به عن الخلط و التحريف و لكنهم اتخذوه لعبا و لهوا يقلبونه كيف شاءوا من حال إلى حال و يحولونه حسب ما يأمرهم به هوى أنفسهم من صورة إلى صورة.
ثم عطف على اتخاذهم الدين لعبا و لهوا قوله: «و غرتهم الحياة الدنيا» لما بينهما من الملازمة لأن الاسترسال في التمتع من لذائذ الحياة المادية و الجد في اقتنائها يوجب الإعراض عن الجد في الدين الحق و الهزل و اللعب به.
ثم قال: و ذكر به أي بالقرآن حذرا من أن تبسل أي تمنع نفس بسبب ما كسبت من السيئات أو تسلم نفس مع ما كسبت للمؤاخذة و العقاب، و تلك نفس ليس لها من دون الله ولي و لا شفيع و إن تعدل كل عدل و تفد كل فدية لا يؤخذ منها لأن اليوم يوم الجزاء بالأعمال لا يوم البيع و الشرى أولئك الذين أبسلوا و منعوا من ثواب الله أو أسلموا لعقابه لهم شراب من حميم و عذاب أليم بما كانوا يكفرون.
قوله تعالى: «قل أ ندعوا من دون الله ما لا ينفعنا و لا يضرنا» احتجاج على المشركين بنحو الاستفهام الإنكاري، و إنما ذكر من أوصاف شركائهم كونها لا تنفع و لا تضر لأن اتخاذ الآلهة - كما تقدم - كان مبنيا على أحد الأساسين: الرجاء و الخوف و إذ كانت الشركاء لا تنفع و لا تضر فلا موجب لدعائها و عبادتها و التقرب منها.
قوله تعالى: «و نرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله - إلى قوله - ائتنا» الاستهواء طلب الهوى و السقوط، و الرد على الأعقاب كناية عن الضلال و ترك الهدى فإن لازم الهداية الحقة الوقوع في مستقيم الصراط و الشروع في السير فيه فالارتداد على الأعقاب ترك السير في الصراط و العود إلى ما خلف من المسير و هو الضلال، و لذا قال: و نرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله فقيد الرد بكونه بعد الهداية الإلهية.
و من عجيب الاستدلال احتجاج بعض بهذه الآية أعني قوله: «و نرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله» الآية و ما يجري مجراها من الآيات كقول شعيب (عليه السلام) على ما حكاه الله تعالى في قصته بقوله: «قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب و الذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أ و لو كنا كارهين، قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملكتم بعد إذ نجانا الله منها و ما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا»: الأعراف: 89.
فقد احتجوا بها على أن الأنبياء (عليهم السلام) كانوا قبل البعثة و التلبس بلباس النبوة على الكفر لما في لفظ الرد على الأعقاب بعد إذ هدى الله، و العودة في ملة الشرك بعد إذ نجاهم الله منها من الدلالة على كونهم منتحلين بها واقعين فيها قبل النجاة و هو احتجاج فاسد فإن ذلك تكلم منهم بلسان المجتمع الديني الذي كانت أفراده على الشرك حتى هداهم الله بواسطة أنبيائه و لسنا نعني أن غلبة الأفراد الذين كانوا على الشرك في أول عهدهم سوغ أن ينسب كفرهم السابق إلى الجميع حتى يكون تغليبا لشركهم على إيمان نبيهم فإن كلامه الحق لا يحتمل ذلك بل نعني أن مجتمع الدين الشامل للنبي و أمته يصدق عليه أن أفراده إنما نجوا من الشرك بعد هداية الله سبحانه إياهم و ليس لهم من دونه إلا الضلال أما الأمة فإنهم كانوا على الشرك في زمان قبل زمان اهتدائهم بالدين، و أما أنبياؤهم فإنما اهتداؤهم بالله سبحانه، و ليس لهم من أنفسهم لو لا الهداية الإلهية إلا الضلال فإن غيره تعالى لا يملك لنفسه ضرا و لا نفعا فمن الصادق في حقهم أن ليس لهم أن يرتدوا على أعقابهم بعد إذ هداهم الله أو يعودوا إلى الشرك بعد إذ نجاهم الله منه.
