بيان
فيها أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يظهر للكفار براءته من دينهم و يخبرهم بامتناعهم من دينه فلا دينه يتعداه إليهم و لا دينهم يتعداهم إليه فلا يعبد ما يعبدون أبدا و لا يعبدون ما يعبد أبدا فلييأسوا من أي نوع من المداهنة و المساهلة.
و اختلفوا في كون السورة مكية أو مدنية، و الظاهر من سياقها أنها مكية.
قوله تعالى: «قل يا أيها الكافرون» الظاهر أن هؤلاء قوم معهودون لا كل كافر و يدل على ذلك أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يخاطبهم ببراءته من دينهم و امتناعهم من دينه.
قوله تعالى: «لا أعبد ما تعبدون» الآية إلى آخر السورة مقول القول، و المراد بما تعبدون الأصنام التي كانوا يعبدونها، و مفعول «تعبدون» ضمير راجع إلى الموصول محذوف لدلالة الكلام عليه و لرعاية الفواصل، و كذا مفاعيل الأفعال التالية: «أعبد» و «عبدتم» و «أعبد».
و قوله: «لا أعبد» نفي استقبالي فإن لا لنفي الاستقبال كما أن ما لنفي الحال، و المعنى لا أعبد أبدا ما تعبدونه اليوم من الأصنام.
قوله تعالى: «و لا أنتم عابدون ما أعبد» نفي استقبالي أيضا لعبادتهم ما يعبده (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو إخبار عن امتناعهم عن الدخول في دين التوحيد في مستقبل الأمر.
و بانضمام الأمر الذي في مفتتح الكلام تفيد الآيتان إن الله سبحانه أمرني بالدوام على عبادته و أن أخبركم أنكم لا تعبدونه أبدا فلا يقع بيني و بينكم اشتراك في الدين أبدا.
فالآية في معنى قوله تعالى: «لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون»: يس: 7، و قوله: «إن الذين كفروا سواء عليهم ء أنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون»: البقرة: 6.
و كان من حق الكلام أن يقال: و لا أنتم عابدون من أعبد.
لكن قيل: ما أعبد ليطابق ما في قوله: «لا أعبد ما تعبدون».
قوله تعالى: «و لا أنا عابد ما عبدتم و لا أنتم عابدون ما أعبد» تكرار لمضمون الجملتين السابقتين لزيادة التأكيد، كقوله: «كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون»: التكاثر: 4 و قوله: «فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر»: المدثر: 20.
و قيل: إن ما في «ما عبدتم» و «ما أعبد» مصدرية لا موصولة و المعنى و لا أنا عابد عبادتكم و لا أنتم عابدون عبادتي أي لا أشارككم و لا تشاركونني لا في المعبود و لا في العبادة فمعبودي هو الله و معبودكم الوثن و عبادتي ما شرعه الله لي و عبادتكم ما ابتدعتموه جهلا و افتراء، و على هذا فالآيتان غير مسوقتين للتأكيد، و لا يخلو من بعد و سيأتي في البحث الروائي التالي وجه آخر للتكرار لطيف.
قوله تعالى: «لكم دينكم و لي دين» تأكيد بحسب المعنى لما تقدم من نفي الاشتراك، و اللام للاختصاص أي دينكم و هو عبادة الأصنام يختص بكم و لا يتعداكم إلي و ديني يختص بي و لا يتعداني إليكم و لا محل لتوهم دلالة الآية على إباحة أخذ كل بما يرتضيه من الدين و لا أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يتعرض لدينهم بعد ذلك فالدعوة الحقة التي يتضمنها القرآن تدفع ذلك أساسا.
و قيل: الدين في الآية بمعنى الجزاء و المعنى لكم جزاؤكم و لي جزائي، و قيل: إن هناك مضافا محذوفا و التقدير لكم جزاء دينكم و لي جزاء ديني، و الوجهان بعيدان عن الفهم.
بحث روائي
في الدر المنثور، أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم و ابن الأنباري في المصاحف عن سعيد بن ميناء مولى أبي البختري قال: لقي الوليد بن المغيرة و العاص بن وائل و الأسود بن المطلب و أمية بن خلف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا: يا محمد هلم فلنعبد ما تعبد و تعبد ما نعبد و لنشترك نحن و أنت في أمرنا كله فإن كان الذي نحن عليه أصح من الذي أنت عليه كنت قد أخذت منه حظا و إن كان الذي أنت عليه أصح من الذي نحن عليه كنا قد أخذنا منه حظا فأنزل الله «قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون» حتى انقضت السورة:. أقول: و روى الشيخ في الأمالي، بإسناده عن ميناء عن غير واحد من أصحابه قريبا منه.
و في تفسير القمي، عن أبيه عن ابن أبي عمير قال: سأل أبو شاكر أبا جعفر الأحول عن قول الله: «قل أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون - و لا أنتم عابدون ما أعبد و لا أنا عابد ما عبدتم - و لا أنتم عابدون ما أعبد» فهل يتكلم الحكيم بمثل هذا القول، و يكرر مرة بعد مرة؟ فلم يكن عند أبي جعفر الأحول في ذلك جواب. فدخل المدينة فسأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن ذلك فقال: كان سبب نزولها و تكرارها أن قريشا قالت لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): تعبد آلهتنا سنة و نعبد إلهك سنة و تعبد آلهتنا سنة و نعبد إلهك سنة فأجابهم الله بمثل ما قالوا فقال فيما قالوا: تعبد آلهتنا سنة: قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون، و فيما قالوا: نعبد إلهك سنة: و لا أنتم عابدون ما أعبد، و فيما قالوا: تعبد آلهتنا سنة: «و لا أنا عابد ما عبدتم» و فيما قالوا: نعبد إلهك سنة: «و لا أنتم عابدون ما أعبد لكم دينكم و لي دين». قال: فرجع أبو جعفر الأحول إلى أبي شاكر فأخبره بذلك فقال أبو شاكر: هذا حملته الإبل من الحجاز.
أقول: مفاد التكرار في كلام قريش الاستمرار على عبادة آلهتهم سنة و عبادة الله تعالى سنة.
|