بيان
في السورة إنذار بالمعاد و تستدل عليه بإطلاق القدرة و تؤكد القول في ذلك، و فيها إشارة إلى حقيقة اليوم، و تختتم بوعيد الكفار.
و السورة ذات سياق مكي.
قوله تعالى: «و السماء و الطارق و ما أدراك ما الطارق النجم الثاقب» الطرق في الأصل - على ما قيل - هو الضرب بشدة يسمع له صوت و منه المطرقة و الطريق لأن السابلة تطرقها بأقدامها ثم شاع استعماله في سلوك الطريق ثم اختص بالإتيان ليلا لأن الآتي بالليل في الغالب يجد الأبواب مغلقة فيطرقها و يدقها ثم شاع الطارق في كل ما يظهر ليلا، و المراد بالطارق في الآية النجم الذي يطلع بالليل.
و الثقب في الأصل بمعنى الخرق ثم صار بمعنى النير المضيء لأنه يثقب الظلام بنوره و يأتي بمعنى العلو و الارتفاع و منه ثقب الطائر أي ارتفع و علا كأنه يثقب الجو بطيرانه.
فقوله: «و السماء و الطارق» إقسام بالسماء و بالنجم الطالع ليلا، و قوله: «و ما أدراك ما الطارق» تفخيم لشأن المقسم به و هو الطارق، و قوله: «النجم الثاقب» بيان للطارق و الجملة في معنى جواب استفهام مقدر كأنه لما قيل: و ما أدراك ما الطارق؟ سئل فقيل: فما هو الطارق؟ فأجيب، و قيل: النجم الثاقب.
قوله تعالى: «إن كل نفس لما عليها حافظ» جواب للقسم و لما بمعنى إلا و المعنى ما من نفس إلا عليها حافظ، و المراد من قيام الحافظ على حفظها كتابة أعمالها الحسنة و السيئة على ما صدرت منها ليحاسب عليها يوم القيامة و يجزي بها فالحافظ هو الملك و المحفوظ العمل كما قال تعالى: «و إن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون»: الانفطار: 12.
و لا يبعد أن يكون المراد من حفظ النفس حفظ ذاتها و أعمالها، و المراد بالحافظ جنسه فتفيد أن النفوس محفوظة لا تبطل بالموت و لا تفسد حتى إذا أحيا الله الأبدان أرجع النفوس إليها فكان الإنسان هو الإنسان الدنيوي بعينه و شخصه ثم يجزيه بما يقتضيه أعماله المحفوظة عليه من خير أو شر.
و يؤيد ذلك كثير من الآيات الدالة على حفظ الأشياء كقوله تعالى: «قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم»: الم السجدة: 11، و قوله: «الله يتوفى الأنفس حين موتها و التي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت»: الزمر: 42.
و لا ينافي هذا الوجه ظاهر آية الانفطار السابقة من أن حفظ الملائكة هو الكتابة فإن حفظ نفس الإنسان أيضا من الكتابة على ما يستفاد من قوله: «إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون»: الجاثية: 29 و قد تقدمت الإشارة إليه.
و يندفع بهذا الوجه الاعتراض على ما استدل به على المعاد من إطلاق القدرة كما سيجيء، و محصله أن إطلاق القدرة إنما ينفع فيما كان ممكنا لكن إعادة الإنسان بعينه محال فإن الإنسان المخلوق ثانيا مثل الإنسان الدنيوي المخلوق أولا لا شخصه الذي خلق أولا و مثل الشيء غير الشيء لا عينه.
وجه الاندفاع أن شخصية الشخص من الإنسان بنفسه لا ببدنه و النفس محفوظة فإذا خلق البدن و تعلقت به النفس كان هو الإنسان الدنيوي بشخصه و إن كان البدن بالقياس إلى البدن مع الغض عن النفس، مثلا لا عينا.
