بيان
وعيد شديد لأبي لهب بهلاك نفسه و عمله و بنار جهنم و لامرأته، و السورة مكية.
قوله تعالى: «تبت يدا أبي لهب و تب» التب و التباب هو الخسران و الهلاك على ما ذكره الجوهري، و دوام الخسران على ما ذكره الراغب، و قيل: الخيبة، و قيل الخلو من كل خير و المعاني - كما قيل - متقاربة فيد الإنسان هي عضوه الذي يتوصل به إلى تحصيل مقاصده و ينسب إليه جل أعماله، و تباب يديه خسرانهما فيما تكتسبانه من عمل و إن شئت فقل: بطلان أعماله التي يعملها بهما من حيث عدم انتهائها إلى غرض مطلوب و عدم انتفاعه بشيء منها و تباب نفسه خسرانها في نفسها بحرمانها من سعادة دائمة و هو هلاكها المؤبد.
فقوله: «تبت يدا أبي لهب و تب» أي أبو لهب، دعاء عليه بهلاك نفسه و بطلان ما كان يأتيه من الأعمال لإطفاء نور النبوة أو قضاء منه تعالى بذلك.
و أبو لهب هذا هو أبو لهب بن عبد المطلب عم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان شديد المعاداة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مصرا في تكذيبه مبالغا في إيذائه بما يستطيعه من قول و فعل و هو الذي قال للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): تبا لك لما دعاهم إلى الإسلام لأول مرة فنزلت السورة و رد الله التباب عليه.
و ذكر بعضهم أن أبا لهب اسمه و إن كان في صورة الكنية، و قيل: اسمه عبد العزى و قيل: عبد مناف و أحسن ما قيل في ذكره في الآية بكنيته لا باسمه إن في ذلك تهكما به لأن أبا لهب يشعر بالنسبة إلى لهب النار كما يقال أبو الخير و أبو الفضل و أبو الشر في النسبة إلى الخير و الفضل و الشر فلما قيل: «سيصلى نارا ذات لهب» فهم منه أن قوله: «تبت يدا أبي لهب» في معنى قولنا: تبت يدا جهنمي يلازم لهبها.
و قيل: لم يذكر باسمه و هو عبد العزى لأن عزى اسم صنم فكره أن يعد بحسب اللفظ عبدا لغير الله و هو عبد الله و إن كان الاسم إنما يقصد به المسمى.
قوله تعالى: «ما أغنى عنه ماله و ما كسب» ما الأولى نافية و ما الثانية موصولة و معنى «ما كسب» الذي كسبه بأعماله و هو أثر أعماله أو مصدرية و المعنى كسبه بيديه و هو عمله، و المعنى ما أغنى عنه عمله.
و معنى الآية على أي حال لم يدفع عنه ماله و لا عمله - أو أثر عمله - تباب نفسه و يديه الذي كتب عليه أو دعي عليه.
قوله تعالى: «سيصلى نارا ذات لهب» أي سيدخل نارا ذات لهب و هي نار جهنم الخالدة، و في تنكير لهب تفخيم له و تهويل.
قوله تعالى: «و امرأته حمالة الحطب» عطف على ضمير الفاعل المستكن في «سيصلى» و التقدير: و ستصلى امرأته إلخ و «حمالة الحطب» بالنصب وصف مقطوع عن الوصفية للذم أي أذم حمالة الحطب، و قيل: حال من «امرأته» و هو معنى لطيف على ما سيأتي.
قوله تعالى: «في جيدها حبل من مسد» المسد حبل مفتول من الليف، و الجملة حال ثانية من امرأته.
و الظاهر أن المراد بالآيتين أنها ستتمثل في النار التي تصلاها يوم القيامة في هيئتها التي كانت تتلبس بها في الدنيا و هي أنها كانت تحمل أغصان الشوك و غيرها تطرحها بالليل في طريق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تؤذيه بذلك فتعذب بالنار و هي تحمل الحطب و في جيدها حبل من مسد.
