بيان
تذكر السورة البعث و الجزاء و تسلك إليه من طريق خلق الإنسان في أحسن تقويم ثم اختلافهم بالبقاء على الفطرة الأولى و خروجهم منها بالانحطاط إلى أسفل سافلين و وجوب التمييز بين الطائفتين جزاء باقتضاء الحكمة.
و السورة مكية و تحتمل المدنية و يؤيد نزولها بمكة قوله: «و هذا البلد الأمين» و ليس بصريح فيه لاحتمال نزولها بعد الهجرة و هو (صلى الله عليه وآله وسلم) بمكة.
قوله تعالى: «و التين و الزيتون و طور سينين و هذا البلد الأمين» قيل: المراد بالتين و الزيتون الفاكهتان المعروفتان أقسم الله بهما لما فيهما من الفوائد الجمة و الخواص النافعة، و قيل المراد بهما شجرتا التين و الزيتون، و قيل: المراد بالتين الجبل الذي عليه دمشق و بالزيتون الجبل الذي عليه بيت المقدس، و لعل إطلاق اسم الفاكهتين على الجبلين لكونهما منبتيهما و لعل الإقسام بهما لكونهما مبعثي جم غفير من الأنبياء و قيل غير ذلك.
و المراد بطور سينين الجبل الذي كلم الله تعالى فيه موسى بن عمران (عليهما السلام)، و يسمى أيضا طور سيناء.
و المراد بهذا البلد الأمين مكة المشرفة لأن الأمن خاصة مشرعة للحرم و هي فيه قال تعالى: «أ و لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا»: العنكبوت: 67 و في دعاء إبراهيم (عليه السلام) على ما حكى الله عنه: «رب اجعل هذا بلدا آمنا»: البقرة: 126، و في دعائه ثانيا: «رب اجعل هذا البلد آمنا»: إبراهيم: 35.
و في الإشارة بهذا إلى البلد تثبيت التشريف عليه بالتشخيص و توصيفه بالأمين إما لكونه فعيلا بمعنى الفاعل و يفيد معنى النسبة و المعنى ذي الأمن كاللابن و التامر و إما لكونه فعيلا بمعنى المفعول و المراد البلد الذي يؤمن الناس فيه أي لا يخاف فيه من غوائلهم ففي نسبة الأمن إلى البلد نوع تجوز.
قوله تعالى: «لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم» جواب للقسم و المراد بكون خلقه في أحسن تقويم اشتمال التقويم عليه في جميع شئونه و جهات وجوده، و التقويم جعل الشيء ذا قوام و قوام الشيء ما يقوم به و يثبت فالإنسان و المراد به الجنس ذو أحسن قوام بحسب الخلقة.
و معنى كونه ذا أحسن قوام بحسب الخلقة على ما يستفاد من قوله بعد: «ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين» إلخ صلوحه بحسب الخلقة للعروج إلى الرفيع الأعلى و الفوز بحياة خالدة عند ربه سعيدة لا شقوة معها، و ذلك بما جهزه الله به من العلم النافع و مكنه منه من العمل الصالح قال تعالى: «و نفس و ما سواها فألهمها فجورها و تقواها»: الشمس: 8 فإذا آمن بما علم و زاول صالح العمل رفعه الله إليه كما قال: «إليه يصعد الكلم الطيب و العمل الصالح يرفعه»: فاطر: 10، و قال: «و لكن يناله التقوى منكم»: الحج: 37.
و قال: «يرفع الله الذين آمنوا منكم و الذين أوتوا العلم درجات»: المجادلة: 11 و قال: «فأولئك لهم الدرجات العلى»: طه: 75 إلى غير ذلك من الآيات الدالة على ارتفاع مقام الإنسان و ارتقائه بالإيمان و العمل الصالح عطاء من الله غير مجذوذ، و قد سماه تعالى أجرا كما يشير إليه قوله الآتي: «فلهم أجر غير ممنون».
قوله تعالى: «ثم رددناه أسفل سافلين» ظاهر الرد أن يكون بمعناه المعروف فأسفل منصوب بنزع الخافض، و المراد بأسفل سافلين مقام منحط هو أسفل من سفل من أهل الشقوة و الخسران و المعنى ثم رددنا الإنسان إلى أسفل من سفل من أهل العذاب.
و احتمل أن يكون الرد بمعنى الجعل أي جعلناه أسفل سافلين، و أن يكون بمعنى التغيير و المعنى ثم غيرناه حال كونه أسفل جمع سافلين، و المراد بالسفالة على أي حال الشقاء و العذاب.