قوله تعالى: «فلينظر الإنسان مم خلق» أي ما هو مبدأ خلقه؟ و ما هو الذي صيره الله إنسانا؟ و الجملة متفرعة على الآية السابقة و ما تدل عليه بفحواها بحسب السياق و محصل المعنى و إذ كانت كل نفس محفوظة بذاتها و عملها من غير أن تفنى أو ينسى عملها فليذعن الإنسان أن سيرجع إلى ربه و يجزي بما عمل و لا يستبعد ذلك و لينظر لتحصيل هذا الإذعان إلى مبدإ خلقه و يتذكر أنه خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب و الترائب.
فالذي بدأ خلقه من ماء هذه صفته يقدر على رجعه و إحيائه بعد الموت.
و في الإتيان بقوله: «خلق» مبنيا للمفعول و ترك ذكر الفاعل و هو الله سبحانه إيماء إلى ظهور أمره، و نظيره قوله: «خلق من ماء» إلخ.
قوله تعالى: «خلق من ماء دافق» الدفق تصبب الماء و سيلانه بدفع و سرعة و الماء الدافق هو المني و الجملة جواب عن استفهام مقدر يهدي إليه قوله: «مم خلق».
قوله تعالى: «يخرج من بين الصلب و الترائب» الصلب الظهر، و الترائب جمع تريبة و هي عظم الصدر.
و قد اختلفت كلماتهم في الآية و ما قبلها اختلافا عجيبا، و الظاهر أن المراد بقوله: «بين الصلب و الترائب» البعض المحصور من البدن بين جداري عظام الظهر و عظام الصدر.
قوله تعالى: «إنه على رجعه لقادر» الرجع الإعادة، و ضمير «إنه» له تعالى و اكتفى بالإضمار مع أن المقام مقام الإظهار لظهوره نظير قوله: «خلق» مبنيا للمفعول.
و المعنى أن الذي خلق الإنسان من ماء صفته تلك الصفة، على إعادته و إحيائه بعد الموت - و إعادته مثل بدئه - لقادر لأن القدرة على الشيء قدرة على مثله إذ حكم الأمثال فيما يجوز و فيما لا يجوز واحد.
قوله تعالى: «يوم تبلى السرائر» ظرف للرجع، و السريرة ما أسره الإنسان و أخفاه في نفسه، و البلاء الاختبار و التعرف و التصفح.
فالمعنى يوم يختبر ما أخفاه الإنسان و أسره من العقائد و آثار الأعمال خيرها و شرها فيميز خيرها من شرها و يجزي الإنسان به فالآية في معنى قوله تعالى: «إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله»: البقرة: 284.
قوله تعالى: «فما له من قوة و لا ناصر» أي لا قدرة له في نفسه يمتنع بها من عذاب الله و لا ناصر له يدفع عنه ذلك أي لا قدرة هناك يدفع عنه الشر لا من نفسه و لا من غيره.
قوله تعالى: «و السماء ذات الرجع و الأرض ذات الصدع» إقسام بعد إقسام لتأكيد أمر القيامة و الرجوع إلى الله.
و المراد بكون السماء ذات رجع ما يظهر للحس من سيرها بطلوع الكواكب بعد غروبها و غروبها بعد طلوعها، و قيل: رجعها أمطارها، و المراد بكون الأرض ذات صدع تصدعها و انشقاقها بالنبات، و مناسبة القسمين لما أقسم عليه من الرجوع بعد الموت و الخروج من القبور ظاهرة.
قوله تعالى: «إنه لقول فصل و ما هو بالهزل» الفصل إبانة أحد الشيئين من الآخر حتى يكون بينهما فرجة، و التعبير بالفصل - و المراد الفاصل - للمبالغة كزيد عدل و الهزل خلاف الجد.
و الآيتان جواب القسم، و ضمير «إنه» للقرآن و المعنى أقسم بكذا و كذا أن القرآن لقول فاصل بين الحق و الباطل و ليس هو كلاما لا جد فيه فما يحقه حق لا ريب فيه و ما يبطله باطل لا ريب فيه فما أخبركم به من البعث و الرجوع حق لا ريب فيه.
و قيل: الضمير لما تقدم من خبر الرجوع و المعاد، و الوجه السابق أوجه.
