بيان
السورة شبيهة بسورة الحديد في سياق كسياقها و نظم كنظمها كأنها ملخصة منها و غرضها تحريض المؤمنين و ترغيبهم في الإنفاق في سبيل الله و رفع ما يهجس في قلوبهم و يدب في نفوسهم من الأسى و الأسف على المصائب التي تهجم عليهم في تحمل مشاق الإيمان بالله و الجهاد في سبيل الله و الإنفاق فيها بأن ذلك كله بإذن الله.
و الآيات التي أوردناها من صدر السورة تقدمه و تمهيد لبيان الغرض المذكور تبين أن أسماءه تعالى الحسنى و صفاته العليا تقضي بالبعث و رجوع الكل إليه تعالى رجوعا يساق فيه أهل الإيمان و العمل الصالح إلى جنة خالدة، و أهل الكفر و التكذيب إلى نار مؤبدة فهي تمهيد للأمر بطاعة الله و رسوله و الصبر على المصائب و الإنفاق في سبيل الله من غير تأثر من منع مانع و لا خوف من لومة لائم.
و السورة مدنية بشهادة سياق آياتها.
قوله تعالى: «يسبح لله ما في السماوات و ما في الأرض له الملك و له الحمد و هو على كل شيء قدير» تقدم الكلام في معنى التسبيح و الملك و الحمد و القدرة، و أن المراد بما في السماوات و الأرض يشمل نفس السماوات و الأرض و من فيها و ما فيها.
و قوله: «له الملك» مطلق يفيد إطلاق الملك و عدم محدوديته بحد و لا تقيده بقيد أو شرط فلا حكم نافذا إلا حكمه، و لا حكم له إلا نافذا على ما أراد.
و كذا قوله: «و له الحمد» مطلق يفيد رجوع كل حمد من كل حامد - و الحمد هو الثناء على الجميل الاختياري - إليه تعالى لأن الخلق و الأمر إليه فلا ذات و لا صفة و لا فعل جميلا محمودا إلا منه و إليه.
و كذا قوله: «و هو على كل شيء قدير» بما يدل عليه من عموم متعلق القدرة غير محدودة و لا مقيدة بقيد أو شرط.
و إذ كانت الآيات - كما تقدمت الإشارة إليه - مسوقة لإثبات المعاد كانت الآية كالمقدمة الأولى لإثباته، و تفيد أن الله منزه عن كل نقص و شين في ذاته و صفاته و أفعاله يملك الحكم على كل شيء و التصرف فيه كيفما شاء و أراد، - و لا يتصرف إلا جميلا - و قدرته تسع كل شيء فله أن يتصرف في خلقه بالإعادة كما تصرف فيهم بالإيذاء - الإحداث و الإبقاء - فله أن يبعثهم إن تعلقت به إرادته و لا تتعلق إلا بحكمه.
قوله تعالى: «هو الذي خلقكم فمنكم كافر و منكم مؤمن و الله بما تعملون بصير» الفاء في «فمنكم» تدل على مجرد ترتب الكفر و الإيمان على الخلق فلا دلالة في التفريع على كون الكفر و الإيمان مخلوقين لله تعالى أو غير مخلوقين، و إنما المراد انشعابهم فرقتين: بعضهم كافر و بعضهم مؤمن، و قدم ذكر الكافر لكثرة الكفار و غلبتهم.
و «من» في قوله: «فمنكم» و «منكم» للتبعيض أي فبعضكم كافر و بعضكم مؤمن.
و قد نبه بقوله: «و الله بما تعملون بصير» على أن انقسامهم قسمين و تفرقهم فرقتين حق كما ذكر، و هم متميزون عنده لأن الملاك في ذلك أعمالهم ظاهرها و باطنها و الله بما يعملون بصير لا تخفى عليه و لا تشتبه.
و تتضمن الآية مقدمة أخرى لإثبات المعاد و تنجزه و هي أن الناس مخلوقون له تعالى متميزون عنده بالكفر و الإيمان و صالح العمل و طالحه.
