بيان
الآيات لا تخلو عن ارتباط بما قبلها فإنها تفتتح بالمحاجة في خصوص إنزال الكتاب على أهل الكتاب إذ ردوا على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بقولهم: «ما أنزل الله على بشر من شيء»، و الآيات السابقة تعد إيتاء الكتاب من لوازم الهداية الإلهية التي أكرم بها أنبياءه.
فقد بدأت الكلام بمحاجة أهل الكتاب ثم تذكر أن أظلم الظلم أن يشرك بالله افتراء عليه أو يظلم في باب النبوة بإنكار ما هو حق منها أو دعوى ما ليس بحق منها كالذي قال: سأنزل مثل ما أنزل الله.
ثم تذكر الآيات ما يئول إليه أمر هؤلاء الظالمين عند مساءلة الموت إذا غشيتهم غمراته و الملائكة باسطوا أيديهم، ثم تتخلص إلى ذكر آيات توحيده تعالى و ذكر أشياء من أسمائه الحسنى و صفاته العليا.
قوله تعالى: «و ما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء» قدر الشيء و قدره بالتحريك كميته من عظم أو صغر و نحوهما يقال: قدرت الشيء قدرا و قدرته بالتشديد تقديرا إذا بينت كمية الشيء و هندسته المحسوسة ثم توسع فيه فاستعمل في المعاني غير المحسوسة فقيل: قدر فلان عند الناس و في المجتمع أي عظمته في أعين الناس و وزنه في مجتمعهم و قيمته الاجتماعية.
و إذ كان تقدير الشيء و تحديده بحدود لا ينفك غالبا عن وصفه بأوصافه المبينة لحاله المستتبعة لعرفانه أطلق القدر و التقدير على الوصف و على المعرفة بحال الشيء - على نحو الاستعارة - فيقال قدر الشيء و قدره أي وصفه، و يقال: قدر الشيء و قدره أي عرفه، فاللغة تبيح هذه الاستعمالات جميعا.
و لما كان الله سبحانه لا يحيط بذاته المتعالية حس و لا وهم و لا عقل و إنما يعرف معرفة ما بما يليق بساحة قدسه من الأوصاف و ينال من عظمته ما دلت عليه آياته و أفعاله صح استعمال القدر فيه تعالى بكل من المعاني السابقة فيقال: ما قدروا الله حق قدره أي ما عظموه بما يليق بساحته من العظمة أو ما وصفوه حق وصفه أو ما عرفوه حق معرفته.
فالآية بحسب نفسها تحتمل كلا من المعاني الثلاثة أو جميعها بطريق الالتزام لكن الأنسب بالنظر إلى الآيات السابقة الواصفة لهدايته تعالى أنبياءه المستعقبة لإيتائهم الكتاب و الحكم و النبوة، و عنايته الكاملة بحفظ كلمة الحق و نعمة الهداية بين الناس زمانا بعد زمان و جيلا بعد جيل أن تحمل على المعنى الأول فإن في إنكار إنزال الوحي حطا لقدره تعالى و إخراجا له من منزلة الربوبية المعتنية بشئون عباده و هدايتهم إلى هدفهم من السعادة و الفلاح.
و يؤيد ذلك ما ورد من نظير اللفظ في قوله تعالى: «و ما قدروا الله حق قدره و الأرض جميعا قبضته يوم القيامة و السماوات مطويات بيمينه سبحانه و تعالى عما يشركون»: الزمر: 67.
و قوله تعالى: «إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا و لو اجتمعوا له و إن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب و المطلوب، ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز»: الحج: 74 أي و قوته و عزته و ضعف غيره و ذلته تقتضيان أن لا يحط قدره و لا يسوى هو و ما يدعون من دونه بتسمية الجميع آلهة و أربابا فالأنسب بالآية هو المعنى الأول و إن لم يمتنع المعنيان الآخران، و أما تفسير «ما قدروا الله حق قدره» بأن المراد: ما أعطوه من القدرة ما هو حقها كما فسره بعضهم فأبعد المعاني المحتملة من مساق الآية.
و لما قيد قوله تعالى: «و ما قدروا الله حق قدره» بالظرف الذي في قوله: «إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء» أفاد ذلك أن اجتراءهم على الله سبحانه و عدم تقديرهم حق قدره إنما هو من حيث إنهم نفوا إنزال الوحي و الكتاب منه تعالى على بشر فدل ذلك على أن من لوازم الألوهية و خصائص الربوبية أن ينزل الوحي و الكتاب لغرض هداية الناس إلى مستقيم الصراط و الفوز بسعادة الدنيا و الآخرة فهي الدعوى.
و قد أشار تعالى إلى إثبات هذه الدعوى و الحجاج له بقوله: «قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى» إلخ، و بقوله: «و علمتم ما لم تعلموا أنتم و لا آباؤكم» و الأول من القولين احتجاج بكتاب من الكتب السماوية المنزلة على الأنبياء (عليهم السلام) الثابتة نبوتهم بالمعجزات الباهرة التي أتوا بها ففيه تمسك بوجود الهداية الإلهية المتصلة المحفوظة بين الناس بالأنبياء (عليهم السلام) نوح و من بعده، و هي التي وصفها الله تعالى في الآيات السابقة من قوله: «و إذ قال إبراهيم لأبيه آزر - إلى قوله - إن هو إلا ذكرى للعالمين».
و الثاني من القولين احتجاج بوجود معارف و أحكام إلهية بين الناس ليس من شأنها أن تترشح من الإنسان الاجتماعي من حيث مجتمعه بما له من العواطف و الأفكار التي تهديه إلى ما يصلح حياته من الغذاء و المسكن و اللباس و النكاح و جلب المنافع و دفع المضار و المكاره فهذه الأمور التي في مجرى التمتع بالماديات هي التي يتوخاها الإنسان بحسب طبعه الحيواني، و أما المعارف الإلهية و الأخلاق الفاضلة الطيبة و الشرائع الحافظة بالعمل بها لهما فليست من الأمور التي ينالها الإنسان الاجتماعي بشعوره الاجتماعي و أنى للشعور الاجتماعي ذلك؟ و هو إنما يبعث الإنسان إلى استخدام جميع الوسائل التي يمكنه أن يتوسل بها إلى مآربه في الحياة الأرضية، و مقاصده في المأكل و المشرب و المنكح و الملبس و المسكن و ما يتعلق بها ثم يدعوه إلى أن يكسر مقاومة كل ما يقاومه في طريق تمتعه إن قدر على ذلك أو يصطلحه على التعاضد و الاشتراك في المنافع و رعاية العدل في توزيعها إن لم يقدر عليه، و هو سر كون الإنسان اجتماعيا مدنيا كما تبين في أبحاث النبوة في البحث عن قوله تعالى: «كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين» الآية: البقرة: 213 في الجزء الثاني من الكتاب، و سنزيده وضوحا إن شاء الله.
و بالجملة فالآية أعني قوله تعالى: «و ما قدروا الله حق قدره» تدل بما لها من الضمائم على أن من لوازم الألوهية أن تهدي الإنسان إلى مستقيم الصراط و منزل السعادة بإنزال الكتاب و الوحي على بعض أفراده، و تستدل على ذلك بوجود بعض الكتب المنزلة من الله في طريق الهداية أولا، و بوجود ما يدل على تعاليم إلهية بينهم لا ينالها الإنسان بما عنده من العقل الاجتماعي ثانيا.
قوله تعالى: «قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا و هدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها و تخفون كثيرا» القراءة الدائرة تجعلونه بصيغة الخطاب و المخاطبون به اليهود لا محالة، و قرىء «يجعلونه» بصيغة الغيبة، و المخاطب المسئول عنه بقوله: «من أنزل الكتاب إلخ»، حينئذ اليهود أو مشركو العرب على ما قيل، و المراد يجعل الكتاب قراطيس و هي جمع قرطاس إما جعله في قراطيس بالكتابة فيها، و إما جعله نفس القراطيس بما فيها من الكتابة فالصحائف و القراطيس تسمى كتابا كما تسمى الألفاظ المدلول عليها بالكتابة كتابا.
و قوله: «قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى» إلخ.
جواب عن قولهم المحكي بقوله تعالى: «إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء» و الآية و إن لم تعين القائلين بهذا القول من هم؟ إلا أن الجواب بما فيه من الخصوصية لا يدع ريبا في أن المخاطبين بهذا الجواب هم اليهود فالقائلون: «ما أنزل الله على بشر من شيء» هم اليهود أيضا، و ذلك أن الآية تحتج على هؤلاء القائلين بكتاب موسى (عليه السلام) و المشركون لا يعترفون به و لا يقولون بنزوله من عند الله، و إنما القائلون به أهل الكتاب، و أيضا الآية تذمهم بأنهم يجعلونه قراطيس يبدونها و يخفون كثيرا، و هذا أيضا من خصائص اليهود على ما نسبه القرآن إليهم دون المشركين.
على أن قوله بعد ذلك: «و علمتم ما لم تعلموا أنتم و لا آباؤكم» على ظاهر معناه الساذج لا يصلح أن يخاطب به غير اليهود من المشركين أو المسلمين كما تقدم و سيجيء إن شاء الله تعالى.
و أما أن اليهود كانوا مؤمنين بنبوة الأنبياء موسى و من قبله (عليه السلام) و بنزول كتب سماوية كالتوراة و غيرها فلم يك يتأتى لهم أن يقولوا: ما أنزل الله على بشر من شيء لمخالفته أصول معتقداتهم فيدفعه: أن يكون ذلك مخالفا للأصل الذي عندهم لا يمنع أن يتفوه به بعضهم تعصبا على الإسلام أو تهييجا للمشركين على المسلمين أو يقول ذلك عن مسألة سألها المشركون عن حال كتاب كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يدعي نزوله عليه من جانب الله سبحانه، و قد قالوا في تأييد وثنية مشركي العرب على أهل التوحيد من المسلمين: هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا، فرجحوا قذارة الشرك على طهارة التوحيد و أساس دينهم التوحيد حتى أنزل الله: «أ لم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت و الطاغوت و يقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا»: النساء: 51.
و قولهم - و هو أبين سفها من سابقه - اغتياظا على النصارى: إن إبراهيم (عليه السلام) كان يهوديا حتى نزل فيهم قوله تعالى: «يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم و ما أنزلت التوراة و الإنجيل إلا من بعده أ فلا تعقلون - إلى أن قال - ما كان إبراهيم يهوديا و لا نصرانيا و لكن كان حنيفا مسلما و ما كان من المشركين»: آل عمران: 67 إلى غير ذلك من أقوالهم المناقضة لأصولهم الثابتة المحكية في القرآن الكريم.
و من كان هذا شأنه لم يبعد أن ينفي نزول كتاب سماوي على بشر لداع من الدواعي الفاسدة الباعثة له على إنكار ما يستضر بثبوته أو تلقين الغير باطلا يعلم ببطلانه لينتفع به في بعض مقاصده الباطلة.
و أما قول من قال: إن القرآن لم يعتن بأمر أهل الكتاب في آياته النازلة بمكة و إنما كانت الدعوة بمكة قبل الهجرة إلى المشركين للابتلاء بجماعتهم و الدار دارهم، ففيه أن ذلك لا يوجب السكوت عنهم من رأس و الدين عام و دعوته شاملة لجميع الناس و القرآن ذكر للعالمين و هم و المشركون جيران يمس بعضهم بعضا دائما و قد جاء ذكر أهل الكتاب في بعض السور المكية من غير دليل ظاهر على كون الآية مدنية كقوله تعالى: «و لا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم»: العنكبوت: 46 و قوله: «و على الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل و ما ظلمناهم و لكن كانوا أنفسهم يظلمون»: النحل: 118 و قد ذكر في سورة الأعراف كثير من مظالم بني إسرائيل مع كون السورة مكية.
و من المستبعد أن تدوم الدعوة الإسلامية سنين قبل الهجرة و في داخل الجزيرة طوائف من اليهود و النصارى فلا يصل خبرها إليهم أو يصل إليهم فيسكتوا عنها و لا يقولوا شيئا لها أو عليها و قد هاجر جماعة من المسلمين إلى الحبشة و قرءوا سورة مريم المكية عليهم و فيها قصة عيسى و نبوته.
و أما قول من قال: إن السورة - يعني سورة الأنعام - إنما نزلت في الاحتجاج على المشركين في توحيد الله سبحانه و عامة الخطابات الواردة فيها متوجهة إليهم فلا مسوغ لإرجاع الضمير في قوله: «إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء» إلى اليهود بل المتعين إرجاعه إلى مشركي العرب لأن الكلام في سياق الخبر عنهم، و لم يجر لليهود ذكر في هذه السورة فلا يجوز أن تصرف الآية عما يقتضيه سياقها من أولها إلى هذا الموضع بل إلى آخرها بغير حجة من خبر صحيح أو عقل فالأرجح قراءة «يجعلونه» إلخ، بياء الغيبة على معنى أن اليهود يجعلونه فهو حكاية عنهم ذكرت في خطاب مشركي العرب.
و أما مشكلة أن المشركين ما كانوا يذعنون بكون التوراة كتابا سماويا فكيف يحاجون بها فقد أجاب عنه بعضهم: أن المشركين كانوا يعلمون أن اليهود أصحاب التوراة المنزلة على موسى (عليه السلام) فمن الممكن أن يحاجوا من هذه الجهة.
ففيه: أن سياق السورة فيما تقدم من الآيات و إن كان لمحاجة المشركين لكن لا لأنهم هم بأعيانهم فالبيان القرآني لا يعتني بشخص أو أشخاص لأنفسهم بل لأنهم يستكبرون عن الخضوع للحق و ينكرون أصول الدعوة التي هي التوحيد و النبوة و المعاد فالمنكرون لهذه الحقائق أو لبعضها هم المعنيون بالاحتجاجات الموردة فيها فما المانع من أن يذكر فيها بعض هفوات اليهود لو استلزم إنكار النبوة و نزول الكتاب لدخوله في غرض السورة، و وقوعه في صف هفوات المشركين في إنكار أصول الدين الإلهي و إن كان القائل به من غير المشركين و عبدة الأصنام، و لعله مما لقنوه بعض المشركين ابتغاء للفتنة فقد ورد في بعض الآثار أن المشركين ربما سألوهم عن حال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و ربما بعثوا إليهم الوفود لذلك.
