بيان
تأكيد إيجاب صلاة الجمعة و تحريم البيع عند حضورها و فيها عتاب لمن انفض إلى اللهو و التجارة عند ذلك و استهجان لفعلهم.
قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلوة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله و ذروا البيع» إلخ، المراد بالنداء للصلاة من يوم الجمعة الأذان كما في قوله: «و إذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا و لعبا»: المائدة: 58.
و الجمعة بضمتين أو بالضم فالسكون أحد أيام الأسبوع و كان يسمى أولا يوم العروبة ثم غلب عليه اسم الجمعة، و المراد بالصلاة من يوم الجمعة صلاة الجمعة المشرعة يومها، و السعي هو المشي بالإسراع، و المراد بذكر الله الصلاة كما في قوله: «و لذكر الله أكبر»: العنكبوت: 45، على ما قيل و قيل: المراد به الخطبة قبل الصلاة و قوله: «و ذروا البيع» أمر بتركه، و المراد به على ما يفيده السياق النهي عن الاشتغال بكل عمل يشغل عن صلاة الجمعة سواء كان بيعا أو غيره و إنما علق النهي بالبيع لكونه من أظهر مصاديق ما يشغل عن الصلاة.
و المعنى: يا أيها الذين آمنوا إذا أذن لصلاة الجمعة يومها فجدوا في المشي إلى الصلاة و اتركوا البيع و كل ما يشغلكم عنها.
و قوله: «ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون» حث و تحريض لهم لما أمر به من الصلاة و ترك البيع.
قوله تعالى: «فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض و ابتغوا من فضل الله» إلخ، المراد بقضاء الصلاة إقامة صلاة الجمعة، و الانتشار في الأرض التفرق فيها، و ابتغاء فضل الله طلب الرزق نظرا إلى مقابلته ترك البيع في الآية السابقة لكن تقدم أن المراد ترك كل ما يشغل عن صلاة الجمعة، و على هذا فابتغاء فضل الله طلب مطلق عطيته في التفرق لطلب رزقه بالبيع و الشري، و طلب ثوابه بعيادة مريض و السعي في حاجة مسلم و زيارة أخ في الله، و حضور مجلس علم و نحو ذلك.
و قوله: «فانتشروا في الأرض» أمر واقع بعد الحظر فيفيد الجواز و الإباحة دون الوجوب و كذا قوله: «و ابتغوا، و اذكروا».
و قوله: «و اذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون» المراد بالذكر أعم من الذكر اللفظي فيشمل ذكره تعالى قلبا بالتوجه إليه باطنا، و الفلاح النجاة من كل شقاء، و هو في المورد بالنظر إلى ما تقدم من حديث التزكية و التعليم و ما في الآية التالية من التوبيخ و العتاب الشديد، الزكاة و العلم و ذلك أن كثرة الذكر يفيد رسوخ المعنى المذكور في النفس و انتقاشه في الذهن فتنقطع به منابت الغفلة و يورث التقوى الديني الذي هو مظنة الفلاح قال تعالى: «و اتقوا الله لعلكم تفلحون»: آل عمران: 200.
قوله تعالى: «و إذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها و تركوك قائما» إلخ، الانفضاض - على ما ذكره الراغب - استعارة عن الانفضاض بمعنى انكسار الشيء و تفرق بعضه من بعض.
و قد اتفقت روايات الشيعة و أهل السنة على أنه ورد المدينة عير معها تجارة و ذلك يوم الجمعة و النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قائم يخطب فضربوا بالطبل و الدف لإعلام الناس فانفض أهل المسجد إليهم و تركوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قائما يخطب فنزلت الآية.
فالمراد باللهو استعمال المعازف و آلات الطرب ليجتمع الناس للتجارة، و ضمير «إليها» راجع إلى التجارة لأنها كانت المقصودة في نفسها و اللهو مقصود لأجلها، و قيل: الضمير لأحدهما كأنه قيل: انفضوا إليه و انفضوا إليها و ذلك أن كلا منهما سبب لانفضاض الناس إليه و تجمعهم عليه، و لذا ردد بينهما و قال: «تجارة أو لهوا» و لم يقل: تجارة و لهوا و الضمير يصلح للرجوع إلى كل منهما لأن اللهو في الأصل مصدر يجوز فيه الوجهان التذكير و التأنيث.
و لذا أيضا عد «ما عند الله» خيرا من كل منهما بحياله فقال: «من اللهو و من التجارة» و لم يقل: من اللهو و التجارة.
و قوله: «قل ما عند الله خير من اللهو و من التجارة و الله خير الرازقين» أمر للنبي أن ينبههم على خطئهم فيما فعلوا - و ما أفظعه - و المراد بما عند الله الثواب الذي يستعقبه سماع الخطبة و الموعظة.
و المعنى قل لهم: ما عند الله من الثواب خير من اللهو و من التجارة لأن ثوابه تعالى خير حقيقي دائم غير منقطع، و ما في اللهو و التجارة من الخير أمر خيالي زائل باطل و ربما استتبع سخطه تعالى كما في اللهو.
و قيل: خير مستعمل في الآية مجردا عن معنى التفضيل كما في قوله تعالى: «أ أرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار»: يوسف: 39، و هو شائع في الاستعمال.
