بيان
دعوة للمؤمنين إلى الإيمان بالله و رسوله و الجهاد في سبيل الله و وعد جميل بالمغفرة و الجنة في الآخرة و بالنصر و الفتح في الدنيا، و دعوة لهم إلى أن يثبتوا على نصرهم لله و وعد جميل بالتأييد.
و المعنيان هما الغرض الأقصى في السورة و الآيات السابقة كالتوطئة و التمهيد بالنسبة إليهما.
قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم» الاستفهام للعرض و هو في معنى الأمر.
و التجارة - على ما ذكره الراغب - التصرف في رأس المال طلبا للربح، و لا يوجد في كلام العرب تاء بعده جيم إلا هذه اللفظة.
فقد أخذ الإيمان و الجهاد في الآية تجارة رأس مالها النفس و ربحها النجاة من عذاب أليم، و الآية في معنى قوله: «إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم و أموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون و يقتلون - إلى أن قال - فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به»: التوبة: 111.
و قد فخم تعالى أمر هذه التجارة حيث قال: «على تجارة» أي تجارة جليلة القدر عظيمة الشأن، و جعل الربح الحاصل منها النجاة من عذاب أليم لا يقدر قدره.
و مصداق هذه النجاة الموعودة المغفرة و الجنة، و لذا بدل ثانيا النجاة من العذاب من قوله: «يغفر لكم ذنوبكم و يدخلكم جنات» إلخ، و أما النصر و الفتح الموعودان فهما خارجان عن النجاة الموعودة، و لذا فصلهما عن المغفرة و الجنة فقال: «و أخرى تحبونها نصر من الله و فتح قريب» فلا تغفل.
قوله تعالى: «تؤمنون بالله و رسوله و تجاهدون في سبيل الله بأموالكم و أنفسكم» إلخ، استئناف بياني يفسر التجارة المعروضة عليهم كأنه قيل: ما هذه التجارة؟ فقيل: «تؤمنون بالله و رسوله و تجاهدون» إلخ، و قد أخذ الإيمان بالرسول مع الإيمان بالله للدلالة على وجوب طاعته فيما أمر به و إلا فالإيمان لا يعد إيمانا بالله إلا مع الإيمان برسالة الرسول قال تعالى: «إن الذين يكفرون بالله و رسله و يريدون أن يفرقوا بين الله و رسله - إلى أن قال - أولئك هم الكافرون حقا»: النساء: 151.
و قوله: «ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون» أي ما ذكر من الإيمان و الجهاد خير لكم إن كنتم من أهل العلم و أما الجهلة فلا يعتد بأعمالهم.
و قيل: المراد تعلمون خيرية ذلك إن كنتم من أهل العلم و الفقه.
قوله تعالى: «يغفر لكم ذنوبكم و يدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار» إلخ، جواب للشرط المقدر المفهوم من الآية السابقة أي إن تؤمنوا بالله و رسوله و تجاهدوا في سبيله يغفر لكم، إلخ.
و قد أطلقت الذنوب المتعلقة بها المغفرة فالمغفور جميع الذنوب و الاعتبار يساعده إذ هذه المغفرة مقدمة الدخول في جنة الخلد و لا معنى لدخولها مع بقاء بعض الذنوب على حاله، و لعله للإشارة إلى هذه النكتة عقبها بقوله: «و مساكن طيبة في جنات عدن» أي جنات ثبات و استقرار فكونها محل ثبات و موضع قرار يلوح أن المغفرة تتعلق بجميع الذنوب.
مضافا إلى ما فيه من مقابلة النفس المبذولة و هي متاع قليل معجل بجنات عدن التي هي خالدة فتطيب بذلك نفس المؤمن و تقوى إرادته لبذل النفس و تضحيتها و اختيار البقاء على الفناء.
ثم زاد في تأكيد ذلك بقوله: «ذلك الفوز العظيم».
قوله تعالى: «و أخرى تحبونها نصر من الله و فتح قريب» إلخ، عطف على قوله: «يغفر لكم» إلخ، و «أخرى» وصف قائم مقام الموصوف و هو خبر لمبتدء محذوف، و قوله: «نصر من الله و فتح قريب» بيان لأخرى، و التقدير و لكم نعمة أو خصلة أخرى تحبونها و هي نصر من الله و فتح قريب عاجل.
و قوله: «و بشر المؤمنين» معطوف على الأمر المفهوم من سابق الكلام كأنه قيل: «قل يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم» إلخ، و بشر المؤمنين.