و بالجملة الكلمة صادقة عليهم بنحو الحقيقة و إن لم يكن بعض مجتمعهم و هو النبي الذي فيهم كافرا قبل نبوته فإن الإيمان و الاهتداء على أي حال لهم من الله سبحانه بعد الحال الذي لهم من أنفسهم و حالهم من أنفسهم هو الضلال كما عرفت.
على أنك قد عرفت فيما تقدم من البحث المتنوع في عصمة الأنبياء أن القرآن الشريف ناص على طهارة ساحتهم عن أصغر المعاصي الصغيرة فكيف بالكبيرة و بأكبر الكبائر الذي هو الشرك بالله العظيم.
و قوله: «كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران» «إلخ» تمثيل مثل به حال الإنسان المتحير الذي لم يؤت بصيرة في أمره و عزيمة راسخة على سعادته فترك أحسن طريق و أقومه إلى مقصده، و قد ركبه قبله أصحاب له مهتدون به و بقي متحيرا بين شياطين يدعونه إلى الردى و الهلاك، و أصحاب له مهتدين قد نزلوا في منازلهم أو أشرفوا على الوصول يدعونه إلى الهدى أن ائتنا فلا يدري ما يفعل و هو بين مهبط و مستوى؟.
قوله تعالى: «قل إن هدى الله هو الهدى» إلى آخر الآية.
أي إن كان الأمر دائرا بين دعوة الله سبحانه و هي التي توافق الفطرة و تسميه الفطرة هدى الله، و بين دعوة الشياطين و هي التي فيها الهوى و اتخاذ الدين لعبا و لهوا فهدى الله هو الهدى الحقيقي دون غيره.
أما أن ما يوافق دعوة الفطرة هو هدى الله فلا شك يعتريه لأن حق الهداية هو الذي ينطق به الصنع و الإيجاد الذي ليس إلا لله و لا نروم شيئا من دين أو اعتقاد إلا لابتغاء مطابقة الواقع و الواقع لله فلا يعدوه هداه، و أما أن هدى الله هو الهدى الحقيقي الذي يجب أن يؤخذ به دون الدعوة الشيطانية فظاهر أيضا لأن الله سبحانه هو الذي إليه أمرنا كله من جهة مبدئنا و منتهانا و ما نحتاج إليه في دنيا أو آخرة.
و قوله: «و أمرنا لنسلم لرب العالمين» قال في المجمع،: تقول العرب: أمرتك لتفعل و أمرتك أن تفعل و أمرتك بأن تفعل فمن قال: أمرتك بأن تفعل فالباء للإلصاق و المعنى وقع الأمر بهذا الفعل، و من قال: أمرتك أن تفعل حذف الجار، و من قال: أمرتك لتفعل فالمعنى أمرتك للفعل، و قال الزجاج: التقدير أمرنا كي نسلم.
و الجملة أعني قوله: «و أمرنا لنسلم» إلخ، عطف تفسير لقوله: «إن هدى الله هو الهدى» فالأمر بالإسلام هو مصداق لهدى الله، و المعنى: أمرنا الله لنسلم له و إنما أبهم فاعل الفعل ليكون تمهيدا لوضع قوله: «لرب العالمين» موضع الضمير فيدل به على علة الأمر فالمعنى أمرنا من ناحية الغيب أن نسلم لله لأنه رب العالمين جميعا ليس لها جميعا أو لكل بعض منها - كما تزعمه الوثنية - رب آخر و لا أرباب أخر.
و ظاهر الآية أن المراد بالإسلام هو تسليم عامة الأمور إليه تعالى لا مجرد التشهد بالشهادتين، و هو ظاهر قوله: «إن الدين عند الله الإسلام»: آل عمران: 19 كما مر في تفسير الآية.
قوله تعالى: «و أن أقيموا الصلاة و اتقوه» تفنن في سرد الكلام بأخذ الأمر بمعنى القول و الجري في مجرى هذه العناية كأنه قيل: و قيل لنا: أن أسلموا لرب العالمين و أن أقيموا الصلاة و اتقوه.
و قد أجمل تفاصيل الأعمال الدينية ثانيا في قوله: «و اتقوه» غير أنه صرح من بينها باسم الصلاة تعظيما لأمرها و اعتناء بشأنها و اهتمام القرآن الشريف بأمر الصلاة ظاهر لا شك فيه.
