بيان
توبيخ شديد للناس على تلهيهم بالتكاثر في الأموال و الأولاد و الأعضاء و غفلتهم عما وراءه من تبعة الخسران و العذاب، و تهديد بأنهم سوف يعلمون و يرون ذلك و يسألون عن هذه النعم التي أوتوها ليشكروا فتلهوا بها و بدلوا نعمة الله كفرا.
و السورة بما لها من السياق تحتمل المكية و المدنية، و سيأتي ما ورد في سبب نزولها في البحث الروائي إن شاء الله.
قوله تعالى: «ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر» قال في المفردات،: اللهو ما يشغل الإنسان عما يعنيه و يهمه.
قال، و يقال: ألهاه كذا أي شغله عما هو أهم إليه، قال تعالى: «ألهاكم التكاثر» انتهى.
و قال: و المكاثرة و التكاثر التباري في كثرة المال و العز، انتهى.
و قال: المقبرة بكسر الميم - و المقبرة - بفتحها - موضع القبور و جمعها مقابر، قال تعالى: «حتى زرتم المقابر» كناية عن الموت، انتهى.
فالمعنى على ما يعطيه السياق شغلكم التكاثر في متاع الدنيا و زينتها و التسابق في تكثير العدة و العدة عما يهمكم و هو ذكر الله حتى لقيتم الموت فعمتكم الغفلة مدى حياتكم.
و قيل: المعنى شغلكم التباهي و التباري بكثرة الرجال بأن يقول هؤلاء: نحن أكثر رجالا، و هؤلاء: نحن أكثر حتى إذا استوعبتم عدد الأحياء صرتم إلى القبور فعددتم الأموات من رجالكم فتكاثرتم بأمواتكم.
و هذا المعنى مبني على ما ورد في أسباب النزول أن قبيلتين من الأنصار تفاخرتا بالأحياء ثم بالأموات، و في بعضها أن ذلك كان بمكة بين بني عبد مناف و بني سهم فنزلت السورة، و سيأتي القصة في البحث الروائي.
قوله تعالى: «كلا سوف تعلمون» ردع عن اشتغالهم بما لا يهمهم عما يعنيهم و تخطئة لهم، و قوله: «سوف تعلمون» تهديد معناه على ما يفيده المقام سوف تعلمون تبعة تلهيكم هذا و تعرفونها إذا انقطعتم عن الحياة الدنيا.
قوله تعالى: «ثم كلا سوف تعلمون» تأكيد للردع و التهديد السابقين، و قيل: المراد بالأول علمهم بها عند الموت و بالثاني علمهم بها عند البعث.
قوله تعالى: «كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم» ردع بعد ردع تأكيدا و اليقين العلم الذي لا يداخله شك و ريب.
و قوله: «لو تعلمون علم اليقين» جواب لو محذوف و التقدير لو تعلمون الأمر علم اليقين لشغلكم ما تعلمون عن التباهي و التفاخر بالكثرة، و قوله: «لترون الجحيم» استئناف في الكلام، و اللام للقسم، و المعنى أقسم لترون الجحيم التي جزاء هذا التلهي كذا فسروا.
قالوا: و لا يجوز أن يكون قوله: «لترون الجحيم» جواب لو الامتناعية لأن الرؤية محقق الوقوع و جوابها لا يكون كذلك.
و هذا مبني على أن يكون المراد رؤية الجحيم يوم القيامة كما قال: «و برزت الجحيم لمن يرى»: النازعات: 36 و هو غير مسلم بل الظاهر أن المراد رؤيتها قبل يوم القيامة رؤية البصيرة و هي رؤية القلب التي هي من آثار اليقين على ما يشير إليه، قوله تعالى: «و كذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات و الأرض و ليكون من الموقنين»: الأنعام: 75، و قد تقدم الكلام فيها، و هذه الرؤية القلبية قبل يوم القيامة غير محققة لهؤلاء المتلهين بل ممتنعة في حقهم لامتناع اليقين عليهم.
قوله تعالى: «ثم لترونها عين اليقين» المراد بعين اليقين نفسه، و المعنى لترونها محض اليقين، و هذه بمشاهدتها يوم القيامة، و من الدليل عليه قوله بعد ذلك «ثم لتسألن يومئذ عن النعيم» فالمراد بالرؤية الأولى رؤيتها قبل يوم القيامة و بالثانية رؤيتها يوم القيامة.