و تحاذي هذه البشرى ما في قوله: «إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم و أموالهم بأن لهم الجنة - إلى أن قال - فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به»: التوبة: 111، و به يظهر أن الذي أمر أن يبشروا به مجموع ما يؤتيهم الله من الأجر في الآخرة و الدنيا لا خصوص النصر و الفتح.
هذا كله ما يعطيه السياق في معنى الآية و إعراب أجزائها، و قد ذكر فيها أمور أخرى لا يساعد عليها السياق تلك المساعدة أغمضنا عن ذكرها، و احتمل أن يكون قوله: «و بشر» إلخ استئنافا.
قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله» إلخ، أي اتسموا بهذه السمة و دوموا و اثبتوا عليها فالآية في معنى الترقي بالنسبة إلى قوله السابق: «هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم» و مآل المعنى: اتجروا بأنفسكم و أموالكم فانصروا الله بالإيمان و الجهاد في سبيله و دوموا و اثبتوا على نصره.
و المراد بنصرتهم لله أن ينصروا نبيه في سلوك السبيل الذي يسلكه إلى الله على بصيرة كما قال: «قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا و من اتبعني»: يوسف: 108.
و الدليل على هذا المعنى تنظيره تعالى قوله: «كونوا أنصار الله» بقوله بعده: «كما قال عيسى بن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله» فكون الحواريين أنصار الله معناه كونهم أنصارا لعيسى بن مريم (عليهما السلام) في سلوكه سبيل الله و توجهه إلى الله و هو التوحيد و إخلاص العبادة لله سبحانه فمحاذاة قولهم: «نحن أنصار الله» لقوله: «من أنصاري إلى الله» و مطابقته له تقتضي اتحاد معنى الكلمتين بحسب المراد فكون هؤلاء المخاطبين بقوله: «يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله» أنصارا لله معناه كونهم أنصارا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في نشر الدعوة و إعلاء كلمة الحق بالجهاد، و هو الإيمان بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و طاعته فيما يأمر و ينهى عن قول جازم و عمل صادق - كما هو مؤدى سياق آيات السورة.
و قوله: «فآمنت طائفة من بني إسرائيل و كفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين» إشارة إلى ما جرى عليه و انتهى إليه أمر استنصار عيسى و تلبية الحواريين حيث تفرق الناس إلى طائفة مؤمنة و أخرى كافرة فأيد الله المؤمنين على عدوهم و هم الكفار فأصبحوا ظاهرين بعد ما كانوا مستخفين مضطهدين.
و فيه تلويح إلى أن أمة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يجري فيهم ما جرى في أمة عيسى (عليه السلام) تؤمن منهم طائفة و تكفر طائفة فإن أجاب المؤمنون استنصاره - و قد قام هو تعالى مقامه في الاستنصار إعظاما لأمره و إعزازا له - أيدهم الله على عدوهم فيصبحون ظاهرين كما ظهر أنصار عيسى و المؤمنون به.
و قد أشار تعالى إلى هذه القصة في آخر قصص عيسى (عليه السلام) من سورة آل عمران حيث قال: «فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله»: آل عمران: 52، إلى تمام ست آيات، و بالتدبر فيها يتضح معنى الآية المبحوث عنها.
بحث روائي
في تفسير القمي، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا - هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم» فقالوا: لو نعلم ما هي لنبذلن فيه الأموال و الأنفس و الأولاد، فقال الله: «تؤمنون بالله و رسوله - و تجاهدون في سبيل الله بأموالكم إلى قوله ذلك الفوز العظيم.
أقول: و هذا المعنى مروي من طرق أهل السنة أيضا.
و فيه،: في قوله تعالى: «و أخرى تحبونها نصر من الله و فتح قريب» يعني في الدنيا بفتح القائم (عليه السلام)، و أيضا قال: فتح مكة.
في الاحتجاج، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث: و لم يخل أرضه من عالم بما يحتاج الخليقة إليه و متعلم على سبيل نجاة أولئك هم الأقلون عددا، و قد بين الله ذلك من أمم الأنبياء، و جعلهم مثلا لمن تأخر مثل قوله في حواريي عيسى حيث قال لسائر بني إسرائيل: «من أنصاري إلى الله - قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله - و اشهد بأنا مسلمون» يعني مسلمون لأهل الفضل فضلهم و لا يستكبرون عن أمر ربهم فما أجابه منهم إلا الحواريون.
أقول: الرواية و إن وردت في تفسير آية آل عمران لكنها مفيدة فيما نحن فيه.
و في الدر المنثور، أخرج ابن إسحاق و ابن سعد عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للنفر الذين لاقوه بالعقبة: أخرجوا إلى اثني عشر رجلا منكم يكونوا كفلاء على قومهم كما كفلت الحواريون لعيسى بن مريم.
|