قوله تعالى: «إنهم يكيدون كيدا و أكيد كيدا» أي الكفار يحتالون بكفرهم و إنكارهم المعاد احتيالا يريدون به إطفاء نور الله و إبطال دعوتك، و احتال عليهم بعين أعمالهم بالاستدراج و الإملاء و الإضلال بالطبع على قلوبهم و جعل الغشاوة على سمعهم و أبصارهم احتيالا أسوقهم به إلى عذاب يوم القيامة.
قوله تعالى: «فمهل الكافرين أمهلهم رويدا» التمهيل و الإمهال بمعنى واحد غير أن باب التفعيل يفيد التدريج و الإفعال يفيد الدفعة، و الرويد القليل.
و المعنى: إذا كان منهم كيد و مني كيد عليهم بعين ما يكيدون به و الله غالب على أمره، فانتظر بهم و لا تعاجلهم انتظر بهم قليلا فسيأتيهم ما أوعدهم به فكل ما هو آت قريب.
و في التعبير أولا بمهل الظاهر في التدريج و ثانيا مع التقييد برويدا بأمهل الظاهر في الدفعة لطف ظاهر.
بحث روائي
في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «إن كل نفس لما عليها حافظ» قال: الملائكة.
و فيه،: في قوله تعالى: «خلق من ماء دافق» قال: النطفة التي تخرج بقوة.
و فيه،: في قوله تعالى: «يخرج من بين الصلب و الترائب» قال: الصلب الرجل و الترائب المرأة، و هو صدرها.
أقول: الرواية على إضمارها و إرسالها لا تخلو من شيء.
و فيه،: في قوله تعالى: «يوم تبلى السرائر» قال: يكشف عنها.
و في المجمع، روي مرفوعا عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ضمن الله خلقه أربع خصال: الصلاة، و الزكاة، و صوم شهر رمضان، و الغسل من الجنابة، و هي السرائر التي قال الله تعالى: يوم تبلى السرائر.
أقول: و لعله من قبيل ذكر بعض المصاديق كما تؤيده الرواية التالية.
و فيه، عن معاذ بن جبل قال: سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما هذه السرائر التي ابتلى الله بها العباد في الآخرة؟ فقال: سرائركم هي أعمالكم من الصلاة و الصيام و الزكاة و الوضوء و الغسل من الجنابة و كل مفروض لأن الأعمال كلها سرائر خفية فإن شاء الرجل قال: صليت و لم يصل و إن شاء قال: توضيت و لم يتوض فذلك قوله: «يوم تبلى السرائر».
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «فما له من قوة و لا ناصر» قال: ما له من قوة يهوي بها على خالقه، و لا ناصر من الله ينصره إن أراد به سوءا.
و فيه،: في قوله تعالى: «و السماء ذات الرجع» قال: ذات المطر «و الأرض ذات الصدع» أي ذات النبات.
و في المجمع،: «أنه لقول فصل» يعني أن القرآن يفصل بين الحق و الباطل بالبيان عن كل واحد منهما:، و روي ذلك عن الصادق (عليه السلام).
و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و الدارمي و الترمذي و محمد بن نصر و ابن الأنباري في المصاحف عن الحارث الأعور قال: دخلت المسجد فإذا الناس قد وقعوا في الأحاديث فأتيت عليا فأخبرته فقال: أ و قد فعلوها؟ سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: إنها ستكون فتنة. قلت: فما المخرج منها يا رسول الله قال: كتاب الله فيه نبأ من قبلكم و خبر من بعدكم، و حكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، من ابتغى الهوى في غيره أضله الله، و هو حبل الله المتين، و هو الذكر الحكيم، و هو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، و لا يشبع منه العلماء، و لا تلتبس منه الألسن، و لا يخلق من الرد، و لا تنقضي عجائبه هو الذي لم ينته الجن إذ سمعته حتى قالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد. من قال به صدق، و من حكم به عدل، و من عمل به أجر، و من دعي إليه هدي إلى صراط مستقيم.
أقول: و روي ما يقرب منه عن معاذ بن جبل عنه (صلى الله عليه وآله وسلم)، و رواه مختصرا عن ابن مردويه عن علي (عليه السلام).
|