و قيل: الأولى قبل الدخول فيها يوم القيامة و الثانية إذ دخلوها.
و قيل: الأولى بالمعرفة و الثانية بالمشاهدة، و قيل: المراد الرؤية بعد الرؤية إشارة إلى الاستمرار و الخلود، و قيل غير ذلك و هي وجوه ضعيفة.
قوله تعالى: «ثم لتسألن يومئذ عن النعيم» ظاهر السياق أن هذا الخطاب و كذلك الخطابات المتقدمة في السورة للناس بما أن فيهم من اشتغل بنعمة ربه عن ربه فأنساه التكاثر فيها عن ذكر الله، و ما في السورة من التوبيخ و التهديد متوجه إلى عامة الناس ظاهرا واقع على طائفة خاصة منهم حقيقة و هم الذين ألهاهم التكاثر.
و كذا ظاهر السياق أن المراد بالنعيم مطلقة و هو كل ما يصدق عليه أنه نعمة فالإنسان مسئول عن كل نعمة أنعم الله بها عليه.
و ذلك أن النعمة - و هي الأمر الذي يلائم المنعم عليه و يتضمن له نوعا من الخير و النفع - إنما تكون نعمة بالنسبة إلى المنعم عليه إذا استعملها بحيث يسعد بها فينتفع و أما لو استعملها على خلاف ذلك كانت نقمة بالنسبة إليه و إن كانت نعمة بالنظر إلى نفسها.
و قد خلق الله تعالى الإنسان و جعل غاية خلقته التي هي سعادته و منتهى كماله التقرب العبودي إليه كما قال: «و ما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون»: الذاريات 56 و هي الولاية الإلهية لعبده، و قد هيأ الله سبحانه له كل ما يسعد و ينتفع به في سلوكه نحو الغاية التي خلق لها و هي النعم فأسبغ عليه نعمه ظاهرة و باطنة.
فاستعمال هذه النعم على نحو يرتضيه الله و ينتهي بالإنسان إلى غايته المطلوبة هو الطريق إلى بلوغ الغاية و هو الطاعة، و استعمالها بالجمود عليها و نسيان ما وراءها غي و ضلال و انقطاع عن الغاية و هو المعصية، و قد قضى سبحانه قضاء لا يرد و لا يبدل أن يرجع الإنسان إليه فيسأله عن عمله فيحاسبه و يجزيه، و عمله هو استعماله للنعم الإلهية قال تعالى: «و أن ليس للإنسان إلا ما سعى و أن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى و أن إلى ربك المنتهى»: النجم: 42، فالسؤال عن عمل العبد سؤال عن النعيم كيف استعمله أ شكر النعمة أم كفر بها.
بحث روائي
في المجمع، قيل: نزلت في اليهود قالوا: نحن أكثر من بني فلان، و بنو فلان أكثر من بني فلان ألهاهم ذلك حتى ماتوا ضلالا: عن قتادة.
و قيل: نزلت في فخذ من الأنصار تفاخروا: عن أبي بريدة، و قيل: نزلت في حيين من قريش: بني عبد مناف بن قصي و بني سهم بن عمر و تكاثروا و عدوا أشرافهم فكثرهم بنو عبد مناف. ثم قالوا: نعد موتانا حتى زاروا القبور فعدوهم و قالوا: هذا قبر فلان و هذا قبر فلان فكثرهم بنو سهم لأنهم كانوا أكثر عددا في الجاهلية: عن مقاتل و الكلبي.
و في تفسير البرهان، عن البرقي عن أبيه عن ابن أبي عمير عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله تعالى: «لو تعلمون علم اليقين» قال: المعاينة.
أقول: الرواية تؤيد ما قدمناه من المعنى.
و في تفسير القمي، بإسناده عن جميل عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: «لتسألن يومئذ عن النعيم» قال: تسأل هذه الأمة عما أنعم الله عليها برسوله ثم بأهل بيته.
