بيان
الكلام معطوف إلى ما في أول السورة من الآيات النازلة في أمر النساء من آيات الازدواج و التحريم و الإرث و غير ذلك، الذي يفيده السياق أن هذه الآيات إنما نزلت بعد تلك الآيات، و أن الناس كلموا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في أمر النساء حيثما نزلت آيات أول السورة فأحيت ما أماته الناس من حقوق النساء في الأموال و المعاشرات و غير ذلك.
فأمره الله سبحانه أن يجيبهم أن الذي قرره لهن على الرجال من الأحكام إنما هو فتيا إلهية ليس له في ذلك من الأمر شيء، و لا ذاك وحده بل ما يتلى عليهم في الكتاب في يتامى النساء أيضا حكم إلهي ليس لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيه شيء من الأمر، و لا ذاك وحده بل الله يأمرهم أن يقوموا في اليتامى بالقسط.
ثم ذكر شيئا من أحكام الاختلاف بين المرأة و بعلها يعم به البلوى.
قوله تعالى. «و يستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن» قال الراغب: الفتيا و الفتوى الجواب عما يشكل من الأحكام، و يقال: استفتيته فأفتاني بكذا انتهى.
و المحصل من موارد استعماله أنه جواب الإنسان عن الأمور المشكلة بما يراه باجتهاد من نظره أو هو نفس ما يراه فيما يشكل بحسب النظر البدائي الساذج كما يفيده نسبة الفتوى إليه تعالى.
و الآية و إن احتملت معاني شتى مختلفة بالنظر إلى ما ذكروه من مختلف الوجوه في تركيب ما يتلوها من قوله «و ما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء» إلخ إلا أن ضم الآية إلى الآيات الناظرة في أمر النساء في أول السورة يشهد بأن هذه الآية إنما نزلت بعد تلك.
و لازم ذلك أن يكون استفتاؤهم في النساء في عامة ما أحدثه الإسلام و أبدعه من أحكامهن مما لم يكن معهودا معروفا عندهم في الجاهلية و ليس إلا ما يتعلق بحقوق النساء في الإرث و الازدواج دون أحكام يتاماهن و غير ذلك مما يختص بطائفة منهن دون جميعهن فإن هذا المعنى إنما يتكفله قوله «و ما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء» إلخ فالاستفتاء إنما كان في ما يعم النساء بما هن نساء من أحكام الإرث.
و على هذا فالمراد بما أفتاه الله فيهن في قوله «قل الله يفتيكم فيهن» ما بينه تعالى في آيات أول السورة، و يفيد الكلام حينئذ إرجاع أمر الفتوى إلى الله سبحانه و صرفه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و المعنى: يسألونك أن تفتيهم في أمرهن قل: الفتوى إلى الله و قد أفتاكم فيهن بما أفتى فيما أنزل من آيات أول السورة.
قوله تعالى: «و ما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء - إلى قوله - و المستضعفين من الولدان» تقدم أن ظاهر السياق أن حكم يتامى النساء و المستضعفين من الولدان أنما تعرض له لاتصاله بحكم النساء كما وقع في آيات صدر السورة لا لكونه داخلا فيما استفتوا عنه و إنهم إنما استفتوا في النساء فحسب.
و لازمه أن يكون قوله «و ما يتلى عليكم»، معطوفا على الضمير المجرور في قوله «فيهن» على ما جوزه الفراء و إن منع عنه جمهور النحاة، و على هذا يكون المراد من قوله «ما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء» إلخ الأحكام و المعاني التي تتضمنها الآيات النازلة في يتامى النساء و الولدان، المودعة في أول السورة.
و التلاوة كما يطلق على اللفظ يطلق على المعنى إذا كان تحت اللفظ، و المعنى: قل الله يفتيكم في الأحكام التي تتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء.
و ربما يظهر من بعضهم أنه يعطف قوله «و ما يتلى عليكم»، على موضع قوله «فيهن» بعناية أن المراد بالإفتاء هو التبيين، و المعنى: قل الله يبين لكم ما يتلى عليكم في الكتاب.