على أن قوله: «و علمتم ما لم تعلموا أنتم و لا آباؤكم» كما سيأتي لا يصح أن يخاطب به غير اليهود كما لا يصح أن يخاطب غير اليهود بقوله تعالى: «قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا و هدى للناس» و القول بأن مشركي العرب كانوا يعلمون أن اليهود هم أصحاب توراة موسى غير مقنع قطعا فإن العلم بأن اليهود أصحاب التوراة لا يصحح الاحتجاج بنزول التوراة من عند الله سبحانه و خاصة مع وصفها بأنها نور و هدى للناس فالاعتقاد بالنزول من عند الله غير العلم بأن اليهود تدعي ذلك و المصحح للخطاب هو الأول دون الثاني.
و أما قراءة «يجعلونه» إلخ، فالوجه أن تحمل على الالتفات مع إبقاء الخطاب في قوله «من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى»، و قوله: «و علمتم ما لم تعلموا أنتم و لا آباؤكم» لليهود.
و قد حاول بعضهم دفع الإشكالات الواردة على جعل الخطاب في الآية للمشركين مع تصحيح القراءتين جميعا فقال ما ملخصه: إن الآية نزلت في ضمن السورة بمكة كما قرأها ابن كثير و أبو عمرو - يجعلونه قراطيس بصيغة الغيبة - محتجة على مشركي مكة الذين أنكروا الوحي استبعادا لأن يخاطب الله البشر بشيء، و قد اعترفوا بكتاب موسى و أرسلوا الوفد إلى أحبار اليهود مذعنين بأنهم أهل الكتاب الأول العالمون بأخبار الأنبياء.
فهو تعالى يقول لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم): قل لهؤلاء الذين ما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء كقولهم: أ بعث الله بشرا رسولا: «من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا» انقشعت به ظلمات الكفر و الشرك الذي ورثته بنو إسرائيل عن المصريين «و هدى للناس» أي الذين أنزل عليهم بما علمهم من الأحكام و الشرائع الإلهية فكانوا على النور و الهدى إلى أن اختلفوا فيه و نسوا حظا مما ذكروا به فصاروا باتباع الأهواء «يجعلونه قراطيس يبدونها» فيما وافق «و يخفون كثيرا» مما لا يوافق أهواءهم.
قال: و الظاهر أن الآية كانت تقرأ هكذا بمكة و كذا بالمدينة إلى أن أخفى أحبار اليهود حكم الرجم و كتموا بشارة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و إلى أن قال بعضهم: ما أنزل الله على بشر من شيء كما قال المشركون من قبلهم - إن صحت الروايات بذلك - فعند ذلك كان غير مستبعد و لا مخل بالسياق أن يلقن الله تعالى رسوله أن يقرأ هذه الجمل بالمدينة على مسمع اليهود و غيرهم بالخطاب لليهود فيقول: «تجعلونه قراطيس تبدونها و تخفون كثيرا» مع عدم نسخ القراءة الأولى.
قال: و بهذا الاحتمال المؤيد بما ذكر من الوقائع يتجه تفسير القراءتين بغير تكلف ما، و يزول كل إشكال عرض للمفسرين في تفسيرهما، انتهى كلامه ملخصا.
و أنت خبير بأن إشكال خطاب المشركين بما لا يعترفون به باق على حاله و كذا إشكال خطاب غير اليهود بقوله: «و علمتم ما لم تعلموا أنتم و لا آباؤكم» على ما أشرنا إليه، و كذا تخصيصه قوله تعالى: «نورا و هدى للناس» باليهود فقط و كذا قوله إن اليهود قالوا في المدينة: «ما أنزل الله على بشر من شيء» كر على ما فر منه.
على أن قوله: إن الله لقن رسوله أن يقرأ الآية عليهم و يخاطبهم بقوله: «تجعلونه قراطيس تبدونها و تخفون كثيرا» مما لا دليل عليه فإن أراد بهذا التلقين وحيا جديدا بالخطاب كالوحي الأول بالغيبة كانت الآية نازلة مرتين مرة في ضمن السورة و هي إحدى آياته و مرة في المدينة غير داخلة في آيات السورة و لا جزء منها، و إن أراد بالتلقين غير الوحي بنزول جبرئيل بها لم تكن الآية آية و لا القراءة قراءة، و إن أريد به أن الله فهم رسوله نوعا من التفهيم أن لفظ «تجعلونه قراطيس» إلخ، النازل عليه في ضمن سورة الأنعام بمكة يسع الخطاب و الغيبة جميعا و أن القراءتين جميعا صحيحتان مقصودتان كما ربما يقوله من ينهي القراءات المختلفة إلى قراءة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو القراءة عليه و نحوهما ففيه الالتزام بورود جميع الإشكال السابقة كما هو ظاهر.
و اعلم أن هذه الأبحاث إنما تتأتى على تقدير كون الآية نازلة بمكة، و أما على ما وقع في بعض الروايات من أن الآية نزلت بالمدينة فلا محل لأكثرها.
قوله تعالى: «و علمتم ما لم تعلموا أنتم و لا آباؤكم» المراد بهذا العلم الذي علموه و لم يكونوا يعلمونه هم و لا آباؤهم ليس هو العلم العادي بالنافع و الضار في الحياة مما جهز الإنسان بالوسائل المؤدية إليه من حس و خيال و عقل فإن الكلام واقع في سياق الاحتجاج مربوط به و لا رابطة بين حصول العلوم العادية للإنسان من الطرق المودعة فيه و بين المدعى و هو أن من لوازم الألوهية أن تهدي الإنسان إلى سعادته و تنزل على بعض أفراده الوحي و الكتاب.
و ليس المراد بها أن الله أفاض عليكم العلم بأشياء ما كان لكم من أنفسكم أن تعلموا كما يفيده قوله تعالى: «و جعل لكم السمع و الأبصار و الأفئدة»: النحل: 78 و قوله: «الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم»: العلق: 5، فإن السياق كما عرفت ينافي ذلك.
فالمراد بالآية تعليم ما ليس في وسع الإنسان بحسب الطرق المألوفة عنده التي جهز بها أن ينال علمه، و ليس إلا ما أوحاه الله سبحانه إلى أنبيائه و حملة وحيه بكتاب أو بغير كتاب من المعارف الإلهية و الأحكام و الشرائع فإنها هي التي لا تسع الوسائل العادية التي عند عامة الإنسان أن تنالها.
و من هنا يظهر أن المخاطبين بهذا الكلام أعني قوله: «و علمتم ما لم تعلموا» إلخ، ليسوا هم المشركين إذا لم يكن عندهم من معارف النبوة و الشرائع الإلهية شيء بين يعرفونه و يعترفون به و الذي كانوا ورثوه من بقايا آثار النبوة من أسلاف أجيالهم ما كانوا ليعترفوا به حتى يصح الاحتجاج به عليهم من غير بيان كاف، و قد وصفهم الله بالجهل في أمثال قوله: «و قال الذين لا يعلمون لو لا يكلمنا الله»: البقرة: 118.
فالخطاب متوجه إلى غير المشركين، و ليس بموجه إلى المسلمين أما أولا: فلأن السياق سياق الاحتجاج، و لو كان الخطاب متوجها إليهم لكان اعتراضا في سياق الاحتجاج من غير نكتة ظاهرة.
و أما ثانيا: فلما فيه من تغيير مورد الخطاب، و العدول من خطاب المخاطبين بقوله: «من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى» إلخ، إلى خطاب غيرهم بقوله: «و علمتم» إلخ، من غير قرينة ظاهرة مع وقوع اللبس فالخطاب لغير المشركين و المسلمين و هم اليهود المخاطبون بصدر الآية.
فقد احتج الله سبحانه على اليهود القائلين: «ما أنزل الله على بشر من شيء» عنادا و ابتغاء للفتنة من طريقين: أحدهما: طريق المناقضة و هو أنهم مؤمنون بالتوراة و أنها كتاب جاء به موسى (عليه السلام) نورا و هدى للناس و يناقضه قولهم: «ما أنزل الله على بشر من شيء» ثم ذمهم على تقطيعها بقطعات يظهرون بعضها و يخفون كثيرا.
و ثانيهما: أنكم علمتم ما لم يكن في وسعكم أن تعلموه أنتم من عند أنفسكم بالاكتساب و لا في وسع آبائكم أن يعلموه فيورثوكم علمه و ذلك كالمعارف الإلهية و الأخلاق الفاضلة و الشرائع و القوانين الناظمة للاجتماع و المعدلة له أحسن نظم و تعديل الحاسمة لأعراق الاختلافات البشرية الاجتماعية فإنها و خاصة المواد التشريعية من بينها ليست مما ينال بالاكتساب، و التي تنال منها من طريق الاكتساب العقلي كالمعارف الكلية الإلهية من التوحيد و النبوة و المعاد و الأخلاق الفاضلة في الجملة لا يكفي مجرد ذلك في استقرارها في المجتمع الإنساني، فمجرد العلم بشيء غير دخوله في مرحلة العمل و استقراره في المستوى العام الاجتماعي، فحب التمتع من لذائذ المادة و غريزة استخدام كل شيء في طريق التوصل إلى الاستعلاء على مشتهيات النفس و التسلط التام على ما تدعو إليه أهواؤها لا يدع مجالا للإنسان يبحث فيه عن كنوز المعارف و الحقائق المدفونة في فطرته ثم يبني و يدوم عليها و في مسير حياته و خاصة إذا استولت هذه المادية على المجتمع و استقرت في المستوى فإنها تكون لهم ظرفا يحصرهم في التمتعات المادية لا ينفذ في شيء من أقطاره شيء من الفضائل الإنسانية، و لا يزال ينسى فيه ما بقي من إثارة الفضائل المعنوية الموروثة واحدا بعد واحد حتى يعود مجتمعهم مجتمعا حيوانيا ساذجا كما نشاهده في الظروف الراقية اليوم أنهم توغلوا في المادية و استسلموا للتمتعات الحسية فشغلهم ذلك في أوقاتهم بثوانيها و صرفهم عن الآخرة إلى الدنيا صرفا سلبهم الاشتغال بالمعنويات و منعهم أي تفكير في ما يسعدهم في حياتهم الحقيقية الخالدة.
و لم يضبط التاريخ فيما ضبطه من أخبار الأمم و الملل رجلا من رجال السياسة و الحكومة كان يدعو إلى فضائل الأخلاق الإنسانية و المعارف الطاهرة الإلهية، و طريق التقوى و العبودية بل أقصى ما كانت تدعو إليه الحكومات الفردية الاستبدادية - هو أن يتمهد الأمر لبقاء سلطتها و استقامة الأمر لها، و غاية ما كانت تدعو إليه الحكومات الاجتماعية - الديمقراطية و ما يشابهها - أن ينظم أمر المجتمع على حسب ما يقترحه هوى أكثرية الأفراد أيا ما اقترحه فضيلة أو رذيلة وافق السعادة الحقيقية العقلية أو خالفها غير أنهم إذا خالفوا شيئا من الفضائل المعنوية و الكمالات و المقاصد العالية الإنسانية التي بقيت أسماؤها عندهم و ألجأتهم الفطرة إلى إعظامها و الاحترام لها كالعدل و العفة و الصدق و حب الخير و نصح النوع الإنساني و الرأفة بالضعيف و غير ذلك فسروها بما يوافق جاري عملهم و الدائر من سنتهم كما هو نصب أعيننا اليوم.
و بالجملة فالعقل الاجتماعي و الشعور المادي الحاكم في المجتمعات ليس مما يوصل الإنسان إلى هذه المعارف الإلهية و الفضائل المعنوية التي لا تزال المجتمعات الإنسانية على تنوعها و تطورها تتضمن أسماء كثيرة منها و احترام معانيها و أين الإخلاد إلى الأرض من الترفع عن المادة و الماديات؟.
فليست إلا آثارا و بقايا من الدعوة الدينية المنتهية إلى نهضات الأنبياء و مجاهداتهم في نشر كلمة الحق و بث دين التوحيد و هداية النوع الإنساني إلى سعادته الحقيقية في حياته الدنيوية و الأخروية جميعا فهي منتهية إلى تعليم إلهي من طريق الوحي و إنزال الكتب السماوية.
فقوله تعالى: «و علمتم ما لم تعلموا أنتم و لا آباؤكم» احتجاج على اليهود في رد قول القائل منهم: «ما أنزل الله على بشر من شيء» بأن عندكم من العلم النافع ما لم تنالوه من أنفسكم و لا ناله و لا ورثه آباؤكم بل إنما علمتم به من غير هذا الطريق و هو طريق إنزال الكتاب و الوحي من قبل الله على بعض البشر فقد أنزل الله على بعض البشر ما علمه و هو المعارف الحقة و شرائع الدين، و قد كان عند اليهود من هذا القبيل شيء كثير ورثوه من أنبيائهم و بثه فيهم كتاب موسى.
و قد ظهر مما تقدم أن المراد بقوله: «و علمتم ما لم تعلموا» مطلق ما ينتهي من المعارف و الشرائع إلى الوحي و الكتاب لا خصوص ما جاء منه في كتاب موسى (عليه السلام) و إن كان الذي منه عند اليهود هو معارف التوراة و شرائعه خلافا لبعض المفسرين.
و ذلك أن لفظ الآية لا يلائم التخصيص فقد قيل: «و علمتم ما لم تعلموا إلخ، و لم يقل و علمتم به أو و علمكم الله به.
و قد قيل: «و علمتم» إلخ، من غير فاعل التعليم لأن ذلك هو الأنسب بسياق الاستدلال لأن ذكر الفاعل في هذا السياق أشبه بالمصادرة بالمطلوب فكأنه قيل: إن فيما عندكم علوما لا ينتهي إلى اكتسابكم أو اكتساب آبائكم فمن الذي علمكم ذلك؟ ثم أجيب عن مجموع السؤالين بقوله: الله عز اسمه.
قوله تعالى: «قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون» لما كان الجواب واضحا بينا لا يداخله ريب، و الجواب الذي هذا شأنه يسوغ للمستدل السائل أن يتكلفه و لا ينتظر المسئول المحتج عليه، أمر تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يتصدى هو للجواب فقال: «قل الله» أي الذي أنزل الكتاب الذي جاء به موسى و الذي علمكم ما لم تعلموا أنتم و لا آباؤكم هو الله.
و لما كان القول بأن الله لم ينزل على بشر شيئا من لغو القول و هزله الذي لا يتفوه به إلا خائض لاعب بالحقائق و خاصة إذا كان القائل به من اليهود المعترفين بتوراة موسى و المباهين بالعلم و الكتاب أمره بأن يدعهم و شأنهم فقال: «ثم ذرهم في خوضهم يلعبون».