و في الآية أعني قوله: «و إذا رأوا» التفات من الخطاب إلى الغيبة، و النكتة فيه تأكيد ما يفيده السياق من العتاب و استهجان الفعل بالإعراض عن تشريفهم بالخطاب و تركهم في مقام الغيبة لا يواجههم ربهم بوجهه الكريم.
و يلوح إلى هذا الإعراض قوله: «قل ما عند الله خير» حيث لم يشر إلى من يقول له، و لم يقل: قل لهم كما ذكرهم بضميرهم أولا من غير سبق مرجعه فقال: «و إذا رأوا» و اكتفى بدلالة السياق.
و خير الرازقين من أسمائه تعالى الحسنى كالرزاق و قد تقدم الكلام في معنى الرزق فيما تقدم.
بحث روائي
في الفقيه، روي: أنه كان بالمدينة إذا أذن المؤذن يوم الجمعة نادى مناد: حرم البيع لقول الله عز و جل: «يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلوة من يوم الجمعة - فاسعوا إلى ذكر الله و ذروا البيع».
أقول: و رواه في الدر المنثور، عن ابن أبي شيبة و عبد بن حميد و ابن المنذر عن ميمون بن مهران و لفظه كان بالمدينة إذا أذن المؤذن من يوم الجمعة ينادون في الأسواق: حرم البيع حرم البيع.
و تفسير القمي،: و قوله: «فاسعوا إلى ذكر الله» قال: الإسراع في المشي، و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في الآية يقال: فاسعوا أي امضوا، و يقال: اسعوا اعملوا لها و هو قص الشارب و نتف الإبط و تقليم الأظفار و الغسل و لبس أنظف الثياب و التطيب للجمعة فهو السعي يقول الله: «و من أراد الآخرة و سعى لها سعيها و هو مؤمن».
أقول: يريد أن السعي ليس هو الإسراع في المشي فحسب.
و في المجمع، و روى أنس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: في قوله: «فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض» الآية ليس بطلب الدنيا و لكن عيادة مريض و حضور جنازة و زيارة أخ في الله:. أقول: و رواه في الدر المنثور، عن ابن جرير عن أنس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و عن ابن مردويه عن ابن عباس عنه (صلى الله عليه وآله وسلم).
و فيه، و روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: الصلاة يوم الجمعة و الانتشار يوم السبت.
أقول: و في هذا المعنى روايات أخر.
و فيه، و روى عمر بن يزيد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إني لأركب في الحاجة التي كفاها الله ما أركب فيها إلا التماس أن يراني الله أضحي في طلب الحلال أ ما تسمع قول الله عز اسمه: «فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض - و ابتغوا من فضل الله»؟. أ رأيت لو أن رجلا دخل بيتا و طين عليه بابه ثم قال: رزقي ينزل علي أ كان يكون هذا؟ أما أنه أحد الثلاثة الذين لا يستجاب لهم. قال: قلت: من هؤلاء؟ قال: رجل يكون عنده المرأة فيدعو عليها فلا يستجاب له لأن عصمتها في يده لو شاء أن يخلي سبيلها، و الرجل يكون له الحق على الرجل فلا يشهد عليه فيجحده حقه فيدعو عليه فلا يستجاب له لأنه ترك ما أمر به، و الرجل يكون عنده الشيء فيجلس في بيته و لا ينتشر و لا يطلب و لا يلتمس حتى يأكله ثم يدعو فلا يستجاب له.
و فيه، قال جابر بن عبد الله: أقبل عير و نحن نصلي مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فانفض الناس إليها فما بقي غير اثني عشر رجلا أنا فيهم فنزلت الآية «و إذا رأوا تجارة أو لهوا».
و عن عوالي اللئالي، روى مقاتل بن سليمان قال: بينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يخطب يوم الجمعة إذ قدم دحية الكلبي من الشام بتجارة، و كان إذا قدم لم يبق في المدينة عاتق إلا أتته، و كان يقدم إذا قدم بكل ما يحتاج إليه الناس من دقيق و بر و غيره ثم ضرب الطبل ليؤذن الناس بقدومه فيخرج الناس فيبتاعون منه. فقدم ذات جمعة، و كان قبل أن يسلم، و رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يخطب على المنبر فخرج الناس فلم يبق في المسجد إلا اثنا عشر فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): لو لا هؤلاء لسومت عليهم الحجارة من السماء و أنزل الله الآية في سورة الجمعة.
أقول: و القصة مروية بطرق كثيرة من طرق الشيعة و أهل السنة و اختلفت الأخبار في عدد من بقي منهم في المسجد بين سبعة إلى أربعين.
و فيه «انفضوا» أي تفرقوا، و روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: انصرفوا إليها و تركوك قائما تخطب على المنبر.
قال جابر بن سمرة: ما رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يخطب إلا و هو قائم فمن حدثك أنه خطب و هو جالس فكذبه.
أقول: و هو مروي أيضا في روايات أخرى.
و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة عن طاووس قال: خطب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قائما و أبو بكر و عمر و عثمان، و إن أول من جلس على المنبر معاوية بن أبي سفيان.
|