قوله تعالى: «خلق السماوات و الأرض بالحق و صوركم فأحسن صوركم و إليه المصير» المراد بالحق خلاف الباطل و هو خلقها من غير غاية ثابتة و غرض ثابت كما قال: «لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا»: الأنبياء: 17، و قال: «و ما خلقنا السماوات و الأرض و ما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق و لكن أكثرهم لا يعلمون»: الدخان: 39.
و قوله: «و صوركم فأحسن صوركم» المراد بالتصوير إعطاء الصورة و صورة الشيء قوامه و نحو وجوده كما قال: «لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم»: التين: 4، و حسن الصورة تناسب تجهيزاتها بعضها لبعض و المجموع لغاية وجودها، و ليس هو الحسن بمعنى صباحة المنظر و ملاحته بل الحسن العام الساري في الأشياء كما قال تعالى: «الذي أحسن كل شيء خلقه»: الم السجدة: 7.
و لعل اختصاص حسن صورهم بالذكر للتنبيه على أنها ملائمة للغاية التي هي الرجوع إلى الله فتكون الجملة من جملة المقدمات المسوقة لإثبات المعاد على ما تقدمت الإشارة إليه.
و بهذه الآية تتم المقدمات المنتجة للزوم البعث و رجوع الخلق إليه تعالى فإنه تعالى لما كان ملكا قادرا على الإطلاق له أن يحكم بما شاء و يتصرف كيف أراد و هو منزه عن كل نقص و شين محمود في أفعاله، و كان الناس مختلفين بالكفر و الإيمان و هو بصير بأعمالهم، و كانت الخلقة لغاية من غير لغو و جزاف كان من الواجب أن يبعثوا بعد نشأتهم الدنيا لنشأة أخرى دائمة خالدة فيعيشوا فيها عيشة باقية على ما يقتضيه اختلافهم بالكفر و الإيمان و هو الجزاء الذي يسعد به مؤمنهم و يشقى به كافرهم.
و إلى هذه النتيجة يشير بقوله: «و إليه المصير».
قوله تعالى: «يعلم ما في السماوات و الأرض و يعلم ما تسرون و ما تعلنون و الله عليم بذات الصدور» دفع شبهة لمنكري المعاد مبنية على الاستبعاد و هي أنه كيف يمكن إعادة الموجودات و هي فانية بائدة و حوادث العالم لا تحصى و الأعمال و الصفات لا تعد، منها ظاهرة علنية و منها باطنة سرية و منها مشهودة و منها مغيبة، فأجيب بأن الله يعلم ما في السماوات و الأرض و يعلم ما تسرون و ما تعلنون.
و قوله: «و الله عليم بذات الصدور» قيل: إنه اعتراض تذييلي مقرر لشمول علمه تعالى بما يسرون و ما يعلنون و المعنى: أنه تعالى محيط علما بالمضرات المستكنة في صدور الناس مما لا يفارقها أصلا فكيف يخفى عليه شيء مما تسرونه و ما تعلنونه.
و في قوله: «و الله عليم» إلخ، وضع الظاهر موضع الضمير و الأصل «و هو عليم» إلخ و النكتة فيه الإشارة إلى علة الحكم، و ليكون ضابطا يجري مجرى المثل.
قوله تعالى: «أ لم يأتكم نبأ الذين كفروا من قبل فذاقوا وبال أمرهم و لهم عذاب أليم» وبال الأمر تبعته السيئة و المراد بأمرهم كفرهم و ما تفرع عليه من فسوقهم.
لما كان مقتضى أسمائه الحسنى و صفاته العليا المعدودة في الآيات السابقة وجوب معاد الناس و مصيرهم إلى ربهم للحساب و الجزاء فمن الواجب إعلامهم بما يجب عليهم أن يأتوا به أو يجتنبوا عنه و هو الشرع، و الطريق إلى ذلك الرسالة فمن الواجب إرسال رسول على أساس الإنذار و التبشير بعقاب الآخرة و ثوابها و سخطه تعالى و رضاه.