قوله تعالى: «و هذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه و لتنذر أم القرى و من حولها» لما نبه على أن من لوازم الألوهية أن ينزل الوحي على جماعة من البشر هم الأنبياء (عليهم السلام)، و أن هناك كتابا حقا كالتوراة التي جاء بها موسى، و أمورا أخرى علمها البشر لا تنتهي إلا إلى وحي إلهي و تعليم غيبي، ذكر أن هذا القرآن أيضا كتاب إلهي منزل من عنده على حد ما نزل سائر الكتب السماوية، و من الدليل على ذلك اشتماله على ما هو شأن كتاب سماوي نازل من عند الله سبحانه.
و من هنا يظهر أولا: أن الغرض في المقام متعلق بكون القرآن كتابا نازلا من عند الله تعالى دون من نزل عليه، و لذا قال: كتاب أنزلناه و لم يقل أنزلناه إليك على خلاف موارد أخر كقوله تعالى: «كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته»: ص: 29 و غيره و ثانيا: أن الأوصاف المذكورة للكتاب بقوله: مبارك مصدق إلخ، بمنزلة الأدلة على كونه نازلا من الله و ليست بأدلة فمن أمارات أنه منزل من عند الله أنه مبارك أودع الله فيه البركة و الخير الكثير يهدي الناس للتي هي أقوم، يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام، ينتفع به الناس في دنياهم باجتماع شملهم، و قوة جمعهم، و وحدة كلمتهم، و زوال الشح من نفوسهم، و الضغائن من قلوبهم، و فشوا الأمن و السلام، و رغد عيشهم، و طيب حياتهم و انجلاء الجهل و كل رذيلة عن ساحتهم، و استظلالهم بمظلة سعادتهم، و ينتفعون به في أخراهم بالأجر العظيم و النعيم المقيم.
و لو لم يكن من عند الله سواء كان مختلفا من عند بشر كشبكة يغر بها الناس فيصطادون أو كان تزويقا نفسانيا أو إلقاء شيطانيا يخيل إلى الذي جاء به أنه وحي سماوي من عند الله و ليس من عنده لم تستقر فيه و لا ترتب عليه هذه البركات الإلهية و الخير الكثير فإن سبيل الشر لا يهدي سالكه إلا إلى الشر و لن ينتج فساد صلاحا، و قد قال تعالى: «فإن الله لا يهدي من يضل»: النحل: 37 و قال: «و الله لا يهدي القوم الفاسقين»: الصف: 5 و قال: «و البلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه و الذي خبث لا يخرج إلا نكدا»: الأعراف: 58.
و من أمارات أنه حق أنه مصدق لما بين يديه من الكتب السماوية الحقة النازلة من عند الله.
و من أمارات ذلك أنه يفي بالغرض الإلهي من خلقه و هو أن يهديهم إلى سعادة حياتهم في الدنيا و الآخرة بالإنذار بوسيلة الوحي المنزل من عنده، و هذا هو الذي يدل عليه قوله: «و لتنذر أم القرى و من حولها» فأم القرى هي مكة المشرفة، و المراد أهلها بدليل قوله: «و من حولها» و المراد بما حولها سائر بلاد الأرض التي يحيط بها أو التي تجاورها كما قيل، و الكلام يدل على عناية إلهية بأم القرى و هي الحرم الإلهي منه بدىء بالدعوة و انتشرت الكلمة.
و من هذا البيان يظهر: أن الأنسب بالسياق أن يكون قوله: «و لتنذر أم القرى» و خاصة على قراءة «لينذر» بصيغة الغيبة معطوفا على قوله: «مصدق» بما يشتمل عليه من معنى الغاية، و التقدير: ليصدق ما بين يديه و لتنذر أم القرى على ما ذكره الزمخشري، و قيل: إنه معطوف على قوله: «مبارك» و التقدير: أنزلناه لتنذر أم القرى و من حولها.
قوله تعالى: «و الذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون» إلخ، كأنه تفريع لما عده الله سبحانه من أوصاف هذا الكتاب الذي أنزله أي لما كان هذا الكتاب الذي أنزلناه مباركا و مصدقا لما بين يديه نازلا لغاية إنذار أهل الأرض فالمؤمنون بالآخرة يؤمنون به لأنه يدعو إلى أمن أخروي دائم و يحذرهم من عذاب خالد.
ثم عرف تعالى هؤلاء المؤمنين بالآخرة بما هو من أخص صفات المؤمنين و هو أنهم على صلاتهم و هي عبادتهم التي يذكرون فيها ربهم يحافظون، و هذه هي الصفة التي ختم الله به صفات المؤمنين التي وصفهم بها في أول سورة المؤمنين إذ قال: «الذين هم على صلواتهم يحافظون»: المؤمنون: 9، كما بدأ بمعناها في أولها فقال «الذين هم في صلاتهم خاشعون»: المؤمنون: 2.
و هذا هو الذي يؤيد أن المراد بالمحافظة في هذه الآية هو الخشوع في الصلاة و هو نحو تذلل و تأثر باطني عن العظمة الإلهية عند الانتصاب في مقام العبودية لكن المعروف من تفسيره أن المراد بالمحافظة على الصلاة المحافظة على وقتها.
كلام في معنى البركة في القرآن
ذكر الراغب في المفردات،: أن أصل البرك - بفتح الباء - صدر البعير و إن استعمل في غيره و يقال له بركة - بكسر الباء - و برك البعير ألقى ركبه، و اعتبر منه معنى الملزوم فقيل: ابتركوا في الحرب أي ثبتوا و لازموا موضع الحرب، و براكاء الحرب و بروكاؤها للمكان الذي يلزمه الأبطال، و ابتركت الدابة وقفت وقوفا كالبروك، و سمي محبس الماء بركة، و البركة ثبوت الخير الإلهي في الشيء، قال تعالى: لفتحنا عليهم بركات من السماء و الأرض، و سمي بذلك لثبوت الخير فيه ثبوت الماء في البركة، و المبارك ما فيه ذلك الخير، على ذلك: هذا ذكر مبارك أنزلناه.
قال: و لما كان الخير الإلهي يصدر من حيث لا يحس و على وجه لا يحصى و لا يحصر قيل لكل ما يشاهد منه زيادة غير محسوسة: هو مبارك و فيه بركة، و إلى هذه الزيادة أشير بما روي: أنه لا ينقص مال من صدقة، لا إلى النقصان المحسوس حسب ما قال بعض الخاسرين حيث قيل له ذلك فقال: بيني و بينك الميزان.
ثم ذكر: أن المراد بتباركه تعالى اختصاصه بالخيرات، انتهى.
فالبركة بالحقيقة هي الخير المستقر في الشيء اللازم له كالبركة في النسل و هي كثرة الأعقاب أو بقاء الذكر بهم خالدا، و البركة في الطعام أن يشبع به خلق كثير مثلا، و البركة في الوقت أن يسع من العمل ما ليس في سعة مثله أن يسعه.
غير أن المقاصد و المآرب الدينية لما كانت مقصورة في السعادات المعنوية أو الحسية التي تنتهي إليها بالأخرة كان المراد بالبركة الواقعة في الظواهر التي فيها هو الخير المعنوي أو ينتهي إليه كما أن مباركته تعالى الواقعة في قول الملائكة النازلين على إبراهيم (عليه السلام): «رحمة الله و بركاته عليكم أهل البيت»: هود: 73 خيرات متنوعة معنوية كالدين و القرب و غيرهما و حسية كالمال و كثرة النسل و بقاء الذكر و غيرها و جميعها مربوطة بخيرات معنوية.
و على هذا فالبركة أعني كون الشيء مشتملا على الخير المطلوب كالأمر النسبي يختلف باختلاف الأغراض لأن خيرية الشيء إنما هي بحسب الغرض المتعلق به فالغرض من الطعام ربما كان إشباعه الجائع أو أن لا يضر آكله أو أن يؤدي إلى شفاء و استقامة مزاج أو يكون نورا في الباطن يتقوى به الإنسان على عبادة الله و نحو ذلك كانت البركة فيه استقرار شيء من هذه الخيرات فيه بتوفيق الله تعالى بين الأسباب و العوامل المتعلقة به و رفعه الموانع.
و من هنا يظهر أن نزول البركة الإلهية على شيء و استقرار الخير فيه لا ينافي عمل سائر العوامل فيه و اجتماع الأسباب عليه فليس معنى إرادة الله صفة أو حالة في شيء أن يبطل سائر الأسباب و العلل المقتضية له - و قد مر كرارا في أبحاثنا السابقة - فإنما الإرادة الإلهية سبب في طول الأسباب الأخر لا في عرضها.
فإنزاله تعالى بركته على طعام مثلا هو أن يوفق بين الأسباب المختلفة الموجودة في أن لا تقتضي في الإنسان كيفية مزاجية يضره معها هذا الطعام، و أن لا تقتضي فساده أو ضيعته أو سرقته أو نهبه أو نحو ذلك، و ليس معناه أن يبطل الله سائر الأسباب و يتكفل هو تعالى إيجاد الخير فيها من غير توسيطها فافهم ذلك.
و البركة كثيرة الدور في لسان الدين فقد ورد في الكتاب العزيز ذكرها في آيات كثيرة بألفاظ مختلفة و كذا ورودها في السنة، و قد تكرر ذكر البركة أيضا في العهدين في موارد كثيرة يذكر فيها إعطاء الله سبحانه البركة للنبي الفلاني أو إعطاء الكهنة البركة لغيرهم و قد كان أخذ البركة في العهد القديم كالسنة الجارية.
و قد ظهر مما تقدم بطلان زعم المنكرين لوجود البركة كما نقلناه عن الراغب فيما تقدم من عبارته فقد زعموا أن عمل الأسباب الطبيعية في الأشياء لا يدع مجالا لسبب آخر يعمل فيه أو يبطل أثرها و قد ذهب عنهم أن تأثيره تعالى في الأشياء في طول سائر الأسباب لا في عرضها حتى يئول الأمر إلى تزاحم أو إبطال و نحوهما.
قوله تعالى: «و من أظلم ممن افترى على الله كذبا إلى قوله - ما أنزل الله» عد الله سبحانه موارد ثلاثة من الظلم هي من أشد مراتبه التي لا يرتاب العقل العادي في شناعتها و فظاعتها، و لذا أوردها في سياق السؤال.
و الغرض من ذلك الدعوة إلى النزول على حكم العقل السليم و الأخذ بالنصفة و خفض الجناح لصريح الحق فكأنه يقول: قل لهم: يجب علي و عليكم أن لا نستكبر عن الحق و لا نستعلي على الله تعالى بارتكاب ما هو من أشد الظلم و أشنعه و هو الظلم في جنب الله فكيف يصح لكم أن تفتروا على الله كذبا و تدعوا له شركاء تتخذونها شفعاء؟ و كيف يسوغ لي أن أدعي النبوة و أقول: أوحي إلي إن كنت لست بنبي يوحى إليه؟ و كيف يجوز لقائل أن يقول: سأنزل مثل ما أنزل الله، فيسخر بحكم الله و يستهزىء بآياته؟.
و نتيجة هذه الدعوة أن ينقادوا لحكم النبوة فإنهم إذا اجتنبوا الافتراء على الله بالشرك، و كف القائل «سأنزل مثل ما أنزل الله» عن مقاله و النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يصر على الوحي بقيت نبوته بلا معارض.
و افتراء الكذب على الله سبحانه و هو أول المظالم المعدودة و إن كان أعم بالنسبة إلى دعوى الوحي إذا لم يوح إليه و هو ثاني المظالم المعدودة، و لذا قيل: إن ذكر الثاني بعد الأول من باب ذكر الخاص بعد العام اعتناء بشأن الوحي و إعظاما لأمره، لكن التأمل في سياق الكلام و وجهه إلى المشركين يعطي أن المراد بالافتراء المذكور هو اتخاذ الشريك لله سبحانه، و إنما لم يصرح بذلك ليرتفع به غائلة ذكر الخاص بعد العام لأن الغرض في المقام - كما تقدم - هو الدعوة إلى الأخذ بالنصفة و التجافي عن عصبية الجاهلية فلم يصرح بالمقصود و إنما أبهم إبهاما لئلا يتحرك بذلك عرق العصبية و لا يتنبه داعي النخوة.
فقوله: «ممن افترى على الله كذبا» و قوله: «أو قال أوحي إلي و لم يوح إليه» متباينان من حيث المراد و إن كانا بحسب ظاهر ما يتراءى منهما أعم و أخص.
و يدل على ما ذكرنا ما في ذيل الآية من حديث التهديد بالعذاب و السؤال عن الشركاء و الشفعاء.
و أما ما قيل: إن قوله: «أو قال أوحي إلي و لم يوح إليه شيء» نزل في مسيلمة حيث ادعى النبوة فسياق الآيات كما عرفت لا يلائمه بل ظاهره أن المراد به نفسه و إن كان الكلام مع الغض عن ذلك أعم.
على أن سورة الأنعام مكية و دعواه النبوة من الحوادث التي وقعت بعد الهجرة إلا أن هؤلاء يرون أن الآية مدنية غير مكية و سيأتي الكلام في ذلك في البحث الروائي التالي إن شاء الله.
و أما قوله: «و من قال سأنزل مثل ما أنزل الله» فظاهره أنه حكاية قول واقع، و أن هناك من قال: سأنزل مثل ما أنزل الله، و أنه إنما قاله استهزاء بالقرآن الكريم حيث نسبه إلى الله سبحانه بالنزول ثم وعد الناس مثله بالإنزال، و لم يقل: سأقول مثل ما قاله محمد أو سآتيكم بمثل ما أتاكم به.
و لذا ذكر بعض المفسرين أنه إشارة إلى قول من قال من المشركين: «لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين».
و قال آخرون: إن الآية إشارة إلى قول عبد الله بن سعد بن أبي سرح: إني أنزل مثل ما أنزل الله و الآية مدنية، و منهم من قال غير ذلك كما سيجيء إن شاء الله في البحث الروائي، و الآية ليست ظاهرة الانطباق على شيء من ذلك فإنها تتضمن الوعد بأمر مستقبل، و قولهم: لو نشاء لقلنا «إلخ» كلام مشروط و كذا قول عبد الله - إن صحت الرواية - إخبار عن أمر حالي جار واقع.
و كيف كان فقوله: «و من قال سأنزل مثل ما أنزل الله» يحكي قولا قاله بعض المشركين من العرب استكبارا على آيات الله، و إنما كرر فيه الموصول أعني قوله: «من» و لم يتكرر في قوله: «أو قال أوحي إلي» «إلخ» لأن المظالم المعدودة و إن كانت ثلاثة لكنها من نظرة أخرى قسمان فالأول و الثاني من الظلم في جنب الله في صورة الخضوع لجانبه و الانقياد لأمره، و الثالث من الظلم في صورة الاستعلاء عليه و الاستكبار عن آياته.
