بيان
تسجل السورة رسالة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) لعامة أهل الكتاب و المشركين و بعبارة أخرى للمليين و غيرهم و هم عامة البشر فتفيد عموم الرسالة و أنها مما كانت تقتضيه السنة الإلهية - سنة الهداية - التي تشير إليها أمثال قوله تعالى: «إنا هديناه السبيل إما شاكرا و إما كفورا»: الإنسان: 3، و قوله: «و إن من أمة إلا خلا فيها نذير»: فاطر: 24، و تحتج على عموم دعوته (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنها لا تتضمن إلا ما يصلح المجتمع الإنساني من الاعتقاد و العمل على ما سيتضح إن شاء الله.
و السورة تحتمل المكية و المدنية و إن كان سياقها بالمدنية أشبه.
قوله تعالى: «لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب و المشركين منفكين حتى تأتيهم البينة» ظاهر الآيات - و هي في سياق يشير إلى قيام الحجة على الذين كفروا بالدعوة الإسلامية من أهل الكتاب و المشركين و على الذين أوتوا الكتاب حينما بدا فيهم الاختلاف - أن المراد هو الإشارة إلى أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من مصاديق الحجة البينة القائمة على الناس التي تقتضي قيامها السنة الإلهية الجارية في عباده فقد كانت توجب مجيء البينة إليهم كما أوجبته من قبل ما تفرقوا في دينهم.
و على هذا فالمراد بالذين كفروا في الآية هم الكافرون بالدعوة النبوية الإسلامية من أهل الكتاب و المشركين، و «من» في قوله: «من أهل الكتاب» للتبعيض لا للتبيين، و قوله: و «المشركين» عطف على «أهل الكتاب» و المراد بهم غير أهل الكتاب من عبدة الأصنام و غيرهم.
و قوله: «منفكين» من الانفكاك و هو الانفصال عن شدة اتصال، و المراد به - على ما يستفاد من قوله: «حتى تأتيهم البينة» - انفكاكهم عما تقتضي سنة الهداية و البيان كان السنة الإلهية كانت قد أخذتهم و لم تكن تتركهم حتى تأتيهم البينة و لما أتتهم البينة تركتهم و شأنهم كما قال تعالى: «و ما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون»: التوبة: 115.
و قوله: «حتى تأتيهم البينة» على ظاهره من الاستقبال و البينة هي الحجة الظاهرة و المعنى لم يكن الذين كفروا برسالة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو بدعوته أو بالقرآن لينفكوا حتى تأتيهم البينة و البينة هي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).
و للقوم اختلاف عجيب في تفسير الآية و معاني مفرداتها حتى قال بعضهم - على ما نقل -: إن الآية من أصعب الآيات القرآنية نظما و تفسيرا.
انتهى، و الذي أوردناه من المعنى هو الذي يلائمه سياقها من غير تناقض بين الآيات و تدافع بين الجمل و المفردات، و من أراد الاطلاع على تفصيل ما قيل و يقال فعليه أن يراجع المطولات.
قوله تعالى: «رسول من الله يتلوا صحفا مطهرة فيها كتب قيمة» بيان للبينة و المراد به محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قطعا على ما يعطيه السياق.
و الصحف جمع صحيفة و هي ما يكتب فيها، و المراد بها أجزاء القرآن النازلة و قد تكرر في كلامه تعالى إطلاق الصحف على أجزاء الكتب السماوية و منها القرآن الكريم قال تعالى: «في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة»: عبس: 16.
و المراد بكون الصحف مطهرة تقدسها من قذارة الباطل بمس الشياطين، و قد تكرر منه تعالى أنه حق مصون من مداخلة الشياطين و قال: «لا يمسه إلا المطهرون»: الواقعة: 79.
و قوله: «فيها كتب قيمة» الكتب جمع كتاب و معناه المكتوب و يطلق على اللوح و القرطاس و نحوهما المنقوشة فيها الألفاظ و على نفس الألفاظ التي تحكي عنها النقوش، و ربما يطلق على المعاني بما أنها محكية بالألفاظ، و يطلق أيضا على الحكم و القضاء يقال كتب عليه كذا أي قضى أن يفعل كذا قال تعالى: «كتب عليكم الصيام»: البقرة: 183 و قال: «كتب عليكم القتال»: البقرة: 216.
و الظاهر أن المراد بالكتب التي في الصحف الأحكام و القضايا الإلهية المتعلقة بالاعتقاد و العمل، و من الدليل عليه توصيفها بالقيامة فإنها من القيام بالشيء بمعنى حفظه و مراعاة مصلحته و ضمان سعادته قال تعالى: «أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم»: يوسف: 40، و معلوم أن الصحف السماوية إنما تقوم بأمر المجتمع الإنساني و تحفظ مصلحته بما فيها من الأحكام و القضايا المتعلقة بالاعتقاد و العمل.