و ربما ذكروا للكلام تراكيب أخر لا تخلو عن تعسف لا يرتكب في كلامه تعالى مثله كقول بعضهم: إن قوله «و ما يتلى عليكم» معطوف على موضع اسم الجلالة في قوله «قل الله»، أو على ضمير المستكن في قوله «يفتيكم»، و قول بعضهم: إنه معطوف على «النساء» في قوله «في النساء»، و قول بعضهم: إن الواو في قوله «و ما يتلى عليكم في الكتاب» للاستيناف، و الجملة مستأنفة، و ما يتلى عليكم» مبتدأ خبره قوله «في الكتاب» و الكلام مسوق للتعظيم، و قول بعضهم إن الواو في قوله «و ما يتلى عليكم» للقسم و يكون قوله في يتامى النساء» بدلا من قوله «فيهن» و المعنى: قل الله يفتيكم - أقسم بما يتلى عليكم في الكتاب - في يتامى النساء إلخ و لا يخفى ما في جميع هذه الوجوه من التعسف الظاهر.
و أما قوله «اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن و ترغبون أن تنكحوهن» فوصف ليتامى النساء، و فيه إشارة إلى نوع حرمانهن، الذي هو السبب لتشريع ما شرع الله تعالى لهن من الأحكام فألغى السنة الجائرة الجارية عليهن، و رفع الحرج بذلك عنهن، و ذلك أنهم كانوا يأخذون إليهم يتامى النساء و أموالهن فإن كانت ذات جمال و حسن تزوجوا بها فاستمتعوا من جمالها و مالها، و إن كانت شوهاء دميمة لم يتزوجوا بها و عضلوها عن التزوج بالغير طمعا في مالها.
و من هنا يظهر أولا.
أن المراد بقوله «ما كتب لهن» هو الكتابة التكوينية و هو التقدير الإلهي فإن الصنع و الإيجاد هو الذي يخد للإنسان سبيل الحياة فيعين له أن يتزوج إذا بلغ مبلغه، و أن يتصرف حرا في ماله من المال و القنية، فمنعه من الازدواج و التصرف في مال نفسه منع له مما كتب الله له في خلقه هذه الخلقة.
و ثانيا: أن الجار المحذوف في قوله «أن تنكحوهن» هو لفظة «عن» و المراد الراغبة عن نكاحهن، و الإعراض عنهن لا الرغبة في نكاحهن فإن التعرض لذكر الرغبة عنهن هو الأنسب للإشارة إلى حرمانهن على ما يدل عليه قوله قبله «لا تؤتونهن ما كتب لهن»، و قوله بعده «و المستضعفين من الولدان».
و أما قوله «و المستضعفين من الولدان» فمعطوف على قوله «يتامى النساء» و قد كانوا يستضعفون الولدان من اليتامى، و يحرمونهم من الإرث معتذرين بأنهم لا يركبون الخيل، و لا يدفعون عن الحريم.
قوله تعالى: «و أن تقوموا لليتامى بالقسط» معطوف على محل قوله «فيهن» و المعنى: قل الله يفتيكم أن تقوموا لليتامى بالقسط، و هذا بمنزلة الإضراب عن الحكم الخاص إلى ما هو أعم منه أعني الانتقال من حكم بعض يتامى النساء و الولدان إلى حكم مطلق اليتيم في ماله و غير ماله.
قوله تعالى: «و ما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما» تذكرة لهم بأن ما عزم الله عليهم في النساء و في اليتامى من الأحكام فيه خيرهم، و أن الله عليم به لتكون ترغيبا لهم في العمل به لأن خيرهم فيه، و تحذيرا عن مخالفته لأن الله عليم بما يعملون.
قوله تعالى: «و إن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا»، حكم خارج عما استفتوا فيه لكنه متصل به بالمناسبة نظير الحكم المذكور في الآية التالية «و لن تستطيعوا أن تعدلوا».
و إنما اعتبر خوف النشوز و الإعراض دون نفس تحققهما لأن الصلح يتحقق موضوعه من حين تحقق العلائم و الآثار المعقبة للخوف، و السياق يدل على أن المراد بالصلح هو الصلح بغض المرأة عن بعض حقوقها في الزوجية أو جميعها لجلب الأنس و الألفة و الموافقة، و التحفظ عن وقوع المفارقة، و الصلح خير.