ساق تعالى الكلام بالإنذار بالإشارة إلى نبأ الذين كفروا من قبل و أنهم ذاقوا وبال أمرهم و لهم في الآخرة عذاب أليم ثم انتقل إلى بيان سبب كفرهم و هو تكذيب الرسالة ثم إلى سبب ذلك و هو إنكار البعث و المعاد.
ثم استنتج من ذلك كله وجوب إيمانهم بالله و رسوله و الدين الذي أنزله عليه و ختم التمهيد المذكور بالتبشير و الإنذار بالإشارة إلى ما هيىء للمؤمنين الصالحين من جنة خالدة و لغيرهم من الكفار المكذبين من نار مؤبدة.
فقوله: «أ لم يأتكم نبأ الذين كفروا من قبل» الخطاب للمشركين و فيه إشارة إلى قصص الأمم السالفة الهالكة كقوم نوح و عاد و ثمود و غيرهم، ممن أهلكهم الله بذنوبهم، و قوله: «فذاقوا وبال أمرهم» إشارة إلى ما نزل عليهم من عذاب الاستئصال و قوله: «و لهم عذاب أليم» إشارة إلى عذابهم الأخروي.
قوله تعالى: «ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أ بشر يهدوننا» إلخ، بيان لسبب ما ذكر من تعذيبهم بعذاب الاستئصال و عذاب الآخرة، و لذلك جيء بالفصل دون العطف كأنه جواب لسؤال مقدر كان سائلا يسأل فيقول: لم أصابهم ما أصابهم من العذاب؟ فقيل: «ذلك بأنه كانت» إلخ، و الإشارة بذلك إلى ما ذكر من العذاب.
و في التعبير عن إتيان الرسل و دعوتهم بقوله: «كانت تأتيهم» الدال على الاستمرار، و عن كفرهم و قولهم بقوله: «فقالوا و كفروا و تولوا» الدال بالمقابلة على المرة دلالة على أنهم قالوا ما قالوا كلمة واحدة قاطعة لا معدل عنها و ثبتوا عليها و هو العناد و اللجاج فتكون الآية في معنى قوله تعالى: «تلك القرى نقص عليك من أنبائها و لقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين»: الأعراف: 101، و قوله: «ثم بعثنا من بعده أي بعد نوح رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل كذلك نطبع على قلوب المعتدين»: يونس: 74.
و قوله: «فقالوا أ بشر يهدوننا» يطلق البشر على الواحد و الجمع و المراد به الثاني بدليل قوله: «يهدوننا» و التنكير للتحقير، و الاستفهام للإنكار أي قالوا على سبيل الإنكار: أ آحاد من البشر لا فضل لهم علينا يهدوننا؟.
و هذا القول منهم مبني على الاستكبار، على أن أكثر هؤلاء الأمم الهالكة كانوا وثنيين و هم منكرون للنبوة و هو أساس تكذيبهم لدعوة الأنبياء، و لذلك فرع تعالى على قولهم: «أ بشر يهدوننا» قوله: «فكفروا و تولوا» أي بنوا عليه كفرهم و إعراضهم.
و قوله: «و استغنى الله» الاستغناء طلب الغنى و هو من الله سبحانه - و هو غني بالذات - إظهار الغنى و ذلك أنهم كانوا يرون أن لهم من العلم و القوة و الاستطاعة ما يدفع عن جمعهم الفناء و يضمن لهم البقاء كأنه لا غنى للوجود عنهم كما حكى الله سبحانه عن قائلهم: «قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا»: الكهف: 35، و قال: «و لئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي و ما أظن الساعة قائمة»: حم السجدة: 50.
و مآل هذا الظن بالحقيقة إلى أن لله سبحانه حاجة إليهم و فيهم - و هو الغني بالذات - فإهلاكه تعالى لهم و إفناؤهم إظهار منه لغناه عن وجودهم، و على هذا فالمراد بقوله: «و استغنى الله» استئصالهم المدلول عليه بقوله: «فذاقوا وبال أمرهم».