فمعنى الآيتين: الحجة البينة التي أتتهم رسول من الله يقرأ صحائف سماوية مطهرة من دنس الباطل في تلك الصحائف أحكام و قضايا قائمة بأمر المجتمع الإنساني حافظة لمصالحه.
قوله تعالى: «و ما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة» كانت الآية الأولى «لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب» إلخ تشير إلى كفرهم بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و كتابه المتضمن للدعوة الحقة و هذه الآية تشير إلى اختلافهم السابق على الدعوة الإسلامية و قد أشير إلى ذلك في مواضع من القرآن الكريم كما قال تعالى: «و ما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم»: آل عمران: 19 إلى غير ذلك من الآيات.
و مجيء البينة لهم هو البيان النبوي الذي تبين لهم في كتابهم أو أوضحه لهم أنبياؤهم قال تعالى: «و لما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة و لأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله و أطيعون إن الله هو ربي و ربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم فاختلف الأحزاب من بينهم»: الزخرف: 65.
فإن قلت: ما باله تعرض لاختلاف أهل الكتاب و تفرقهم في مذاهبهم و لم يتعرض لتفرق المشركين و إعراضهم عن دين التوحيد و إنكارهم الرسالة.
قلت: لا يبعد أن يكون قوله: «و ما تفرق الذين أوتوا الكتاب» إلخ شاملا للمشركين كما هو شامل لأهل الكتاب فقد بدل أهل الكتاب - و هم في عرف القرآن اليهود و النصارى و الصابئون و المجوس أو اليهود و النصارى - من الذين أوتوا الكتاب، و التعبيران متغايران، و قد صرح تعالى بأنه أنزل الكتاب - و هو الشريعة المفروضة عليهم الحاكمة في اختلافاتهم في أمور الحياة - أول ما بدا الاختلافات الحيوية بينهم ثم اختلفوا في الدين بعد تبين الحق لهم و قيام الحجة عليهم فعامة البشر آتاهم الله كتابا ثم اختلفوا فيه فمنهم من نسي ما أوتيه، و منهم من أخذ به محرفا و منهم من حفظه و آمن به، قال تعالى: «كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين و منذرين و أنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه و ما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم»: البقرة: 213 و قد مر تفسير الآية.
و في هذا المعنى قوله تعالى: «تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض - إلى أن قال - و لو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات و لكن اختلفوا فمنهم من آمن و منهم من كفر»: البقرة: 253.
و بالجملة فالذين أوتوا الكتاب أعم من أهل الكتاب فقوله: «و ما تفرق الذين أوتوا الكتاب» إلخ يشمل المشركين كما يشمل أهل الكتاب.
قوله تعالى: «و ما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء» إلخ ضمير «أمروا» للذين كفروا من أهل الكتاب و المشركين أي لم يتضمن رسالة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) و الكتب القيمة التي في صحف الوحي إلا أمرهم بعبادة الله تعالى بقيد الإخلاص في الدين فلا يشركوا به شيئا.
و قوله: «حنفاء» حال من ضمير الجمع و هو جمع حنيف من الحنف و هو الميل عن جانبي الإفراط و التفريط إلى حاق وسط الاعتدال و قد سمى الله تعالى الإسلام دينا حنيفا لأنه يأمر في جميع الأمور بلزوم الاعتدال و التحرز عن الإفراط و تفريط.
و قوله: «و يقيموا الصلاة و يؤتوا الزكاة» من قبيل ذكر الخاص بعد العام أو الجزء بعد الكل اهتماما بأمره فالصلاة و الزكاة على أركان الإسلام و هما التوجه العبودي الخاص إلى الله و إنفاق المال في الله.
و قوله: «و ذلك دين القيمة» أي دين الكتب القيمة على ما فسروا، و المراد بالكتب القيمة إن كان جميع الكتب السماوية أعني كتاب نوح و من دونه من الأنبياء (عليهم السلام) فالمعنى أن هذا الذي أمروا به و دعوا إليه في الدعوة المحمدية هو الدين الذي كلفوا به في كتبهم القيمة و ليس بأمر بدع فدين الله واحد و عليهم أن يدينوا به لأنه القيم.
و إن كان المراد به ما كان يتلوه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من الكتب القيمة التي في الصحف المطهرة فالمعنى أنهم لم يؤمروا في الدعوة الإسلامية إلا بأحكام و قضايا هي القيمة الحافظة لمصالح المجتمع الإنساني فلا يسعهم إلا أن يؤمنوا بها و يتدينوا.