و قوله، و أحضرت الأنفس الشح» الشح هو البخل، معناه: أن الشح من الغرائز النفسانية التي جبلها الله عليها لتحفظ به منافعها، و تصونها عن الضيعة، فما لكل نفس من الشح هو حاضر عندها، فالمرأة تبخل بما لها من الحقوق في الزوجية كالكسوة و النفقة و الفراش و الوقاع، و الرجل يبخل بالموافقة و الميل إذا أحب المفارقة، و كره المعاشرة، و لا جناح عليهما حينئذ أن يصلحا ما بينهما بإغماض أحدهما أو كليهما عن بعض حقوقه.
ثم قال تعالى: «و إن تحسنوا و تتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا» و هو موعظة للرجال أن لا يتعدوا طريق الإحسان و التقوى و ليتذكروا أن الله خبير بما يعملونه، و لا يحيفوا في المعاشرة، و لا يكرهوهن على إلغاء حقوقهن الحقة و إن كان لهن ذلك.
قوله تعالى: «و لن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء و لو حرصتم» بيان الحكم العدل بين النساء الذي شرع لهن على الرجال في قوله تعالى في أول السورة «و إن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة»: النساء: 3 و كذا يومىء إليه قوله في الآية السابقة «و إن تحسنوا و تتقوا» إلخ فإنه لا يخلو من شوب تهديد، و هو يوجب الحيرة في تشخيص حقيقة العدل بينهن، و العدل هو الوسط بين الإفراط و التفريط، و من الصعب المستصعب تشخيصه، و خاصة من حيث تعلق القلوب تعلق الحب بهن فإن الحب القلبي مما لا يتطرق إليه الاختيار دائما.
فبين تعالى أن العدل بين النساء بحقيقة معناه، و هو اتخاذ حاق الوسط حقيقة مما لا يستطاع للإنسان و لو حرص عليه، و إنما الذي يجب على الرجل أن لا يميل كل الميل إلى أحد الطرفين و خاصة طرف التفريط فيذر المرأة كالمعلقة لا هي ذات زوج فتستفيد من زوجها، و لا هي أرملة فتتزوج أو تذهب لشأنها.
فالواجب على الرجل من العدل بين النساء أن يسوي بينهن عملا بإيتائهن حقوقهن من غير تطرف، و المندوب عليه أن يحسن إليهن و لا يظهر الكراهة لمعاشرتهن و لا يسيء إليهن خلقا، و كذا كانت سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
و هذا الذيل أعني قوله «فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة» هو الدليل على أن ليس المراد بقوله «و لن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء و لو حرصتم» نفى مطلق العدل حتى ينتج بانضمامه إلى قوله تعالى «و إن خفتم ألا تعدلوا فواحدة» الآية إلغاء تعدد الأزواج في الإسلام كما قيل.
و ذلك أن الذيل يدل على أن المنفي هو العدل الحقيقي الواقعي من غير تطرف أصلا بلزوم حاق الوسط حقيقة، و أن المشرع هو العدل التقريبي عملا من غير تحرج.
على أن السنة النبوية و رواج الأمر بمرأى و مسمع من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و السيرة المتصلة بين المسلمين يدفع هذا التوهم.
على أن صرف قوله تعالى في أول آية تعدد الأزواج «فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى و ثلاث و رباع»: النساء: 3 إلى مجرد الفرض العقلي الخالي عن المصداق ليس إلا تعمية يجل عنها كلامه سبحانه.
ثم قوله «و إن تصلحوا و تتقوا فإن الله كان غفورا رحيما» تأكيد و ترغيب للرجال في الإصلاح عند بروز أمارات الكراهة و الخلاف ببيان أنه من التقوى، و التقوى يستتبع المغفرة و الرحمة، و هذا بعد قوله «و الصلح خير»، و قوله «و إن تحسنوا و تتقوا»، تأكيد على تأكيد.
قوله تعالى: «و إن يتفرقا يغن الله كلا من سعته»، أي و إن تفرق الرجل و المرأة بطلاق يغن الله كلا منهما بسعته، و الإغناء بقرينة المقام إغناء في جميع ما يتعلق بالازدواج من الايتلاف و الاستيناس و المس و كسوة الزوجة و نفقتها فإن الله لم يخلق أحد هذين الزوجين للآخر حتى لو تفرقا لم يوجد للواحد منهما زوج مدى حياته بل هذه السنة سنة فطرية فاشية بين أفراد هذا النوع يميل إليها كل فرد بحسب فطرته.