و في الكافي، بإسناده عن أبي خالد الكابلي قال: دخلت على أبي جعفر (عليه السلام) فدعا بالغذاء فأكلت معه طعاما ما أكلت طعاما أطيب منه قط و لا ألطف فلما فرغنا من الطعام قال: يا أبا خالد كيف رأيت طعامك؟ أو قال: طعامنا؟ قلت: جعلت فداك ما أكلت طعاما أطيب منه قط و لا أنظف و لكن ذكرت الآية التي في كتاب الله عز و جل «ثم لتسألن يومئذ عن النعيم» فقال أبو جعفر (عليه السلام): إنما يسألكم عما أنتم عليه من الحق.
و فيه، بإسناده عن أبي حمزة قال: كنا عند أبي عبد الله (عليه السلام) جماعة فدعا بطعام ما لنا عهد بمثله لذاذة و طيبا و أتينا بتمر تنظر فيه أوجهنا من صفائه و حسنه فقال رجل: لتسألن عن هذا النعيم الذي تنعمتم به عند ابن رسول الله فقال أبو عبد الله إن الله عز و جل أكرم و أجل أن يطعم طعاما فيسوغكموه ثم نسألكم عنه إنما يسألكم عما أنعم عليكم بمحمد و آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).
أقول: و هذا المعنى مروي عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) بطرق أخرى و عبارات مختلفة و في بعضها أن النعيم ولايتنا أهل البيت، و يئول المعنى إلى ما قدمناه من عموم النعيم لكل نعمة أنعم الله بها بما أنها نعمة.
بيان ذلك أن هذه النعم لو سئل عن شيء منها فليست يسأل عنها بما أنها لحم أو خبز أو تمر أو ماء بارد أو أنها سمع أو بصر أو يد أو رجل مثلا و إنما يسأل عنها بما أنها نعمة خلقها الله للإنسان و أوقعها في طريق كماله و الحصول على التقرب العبودي كما تقدمت الإشارة إليه و ندبه إلى أن يستعملها شكرا لا كفرا.
فالمسئول عنها هي النعمة بما أنها نعمة، و من المعلوم أن الدال على نعيمية النعيم و كيفية استعماله شكرا و المبين لذلك كله هو الدين الذي جاء به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و نصب لبيانه الأئمة من أهل بيته فالسؤال عن النعيم مرجعه السؤال عن العمل بالدين في كل حركة و سكون و من المعلوم أيضا أن السؤال عن النعيم الذي هو الدين سؤال عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و الأئمة من بعده الذين افترض الله طاعتهم و أوجب اتباعهم في السلوك إلى الله الذي طريقه استعمال النعم كما بينه الرسول و الأئمة.
و إلى كون السؤال عن النعيم سؤالا عن الدين يشير ما في رواية أبي خالد من قوله: «إنما يسألكم عما أنتم عليه من الحق».
و إلى كونه سؤالا عن النعيم الذي هو النبي و أهل بيته يشير ما في روايتي جميل و أبي حمزة السابقتين من قوله: «يسأل هذه الأمة عما أنعم الله عليها برسوله ثم بأهل بيته» أو ما في معناه، و في بعض الروايات: «النعيم هو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنعم الله به على أهل العالم فاستنقذهم من الضلالة»، و في بعضها: أن النعيم ولايتنا أهل البيت، و المال واحد و من ولاية أهل البيت افتراض طاعتهم و اتباعهم فيما يسلكونه من طريق العبودية.
و في المجمع، و قيل: النعيم الصحة و الفراغ: عن عكرمة، و يعضده ما رواه ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة و الفراغ.
و فيه، و قيل: هو يعني النعيم الأمن و الصحة: عن عبد الله بن مسعود و مجاهد، و روي ذلك عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام).
أقول: و في روايات أخرى من طرق أهل السنة أن النعيم هو التمر و الماء البارد و في بعضها غيرهما، و ينبغي أن يحمل الجميع على إيراد المثال.
و في الحديث النبوي من طرقهم أيضا:، ثلاث لا يسأل عنها العبد: خرقة يواري بها عورته أو كسرة يسد بها جوعته أو بيت يكنه من الحر و البرد. الحديث، و ينبغي أن يحمل على خفة الحساب في الضروريات و نفي المناقشة فيه و الله أعلم.
|