قوله تعالى: «و هو الذي إليه تحشرون» فمن الواجب أن يسلم له و يتقى لأن الرجوع إليه، و الحساب و الجزاء بيده.
قوله تعالى: «و هو الذي خلق السماوات و الأرض بالحق» إلى آخر الآية.
بضعة أسماء و أوصاف له سبحانه مذكورة أريد بذكرها بيان ما تقدم من القول و تعليله فإنه تعالى ذكر أن الهدى هداه ثم فسره نوع تفسير بالإسلام له و الصلاة و التقوى و هو تمام الدين ثم بين السبب في كون هداه هو الهدى الذي لا يجوز التجافي عنه و هو أن حشر الجميع إليه ثم بينه أتم بيان بقوله: «و هو الذي خلق السماوات و الأرض بالحق» إلخ، فهذه أسماء و نعوت له تعالى لو انتفى واحد منها لم يتم البيان.
فقوله: «هو الذي خلق» إلخ، يريد به أن الخلقة جميعا فعله و إنما أتى به بالحق لا بالباطل، و الفعل إذا لم يكن باطلا لم يكن مندوحة من ثبوت الغاية له فللخلقة غاية و هو الرجوع إليه تعالى و هذا هو إحدى الحجتين اللتين ذكرهما في قوله عز من قائل «و ما خلقنا السماء و الأرض و ما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا» إلى آخر الآيتين: ص: 27» فخلقة السماوات و الأرض بخلقة حقة تؤدي إلى أن الخلق يحشرون إليه.
و قوله: «يوم يقول كن فيكون» السياق يدل على أن المراد بالمقول له هو يوم الحشر و إن كان كل موجود مخلوق على هذه الصفة كما قال تعالى: «إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون»: يس: 82 و يوم ظرف متعلق بالقول و المعنى: يوم يقول ليوم القيامة: كن فيكون، و ربما قيل: إن المقول له هو الشيء و التقدير: يوم يقول لشيء كن فيكون، و ما ذكرناه أوفق للسياق.
و قوله: «قوله الحق» تعليل عللت به الجملة التي قبله، و الدليل عليه فصل الجملة، و الحق هو الثابت بحقيقة معنى الثبوت و هو الوجود الخارجي و الكون العيني و إذ كان قوله هو فعله و إيجاده كما يدل عليه قوله: «و يوم يقول كن فيكون» فقوله تعالى هو نفس الحق فلا مرد له و لا مبدل لكلماته قال تعالى: «و الحق أقول»: ص: 84.
قوله تعالى: «و له الملك يوم ينفخ في الصور» يريد به يوم القيامة قال تعالى: «يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار»: المؤمن: 16 و المراد بثبوت الملك له تعالى يوم النفخ مع أن له الملك دائما إنما هو ظهور ذلك بتقطع الأسباب و انبتات الروابط و الأنساب و قد تقدم شذور من البحث في ذلك فيما تقدم و سيجيء استيفاء البحث عنه و عن معنى الصور في الموضع المناسب لذلك إن شاء الله تعالى.
و قوله «عالم الغيب و الشهادة» قد تقدم معناه، و هو اسم يتقوم بمعناه الحساب و الجزاء، و كذلك الاسمان: الحكيم و الخبير فهو تعالى بعلمه بالغيب و الشهادة يعلم ظاهر الأشياء و باطنها فلا يخفى عليه ظاهر لظهوره و لا باطن لبطونه، و بحكمته يتقن تدبير الخليقة و يميز الواجب من الجزاء كما ينبغي فلا يظلم و لا يجازف، و بخبرته لا يفوت عنه دقيق لدقته و لا جليل لجلالته.
فهذه الأسماء و النعوت تبين بأتم البيان أن الجميع محشورون إليه و أن هداه هو الهدى و دين الفطرة الذي أمر به هو الدين الحق فإنه تعالى خلق العالم لغاية مطلوبة أرادها منه و هو الرجوع إليه، و إذ كان يريدها فسيقول لها كن فيكون لأن قوله حق لا مرد له، و يظهر اليوم أن الملك له لا سلطنة لشيء غيره على شيء، و عند ذلك يتميز بتمييزه من أطاعه ممن عصاه لأنه يعلم كل غيب و شهادة عن حكمة و خبرة.