و قوله «و كان الله واسعا حكيما و لله ما في السموات و ما في الأرض» تعليل للحكم المذكور في قوله «يغن الله كلا من سعته».
قوله تعالى: «و لقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم و إياكم أن اتقوا الله»، تأكيد في دعوتهم إلى مراعاة صفة التقوى في جميع مراحل المعاشرة الزوجية، و في كل حال، و أن في تركه كفرا بنعمة الله بناء على أن التقوى الذي يحصل بطاعة الله ليس إلا شكرا لأنعمه، أو أن ترك تقوى الله تعالى لا منشأ له إلا الكفر إما كفر ظاهر كما في الكفار و المشركين، أو كفر مستكن مستبطن كما في الفساق من المؤمنين.
و بهذا الذي بيناه يظهر معنى قوله «و إن تكفروا فإن لله ما في السموات و ما في الأرض»، أي إن لم تحفظوا ما وصينا به إياكم و الذين من قبلكم و أضعتم هذه الوصية و لم تتقوا و هو كفر بالله، أو عن كفر بالله فإن ذلك لا يضر الله سبحانه إذ لا حاجة له إليكم و إلى تقواكم، و له ما في السماوات و الأرض، و كان الله غنيا حميدا.
فإن قلت: ما وجه تكرار قوله «لله ما في السموات و ما في الأرض»؟ فقد أورد ثلاث مرات.
قلت: أما الأول فإنه تعليل لقوله «و كان الله واسعا حكيما»، و أما الثاني فإنه واقع موقع جواب الشرط في قوله «و إن تكفروا»، و التقدير: و إن تكفروا فإنه غني عنكم، و تعليل للجواب و قد ظهر في قوله «و كان الله غنيا حميدا».
و أما الثالث فإنه استيناف و تعليل بوجه لقوله «إن يشأ».
قوله تعالى: «و لله ما في السموات و ما في الأرض و كفى بالله وكيلا» قد مر بيان معنى ملكه تعالى مكررا، و هو تعالى وكيل يقوم بأمور عباده و شئونهم و كفى به وكيلا لا يحتاج فيه إلى اعتضاد و إسعاد، فلو لم يرتض أعمال قوم و أسخطه جريان الأمر بأيديهم أمكنه أن يذهب بهم و يأتي بآخرين، أو يؤخرهم و يقدم آخرين، و بهذا المعنى الذي يؤيده بل يدل عليه السياق يرتبط بما في هذه الآية قوله في الآية التالية «إن يشأ يذهبكم أيها الناس.
قوله تعالى: «إن يشأ يذهبكم أيها الناس و يأت بآخرين، السياق و هو الدعوة إلى ملازمة التقوى الذي أوصى الله به هذه الأمة و من قبلهم من أهل الكتاب يدل على أن إظهار الاستغناء و عدم الحاجة المدلول عليه بقوله «إن يشأ»، إنما هو في أمر التقوى.
و المعنى أن الله وصاكم جميعا بملازمة التقوى فاتقوه، و إن كفرتم فإنه غني عنكم و هو المالك لكل شيء المتصرف فيه كيفما شاء و لما شاء إن يشأ أن يعبد و يتقى و لم تقوموا بذلك حق القيام فهو قادر أن يؤخركم و يقدم آخرين يقومون لما يحبه و يرتضيه، و كان الله على ذلك قديرا.
و على هذا فالآية ناظرة إلى تبديل الناس إن كانوا غير متقين بآخرين من الناس يتقون الله، و قد روي أن الآية لما نزلت ضرب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يده على ظهر سلمان و قال: إنهم قوم هذا.
و هو يؤيد هذا المعنى، و عليك بالتدبر فيه.
و أما ما احتمله بعض المفسرين.
أن المعنى: إن يشأ يفنكم و يوجد قوما آخرين مكانكم أو خلقا آخرين مكان الإنس، فمعنى بعيد عن السياق.
نعم، لا بأس به في مثل قوله تعالى: «أ لم تر أن الله خلق السموات و الأرض بالحق إن يشأ يذهبكم و يأت بخلق جديد و ما ذلك على الله بعزيز»: إبراهيم: 20.