على أن الإنسان معجب بنفسه بالطبع يرى أن له على الله كرامة كان من الواجب عليه أن يحسن إليه أينما كان كان لله سبحانه حاجة إلى إسعاده و الإحسان إليه كما يشير إليه قوله تعالى: «و ما أظن الساعة قائمة و لئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى»: حم السجدة: 50، و قوله: «و ما أظن الساعة قائمة و لئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا»: الكهف: 36.
و مآل هذا الزعم بالحقيقة إلى أن من الواجب على الله سبحانه أن يسعدهم كيفما كان كأن له إليهم حاجة فإذاقته لهم وبال أمرهم و تعذيبهم في الآخرة إظهار منه تعالى لغناه عنهم، فالمراد باستغنائه تعالى عنهم مجموع ما أفيد بقوله: «فذاقوا وبال أمرهم و لهم عذاب أليم».
فهذان وجهان في معنى قوله تعالى: «و استغنى الله» و الثاني منهما أشمل، و في الكلمة على أي حال من سطوع العظمة و القدرة ما لا يخفى، و هو في معنى قوله: «ثم أرسلنا رسلنا تترا كلما جاء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضا و جعلناهم أحاديث فبعدا لقوم لا يؤمنون»: المؤمنون: 44.
و قيل: المراد و استغنى الله بإقامة البرهان و إتمام الحجة عليهم عن الزيادة على ذلك بإرشادهم و هدايتهم إلى الإيمان.
و قيل: المراد و استغنى الله عن طاعتهم و عبادتهم أزلا و أبدا لأنه غني بالذات، و الوجهان كما ترى.
و قوله: «و الله غني حميد» في محل التعليل لمضمون الآية، و المعنى: و الله غني في ذاته محمود فيما فعل، فما فعل بهم من إذاقتهم وبال أمرهم و تعذيبهم بعذاب أليم على كفرهم و توليهم من غناه و عدله لأنه مقتضى عملهم المردود إليهم.
قوله تعالى: «زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى و ربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم و ذلك على الله يسير» ذكر ركن آخر من أركان كفر الوثنيين و هو إنكارهم الدين السماوي بإنكار المعاد إذ لا يبقى مع انتفاء المعاد أثر للدين المبني على الأمر و النهي و الحساب و الجزاء و يصلح تعليلا لإنكار الرسالة إذ لا معنى حينئذ للتبليغ و الوعيد.
و المراد بالذين كفروا عامة الوثنيين و منهم من عاصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) منهم كأهل مكة و ما والاها، و قيل: المراد أهل مكة خاصة.
و قوله: «قل بلى و ربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم» أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يجيب عن زعمهم أن لن يبعثوا، بإثبات ما نفوه بما في الكلام من أصناف التأكيد بالقسم و اللام و النون.
و «ثم» في «ثم لتنبؤن» للتراخي بحسب رتبة الكلام، و في الجملة إشارة إلى غاية البعث و هو الحساب و قوله: «و ذلك على الله يسير» أي ما ذكر من البعث و الإنباء بالأعمال يسير عليه تعالى غير عسير، و فيه رد لإحالتهم أمر البعث على الله سبحانه استبعادا، و قد عبر عنه في موضع آخر من كلامه بمثل قوله: «و هو الذي يبدؤ الخلق ثم يعيده و هو أهون عليه»: الروم: 27.
و الدليل عليه ما عده في صدر الآيات من أسمائه تعالى و صفاته من الخلق و الملك و العلم و أنه مسبح محمود، و يجمع الجميع أنه الله المستجمع لجميع صفات الكمال.
و يظهر من هنا أن التصريح باسم الجلالة في الجملة أعني قوله: «و ذلك على الله يسير» للإيماء إلى التعليل، و المفاد أن ذلك يسير عليه تعالى لأنه الله، و الكلام حجة برهانية لا دعوى مجردة.
و ذكروا أن الآية ثالثة الآيات التي أمر الله نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقسم بربه على وقوع المعاد و هي ثلاث: إحداها قوله: «و يستنبؤنك أ حق هو قل إي و ربي»: يونس: 53، و الثانية قوله: «و قال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى و ربي لتأتينكم»: سبأ: 3، و الثالثة الآية التي نحن فيها.