قال في مجمع البيان،: و إذا قيل: هل كان يلزم أبا لهب الإيمان بعد هذه السورة و هل كان يقدر على الإيمان و لو آمن لكان فيه تكذيب خبر الله سبحانه بأنه سيصلى نارا ذات لهب.
فالجواب أن الإيمان يلزمه لأن تكليف الإيمان ثابت عليه و إنما توعده الله بشرط أن لا يؤمن انتهى موضع الحاجة.
أقول: مبنى الإشكال على الغفلة من أن تعلق القضاء الحتمي منه تعالى بفعل الإنسان الاختياري لا يستوجب بطلان الاختيار و اضطرار الإنسان على الفعل فإن الإرادة الإلهية - و كذا فعله تعالى - إنما يتعلق بفعله الاختياري على ما هو عليه أي إن يفعل الإنسان باختياره كذا و كذا فلو لم يقع الفعل اختيارا تخلف مراده تعالى عن إرادته و هو محال و إذا كان الفعل المتعلق للقضاء الموجب اختياريا كان تركه أيضا اختياريا و إن كان لا يقع فافهم و قد تقدم هذا البحث في غير موضع من المباحث السابقة.
فقد ظهر بذلك أن أبا لهب كان في اختياره أن يؤمن و ينجو بذلك عن النار التي كان من المقضي المحتوم أن يدخلها بكفره.
و من هذا الباب الآيات النازلة في كفار قريش أنهم لا يؤمنون كقوله: «إن الذين كفروا سواء عليهم ء أنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون»: البقرة: 6، و قوله: «لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون»: يس: 7، و من هذا الباب أيضا آيات الطبع على القلوب.
بحث روائي
في المجمع،: في قوله تعالى: «و أنذر عشيرتك الأقربين» عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية صعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الصفا فقال: يا صباحاه فاجتمعت إليه قريش فقالوا: ما لك؟ فقال: أ رأيتكم إن أخبرتكم أن العدو مصبحكم و ممسيكم ما كنتم تصدقونني؟ قالوا: بلى. قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد قال أبو لهب: تبا لك أ لهذا دعوتنا جميعا؟ فأنزل الله عز و جل «تبت يدا أبي لهب».
أقول: و رواه أيضا في تفسير السورة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس و لم يذكر فيه كون الدعوة عند نزول آية «و أنذر عشيرتك» الآية.
و فيه، أيضا عن طارق المحاربي قال: بينما أنا بسوق ذي المجاز إذا أنا بشاب يقول أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، و إذا برجل خلفه يرميه قد أدمى ساقيه و عرقوبيه و يقول: يا أيها الناس إنه كذاب فلا تصدقوه فقلت: من هذا؟ فقالوا: هو محمد يزعم أنه نبي و هذا عمه أبو لهب يزعم أنه كذاب.
و في قرب الإسناد، بإسناده إلى موسى بن جعفر (عليه السلام) في حديث طويل يذكر فيه آيات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: من ذلك أن أم جميل امرأة أبي لهب أتته حين نزلت سورة تبت و مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أبو بكر بن أبي قحافة فقال: يا رسول الله هذه أم جميل محفظة أي مغضبة تريدك و معها حجر تريد أن ترميك به فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): إنها لا تراني فقالت لأبي بكر: أين صاحبك؟ قال: حيث شاء الله قالت: جئته و لو أراه لرميته فإنه هجاني و اللات و العزى إني لشاعرة فقال أبو بكر: يا رسول الله لم ترك؟ قال (صلى الله عليه وآله وسلم): لا. ضرب الله بيني و بينها حجابا.
أقول: و روي ما يقرب منه بغير واحد من طرق أهل السنة.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «و امرأته حمالة الحطب» قال: كانت أم جميل بنت صخر و كانت تنم على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و تنقل أحاديثه إلى الكفار.
|