و قد بان مما تقدم أولا: أن قوله: «بالحق» أريد به أن خلق السماوات و الأرض خلق حق أي إن الحق وصفه، و قد تقدم قريبا معنى كون فعله و قوله تعالى حقا، و أما ما قيل: إن المعنى خلق السماوات و الأرض بالقول الحق فبعيد.
و ثانيا: أن ظاهر قوله: «و يوم يقول كن فيكون» بدلالة السياق بيان لأمر يوم القيامة و إن كان الأمر في خلق جميع الأشياء على هذه الطريقة.
و ثالثا: أن اختصاص نفخ الصور من بين أوصاف القيامة بالذكر في قوله: «و له الملك يوم ينفخ في الصور» للإشارة إلى معنى الإحضار العام الذي هو المناسب لبيان قوله في ذيل الآية السابقة: «و هو الذي إليه تحشرون» فإن الحشر هو إخراج الناس و تسييرهم مجتمعين بنوع من الإزعاج، و الصور إنما ينفخ فيه لاجتماع أفراد العسكر لأمر يهمهم، و لذلك ينفخ الصور أعني النفخة الثانية يوم القيامة ليحضروا عرصة المحشر لفصل القضاء قال تعالى: «و نفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون - إلى أن قال - إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون. فاليوم لا تظلم نفس شيئا و لا تجزون إلا ما كنتم تعملون»: يس: 54.
و ليس اليوم في الموضعين بمعنى واحد فاليوم الأول أريد به مطلق الظرف كالظرف ليوم القيامة بنوع من العناية الكلامية كقولنا: يوم خلق الله الحركة و حين خلق الله الأيام و الليالي و إنما اليوم من فروع الحركة متفرع عليه، و الحين هو اليوم و الليل، و المراد باليوم الثاني نفس يوم القيامة.
بحث روائي
في الدر المنثور، في قوله تعالى: يقص الحق الآية أخرج الدارقطني في الإفراد و ابن مردويه عن أبي بن كعب قال: أقرأ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رجلا: «يقص الحق و هو خير الفاصلين».
و فيه، في قوله تعالى: و عنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو الآية، أخرج أحمد و البخاري و حشيش بن أصرم في الاستقامة و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و ابن مردويه عن ابن عمر أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله: لا يعلم ما في غد إلا الله، و لا يعلم متى تغيض الأرحام إلا الله، و لا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله، و لا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله و، لا يعلم أحد متى تقوم الساعة إلا الله تبارك و تعالى.
أقول: و لا ينبغي أن تعد الرواية على تقدير صحتها منافية لما تقدم من عموم الآية لأن العدد لا مفهوم له، و ما في الرواية من المفاتيح يجمعها العلم بالحوادث قبل حدوثها، و للغيب مصاديق أخر غير الخمس بدلالة من نفس الآية.
و فيه، أخرج الخطيب في تاريخه بسند ضعيف عن ابن عمر أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: ما من زرع على وجه الأرض و لا ثمار على أشجار إلا عليها مكتوب بسم الله الرحمن الرحيم هذا رزق فلان ابن فلان، و ذلك قوله تعالى: و ما تسقط من ورقة إلا يعلمها - و لا حبة في ظلمات الأرض و لا رطب و لا يابس - إلا في كتاب مبين.
أقول: و الرواية على ضعف سندها لا ينطبق مضمونها على الآية ذاك الانطباق.
و في تفسير العياشي، عن أبي الربيع الشامي قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله: و ما تسقط من ورقة إلا يعلمها إلى قوله إلا في كتاب مبين، قال: الورقة السقط، و الحبة الولد، و ظلمات الأرض الأرحام و الرطب ما يحيى، و اليابس ما يغيض، و كل ذلك في كتاب مبين: أقول: و رواه أيضا الكليني و الصدوق عن أبي الربيع عنه، و القمي مرسلا و الرواية لا تنطبق على ظاهر الآية، و نظيرتها رواية أخرى رواها العياشي عن الحسين بن سعيد عن أبي الحسن (عليه السلام).