قوله تعالى: «من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا و الآخرة و كان الله سميعا بصيرا» بيان آخر يوضح خطأ من يترك تقوى الله و يضيع وصيته بأنه إن فعل ذلك ابتغاء ثواب الدنيا و مغنمها فقد اشتبه عليه الأمر فإن ثواب الدنيا و الآخرة معا عند الله و بيده، فما له يقصر نظره بأخس الأمرين و لا يطلب أشرفهما أو إياهما جميعا؟ كذا قيل.
و الأظهر أن يكون المراد - و الله أعلم - أن ثواب الدنيا و الآخرة و سعادتهما معا إنما هو عند الله سبحانه فليتقرب إليه حتى من أراد ثواب الدنيا و سعادتها فإن السعادة لا توجد للإنسان في غير تقوى الله الحاصل بدينه الذي شرعه له فليس الدين إلا طريق السعادة الحقيقية، فكيف ينال نائل ثوابا من غير إيتائه تعالى و إفاضته من عنده و كان الله سميعا بصيرا.
بحث روائي
في الدر المنثور، أخرج ابن جرير و ابن المنذر عن سعيد بن جبير قال: كان لا يرث إلا الرجل الذي قد بلغ أن يقوم في المال و يعمل فيه، لا يرث الصغير و لا المرأة شيئا فلما نزلت المواريث في سورة النساء شق ذلك على الناس و قالوا: أ يرث الصغير الذي لا يقوم في المال، و المرأة التي هي كذلك فيرثان كما يرث الرجل؟ فرجوا أن يأتي في ذلك حدث من السماء فانتظروا فلما رأوا أنه لا يأتي حدث قالوا لئن تم هذا إنه لواجب ما عنه بد، ثم قالوا: سلوا فسألوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأنزل الله «و يستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن - و ما يتلى عليكم في الكتاب - في أول السورة في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن - و ترغبون أن تنكحوهن» الحديث.
و فيه: أخرج عبد بن حميد و ابن جرير عن إبراهيم في الآية قال: كانوا إذا كانت الجارية يتيمة دميمة لم يعطوها ميراثها، و حبسوها من التزويج حتى تموت فيرثوها فأنزل الله هذا.
أقول: و هذه المعاني مروية بطرق كثيرة من طرق الشيعة و أهل السنة، و قد مر بعضها في أوائل السورة.
و في المجمع،: في قوله تعالى «لا تؤتونهن ما كتب لهن» الآية. ما كتب لهن من الميراث: قال: و هو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام): و في تفسير القمي،: في قوله تعالى «و إن امرأة خافت من بعلها نشوزا»» الآية: نزلت في بنت محمد بن مسلمة كانت امرأة رافع بن خديج، و كانت امرأة قد دخلت في السن، و تزوج عليها امرأة شابة و كانت أعجب إليه من بنت محمد بن مسلمة فقالت له بنت محمد بن مسلمة: أ لا أراك معرضا عني مؤثرا علي؟ فقال رافع: هي امرأة شابة، و هي أعجب إلي فإن شئت أقررت على أن لها يومين أو ثلاثا مني و لك يوم واحد فأبت بنت محمد بن مسلمة أن ترضى فطلقها تطليقة ثم طلقها أخرى فقالت: لا و الله لا أرضى أو تسوي بيني و بينها يقول الله: «و أحضرت الأنفس الشح» و ابنة محمد لم تطلب نفسها بنصيبها، و شحت عليه، فأعرض عليها رافع إما أن ترضى، و إما أن يطلقها الثالثة فشحت على زوجها و رضيت فصالحته على ما ذكرت فقال الله: و لا جناح عليها أن يصلحا بينهما صلحا و الصلح خير» فلما رضيت و استقرت لم يستطع أن يعدل بينهما فنزلت. «و لن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء و لو حرصتم - فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة» أن يأتي واحدة، و يذر الأخرى لا أيم و لا ذات بعل و هذه السنة فيما كان كذلك إذا أقرت المرأة و رضيت على ما صالحها عليه زوجها، فلا جناح على الزوج و لا على المرأة، و إن أبت هي طلقها أو تساوى بينهما لا يسعه إلا ذلك: أقول: و رواها في الدر المنثور، عن مالك و عبد الرزاق و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و الحاكم و صححه باختصار. و في الدر المنثور: أخرج الطيالسي و ابن أبي شيبة و ابن راهويه و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و البيهقي عن علي بن أبي طالب: أنه سئل عن هذه الآية فقال: هو الرجل عنده امرأتان فتكون إحداهما قد عجزت أو تكون دميمة فيريد فراقها فتصالحه على أن يكون عندها ليلة و عند الأخرى ليالي و لا يفارقها، فما طابت به نفسها فلا بأس به فإن رجعت سوى بينهما. و في الكافي، بإسناده عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله عز و جل «و إن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا» فقال: هي المرأة تكون عند الرجل فيكرهها فيقول لها: إني أريد أن أطلقك. فتقول له: لا تفعل إني أكره أن تشمت بي و لكن انظر في ليلتي فاصنع بها ما شئت، و ما كان سوى ذلك من شيء فهو لك، و دعني على حالتي فهو قوله تبارك و تعالى «فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا و هذا هو الصلح. أقول: و في هذا المعنى روايات أخر رواها في الكافي، و في تفسير العياشي.