و قيل: المراد بخلق الإنسان في أحسن تقويم ما عليه وجوده أوان الشباب من استقامة القوى و كمال الصورة و جمال الهيئة، و برده إلى أسفل سافلين رده إلى الهرم بتضعيف قواه الظاهرة و الباطنة و نكس خلقته فتكون الآية في معنى قوله تعالى: «و من نعمره ننكسه في الخلق»: يس: 68.
و فيه أنه لا يلائمه ما في قوله: «إلا الذين آمنوا و عملوا الصالحات» من الاستثناء الظاهر في المتصل فإن حكم الخلق عام في المؤمن و الكافر و الصالح و الطالح و دعوى أن المؤمن أو المؤمن الصالح مصون من ذلك مجازفة.
و كذا القول بأن المراد بالإنسان هو الكافر و المراد بالرد رده إلى جهنم أو إلى نكس الخلق و الاستثناء منقطع.
قوله تعالى: «إلا الذين آمنوا و عملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون» أي غير مقطوع استثناء متصل من جنس الإنسان، و تفريع قوله: «فلهم أجر غير ممنون» عليه يؤيد كون المراد من رده إلى أسفل سافلين رده إلى الشقاء و العذاب.
قوله تعالى: «فما يكذبك بعد بالدين أ ليس الله بأحكم الحاكمين» الخطاب للإنسان باعتبار الجنس، و قيل للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و المراد غيره، و «ما» استفهامية توبيخية، و «بالدين» متعلق بيكذبك، و الدين الجزاء و المعنى - على ما قيل - ما الذي يجعلك مكذبا بالجزاء يوم القيامة بعد ما جعلنا الإنسان طائفتين طائفة مردودة إلى أسفل سافلين و طائفة مأجورة أجرا غير ممنون.
و قوله: «أ ليس الله بأحكم الحاكمين» الاستفهام للتقرير و كونه تعالى أحكم الحاكمين هو كونه فوق كل حاكم في إتقان الحكم و حقيته و نفوذه من غير اضطراب و وهن و بطلان فهو تعالى يحكم في خلقه و تدبيره بما من الواجب في الحكمة أن يحكم به الناس من حيث الإتقان و الحسن و النفوذ و إذا كان الله تعالى أحكم الحاكمين و الناس طائفتان مختلفتان اعتقادا و عملا فمن الواجب في الحكمة أن يميز بينهم بالجزاء في حياتهم الباقية و هو البعث.
فالتفريع في قوله: «فما يكذبك بعد بالدين» من قبيل تفريع النتيجة على الحجة و قوله: «أ ليس الله بأحكم الحاكمين» تتميم للحجة المشار إليها بما يتوقف عليه تمامها.
و المحصل أنه إذا كان الناس خلقوا في أحسن تقويم ثم اختلفوا فطائفة خرجت عن تقويمها الأحسن و ردت إلى أسفل سافلين و طائفة بقيت في تقويمها الأحسن و على فطرتها الأولى و الله المدبر لأمرهم أحكم الحاكمين، و من الواجب في الحكمة أن تختلف الطائفتان جزاء، فهناك يوم تجزى فيه كل طائفة بما عملت و لا مسوغ للتكذيب به.
فالآيات - كما ترى - في معنى قوله تعالى: «أم نجعل الذين آمنوا و عملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار»: ص: 28، و قوله: «أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا و عملوا الصالحات سواء محياهم و مماتهم ساء ما يحكمون»: الجاثية: 21.
و بعض من جعل الخطاب في قوله: «فما يكذبك» للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) جعل «ما» بمعنى من و الحكم بمعنى القضاء، و عليه فالمعنى إذا كان الناس مختلفين و لازم ذلك اختلاف جزائهم في يوم معد للجزاء فمن الذي ينسبك إلى الكذب بالجزاء أ ليس الله بأقضى القاضين فهو يقضي بينك و بين المكذبين لك بالدين.
و أنت خبير بأن فيه تكلفا من غير موجب.
بحث روائي
في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «و التين و الزيتون - و طور سينين و هذا البلد الأمين» التين المدينة و الزيتون بيت المقدس و طور سينين الكوفة و هذا البلد الأمين مكة.
أقول: و قد ورد هذا المعنى في بعض الروايات عن موسى بن جعفر عن آبائه (عليهم السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و لا يخلو من شيء، و في بعضها: أن التين و الزيتون الحسن و الحسين و الطور علي و البلد الأمين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و ليس من التفسير في شيء.
و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله أن خزيمة بن ثابت و ليس بالأنصاري سأل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن البلد الأمين فقال: مكة.
|