قوله تعالى: «و لو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت» إلى آخر الآية، الغمر أصله ستر الشيء و إزالة أثره و لذا يطلق الغمرة على الماء الكثير الساتر لما تحته، و على الجهل المطبق، و على الشدة التي تحيط بصاحبها و الغمرات الشدائد، و منه قوله تعالى: «في غمرات الموت»، و الهون و الهوان الذلة.
و بسط اليد معناه واضح غير أن المراد به معنى كنائي، و يختلف باختلاف الموارد فبسط الغني يده جوده بماله و إحسانه لمن يستحقه، و بسط الملك يده إدارته أمور مملكته من غير أن يزاحمه مزاحم و بسط المأمور الغليظ الشديد يده على المجرم المأخوذ به هو نكاله و إيذاؤه بضرب و زجر و نحوه.
فبسط الملائكة أيديهم هو شروعهم بتعذيب الظالمين، و ظاهر السياق أن الذي تفعله الملائكة بهؤلاء الظالمين هو الذي يترجم عنه قوله: «أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون» إلخ، فهذه الجمل محكية عن الملائكة لا من قول الله سبحانه، و التقدير: يقول الملائكة لهم أخرجوا أنفسكم «إلخ» فهم يعذبونهم بقبض أرواحهم قبضا يذوقون به أليم العذاب و هذا عذابهم حين الموت و لما ينتقلوا من الدنيا إلى ما وراءها و لهم عذاب بعد ذلك و لما تقم عليهم القيامة كما يشير إليه قوله تعالى: «و من ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون»: المؤمنون: 100.
و بذلك يظهر أن المراد باليوم في قوله: «اليوم تجزون» هو يوم الموت الذي يجزون فيه العذاب و هو البرزخ كما ظهر أن المراد بالظالمين هم المرتكبون لبعض المظالم الثلاثة التي عدها الله سبحانه من أشد الظلم أعني افتراء الكذب على الله، و دعوى النبوة كذبا و الاستهزاء بآيات الله.
و يؤيد ذلك ما ذكره الله من أسباب عذابهم من الذنوب و هو قولهم على الله غير الحق كما هو شأن المفتري الكذب على الله بنسبة الشريك إليه أو بنسبة حكم تشريعي أو وحي كاذب إليه، و استكبارهم عن آيات الله كما هو شأن من كان يقول: «سأنزل مثل ما أنزل الله».
و كذلك قوله: «أخرجوا أنفسكم» أمر تكويني لأن الموت و الوفاة ليس في قدرة الإنسان كالحياة حتى يؤمر بذلك قال تعالى: «و أنه هو أمات و أحيا»: النجم: 44 فالأمر تكويني و الملائكة من أسبابه، و الكلمة مصوغة صوغ الاستعارة بالكناية و الاستعارة التخييلية كأن النفس الإنسانية أمر داخل في البدن و به حياته و بخروجه عن البدن طرو الموت و ذلك أن كلامه تعالى ظاهر في أن النفس ليست من جنس البدن و لا من سنخ الأمور المادية الجسمانية و إنما لها سنخ آخر من الوجود يتحد مع البدن و يتعلق به نوعا من الاتحاد و التعلق غير مادي كما تقدم بيانه في بحث علمي في الجزء الأول من الكتاب و سيأتي في مواضع تناسبه إن شاء الله.
فالمراد بقوله: «أخرجوا أنفسكم» قطع علقة أنفسهم من أبدانهم و هو الموت، و القول قول الملائكة على ما يعطيه السياق.
و المعنى: و ليتك ترى حين يقع هؤلاء الظالمون المذكورون في شدائد الموت و سكراته و الملائكة آخذون في تعذيبهم بالقبض الشديد العنيف لأرواحهم و إنبائهم بأنهم واقعون في عالم الموت معذبون فيه بعذاب الهون و الذلة جزاء لقولهم على الله غير الحق و لاستكبارهم عن آياته.
قوله تعالى: «و لقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة» إلى آخر الآية الفرادى جمع فرد و هو الذي انفصل عن اختلاط غيره نوعا من الاختلاط و يقابله الزوج و هو الذي يختلط بغيره بنحو و يقرب منهما بحسب المعنى الوتر و الشفع فالوتر ما لم ينضم إلى غيره و الشفع ما انضم إلى غيره، و التخويل إعطاء الخول أي المال و نحوه الذي يقوم الإنسان به بالتدبير و التصرف.
و المراد بالشفعاء الأرباب المعبودون من دون الله ليكونوا شفعاء عند الله فعادوا بذلك شركاء لله سبحانه في خلقه، و الآية تنبىء عن حقيقة الحياة الإنسانية التي ستظهر له حينما يقدم على ربه بالتوفي فيشاهد حقيقة أمر نفسه و أنه مدبر بالتدبير الإلهي لا غير كما كان كذلك في أول مرة كونته الخلقة، و أن المزاعم التي انضمت إلى حياته من التكثر بالأسباب و الاعتضاد و الانتصار بالأموال و الأولاد و الأزواج و العشائر و الجموع، و كذا الاستشفاع بالأرباب من دون الله المؤدي إلى الإشراك كل ذلك مزاعم و أفكار باطلة لا أثر لها في ساحة التكوين أصلا.
فالإنسان جزء من أجزاء الكون واقع تحت التدبير الإلهي متوجه إلى الغاية التي غياها الله سبحانه له كسائر أجزاء الكون، و لا حكومة لشيء من الأشياء في التدبير و التسيير الإلهي إلا أنها أسباب و علل ينتهي تأثيرها إليه تعالى من غير أن تستقل بشيء من التأثير.
غير أن الإنسان إذا ركبته يد الخلقة و أوجدته فوقع نظره إلى زينة الحياة و الأسباب و الشفعاء الظاهرة و جذبته لذائذ الحياة تعلقت نفسه بها و دعته ذلك إلى التمسك بذيل الأسباب و الخضوع لها، و ألهاه ذلك عن توجيه وجهه إلى مسبب الأسباب و فاطرها و الذي إليه الأمر كله فأعطاها الاستقلال في السببية لا هم له إلا أن ينال لذائذ هذه الحياة المادية بالخضوع للأسباب فصار يلعب طول الحياة الدنيا بهذه المزاعم و الأوهام التي أوقعته فيها نفسه المتلهية بلذائذ الحياة المادية، و استوعب حياته اللعب بالباطل و التلهي به عن الحق كما قال تعالى: «و ما هذه الحياة الدنيا إلا لهو و لعب»: العنكبوت: 64.
فهذا هو الذي يسوق إليه تعليم القرآن حيث يذكر أن الإنسان إذا خرج عن زي العبودية نسي ربه فأداه ذلك إلى نسيان نفسه قال تعالى: «نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون»: الحشر: 19.
لكن الإنسان إذا فارقت نفسه البدن بحلول الموت بطل ارتباطه بجميع الأسباب و العلل و المعدات المادية التي كانت ترتبط بها من جهة البدن و تتصل بها في هذه النشأة الدنيوية و شاهد عند ذلك بطلان استقلالها و اندكاك عظمتها و تأثيرها فوقعت عين بصيرته على أن أمره أولا و آخرا إلى ربه لا غير و أن لا رب له سواه و لا مؤثر في شأنه دونه.
فقوله تعالى: «و لقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة» إشارة إلى حقيقة الأمر، و قوله: «و تركتم ما خولناكم وراء ظهوركم» إلخ، بيان لبطلان الأسباب الملهية له عن ربه المتخللة بين أول خلقه و بين يوم يقبض فيه إلى ربه، و قوله: «لقد تقطع بينكم و ضل عنكم ما كنتم تزعمون» بيان لسبب انقطاعه من الأسباب و سقوطها عن الاستقلال و التأثير، و أن السبب في ذلك انكشاف بطلان المزاعم التي كان الإنسان يلعب بها طول حياته الدنيا.
فيتبين بذلك أن ليس لهذه الأسباب و الضمائم في الإنسان من النصيب إلا أوهام و مزاعم يتلهى و يلعب بها الإنسان.
قوله تعالى: «إن الله فالق الحب و النوى» إلى آخر الآية.
الفلق هو الشق.
لما انتهى الكلام في الآية السابقة إلى نفي استقلال الأسباب في تأثيرها، و بطلان كون أربابهم شفعاء من دون الله المؤدي إلى كونهم شركاء لله صرف الكلام إلى بيان أن هذه التي يشتغل بها الإنسان عن ربه ليست إلا مخلوقات لله مدبرة بتدبيره، و لا تؤثر أثرا و لا تعمل عملا في إصلاح حياة الإنسان و سوقه إلى غايات خلقته إلا بتقدير من الله و تدبير يدبره هو لا غير فهو تعالى الرب دون غيره.
فالله سبحانه هو يشق الحب و النوى فينبت منهما النبات و الشجر اللذين يرتزق الناس من حبه و ثمره، و هو يخرج الحي من الميت و الميت من الحي - و قد مر تفسير ذلك في الكلام على الآية 27 من سورة آل عمران - ذلكم الله لا غير فأنى تؤفكون و إلى متى تصرفون من الحق إلى الباطل.
قوله تعالى: «فالق الإصباح و جعل الليل سكنا» إلى آخر الآية.
الإصباح بكسر الهمزة هو الصبح و هو في الأصل مصدر، و السكن ما يسكن إليه، و الحسبان جمع حساب، و قيل: هو مصدر حسب حسابا و حسبانا.
و قوله: «و جعل الليل سكنا» عطف على قوله: «فالق الإصباح» و لا ضير في عطف الجملة الفعلية على الاسمية إذا اشتملت على معنى الفعل و قرىء: «و جاعل».
و في فلق الصبح و جعل الليل سكنا يسكن فيه المتحركات عن حركاتها لتجديد القوى و دفع ما عرض لها من التعب و العي و الكلال من جهة حركاتها طول النهار، و جعل الشمس و القمر بما يظهر من الليل و النهار و الشهور و السنين من حركاتهما في ظاهر الحس حسبانا تقدير عجيب للحركات في هذه النشأة المتغيرة المتحولة ينتظم بذلك نظام المعاش الإنساني و يستقيم به أمر حياته، و لذلك ذيلها بقوله: «ذلك تقدير العزيز العليم» فهو العزيز الذي لا يقهره قاهر فيفسد عليه شيئا من تدبيره، و العليم الذي لا يجهل بشيء من مصالح مملكته حتى ينظمه نظما ربما يفسد من نفسه و لا يدوم بطبعه.
قوله تعالى: «و هو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها» إلى آخر الآية.
المعنى واضح و المراد بتفصيل الآيات إما تفصيلها بحسب الجعل التكويني أو تفصيلها بحسب البيان اللفظي.
و لا تنافي بين إرادة مصالح الإنسان في حياته و عيشته في هذه النشأة مما يتراءى لظاهر الحس من حركات هذه الأجرام العظيمة العلوية و الكرات المتجاذبة السماوية، و بين كون كل من هذه الأجرام مرادا بإرادة إلهية مستقلة و مخلوقة بمشية تتعلق بنفسه و تخص شخصه فإن الجهات مختلفة، و تحقق بعض هذه الجهات لا يدفع تحقق بعض آخر و الارتباط و الاتصال حاكم على جميع أجزاء العالم.
قوله تعالى: «و هو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر و مستودع» إلى آخر الآية، قرىء «مستقر» بفتح القاف و كسرها و هو على القراءة الأولى اسم مكان بمعنى محل الاستقرار فيكون «مستودع» أيضا اسم مكان بمعنى محل الاستيداع و هو المكان الذي توضع فيه الوديعة.
و قد وقع ذكر المستقر و المستودع في قوله تعالى: «و ما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها و يعلم مستقرها و مستودعها كل في كتاب مبين»: «هود: 6» و في الكلام حذف و إيجاز، و التقدير: فمنكم من هو في مستقر و منكم من هو في مستودع، و على القراءة الثانية و هي الرجحى «مستقر» اسم فاعل و يكون المستودع اسم مفعول لا محالة، و التقدير فمنكم مستقر و منكم مستودع لم يستقر بعد.
و الظاهر أن المراد بقوله: «و هو الذي أنشأكم من نفس واحدة» انتهاء الذرية الإنسانية على كثرتها و انتشارها إلى آدم الذي يعده القرآن الكريم مبدأ للنسل الإنساني الموجود، و أن المراد بالمستقر هو البعض الذي تلبس بالولادة من أفراد الإنسان فاستقر في الأرض التي هي المستقر لهذا النوع كما قال تعالى: «و لكم في الأرض مستقر»: البقرة: 36، و المراد بالمستودع من استودع في الأصلاب و الأرحام و لم يولد بعد و سيولد بعد حين فهذا هو المناسب لمقام بيان الآية بإنشاء جميع الأفراد النوعية من فرد واحد و من الممكن أن يؤخذ مستقر و مستودع مصدرين ميميين.
و قد عبر بلفظ الإنشاء دون الخلق و نحوه و هو ظاهر في الدفعة و ما في حكمه دون التدريج، و يؤيد هذا المعنى أيضا ما تقدم من قوله تعالى: «و ما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها و يعلم مستقرها و مستودعها» كما لا يخفى أي يعلم ما استقر منها في الأرض بفعلية التكون «و ما هو في طريق التكون مما لم يتكون بالفعل و لم يستقر في الأرض.
فالمعنى: و هو الذي أوجدكم معشر الأناسي من نفس واحدة و عمر بكم الأرض إلى حين فهي مشغولة بكم ما لم تنقرضوا فلا يزال بعضكم مستقرا فيها و بعضكم مستودع في الأصلاب و الأرحام أو في الأصلاب فقط في طريق الاستقرار فيها.
و قد أورد المفسرون في الآية معاني أخر كقول بعضهم: إن المراد من إنشائهم من نفس واحدة خلقهم من نوع واحد من النفس و هو النفس الإنسانية «أو إن المراد هو الإنشاء من نوع واحد من التركيب النفسي و البدني، و هو الحقيقة الإنسانية المؤلفة من نفس و بدن إنسانيين.
و كقول بعضهم: إن المراد بالمستقر الأرحام و بالمستودع الأصلاب و قول بعض آخر: إن المستقر الأرض و المستودع القبر، و قول بعض آخر: إن المستقر هو الرحم و المستودع الأرض أو القبر، و قول بعض آخر: إن المستقر هو الروح و المستودع هو البدن، إلى غير ذلك من أقاويلهم التي لا كثير جدوى في التعرض لها.
قوله تعالى: «هو الذي أنزل من السماء ماء» إلى آخر الآية.