و في المجمع،: في قوله تعالى: «قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم» قال: السلاطين الظلمة «أو من تحت أرجلكم» العبيد السوء و من لا خير فيه قال: و هو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام): و قال: في قوله تعالى: «أو يلبسكم شيعا» قيل: عنى به يضرب بعضكم ببعض بما يلقيه بينكم من العداوة و العصبية و هو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام)،: و قال: في قوله: «و يذيق بعضكم بأس بعض» قيل: هو سوء الجوار و هو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام).
و في تفسير القمي،: و قوله: «يبعث عليكم عذابا من فوقكم» قال: السلطان الجائر «أو من تحت أرجلكم» قال: السفلة و من لا خير فيه «أو يلبسكم شيعا» قال: العصبية «و يذيق بعضكم بأس بعض» قال سوء الجوار.
قال القمي: و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: «هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم» قال: هو الدخان و الصيحة «أو من تحت أرجلكم» قال قال: و هو الخسف «أو يلبسكم شيعا» و هو اختلاف في الدين و طعن بعضكم على بعض «و يذيق بعضكم بأس بعض» و هو أن يقتل بعضكم بعضا فكل هذا في أهل القبلة يقول الله: انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون.
و في الدر المنثور، أخرج عبد الرزاق و عبد بن حميد و البخاري و الترمذي و النسائي و نعيم بن حماد في الفتن و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن حبان و أبو الشيخ و ابن مردويه و البيهقي في الأسماء و الصفات عن جابر بن عبد الله قال: لما نزلت هذه الآية «قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم» قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أعوذ بوجهك «أو من تحت أرجلكم» قال: أعوذ بوجهك «أو يلبسكم شيعا و يذيق بعضكم بأس بعض» قال: هذا أهون أو أيسر: أقول: و روي أيضا ما يقرب منه عن ابن مردويه عن جابر.
و فيه:، أخرج أحمد و الترمذي و حسنه و نعيم بن حماد في الفتن و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): في هذه الآية: «قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم - أو من تحت أرجلكم» فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أما إنها كائنة و لم يأت تأويلها بعد.
أقول: و هناك روايات كثيرة مروية من طرق أهل السنة و روايات أخرى من طرق الشيعة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أن ما أوعده الله في الآية من العذاب النازل من فوقهم و من تحت أرجلهم أعني الصيحة و الخسف سيقع على هذه الأمة، و أما لبسهم شيعا و إذاقة بعضهم بأس بعض فوقوعه مفروغ عنه.
و قد روى السيوطي في الدر المنثور، و ابن كثير في تفسيره أخبارا كثيرة دالة على أنه لما نزلت الآية: «قل هو القادر على أن يبعث عليكم» إلى آخرها استعاذ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى ربه و دعاه أن لا يعذب أمته بما أوعدهم من أنواع العذاب فأجابه ربه إلى بعضها و لم يجبه إلى بعض آخر و هو أن لا يلبسهم شيعا و لا يذيق بعضهم بأس بعض.
و هذه الروايات - على كثرتها - و إن اشتملت على القوية و الضعيفة من حيث أسنادها موهونة جميعا بمخالفتها لظاهر الآية فإن قوله تعالى في الآيتين التاليتين: «و كذب به قومك و هو الحق قل لست عليكم بوكيل، لكل نبإ مستقر و سوف تعلمون» تهديد صريح بالوقوع و قد نزلت الآيات - و هي من سورة الأنعام - دفعة و قد أمر الله تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يبلغ ذلك أمته و لو كان هناك بداء برفع البلاء لكان من الواجب أن نجده في كلامه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه، و ليس من ذلك أثر بل الأمر على خلافه كما تقدم في البيان السابق أن عدة من آيات القرآن الكريم تؤيد هذه الآيات في مضمونها كالتي في سورة يونس و الروم و غيرهما.
على أنها تعارض روايات أخر كثيرة من طرق الفريقين دالة على وقوع ذلك و نزوله على الأمة في مستقبل الزمان.