فالآية على أي حال تشير إلى كون دين التوحيد الذي يتضمنه القرآن الكريم المصدق لما بين يديه من الكتاب و المهيمن عليه فيما يأمر المجتمع البشري قائما بأمرهم حافظا لمصالح حياتهم كما يبينه بأوفى البيان قوله تعالى: «فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم»: الروم: 30.
و بهذه الآية يكمل بيان عموم رسالة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و شمول الدعوة الإسلامية لعامة البشر فقوله: «لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب و المشركين» إلخ يشير إلى أنه كان من الواجب في سنة الهداية الإلهية أن تتم الحجة على من كفر بالدعوة من أهل الكتاب و المشركين، و هؤلاء و إن كانوا بعض أهل الكتاب و المشركين لكن من الضروري أن لا فرق بين البعض و البعض في تعلق الدعوة فتعلقها بالبعض لا ينفك عن تعلقها بالكل.
و قوله: «رسول من الله» إلخ يشير إلى أن تلك البينة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، و قوله «و ما تفرق» إلخ يشير إلى أن تفرقهم و كفرهم السابق بالحق أيضا كان بعد مجيء البينة.
و قوله: «و ما أمروا إلا ليعبدوا الله» إلخ يفيد أن الذي دعوا إليه و أمروا به دين قيم حافظ لمصالح المجتمع البشري فعليهم جميعا أن يؤمنوا به و لا يكفروا.
قوله تعالى: «إن الذين كفروا من أهل الكتاب و المشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية» لما فرغ من الإشارة إلى كفرهم بالبينة التي كانت توجبها سنة الهداية الإلهية و ما كانت تدعو إليه من الدين القيم أخذ في الإنذار و التبشير بوعيد الكفار و وعد المؤمنين، و البرية الخلق، و المعنى ظاهر.
قوله تعالى: «إن الذين آمنوا و عملوا الصالحات أولئك هم خير البرية» فيه قصر الخيرية في المؤمنين الصالحين كما أن في الآية السابقة قصر الشرية في الكفار.
قوله تعالى: «جزاؤهم عند ربهم - إلى قوله - ذلك لمن خشي ربه» العدن الاستقرار و الثبات فجنات عدن جنات خلود و دوام و توصيفها بقوله: «خالدين فيها أبدا» تأكيد بما يدل عليه الاسم.
و قوله: «رضي الله عنهم» الرضى منه تعالى صفة فعل و مصداقه الثواب الذي أعطاهموه جزاء لإيمانهم و عملهم الصالح.
و قوله: «ذلك لمن خشي ربه» علامة مضروبة لسعادة الدار الآخرة و قد قال تعالى: «إنما يخشى الله من عباده العلماء»: فاطر: 28 فالعلم بالله يستتبع الخشية منه، و الخشية منه تستتبع الإيمان به بمعنى الالتزام القلبي بربوبيته و ألوهيته ثم العمل الصالح.
و اعلم أن لهم في تفسير مفردات هذه الآيات اختلافا شديدا و أقوالا كثيرة لا جدوى في التعرض لها من أراد الوقوف عليها فليراجع المطولات.
بحث روائي
في تفسير القمي، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: البينة محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله من أكرم الخلق على الله؟ قال: يا عائشة أ ما تقرئين «إن الذين آمنوا و عملوا الصالحات - أولئك هم خير البرية»؟ و فيه، أخرج ابن عساكر عن جابر بن عبد الله قال: كنا عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأقبل علي فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): و الذي نفسي بيده إن هذا و شيعته لهم الفائزون يوم القيامة و نزلت «إن الذين آمنوا و عملوا الصالحات - أولئك هم خير البرية» فكان أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا أقبل علي قالوا: جاء خير البرية.
أقول: و روي هذا المعنى أيضا عن ابن عدي عن ابن عباس، و أيضا عن ابن مردويه عن علي (عليه السلام) و رواه أيضا في البرهان، عن الموفق بن أحمد في كتاب المناقب عن يزيد بن شراحيل الأنصاري كاتب علي عنه، و كذا في المجمع، عن كتاب شواهد التنزيل للحاكم عن يزيد بن شراحيل عنه، و لفظه: سمعت عليا يقول: قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و أنا مسنده إلى صدري فقال: يا علي أ لم تسمع قول الله: «إن الذين آمنوا و عملوا الصالحات - أولئك هم خير البرية» هم شيعتك و موعدي و موعدكم الحوض إذا اجتمع الأمم للحساب يدعون غرا محجلين.
و في المجمع، عن مقاتل بن سليمان عن الضحاك عن ابن عباس في قوله: «هم خير البرية» قال: نزلت في علي و أهل بيته.
|