السماء هي جهة العلو فكلما علاك و أظلك فهو سماء، و المراد بقوله: «فأخرجنا به نبات كل شيء» على ما قيل، فأخرجنا بالماء الذي أنزلناه من السماء النبات و النمو الذي في كل شيء نام له قوة النبات من الكمون إلى البروز، أي أنبتنا به كل شيء نباتي كالنجم و الشجر و الإنسان و سائر الحيوان.
و الخضر هو الأخضر و كأنه مخفف الخاضر، و تراكب الحب انعقاد بعضه فوق بعض كما في السنبلة، و الطلع أول ما يبدو من ثمر النخل، و القنوان جمع قنو و هو العذق بالكسر و هو من التمر كالعنقود من العنب، و الدانية أي القريبة، و المشتبه و غير المتشابه المشاكل و غير المشاكل في النوع و الشكل و غيرهما.
و ينع الثمر نضجه.
و قد ذكر الله سبحانه أمورا مما خلقه لينظر فيها من له نظر و بصيرة فيهتدي بالنظر فيها إلى توحيده، و هي أمور أرضية كفلق الحبة و النواة و نحو ذلك، و أمور سماوية كالليل و الصبح و الشمس و القمر و النجوم، و أمر راجع إلى الإنسان نفسه و هو إنشاء نوعه من نفس واحدة فمستقر و مستودع، و أمور مؤلفة من الجميع كإنزال المطر من السماء و تهيئة الغذاء من نبات و حب و ثمر و إنبات ما فيه قوة النمو كالنبات و الحيوان و الإنسان من ذلك.
و قد عد النجوم آية خاصة بقوم يعلمون، و إنشاء النفوس الإنسانية آية خاصة بقوم يفقهون، و تدبير نظام الإنبات آية لقوم يؤمنون و المناسبة ظاهرة فإن النظر في أمر النظام أمر بسيط لا يفتقر إلى مئونة زائدة بل يناله الفهم العادي بشرط أن يتنور بنصفة الإيمان و لا يتلطخ بقذارة العناد و اللجاج، و أما النظر في النجوم و الأوضاع السماوية فمما لا يتخطى العلماء بهذا الشأن ممن يعرف النجوم و مواقعها و سائر الأوضاع السماوية إلى حد ما و لا يناله الفهم العام العامي إلا بمئونة: و أما آية الأنفس فإن الاطلاع عليها و على ما عندها من أسرار الخلقة يحتاج مضافا إلى البحث النظري إلى مراقبة باطنية و تعمق شديد و تثبت بالغ و هو الفقه.
قوله تعالى: «و جعلوا لله شركاء الجن و خلقهم» إلى آخر الآية.
الجن إما مفعول لجعلوا و مفعوله الآخر شركاء أو بدل من شركاء، و قوله: «و خلقهم» كأنه حال و إن منعه بعض النحاة و حجتهم غير واضحة.
و كيف كان فالكلمة في مقام ردهم، و المعنى و جعلوا له شركاء الجن و هو خلقهم و المخلوق لا يجوز أن يشارك خالقه في مقامه.
و المراد بالجن الشياطين كما ينسب إلى المجوس القول: بأهرمن و يزدان و نظيره ما عليه اليزيدية الذين يقولون بألوهية إبليس الملك طاووس - شاه بريان أو الجن المعروف بناء على ما نسب إلى قريش أنهم كانوا يقولون: إن الله قد صاهر الجن فحدث بينهما الملائكة، و هذا أنسب بسياق قوله: «و جعلوا لله شركاء الجن و خلقهم و خرقوا له بنين و بنات بغير علم» و على هذا فالبنون و البنات هم جميعا من الملائكة خرقوهم أي اختلقوهم و نسبوهم إليه افتراء عليه سبحانه و تعالى عما يشركون.
و لو كان المراد من هو أعم من الملائكة لم يبعد أن يكون المراد بهم ما يوجد في سائر الملل غير الإسلام فالبرهمنية و البوذية يقولون بنظير ما قالته النصارى من بنوة المسيح كما تقدم في الجزء الثالث من الكتاب، و سائر الوثنيين القدماء كانوا يثبتون لله سبحانه بنين و بنات من الآلهة على ما يدل عليه الآثار المكتشفة، و مشركو العرب كانوا يقولون: إن الملائكة بنات الله.
قوله تعالى: «بديع السماوات و الأرض» إلى آخر الآية.
جواب عن قولهم بالبنين و البنات، و محصله أن لا سبيل لتحقق حقيقة الولد إلا اتخاذ الصاحبة و لم يكن له تعالى صاحبة فأنى يكون له ولد؟.
و أيضا هو تعالى الخالق لكل شيء و فاطره، و الولد هو الجزء من الشيء يربيه بنوع من اللقاح و جزء الشيء و المماثل له لا يكون مخلوقا له البتة، و يجمع الجميع أنه تعالى بديع السماوات و الأرض الذي لا يماثله شيء من أجزائها بوجه من الوجوه فكيف يكون له صاحبة يتزوج بها أو بنون و بنات يماثلونه في النوع فهذا أمر يخبر به الله الذي لا سبيل للجهل إليه فهو بكل شيء عليم، و قد تقدم في الكلام على قوله تعالى: «و ما كان لبشر أن يؤتيه الله» إلخ،: آل عمران: 79 في الجزء الثالث من الكتاب ما ينفع في المقام.
قوله تعالى: «ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء» إلى آخر الآيتين الجملة الأولى أعني قوله: «ذلكم الله ربكم» نتيجة متخذة من البيان المورد في الآيات السابقة، و المعنى: إذا كان الأمر على ما ذكر فالله الذي وصفناه هو ربكم لا غير، و قوله: «لا إله إلا هو» كالتصريح بالتوحيد الضمني الذي تشتمل عليه الجملة السابقة، و هو مع ذلك يفيد معنى التعليل أي هو الرب ليس دونه رب لأنه الله الذي ليس دونه إله و كيف يكون غيره ربا و ليس بإله.
و قوله: «خالق كل شيء» تعليل لقوله: «لا إله إلا هو» أي إنما انحصرت الألوهية فيه لأنه خالق كل شيء من غير استثناء فلا خالق غيره لشيء من الأشياء حتى يشاركه في الألوهية، و كل شيء مخلوق له خاضع له بالعبودية فلا يعادله فيها.
و قوله: «فاعبدوه» متفرع كالنتيجة على قوله «ذلكم الله ربكم» أي إذا كان الله سبحانه هو ربكم لا غير فاعبدوه، و قوله: «و هو على كل شيء وكيل» أي هو القائم على كل شيء المدبر لأمره الناظم نظام وجوده و حياته و إذا كان كذلك كان من الواجب أن يتقى فلا يتخذ له شريك بغير علم فالجملة كالتأكيد لقوله: «فاعبدوه» أي لا تستنكفوا عن عبادته لأنه وكيل عليكم غير غافل عن نظام أعمالكم.
و أما قوله: «لا تدركه الأبصار» فهو لدفع الدخل الذي يوهمه قوله: «و هو على كل شيء وكيل» بحسب ما تتلقاه أفهام المشركين الساذجة و الخطاب معهم، و هو أنه إذا صار وكيلا عليهم كان أمرا جسمانيا كسائر الجسمانيات التي تتصدى الأعمال الجسمانية فدفعه بأنه تعالى لا تدركه الأبصار لتعاليه عن الجسمية و لوازمها، و قوله: «و هو يدرك الأبصار» دفع لما يسبق إلى أذهان هؤلاء المشركين الذين اعتادوا بالتفكر المادي، و أخلدوا إلى الحس و المحسوس و هو أنه تعالى إذا ارتفع عن تعلق الأبصار به خرج عن حيطة الحس و المحسوس و بطل نوع الاتصال الوجودي الذي هو مناط الشعور و العلم، و انقطع عن مخلوقاته فلا يعلم بشيء كما لا يعلم به شيء، و لا يبصر شيئا كما لا يبصره شيء فأجاب تعالى عنه بقوله: «و هو يدرك الأبصار» ثم علل هذه الدعوى بقوله: «و هو اللطيف الخبير» و اللطيف هو الرقيق النافذ في الشيء، و الخبير من له الخبرة، فإذا كان تعالى محيطا بكل شيء بحقيقة معنى الإحاطة كان شاهدا على كل شيء لا يفقده ظاهر شيء من الأشياء و لا باطنه، و هو مع ذلك ذو علم و خبرة كان عالما بظواهر الأشياء و بواطنها من غير أن يشغله شيء عن شيء أو يحتجب عنه شيء بشيء فهو تعالى يدرك البصر و المبصر معا، و البصر لا يدرك إلا المبصر.
و قد نسب إدراكه إلى نفس الأبصار دون أولي الأبصار لأن الإدراك الموجود فيه تعالى ليس من قبيل إدراكاتنا الحسية حق يتعلق بظواهر الأشياء من أعراضها كالبصر مثلا الذي يتعلق بالأضواء و الألوان و يدرك به القرب و البعد و العظم و الصغر و الحركة و السكون بنحو بل الأغراض و موضوعاتها بظواهرها و بواطنها حاضرة عنده مكشوفة له غير محجوبة عنه و لا غائبة فهو تعالى يجد الأبصار بحقائقها و ما عندها و ليست تناله.
ففي الآيتين من سطوح البيان و سهولة الطريق و إيجاز القول ما يحير اللب و هما مع ذلك تهديان المتدبر فيهما إلى أسرار دونها أستار.
كلام في عموم الخلقة و انبساطها على كل شيء
قوله تعالى: «ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء» ظاهره و عموم الخلقة لكل شيء و انبساط إيجاده تعالى على كل ما له نصيب من الوجود و التحقق، و قد تكرر هذا اللفظ أعني قوله تعالى: «الله خالق كل شيء» منه تعالى في كلامه من غير أن يوجد فيه ما يصلح لتخصيصه بوجه من الوجوه قال تعالى: «قل الله خالق كل شيء و هو الواحد القهار»: الرعد: 16 و قال تعالى: «الله خالق كل شيء و هو على كل شيء وكيل»: الزمر: 62، و.
قال تعالى «ذلكم الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو»: المؤمن: 62.
و قد نشبت بين الباحثين من أهل الملل في هذه المسألة مشاجرات عجيبة يتبعها أقاويل مختلفة حتى من المتكلمين و الفلاسفة من النصارى و اليهود فضلا عن متكلمي الإسلام و فلاسفته، و لا يهمنا المبادرة إلى إيراد أقوالهم و آرائهم و التكلم معهم، و إنما بحثنا هذا قرآني تفسيري لا شغل لنا بغير ما يتحصل به الملخص من نظر القرآن الكريم بالتدبر في أطراف آياته الشريفة.
نجد القرآن الكريم يسلم ما نتسلمه من أن الموضوعات الخارجية و الأشياء الواقعة في دار الوجود كالسماء و كواكبها و نجومها و الأرض و جبالها و وهادها و سهلها و بحرها و برها و عناصرها و معدنياتها و السحاب و الرعد و البرق و الصواعق و المطر و البرد و النجم و الشجر و الحيوان و الإنسان لها آثار و خواص هي أفعالها و هي تنسب إليها نسبة الفعل إلى فاعله و المعلول إلى علته.
و نجده يصدق أن للإنسان كسائر الأنواع الموجودة أفعالا تستند إليه و تقوم به كالأكل و الشرب و المشي و القعود و كالصحة و المرض و النمو و الفهم و الشعور و الفرح و السرور من غير أن يفرق بينه و بين غيره من الأنواع في شيء من ذلك فهو يخبر عن أعماله و يأمره و ينهاه، و لو لا أن له فعلا لم يرجع شيء من ذلك إلى معنى محصل.
فالقرآن يزن الواحد من الإنسان بعين ما نزنه نحن معشر الإنسان في مجتمعنا فنعتقد أن له أفعالا و آثارا منسوبة إليه نؤاخذه في بعض أفعاله التي ترجع بنحو إلى اختياره كالأكل و الشرب و المشي و نصفح عنه فيما لا يرجع إلى اختياره من آثاره القائمة به كالصحة و المرض و الشباب و المشيب و غير ذلك.
فالقرآن ينظم النظام الموجود مثل ما ينتظم عند حواسنا و تؤيده عقولنا بما شفعت به من التجارب، و هو أن أجزاء هذا النظام على اختلاف هوياتها و أنواعها فعالة بأفعالها مؤثرة متأثرة في غيرها و من غيرها و بذلك تلتئم أجزاء النظام الموجود الذي لكل جزء منها ارتباط تام بكل جزء، و هذا هو قانون العلية العام في الأشياء، و هو أن كل ما يجوز له في نفسه أن يوجد و أن لا يوجد فهو إنما يوجد عن غيره فالمعلول ممتنع الوجود مع عدم علته، و قد أمضى القرآن الكريم صحة هذا القانون و عمومه، و لو لم يكن صحيحا أو تخلف في بعض الموارد لم يتم الاستدلال به أصلا، و قد استدل القرآن به على وجود الصانع و وحدانيته و قدرته و علمه و سائر صفاته.
و كما أن المعلول من الأشياء يمتنع وجوده مع عدم علته كذلك يجب وجوده مع وجود علته قضاء لحق الرابطة الوجودية التي بينهما.
و قد أنفذه الله سبحانه في كلامه في موارد كثيرة استدل فيها من طريق ما له من الصفات العليا على ثبوت آثارها و معاليلها كقوله: و هو الواحد القهار و قوله: إن الله عزيز ذو انتقام، إن الله عزيز حكيم، إن الله غفور رحيم و غير ذلك، و استدل أيضا على كثير من الحوادث و الأمور بثبوت أشياء أخرى يستعقب ثبوتها بعدها كقوله: «فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل»: يونس: 74 و غير ذلك مما ذكر من أمر المؤمنين و الكافرين و المنافقين و لو جاز أن يتخلف أثر من مؤثره إذا اجتمعت الشرائط اللازمة و ارتفعت الموانع المنافية لم يصح شيء من هذه الحجج و الأدلة البتة.
فالقرآن يسلم حكومة قانون العلية العام في الوجود، و أن لكل شيء من الأشياء الموجودة و عوارضها و لكل حادث من الحوادث الكائنة علة أو مجموع علل بها يجب وجوده و بدونها يمتنع وجوده هذا مما لا ريب فيه في بادىء التدبر.
ثم إنا نجد أن الله سبحانه في كلامه يعمم خلقه على كل ما يصدق عليه شيء من أجزاء الكون قال تعالى: «قل الله خالق كل شيء و هو الواحد القهار»: الرعد: 16 إلى غير ذلك من الآيات المنقولة آنفا، و هذا ببسط عليته و فاعليته تعالى لكل شيء مع جريان العلية و المعلولية الكونية بينها جميعا كما تقدم بيانه.