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى «و أحضرت الأنفس الشح» قال: قال: أحضرت الشح فمنها ما اختارته، و منها ما لم تختره. و في تفسير العياشي، عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله «و لن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء و لو حرصتم» قال: في المودة. و في الكافي، بإسناده عن نوح بن شعيب و محمد بن الحسن قال: سأل ابن أبي العوجاء هشام بن الحكم، قال له. أ ليس الله حكيما؟ قال: بلى هو أحكم الحاكمين. قال: فأخبرني عن قوله «فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى و ثلاث و رباع - فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة» أ ليس هذا فرض؟ قال: بلى، قال: فأخبرني عن قوله «و لن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء و لو حرصتم - فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة» أي حكيم يتكلم بهذا؟ فلم يكن عنده جواب. فرحل إلى المدينة إلى أبي عبد الله (عليه السلام)، فقال: في غير وقت حج و لا عمرة، قال: نعم جعلت فداك لأمر أهمني إن ابن أبي العوجاء سألني عن مسألة لم يكن عندي فيها شيء، قال: و ما هي؟ قال: فأخبره بالقصة. فقال له أبو عبد الله (عليه السلام) أما قوله عز و جل «فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى و ثلاث و رباع - فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة»» يعني في النفقة، و أما قوله «و لن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء و لو حرصتم - فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة» يعني في المودة. قال. فلما قدم عليه هشام بهذا الجواب و أخبره قال: و الله ما هذا من عندك أقول: و روي أيضا نظير الحديث عن القمي،: أنه سأل بعض الزنادقة أبا جعفر الأحول عن المسألة بعينها فسافر إلى المدينة فسأل أبا عبد الله (عليه السلام) عنها، فأجابه بمثل الجواب فرجع أبو جعفر إلى الرجل فأخبره فقال هذا حملته من الحجاز. و في المجمع،: في قوله تعالى «فتذروها كالمعلقة» أي تذرون التي لا تميلون إليها كالتي هي لا ذات زوج و لا أيم: قال: و هو المروي عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام): و فيه، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أنه كان يقسم بين نسائه و يقول: اللهم هذه قسمتي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك و لا أملك. أقول: و رواه الجمهور بعدة طرق - و المراد بقوله «ما تملك و لا أملك» المحبة القلبية لكن الرواية لا تخلو عن شيء فإن الله أجل من أن يلوم أحدا في ما لا يملكه أصلا و قد قال تعالى.
«لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها»: الطلاق: 7. و النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أعرف بمقام ربه من أن يسأله أن يوجد ما هو موجود.
و في الكافي، مسندا عن ابن أبي ليلى قال: حدثني عاصم بن حميد قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) فأتاه رجل فشكا إليه الحاجة فأمره بالتزويج قال: فاشتدت به الحاجة فأتى أبا عبد الله (عليه السلام) فسأله عن حاله فقال: اشتدت بي الحاجة قال: فارق. ففارق قال: ثم أتاه فسأله عن حاله فقال: أثريت و حسن حالي فقال أبو عبد الله (عليه السلام): إني أمرتك بأمرين أمر الله بهما قال الله عز و جل: «و أنكحوا الأيامى منكم و الصالحين من عبادكم و إمائكم إلى قوله - و الله واسع عليم» و قال: «و إن يتفرقا يغن الله كلا من سعته».
|