على أن هذه الروايات - على كثرتها و اتفاق كثير منها في أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إنما دعا بهذه المسائل عقيب نزول هذه الآية: «قل هو القادر على أن يبعث» الآية - لا تتفق لا في عدد المسائل ففي بعضها أنها كانت ثلاثا و في بعضها أنها كانت أربعا، و لا في عدد ما أجيب إليه ففي بعضها أنه كان واحدا و في بعضها أنه كان اثنين، و لا في نفس المسائل ففي بعضها أنها كانت هي الرجم من السماء و الغرق من الأرض و أن لا يلبسهم شيعا و أن لا يذيق بعضهم بأس بعض، و في بعضها أنها الغرق و السنة و جعل بأسهم بينهم، و في بعضها أنها السنة العامة و أن يسلط عليهم عدوا من غيرهم و أن يذيق بعضهم بأس بعض، و في بعضها أن المسائل هي أن لا يجمع أمته على ضلالة و أن لا يظهر عليهم عدوا من غيرهم و أن لا يهلكهم بالسنين و أن لا يلبسهم شيعا و يذيق بعضهم بأس بعض، و في بعضها أنها أن لا يظهر عليهم عدوا من غيرهم و أن لا يهلكهم بغرق و أن لا يجعل بأسهم بينهم، و في بعضها أنها أن لا يهلكهم بما أهلك به من قبلهم و أن لا يظهر عليهم عدوا من غيرهم و أن لا يلبسهم شيعا و يذيق بعضهم بأس بعض، و في بعضها أنها العذاب من فوقهم و من تحت أرجلهم و أن يلبسهم شيعا و أن يذيق بعضهم بأس بعض.
على أن في كثير منها أن دعاءه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان في حرة بني معاوية قرية من قرى الأنصار بالعالية و لازمه كونه بعد الهجرة و سورة الأنعام من السور النازلة بمكة قبل الهجرة دفعة، و في الروايات اختلافات أخرى تظهر لمن راجعها.
و إن كان و لا بد من أخذ شيء من الروايات فالوجه هو اختيار ما رواه عن عبد الرزاق و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و ابن مردويه عن شداد بن أوس يرفعه إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إن الله زوي لي الأرض حتى رأيت مشارقها و مغاربها، و إن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها، و إني أعطيت الكنزين: الأحمر و الأبيض، و إني سألت ربي أن لا يهلك قومي بسنة عامة و أن لا يلبسهم شيعا و لا يذيق بعضهم بأس بعض، فقال: يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، و إني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة و لا أسلط عليهم عدوا من سواهم فيهلكوهم حتى يكون بعضهم يهلك بعضا و بعضهم يقتل بعضا، و بعضهم يسبي بعضا. فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): إني أخاف على أمتي الأئمة المضلين فإذا وضع السيف في أمتي لم يرفع عنهم إلى يوم القيامة.
فهذه الرواية و ما في مضمونها خالية عن غالب الإشكالات السابقة، و ليس فيها أن الدعاء كان إثر نزول الآية، و ينبغي مع ذلك أن يحمل على أن المراد رفع الهلاك العام و السنة العامة التي تبيد الأمة، و إلا فالسنين و المثلات و المقاتل الذريعة التي لقيتها الأمة في حروب المغول و الصليب و بأندلس و غيرها مما لا سبيل إلى إنكارها، و ينبغي أيضا أن تحمل على أن الدعاء و المسألة كان في أوائل البعثة قبل نزول السورة و إلا فالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أعلم بمقام ربه و أجل قدرا من أن يتلقى هذه الآيات بالوحي ثم يراجع ربه في تغيير ما قضى به و أمره بتبليغه و إنذار أمته به.
و بعد اللتيا و التي فالقرآن الشريف يدل بآياته على حاق الأمر و هو أن هذا الدين قائم إلى يوم القيامة، و أن الأمة لا تبيد عامة، و أن أمثال ما ابتلى الله به الأمم السالفة تبتلي بها هذه الأمة حذو النعل بالنعل من غير أي اختلاف و تخلف.
و الروايات المستفيضة المروية عن النبي و الأئمة من أهل بيته (صلى الله عليه وآله وسلم) القطعية في صدورها و دلالتها ناطقة بذلك.
و في الدر المنثور، أخرج النحاس في ناسخه عن ابن عباس: في قوله: «قل لست عليكم بوكيل» قال: نسخ هذه الآية آية السيف: «فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم».
أقول: قد عرفت مما تقدم من البيان أن قوله: «قل لست عليكم بوكيل» مسوق تمهيدا للتهديد الذي يتضمنه قوله: «لكل نبإ مستقر و سوف تعلمون» و هذا المعنى لا يقبل نسخا.