و قال تعالى: «الذي له ملك السماوات و الأرض - إلى أن قال - و خلق كل شيء فقدره تقديرا»: الفرقان: 2 و قال: «الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى»: طه: 50 و قال: «الذي خلق فسوى، و الذي قدر فهدى»: الأعلى: 3 إلى غير ذلك من الآيات.
و في هذه الآيات نوع آخر من البيان أخذت فيه الأشياء منسوبة إلى الخلقة و أعمالها و أنواع آثارها و حركاتها و سكناتها منسوبة إلى التقدير و الهداية الإلهية فإلى تقديره تعالى تنتهي خصوصيات أعمال الأشياء و آثارها كالإنسان يخطو و يمشي في انتقاله المكاني و الحوت يسبح و الطير يطير بجناحيه قال تعالى: «فمنهم من يمشي على بطنه و منهم من يمشي على رجلين و منهم من يمشي على أربع يخلق الله ما يشاء»: النور: 45 و الآيات في هذا المعنى كثيرة، فخصوصيات أعمال الأشياء و حدودها و أقدارها تنتهي إليه تعالى، و كذلك الغايات التي تقصدها الأشياء على اختلافها فيها و تشتتها و تفننها إنما تتعين لها و تروم نحوها بالهداية الإلهية التي تصحبها منذ أول وجودها إلى آخره، و ينتهي ذلك إلى تقدير العزيز العليم.
فالأشياء في جواهرها و ذواتها تستند إلى الخلقة الإلهية و حدود وجودها و تحولاتها و غاياتها و أهدافها في مسير وجودها و حياتها كل ذلك ينتهي إلى التقدير المنتهي إلى خصوصيات الخلقة الإلهية و هناك آيات أخرى كثيرة ناطقة بأن أجزاء الكون متصل بعضه ببعض متلائم بعض منه مع بعض متوحدة في الوجود يحكم فيها نظام واحد لا مدبر له إلا الله سبحانه، و هو الذي ربما سمي ببرهان اتصال التدبير.
فهذا ما ينتجه التدبر في كلامه تعالى غير أن هناك جهات أخرى ينبغي للباحث المتدبر أن لا يغفل عنها و هي ثلاث: إحداها: أن من الأشياء ما لا يرتاب في قبحه و شناعته كأنواع الظلم و الفجور التي ينقبض العقل من نسبتها إلى ساحة القدس و الكبرياء و القرآن الكريم أيضا ينزهه تعالى عن كل ظلم و سوء في آيات كثيرة كقوله: «و ما ربك بظلام للعبيد»: حم السجدة: 46 و قوله: «قل إن الله لا يأمر بالفحشاء»: الأعراف: 28 و غير ذلك، و هذا ينافي عموم الخلقة لكل شيء فمن الواجب أن تخصص الآية بهذا المخصص العقلي و الشرعي.
و ينتج ذلك أن الأفعال الإنسانية مخلوقة للإنسان و ما وراءه من الأشياء ذواتها و آثارها مخلوقة لله سبحانه.
على أن كون الأفعال الإنسانية مخلوقة له تعالى يبطل كونها عن اختيار الإنسان، و يبطل بذلك نظام الأمر و النهي و الطاعة و المعصية و الثواب و العقاب و إرسال الرسل و إنزال الكتب و تشريع الشرائع.
كذا ذكره جمع من الباحثين.
و قد ذهب على هؤلاء في بحثهم أن يفرقوا بين الأمور الحقيقية التي تنال الوجود و التحقق حقيقة، و الأمور الاعتبارية و الجهات الوضعية التي لا ثبوت لها في الواقع، و إنما اضطر الإنسان إلى تصورها أو التصديق بها حاجة الحياة، و ابتغاء سعادة الوجود بالاجتماع و التمدن فخلطوا بين الجهات الوجودية و العدمية في الأشياء، و قد تقدمت نبذة من هذا البحث في الكلام على الجبر و التفويض في الجزء الأول من الكتاب.
و الذي يناسب المقام من الكلام أن ظاهر قوله: «الله خالق كل شيء» يعمم الخلقة لكل شيء ثم قوله تعالى: «الذي أحسن كل شيء خلقه»: السجدة: 7 يثبت الحسن لكل ما خلقه الله، و يتحصل من الآيتين أن كل ما يصدق عليه اسم شيء ما خلا الله فهو مخلوق، و أن كل مخلوق فهو متصف بالحسن فالخلق و الحسن متلازمان في الوجود فكل شيء فهو من جهة أنه مخلوق لله أي بتمام واقعيته الخارجية حسن فلو عرض لها عارض السوء و القبح كان من جهة النسب و الإضافات و أمور أخرى غير جهة واقعيته و وجوده الحقيقي الذي ينسب به إلى الله سبحانه و إلى فاعله المعروض له.
ثم إنا نحصل في كلامه تعالى على موارد كثيرة يذكر فيها السيئة و الظلم و الذنب و غيرها ذكر تسليم فلنقض بضمها إلى ما تقدم بأن هذه معان و عناوين غير حقيقية لا يلحق الشيء من جهة انتسابه إلى الله سبحانه و خلقه له، و إنما يلحق الموضوع الذي يقوم الأثر و العمل به من جهة وضع أو نسبة أو إضافة فإن كل معصية و ظلم فإن معه من سنخه ما ليس بمعصية و إنما يختلفان من جهة اشتمال أحدهما على مخالفة أمر تشريعي أو عقلي أو اشتماله على فساد في المجتمع أو نقض لغاية دون الآخر مثاله الزنا و النكاح و هما فعلان متماثلان لا يختلفان في حقيقتهما و وجودهما النوعي مثلا و إنما يختلفان بالموافقة و المخالفة للشرع الإلهي أو السنة الاجتماعية أو مصلحة المجتمع، و تلك أمور وضعية و جهات إضافية، و الخلقة و الإيجاد إنما يتعلق بجهة التكوين و الخارج، و أما الجهات الإضافية و العناوين الوضعية التي تلحق الأشياء بحسب انطباقها على المصالح و المفاسد الاجتماعية المستعقبة للمدح و الذم أو الثواب و العقاب بحسب ما يشخصها و يحكم بها العقل العملي و الشعور الاجتماعي فإنما هي أمور لا تتعدى طور الاجتماع و لا يدخل في دار التكوين أصلا إلا آثارها التي هي أقسام الثواب و العقاب مثلا.
فالفعل الكذائي كالظلم بعنوانه الذي هو الظلم قبيح في ظرف الاجتماع و معصية تستتبع الذم و العقاب عند المجتمعين، و أما بحسب التكوين فليس إلا أثرا أو مجموع آثار من قبيل الحركات العارضة للإنسان و العلل الخارجية و خاصة السببية الأولى الإلهية إنما تنتج هذه الجهة التي هي جهة التكوين، و أما عنوانه القبيح و ما يلحق به فإنما هو مولود النظر التشريع أو العقلائي لا خبر عنه بنظر التكوين كما أن زيدا الرئيس هو بعنوانه الذي هو الرئاسة موضوع اجتماعي عندنا له آثار مترتبة عليه في المجتمع كالاحترام و التقدم و نفوذ الكلمة و إدارة الأمور، و أما من حيث التكوين و الواقعية فإنما هو فرد من أفراد الإنسان لا فرق بينه و بين الفرد المرءوس أصلا، و لا خبر في هذا النظر عن الرئاسة و الآثار المرتبة عليها، و كذا الغني و الفقير و السيد و المسود و العزيز و الذليل و الشريف و الخسيس و أمثال ذلك مما لا يحصى.
و بالجملة الخلقة في عين أنها تعم كل شيء إنما تتعلق بالموضوعات و الأفعال الواقعة في ظرف الاجتماع المعنونة بمختلف عناوينها بجهة تكوينها و واقعيتها الخارجية، و أما ما وراء ذلك من جهات القبح و الحسن و المعصية و الطاعة و سائر الأوصاف و العناوين الاجتماعية الطارئة على الأفعال و الموضوعات فالخلق و الإيجاد لا يتعلق بها، و ليس لها ثبوت إلا في ظرف التشريع أو القضاء الاجتماعي و ساحة الاعتبار و الوضع.
و إذا تبين أن ظرف تحقق الأمر و النهي و انتشاء الحسن و القبح و الطاعة و المعصية و تعلق الثواب و العقاب و ارتباطهما بالفعل و كذا سائر الأمور و العناوين الاجتماعية كالمولوية و العبودية و الرئاسة و المرءوسية و العزة و الذلة و نحو ذلك غير ظرف التكوين و ساحة الواقعية الخارجية التي يتعلق بها الخلق و الإيجاد ظهر أن عموم الخلقة لكل شيء لا يستلزم شيئا من المفاسد التي ذكروها كبطلان نظام الأمر و النهي و الثواب و العقاب و غير ذلك مما تقدم ذكره.
و كيف يسوغ لمن تدبر كلامه تعالى أن يفتي بمثل هذه الثنوية و كلامه مشحون بأنه خالق كل شيء و أنه الله الواحد القهار و أن قضاءه و قدره و هدايته التكوينية و ربوبيته و تدبيره شامل لكل شيء لا يشذ عنه شاذ، و أن ملكه و سلطانه و إحاطته و كرسيه وسع كل شيء، و أن له ما في السماوات و الأرض و ما ظهر و ما بطن، و كيف يستقيم شيء من هذه التعاليم الإلهية المنبئة عن توحيده في ربوبيته مع وجود ما لا يحصى من مخلوقات غيره خلال مخلوقاته.
الثانية: أن القرآن الكريم إذ ينسب خلق كل شيء إليه تعالى و يحصر العلة الفاعلة فيه كان لازمه إبطال رابطة العلية و المعلولية بين الأشياء فلا مؤثر في الوجود إلا الله، و إنما هي عادته تعالى جرت أن يخلق ما نسميه معلولا عقيب ما نسميه علة من غير أن تكون بينهما رابطة توجب وجود المعلول منهما عقيب العلة فالنار التي تستعقب الحرارة نسبتها إلى الحرارة و البرودة على السواء، و الحرارة نسبتها إلى النار و الثلج على السواء غير أن عادة الله جرت أن يخلق الحرارة عقيب النار و البرودة بعد الثلج من غير أن يكون هناك إيجاب و اقتضاء بوجه أصلا.
و هذا النظر يبطل قانون العلية و المعلولية العام الذي عليه المدار في القضاء العقلي و ببطلانه ينسد باب إثبات الصانع و لا تصل النوبة مع ذلك إلى كتاب إلهي يحتج به على بطلان رابطة العلية و المعلولية بين الأشياء، و كيف يسع أن يبطل القرآن الشريف حكما صريحا عقليا و يعزل العقل عن قضائه؟ و إنما تثبت حقيته و حجيته بالحكم العقلي و القضاء الوجداني، و هو إبطال النتيجة لدليلها الذي لا يؤثر إلا إبطال النتيجة لنفسها.
و هؤلاء إنما وقعوا فيما وقعوا من جهة خلطهم بين العلل الطولية و العرضية و إنما يستحيل توارد العلتين على شيء إذا كانتا في عرض واحد لا إذا كانت إحداهما في طول الأخرى، مثال ذلك أن العلة التامة لوجود النار كما توجب وجود النار كذلك توجب وجود الحرارة و لا يجتمع مع ذلك في الحرارة إيجابان و لا تعمل فيها علتان تامتان مستقلتان بل علة معلولة لعلة.
و بتقريب آخر أدق: منشأ الخطإ هو عدم التمييز بين الفاعل بمعنى ما منه و الفاعل بمعنى ما به و لاستقصاء القول في المسألة محل آخر.
الثالثة: و هي قريبة المأخذ من الثانية أنهم لما وجدوا أنه تعالى ينسب خلق كل شيء إلى نفسه، و هو تعالى مع ذلك يسلم وجود رابطة العلية و المعلولية بين الأشياء أنفسها حسبوا أن ما له علة ظاهرة معلومة من الأشياء فهي العلة له دونه تعالى و إلا لزم اجتماع علتين مستقلتين على معلول واحد و لا يبقى لتأثيره تعالى إلا حدوث الأشياء و بدء وجودها و لذا تراهم يرومون إثبات الصانع من جهة حدوث الأشياء كحدوث الإنسان بعد ما لم يكن و حدوث الأرض بعد ما لم تكن و حدوث العالم بعد ما لم يكن.
و يضيفون إلى ذلك وجود أمور أو حدوث حوادث مجهولة العلل للإنسان كالروح و كالحياة في الإنسان و الحيوان و النبات فإن الإنسان لم يظفر بعلل وجودها بعد، و البسطاء منهم يضيفون إلى ذلك أمثال السحب و الثلوج و الأمطار و ذوات الأذناب و الزلازل و القحط و الغلاء و الأمراض العامة و نحو ذلك مما لا يظهر عللها الطبيعية للأفهام العامية ثم كلما لاح لهم في شيء منها علته الطبيعية انهزموا منه إلى غيره و بدلوا موقفا بآخر أو سلموا للخصم.
و هذا بحسب اللسان العلمي هو أن الوجود الممكن إنما يحتاج إلى الواجب في حدوثه لا في بقائه، و هو الذي يصر عليه جم غفير من أهل الكلام حتى صرح بعضهم: أنه لو جاز العدم على الواجب لم يضر عدمه وجود العالم تعالى الله و تقدس، و هذا - فيما نحسب - رأي إسرائيلي تسرب في أذهان عدة من الباحثين من المسلمين و من فروع ذلك قولهم باستحالة البداء و النسخ، و الرأي جار سار بين الناس مع ذلك.
و كيف كان هو من أردإ الأوهام و الاحتجاج القرآني يخالفه فإن الله سبحانه يستدل على وجود الصانع و وحدته بالآيات المشهودة في العالم و هو النظام الجاري في كل نوع من الخليقة و ما يجري عليه في مسير وجوده و أمد حياته من التغير و التحول و الفعل و الانفعال و المنافع التي يستدرها من ذلك و يوصلها إلى غيره كالشمس و القمر و النجوم و طلوعها و غروبها و ما يستجلبه الناس من منافعها و التحولات الفصلية الطارئة على الأرض و البحار و الأنهار و الفلك التي تجري فيها و السحب و الأمطار و ما ينتفع به الإنسان من الحيوان و النبات و ما يجري عليه من الأحوال الطبيعية و التغيرات الكونية من نطفية و جنينية و صباوة و شباب و شيب و هرم و غير ذلك.
و جميع ذلك من الجهات الراجعة إلى الأشياء من حيث بقائها و موضوعاتها علل أعراضها و آثارها و كل مجموع منها في حين علة للمجموع الحاصل بعد ذلك الحين، و حوادث اليوم علل حوادث الغد كما أنها معلولة حوادث الأمس.
و لو كانت الأمور من حيث بقائها مستغنية عن الله سبحانه و استقلت بما يكتنف بها من الحوادث و يطرأ عليها من الآثار و الأعمال لم يستقم شيء من هذه الحجج الباهرة و البراهين القاهرة و ذلك أن احتجاج القرآن بهذه الآيات البينات من جهتين: إحداهما: من جهة الفاعل كما يشير إليه أمثال قوله تعالى: «أ في الله شك فاطر السماوات و الأرض»: إبراهيم: 10 فإن من الضروري أن شيئا من هذه الموجودات لم يفطر ذاته و لم يوجد نفسه، و لا أوجده شيء آخر مثله فإنه يناظره في الحاجة إلى إيجاد موجد، و لو لم ينته الأمر إلى أمر موجود بذاته لا يقبل طرو العدم عليه لم يوجد في الخارج شيء من هذه الأشياء فهي موجودة بإيجاد الله الذي هو في نفسه حق لا يقبل بطلانا و لا تغيرا بوجه عما هو عليه.
ثم إنها إذا وجدت لم تستغن عنه فليس إيجاد شيء شيئا من قبيل تسخين المسخن مثلا حيث تنصب الحرارة بالانفصال من المسخن إلى المتسخن فيعود المتسخن واجدا للوصف بقي المسخن بعد ذلك أو زال، إذ لو كانت إفاضة الوجود على هذه الوتيرة عاد الوجود المفاض مستقلا بنفسه واجبا بذاته لا يقبل العدم لمكان المناقضة، و هذا هو الذي يعبر عنه الفهم الساذج الفطري بأن الأشياء لو ملكت وجود نفسها و استقلت بوجه عن ربها لم يقبل الهلاك و الفساد فإن من المحال أن يستدعي الشيء بطلان نفسه أو شقاءها.
و هو الذي يستفاد من أمثال قوله: «كل شيء هالك إلا وجهه»: القصص: 88 و قوله: «و لا يملكون لأنفسهم ضرا و لا نفعا و لا يملكون موتا و لا حياة و لا نشورا»: الفرقان: 3 و يدل على ذلك أيضا الآيات الكثيرة الدالة على أن الله سبحانه هو المالك لكل شيء لا مالك غيره، و أن كل شيء مملوك له لا شأن له إلا المملوكية.
فالأشياء كما تستفيض منه تعالى الوجود في أول كونها و حدوثها كذلك تستفيض منه ذلك في حال بقائها و امتداد كونها و حياتها فلا يزال الشيء موجودا ما يفيض عليه الوجود و إذا انقطع عنه الفيض انمحى رسمه عن لوح الوجود قال تعالى: «كلا نمد هؤلاء و هؤلاء من عطاء ربك و ما كان عطاء ربك محظورا»: الإسراء: 20 إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.
و ثانيتهما: من جهة الغايات كما تشير إليه الآيات الواصفة للنظام الجاري في الكون متلائمة أجزاؤه متوافقة أطرافه يضمن سير الواحد منها إيصال الآخر إلى كماله و يتوجه ما وقع في طرف من السلسلة المترتبة إلى إسعاد ما في طرف آخر منها ينتفع فيها الإنسان مثلا بالنظام الجاري في الحيوان و النبات، و النبات مثلا بالنظام الجاري في الأرض و الجو المحيط بها، و تستمد الأرضيات بالسماويات و السماويات بالأرضيات فيعود الجميع ذا نظام متصل واحد يسوق كل نوع من الأنواع إلى ما يسعد به في كونه و يفوز به في وجوده و تأبى الفطرة السليمة و الشعور الحي إلا أن يقضي أن ذلك كله من تقدير عزيز عليم و تدبير حكيم خبير.
و ليس هذا التقدير و التدبير إلا عن فطر ذواتها و إيجاد هوياتها و صوغ أعيانها بضرب كل منها في قالب يقدر له أفعاله و يحصره في ما أريد منه في موطنه و ما يئول إليه في منازل هيئت على امتداد مسيره، و الذي يقف عليه آخر ما يقف، و هي في جميع هذه المراحل على مراكب الأسباب بين سائق القدر و قائد القضاء.
قال تعالى: «له الخلق و الأمر»: الأعراف: 54، و قا: ل «ألا له الحكم»: الأنعام: 62 و قال: «و لكل وجهة هو موليها»: البقرة: 148 و قال: «و الله يحكم لا معقب لحكمه»: الرعد: 41 و قال: «هو قائم على كل نفس بما كسبت»: الرعد: 33.
و كيف يسع لمتدبر في أمثال هذه الآيات أن يعطف واضح معانيها و صريح مضامينها إلى أن الله سبحانه خلق ذوات الأشياء على ما لها من الخصوصيات و الشخصيات ثم اعتزلها و ما كان يسعه إلا أن يعتزل و يرصد فشرع الأشياء في التفاعل و التناظم بما فيها من روح العلية و المعلولية و استقلت في الفعل و الانفعال و خالقها يتأملها في معزله و ينتظر يوم يفنى فيه الكل حتى يجدد لها خلقا جديدا يثيب فيه من استمع لدعوته في حياته الأولى و يعاقب المستكبر المستنكف، و قد صبر على خلافهم طول الزمان غير أنه ربما غضب على بعض ما يشاهده منهم فيعارضهم في مشيتهم، و يمنع من تأثير بعض مكائدهم على نحو المعارضة و الممانعة.
أي أنه تعالى يخرج من مقام الاعتزال في بعض ما تؤدي الأسباب و العلل الكونية المستقلة الجارية إلى خلاف ما يرتضيه، أو لا يؤدي إلى ما يوافق مرضاته فيداخل الأسباب الكونية بإيجاد ما يريده من الحوادث، و ليس يداخل شيئا إلا بإبطال قانون العلية الجاري في المورد إذ لو أوجد ما كان يريده من طريق الأسباب و العلل كان التأثير على مزعمتهم للعلل الكونية دونه تعالى، و هذا هو السر في إصرار هؤلاء على أن المعجزات و خوارق العادات و نحوهما إنما تتحقق بالإرادة الإلهية وحدها و نقض قانون العلية العام، فلا محالة يتم الأمر بنقض السببية الكونية و إبطال قانون العلية و يبطل بذلك أصل قولهم: إن الأشياء مفتقرة إليه تعالى في حدوثها غنية عنه في بقائها.
فهؤلاء القوم لا يسعهم إلا أن يلتزموا أحد أمرين: إما القول بأن العالم على سعته و نظامه الجاري فيه مستقل عن الله سبحانه غير مفتقر إليه أصلا و لا تأثير له تعالى في شيء من أجزائه و لا التحولات الواقعة فيه إلا ما كان من حاجته إليه في أول حدوثه و قد أحدثه فارتفعت الحاجة و انقطعت الخلة.
أو القول بأن الله هو الخالق لكل ما يقع عليه اسم شيء و المفيض له الوجود حال الحدوث و في حال البقاء، و لا غنى عنه تعالى لذات و لا فعل طرفة عين.
و قد عرفت أن البحث القرآني يدفع أول القولين لتعاضد الآيات على بسط الخلقة و السلطة الغيبية على ظاهر الأشياء و باطنها و أولها و آخرها و ذواتها و أفعالها حال حدوثها و حال بقائها جميعا فالمتعين هو الثاني من القولين و البحث العقلي الدقيق يؤيد بحسب النتيجة ما هو المتحصل من الآيات الكريمة.
فقد ظهر من جميع ما تقدم: أن ما يظهر من قوله: «الله خالق كل شيء» على ظاهر عمومه من غير أن يتخصص بمخصص عقلي أو شرعي.
قوله تعالى: «قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه و من عمي فعليها» إلخ قال في المجمع،: البصيرة البينة و الدلالة التي يبصر بها الشيء على ما هو به و البصائر جمعها انتهى.
و قيل: البصيرة للقلب كالبصر للعين، و الأصل في الباب على أي حال هو الإدراك بحاسة البصر الذي يعد أقوى الإدراكات، و نيلا من خارج الشيء المشهود، و الإبصار و العمى في الآية هو العلم و الجهل أو الإيمان و الكفر توسعا.
و كأنه تعالى يشير بقوله: «قد جاءكم بصائر من ربكم» إلى ما ذكره في الآيات السابقة من الحجج الباهرة على وحدانيته و انتفاء الشريك عنه، و المعنى أن هذه الحجج بصائر قد جاءتكم من جانب الله بالوحي إلي، و الخطاب من قبل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم ذكر للمخاطبين و هم المشركون أنهم على خيرة من أمر أنفسهم إن شاءوا أبصروا بها و إن شاءوا عموا عنها غير أن الإبصار لأنفسهم و العمى عليها.
و من هنا يظهر أن المراد بالحفظ عليهم رجوع أمر نفوسهم و تدبير قلوبهم إليه فهو إنما ينفي كونه حفيظا عليهم تكوينا و إنما هو ناصح لهم.
و الآية كالمعترضة بين الآيات السابقة و الآية اللاحقة، و هو خطاب منه تعالى عن لسان نبيه كالرسول يأتي بالرسالة إلى قوم فيؤديها إليهم و في خلال ما يؤديه يكلمهم من نفسه بما يهيجهم للسمع و الطاعة و يحثهم على الانقياد بإظهار النصح و نفي الأغراض الفاسدة عن نفسه.
قوله تعالى: «و كذلك نصرف الآيات و ليقولوا درست» إلخ، و قرىء: دارست بالخطاب و درست بالتأنيث و الغيبة، قيل: إن التصريف هو إجراء المعنى الدائر في المعاني المتعاقبة ليجتمع فيه وجوه الفائدة، و قوله: «درست» من الدرس و هو التعلم و التعليم من طريق التلاوة، و على هذا المعنى قراءة دارست غير أن زيادة المباني تدل على زيادة المعاني و أما قراءة «درست» بالتأنيث و الغيبة فهو من الدروس بمعنى تعفي الأثر أي اندرست هذه الأقوال كقولهم: أساطير الأولين.
و المعنى: على هذا المثال نصرف الآيات و نحولها بيانا لغايات كثيرة و منها أن يستكمل هؤلاء الأشقياء شقوتهم فيتهموك يا محمد بأنك تعلمتها من بعض أهل الكتاب أو يقولوا: اندرست هذه الأقاويل و انقرض عهدها و لا نفع فيها اليوم، و لنبينه لقوم يعلمون بتطهير قلوبهم و شرح صدورهم به، و هذا كقوله: «و ننزل من القرآن ما هو شفاء و رحمة للمؤمنين و لا يزيد الظالمين إلا خسارا»: الإسراء: 82.
بحث روائي
في الكافي، بإسناده عن الفضيل بن يسار قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن الله لا يوصف، و كيف يوصف و قال في كتابه: «و ما قدروا الله حق قدره» فلا يوصف بقدر إلا كان أعظم من ذلك.
و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و ابن مردويه عن ابن عباس: في قوله: «و ما قدروا الله حق قدره» قال: هم الكفار الذين لم يؤمنوا بقدرة الله عليهم فمن آمن أن الله على كل شيء قدير فقد قدر الله حق قدره، و من لم يؤمن بذلك فلم يؤمن بالله حق قدره. «إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء» يعني من بني إسرائيل قالت اليهود: يا محمد أ نزل الله عليك كتابا؟ قال نعم، قالوا: و الله ما أنزل الله من السماء كتابا، فأنزل الله: قل يا محمد من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى - نورا و هدى للناس إلى قوله و لا آباؤكم قل الله أنزله.
أقول: و المعنى الذي في صدر الرواية تقدم في البيان السابق أنه خلاف ظاهر الآية بل الظاهر أن الذين قالوا: ما أنزل الله على بشر من شيء، هم الذين لم يقدروا الله سبحانه حق قدره.
و فيه، أخرج ابن أبي حاتم و أبو الشيخ عن السدي: في قوله: «إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء» قال: قال فنحاص اليهودي: ما أنزل الله على محمد من شيء.
أقول: و اختلاف الحاكي و المحكي يفسد المعنى، و احتمال النقل بالمعنى مع هذا الاختلاف الفاحش لا مسوغ له.
و فيه، أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: جاء رجل من اليهود يقال له مالك بن الصيف فخاصم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال له النبي: أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى هل تجد في التوراة: أن الله يبغض الحبر السمين؟ و كان حبرا سمينا فغضب و قال: و الله ما أنزل الله على بشر من شيء، فقال له أصحابه: ويحك و لا على موسى؟ قال: ما أنزل الله على بشر من شيء، فأنزل الله: «و ما قدروا الله حق قدره» الآية.
و فيه، أخرج ابن مردويه عن بريدة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أم القرى مكة.
و في تفسير العياشي، عن علي بن أسباط قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): لم سمي النبي الأمي؟ قال: نسب إلى مكة و ذلك من قول الله: «لتنذر أم القرى و من حولها» و أم القرى مكة، و من حولها الطائف.
أقول: و على ما في الرواية يصير قوله: «لتنذر أم القرى و من حولها» من قبيل قوله: «و أنذر عشيرتك الأقربين»: الشعراء: 214 و لا ينافي الأمر بإنذار طائفة خاصة عموم الرسالة لجميع الناس كما يدل عليه أمثال قوله: «لأنذركم به و من بلغ»: الأنعام: 19 و قوله: «إن هو إلا ذكرى للعالمين»: الأنعام: 90 و قوله: «قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا»: الأعراف: 158.
و في تفسير العياشي، عن عبد الله بن سنان قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله: «قل من أنزل الكتاب إلى قوله تجعلونه قراطيس تبدونها و تخفون كثيرا» قال: كانوا يكتمون ما شاءوا و يبدون ما شاءوا:. قال: و في رواية أخرى عنه (عليه السلام) قال: كانوا يكتبونه في القراطيس ثم يبدون ما شاءوا و يخفون ما شاءوا. قال: كل كتاب أنزل فهو عند أهل العلم.
أقول: أهل العلم كناية عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام).
و في الدر المنثور، في قوله تعالى: «و من أظلم ممن افترى» الآية أخرج الحاكم في المستدرك عن شرحبيل بن سعد قال: نزلت في عبد الله بن أبي سرح: «و من أظلم ممن افترى على الله كذبا - أو قال أوحي إلي و لم يوح إليه شيء» الآية، فلما دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مكة فر إلى عثمان أخيه من الرضاعة فغيبه عنده حتى اطمأن أهل مكة ثم استأمن له.