و في تفسير القمي، في قوله تعالى: «و إذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا» الآية بإسناده عن عبد الأعلى بن أعين قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فلا يجلس في مجلس يسب فيه إمام أو يغتاب فيه مسلم فإن الله يقول في كتابه: «إذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا - فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره - و إما ينسينك الشيطان - فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين».
و في الدر المنثور، أخرج عبد بن حميد و ابن جرير و أبو نعيم في الحلية، عن أبي جعفر قال: لا تجالسوا أهل الخصومات فإنهم الذين يخوضون في آيات الله.
و فيه، أخرج عبد بن حميد و ابن المنذر عن محمد بن علي قال: إن أصحاب الأهواء من الذين يخوضون في آيات الله.
و في تفسير العياشي، عن ربعي بن عبد الله عمن ذكره عن أبي جعفر (عليه السلام): في قول الله: «و إذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا» قال: الكلام في الله و الجدال في القرآن «فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره» قال: منه القصاص.
أقول: و الروايات - كما ترى - تعمم الآية و هو أخذ بالملاك.
و في المجمع، قال أبو جعفر (عليه السلام): لما أنزل «فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين» قال المسلمون: كيف نصنع؟ إن كان كلما استهزأ المشركون بالقرآن قمنا و تركناهم فلا ندخل إذا المسجد الحرام و لا نطوف بالبيت الحرام فأنزل الله تعالى: «و ما على الذين يتقون من حسابهم من شيء» أمرهم بتذكيرهم ما استطاعوا.
أقول: و الرواية - كما ترى - مبنية على أخذ قوله: «ذكرى» مفعولا مطلقا و إرجاع الضميرين في قوله: «لعلهم يتقون» إلى المشركين و التقدير: و لكن ذكروهم ذكرى لعلهم يتقون، و يبقى على الرواية كون السورة نازلة دفعة واحدة.
و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير و ابن المنذر و أبو الشيخ عن ابن جريح قال: كان المشركون يجلسون إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يحبون أن يسمعوا منه فإذا سمعوا استهزءوا فنزلت «و إذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم» الآية قال: فجعلوا إذا استهزءوا قام فحذروا و قالوا: لا تستهزءوا فيقوم فذلك قوله: «لعلهم يتقون» أن يخوضوا فتقوم و نزل: «و ما على الذين يتقون من حسابهم من شيء» إن تقعد معهم و لكن لا تقعد ثم نسخ ذلك قوله بالمدينة: «و قد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم إلى قوله إنكم إذا مثلهم» نسخ قوله: «و ما على الذين يتقون من حسابهم من شيء» الآية.
أقول: لو كانت آية النساء: «و قد نزل عليكم» الآية و هي عين قوله: «و إذا رأيت الذين يخوضون» الآية معنى ناسخة لقوله: «و ما على الذين يتقون» الآية فهو أعني قوله: «و ما على الذين يتقون» الآية ناسخ لقوله: «و إذا رأيت الذين يخوضون» الآية و هو ظاهر، و يأباه نزول السورة دفعة.
على أن الذي ذكره من المعنى لا يوجب تنافيا بين الآيات الثلاث يؤدي إلى النسخ حتى تكون الثانية ناسخة للأولى و منسوخة بالثالثة و هو ظاهر.
و نظير الرواية ما رواه أيضا في الدر المنثور، عن النحاس في ناسخه عن ابن عباس: في قوله تعالى: «و ما على الذين يتقون من حسابهم من شيء»، قال: هذه مكية نسخت بالمدينة بقوله: «و قد نزل عليكم في الكتاب - أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها» الآية.
و في تفسير البرهان، في قوله تعالى: «قوله الحق و له الملك» الآية عن ابن بابويه بإسناده عن ثعلبة بن ميمون عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله عز و جل: «عالم الغيب و الشهادة» فقال: «عالم الغيب» ما لم يكن «و الشهادة» ما قد كان.
أقول: فيه ذكر أعرف مصاديق الغيب و الشهادة عندنا، و قد تقدم في البيان المتقدم آنفا و غيره أن للغيب مصاديق أخر.
|