و فيه، أخرج ابن جرير و أبو الشيخ عن عكرمة: في قوله: «و من أظلم ممن افترى على الله كذبا - أو قال أوحي إلي و لم يوح إليه شيء» قال: نزلت في مسيلمة فيما كان يسجع و يتكهن به. «و من قال سأنزل مثل ما أنزل الله» قال: نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان يكتب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فكان فيما يملي «عزيز حكيم» فيكتب «غفور رحيم» فيغيره ثم يقرأ عليه كذا كذا لما حول فيقول: نعم سواء، فرجع عن الإسلام و لحق بقريش.
أقول: و روي هذا المعنى بطرق أخرى أيضا غير ما مر.
و في تفسير القمي، قال: حدثنا أبي عن صفوان عن ابن مسكان عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن عبد الله بن سعد بن أبي السرح كان أخا لعثمان من الرضاعة قدم إلى المدينة و أسلم، و كان له خط حسن، و كان إذا نزل الوحي على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) دعاه ليكتب ما نزل عليه فكان إذا قال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): و الله سميع بصير يكتب سميع عليم، و إذا قال: و الله بما تعملون خبير يكتب بصير و كان يفرق بين التاء و الياء، و كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: هو واحد. فارتد كافرا و رجع مكة و قال لقريش: و الله ما يدري محمد ما يقول أنا أقول مثل ما يقول فلا ينكر علي ذلك فأنا أنزل مثل ما أنزل الله فأنزل الله على نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) في ذلك: «و من أظلم ممن افترى على الله كذبا - أو قال أوحي إلي و لم يوح إليه شيء - و من قال سأنزل مثل ما أنزل الله». فلما فتح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مكة أمر بقتله فجاء به عثمان و قد أخذ بيده و رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في المسجد فقال: يا رسول الله اعف عنه فسكت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم أعاد فقال: هو لك، فلما مر قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أ لم أقل: من رآه فليقتله؟ فقال رجل: كانت عيني إليك يا رسول الله أن تشير إلي فأقتله، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الأنبياء لا يقتلون بالإشارة، فكان من الطلقاء: أقول: و روى هذا المعنى في الكافي، و تفسير العياشي، و مجمع البيان، بطرق أخرى عن الباقر و الصادق (عليهما السلام).
و ذكر بعض المفسرين بعد إيراد القصة عن روايتي عكرمة و السدي: أن هاتين الروايتين باطلتان فإنه ليس في شيء من السور المكية «سميعا عليما» و لا «عليما حكيما» و لا «عزيز حكيم» إلا في سورة لقمان المروي عن ابن عباس أنها نزلت بعد سورة الأنعام و أن الآية التي ختمت بقوله تعالى «عزيز حكيم» منها و ثنتين بعدها مدنيات كما في الإتقان.
قال: و ما قيل من احتمال نزول هذه الآية بالمدينة لا حاجة إليه و الرواية غير صحيحة.
قال: و روي: أن عبد الله بن سعد لما ارتد كان يطعن في القرآن، و لعله قال شيئا مما ذكر في الروايات عنه كذبا و افتراء فإن السور التي نزلت في عهد كتابته لم يكن فيها شيء مما روي عنه أنه تصرف فيه كما علمت، و قد رجع إلى الإسلام قبل الفتح و لو تصرف في القرآن تصرفا أقره عليه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فشك في الوحي لأجله لما رجع إلى الإسلام.
انتهى.
و قد عرفت أن الروايات المعتبرة المروية عن الصادقين (عليهما السلام) صريحة في وقوع قصة ابن أبي سرح في المدينة بعد الهجرة لا في مكة، و الأخبار المروية من طرق أهل السنة و الجماعة غير صريحة في وقوعها بمكة لو لم يكن ظهورها في الوقوع بالمدينة، و أما ما استند إليه من رواية ابن عباس في ترتيب نزول السور القرآنية فليس بأقوى اعتبارا مما طرحه.
و أما ما ذكره من إسلام ابن أبي سرح قبل الفتح طوعا فقد عرفت ورود الرواية من الطريقين أنه لم يعد إلى الإسلام إلى يوم الفتح، و قد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أهدر دمه يوم الفتح حتى شفع له عثمان فعفا عنه، هذا.
لكن يبقى على ظاهر الروايات أن قوله تعالى: «و من قال سأنزل مثل ما أنزل الله» غير ظاهر الانطباق على قول ابن أبي سرح على ما يحكيه: «فأنا أنزل مثل ما أنزل الله».
على أن كون قوله تعالى: «و من أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي و لم يوح إليه شيء و من قال سأنزل مثل ما أنزل الله» نازلا بالمدينة لا يلائم هذا الاتصال الظاهر بينه و بين ما يتلوه إلى آخر الآية الثانية فلو كان نازلا بالمدينة كان الأقرب أن تكون الآيتان جميعا مدنيتين.
و هناك رواية أخرى تعرب عن سبب للنزول آخر و هو ما رواه عبد بن حميد عن عكرمة قال: لما نزلت: و المرسلات عرفا فالعاصفات عصفا، قال النضر و هو من بني عبد الدار: و الطاحنات طحنا فالعاجنات عجنا و قولا كثيرا فأنزل الله: «و من أظلم ممن افترى على الله كذبا - أو قال أوحي إلي و لم يوح إليه شيء» الآية.
و في تفسير العياشي، عن سلام عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: «اليوم تجزون عذاب الهون» قال: العطش يوم القيامة:. أقول: و رواه أيضا عن الفضيل عن أبي عبد الله (عليه السلام) و فيه: قال: العطش.
و في الكافي، بإسناده عن إبراهيم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله عز و جل لما أراد أن يخلق آدم بعث جبرئيل في أول ساعة من يوم الجمعة فقبض بيمينه قبضة بلغت من السماء السابعة إلى السماء الدنيا، و أخذ من كل سماء تربة و قبض قبضة أخرى من الأرض السابعة العليا إلى الأرض السابعة القصوى فأمر الله عز و جل كلمته فأمسك القبضة الأولى بيمينه و القبضة الأخرى بشماله ففلق الطين فلقتين فذرا من الأرض ذروا و من السماوات ذروا فقال للذي بيمينه: منك الرسل و الأنبياء و الأوصياء و الصديقون و المؤمنون و الشهداء و من أريد كرامته، فوجب لهم ما لهم ما قال كما قال، و قال للذي بشماله: منك الجبارون و المشركون و المنافقون و الطواغيت و من أريد هوانه أو شقوته فوجب لهم ما قال كما قال. ثم إن الطينتين خلطتا جميعا و ذلك قوله تعالى: «إن الله فالق الحب و النوى» فالحب طينة المؤمنين التي ألقى الله عليها محبته، و النوى طينة الكافرين الذين نأوا عن كل خير، و إنما سمي النوى من أجل أنه نأى عن الحق و تباعد منه. و قال الله عز و جل: «يخرج الحي من الميت و مخرج الميت من الحي» فالحي المؤمن الذي يخرج من طينة الكافر، و الميت الذي يخرج من الحي هو الكافر الذي يخرج من طينة المؤمن فالحي المؤمن و الميت الكافر و ذلك قول الله عز و جل: «أ و من كان ميتا فأحييناه» فكان موته اختلاط طينته مع طينة الكافر و كان حياته حين فرق الله عز و جل بينهما بكلمته كذلك يخرج الله عز و جل المؤمن في الميلاد من الظلمة بعد دخوله فيها إلى النور، و يخرج الكافر من النور إلى الظلمة بعد دخوله إلى النور و ذلك قول الله عز و جل: «لينذر من كان حيا و يحق القول على الكافرين».
أقول: الرواية من أخبار الطينة و سيجيء البحث فيها فيما يناسبه من المحل إن شاء الله.
و تفسير الحب و النوى بما فيها من المعنى من قبيل الباطن دون الظاهر، و قد وقع هذا المعنى في روايات أخرى غير هذه الرواية.
و في تفسير العياشي، في قوله تعالى «و جعل الليل سكنا» عن الحسن بن علي بن بنت إلياس قال: سمعت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) يقول: إن الله جعل الليل سكنا و جعل النساء سكنا، و من السنة التزويج بالليل و إطعام الطعام. و فيه، عن علي بن عقبة عن أبيه عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: تزوجوا بالليل فإن الله جعله سكنا و لا تطلبوا الحوائج بالليل.
و في الكافي، بإسناده عن يونس عن بعض أصحابنا عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: إن الله خلق النبيين على النبوة فلا يكونون إلا أنبياء، و خلق المؤمنين على الإيمان فلا يكونون إلا مؤمنين و أعار قوما إيمانا فإن شاء تممه لهم و إن شاء سلبهم إياه. قال: و فيهم جرت «فمستقر و مستودع» و قال: إن فلانا كان مستودعا فلما كذب علينا سلبه الله إيمانه.
أقول: و في تفسير المستقر و المستودع بقسمي الإيمان روايات كثيرة مروية عنهم (عليهم السلام) في تفسيري العياشي و القمي، و هذه الرواية توجهها بأنها من الجري و الانطباق.
و في تفسير العياشي، عن سعد بن سعيد أبي الأصبغ قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام): في قوله: «فمستقر و مستودع» قال: مستقر في الرحم و مستودع في الصلب، و قد يكون مستودع الإيمان ثم ينزع منه. الحديث.
و فيه، عن سدير قال: سمعت حمران يسأل أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله: «بديع السماوات و الأرض» فقال له أبو جعفر (عليه السلام): ابتدع الأشياء كلها بعلمه على غير مثال كان، و ابتدع السماوات و الأرضين و لم يكن قبلهن سماوات و لا أرضون أ ما تسمع قوله: «و كان عرشه على الماء»؟. و في الكافي، بإسناده عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله: «لا تدركه الأبصار» قال: إحاطة الوهم أ لا ترى إلى قوله: «قد جاءكم بصائر من ربكم، ليس يعني من البصر بعينه «و من عمي فعليها» ليس يعني عمى العيون إنما عنى إحاطة الوهم كما يقال: فلان بصير بالشعر، و فلان بصير بالفقه، و فلان بصير بالدراهم، و فلان بصير بالثياب، الله أعظم من أن يرى بالعين:. أقول: و رواه في التوحيد بطريق آخر عنه (عليه السلام) و بإسناده عن أبي هاشم الجعفري عن الرضا (عليه السلام).
و فيه، بإسناده عن صفوان بن يحيى قال: سألني أبو قرة المحدث أن أدخله إلى أبي الحسن الرضا (عليه السلام) فاستأذنته في ذلك فأذن لي فدخل عليه فسأله عن الحلال و الحرام و الأحكام حتى بلغ سؤاله التوحيد فقال أبو قرة: إنا روينا: أن الله قسم الرؤية و الكلام بين نبيين فقسم الكلام لموسى و لمحمد الرؤية، فقال: أبو الحسن (عليه السلام): فمن المبلغ عن الله إلى الثقلين من الجن و الإنس، لا تدركه الأبصار، و لا يحيطون به علما، و ليس كمثله شيء؟ أ ليس محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ قال: بلى. قال: كيف يجيء رجل إلى الخلق جميعا فيخبرهم أنه جاء من عند الله، و أنه يدعوهم إلى الله بأمر الله فيقول: لا تدركه الأبصار، و لا يحيطون به علما، و ليس كمثله شيء ثم يقول: أنا رأيته بعيني و أحطت به علما و هو على صورة البشر، أ ما تستحون؟ ما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا أن يكون يأتي من عند الله بشيء ثم يأتي بخلافه من وجه آخر. قال أبو قرة: فإنه يقول. «و لقد رآه نزلة أخرى» فقال أبو الحسن (عليه السلام): إن بعد هذه الآية ما يدل على ما رأى حيث قال: «ما كذب الفؤاد ما رأى» يقول: ما كذب فؤاد محمد ما رأته عيناه ثم أخبر بما رأى فقال: «لقد رأى من آيات ربه الكبرى» فآيات الله غير الله و قد قال الله: «و لا يحيطون به علما» فإذا رأته الأبصار فقد أحاط به العلم و وقعت المعرفة. فقال أبو قرة: فتكذب بالروايات؟ فقال الرضا (عليه السلام): إذا كانت الروايات مخالفة للقرآن كذبتها، و ما أجمع المسلمون عليه أنه لا يحاط به علما، و لا تدركه الأبصار، و ليس كمثله شيء.
أقول: و هذا المعنى وارد في أخبار أخر مروية عنهم (عليهم السلام)، و هناك روايات أخر تثبت الرؤية بمعنى آخر أدق يليق بساحة قدسه تعالى سنوردها إن شاء الله في تفسير سورة الأعراف، و إنما شدد النكير على الرؤية في هذه الرواية لما أن المشهور من إثبات الرؤية في عصرهم كان هو إثبات الرؤية الجسمانية بالبصر الجسماني التي ينفيها صريح العقل و نص الكتاب ففي تفسير الطبري، عن عكرمة عن ابن عباس قال: إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رأى ربه فقال له رجل عند ذلك: أ ليس قال الله: لا تدركه الأبصار؟ فقال له عكرمة: أ لست ترى السماء؟ قال بلى، قال: فكلها ترى؟ إلى غير ذلك من الأخبار.
و الذي تثبته من الرؤية صريح الرؤية الجسمانية بالعضو الباصر، و قد نفاها العقل و النقل، و قد فات عكرمة أن لو كان المراد بقوله «لا تدركه الأبصار» هو نفي الإحاطة بجميع أقطار الشيء لم يكن وجه لاختصاصه به تعالى فإن شيئا من الأشياء الجسمانية و لها سطوح مختلفة الجهات كالإنسان و الحيوان و سائر الأجسام الأرضية و الأجرام السماوية لا يمس الحس الباصر منها إلا ما يواجه الشعاع الدائر بين الباصر و المبصر على ما تعينه قوانين الإبصار المدونة في أبحاث المناظر و المرايا.
فإنا إذا أبصرنا إنسانا مثلا فإنما نبصر منه بعض السطوح الكثيرة المحيطة ببدنه من فوق و تحت و القدام و الخلف و اليمين و اليسار مثلا، و من المحال أن يقع البصر على جميع ما يحيط به من مختلف السطوح فلو كان المراد من قوله: «لا تدركه الأبصار» نفي هذا السنخ من الإدراك البصري المحال فيه و في غيره كان كلاما لا محصل له.
و في التوحيد، بإسناده عن إسماعيل بن الفضل قال: سألت أبا عبد الله جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) عن الله تبارك و تعالى هل يرى في المعاد؟ فقال: سبحان الله و تعالى عن ذلك علوا كبيرا يا بن الفضل إن الأبصار لا تدرك إلا ما له لون و كيفية، و الله خالق الألوان و الكيفيات.
|