قوله تعالى: «فآمنوا بالله و رسوله و النور الذي أنزلنا و الله بما تعملون خبير» تفريع على مضمون الآية السابقة أي إذا كنتم مبعوثين لا محالة منبئين بما عملتم وجب عليكم أن تؤمنوا بالله و رسوله و النور الذي أنزله على رسوله و هو القرآن الذي يهدي بنوره الساطع إلى مستقيم الصراط، و يبين شرائع الدين.
و في قوله: «و النور الذي أنزلنا» التفات من الغيبة إلى التكلم مع الغير و لعل النكتة فيه تتميم الحجة بالسلوك من طريق الشهادة و هي أقطع للعذر فكم فرق بين قولنا: و النور الذي أنزل و هو إخبار، و قوله: «و النور الذي أنزلنا» ففيه شهادة منه تعالى على أن القرآن كتاب سماوي نازل من عنده تعالى، و الشهادة آكد من الإخبار المجرد.
لا يقال: ما ذا ينفع ذلك و هم ينكرون كون القرآن كلامه تعالى النازل من عنده و لو صدقوا ذلك كفاهم ما مر من الحجة على المعاد و أغنى عن التمسك بذيل الالتفات المذكور.
لأنه يقال: كفى في إبطال إنكارهم كونه كلام الله ما في القرآن من آيات التحدي المثبتة لكونه كلام الله، و الشهادة على أي حال آكد و أقوى من الإخبار و إن كان مدللا.
و قوله: «و الله بما تعملون خبير» تذكرة بعلمه تعالى بدقائق أعمالهم ليتأكد به الأمر في قوله: «فآمنوا» و المعنى: آمنوا و جدوا في إيمانكم فإنه عليم بدقائق أعمالكم لا يغفل عن شيء منها و هو مجازيكم بها لا محالة.
قوله تعالى: «يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن» إلخ، «يوم» ظرف لقوله السابق: «لتبعثن ثم لتنبؤن» إلخ، و المراد بيوم الجمع يوم القيامة الذي يجمع فيه الناس لفصل القضاء بينهم قال تعالى: «و نفخ في الصور فجمعناهم جمعا»: الكهف: 99، و قد تكرر في القرآن الكريم حديث الجمع ليوم القيامة، و يفسره أمثال قوله تعالى: «إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون»: الجاثية: 17، و قوله: «فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون»: البقرة: 113، و قوله: «إن ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون»: السجدة: 25، فالآيات تشير إلى أن جمعهم للقضاء بينهم.
و قوله: «ذلك يوم التغابن» قال الراغب: الغبن أن تبخس صاحبك في معاملة بينك و بينه بضرب من الإخفاء.
قال: و يوم التغابن يوم القيامة لظهور الغبن في المعاملة المشار إليها بقوله: «و من الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله» و بقوله: «إن الله اشترى من المؤمنين» الآية، و بقوله: «الذين يشترون بعهد الله و أيمانهم ثمنا قليلا» فعلموا أنهم غبنوا فيما تركوا من المبايعة و فيما تعاطوه من ذلك جميعا.
و سئل بعضهم عن يوم التغابن فقال: تبدو الأشياء لهم بخلاف مقاديرهم في الدنيا.
انتهى موضع الحاجة.
و ما ذكره أولا مبني على تفسير التغابن بسريان المغبونية بين الكفار بأخذهم لمعاملة خاسرة و تركهم معاملة رابحة، و هو معنى حسن غير أنه لا يلائم معنى باب التفاعل الظاهر في فعل البعض في البعض.
و ما نقله عن بعضهم وجه ثان لا يخلو من دقة، و يؤيده مثل قوله تعالى: «فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين»: الم السجدة: 17، و قوله: «لهم ما يشاءون فيها و لدينا مزيد»: ق: 35، و قوله: «و بدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون»: الزمر: 47.
و مقتضى هذا الوجه عموم التغابن لجميع أهل الجمع من مؤمن و كافر أما المؤمن فلما أنه لم يعمل لآخرته أكثر مما عمل، و أما الكافر فلأنه لم يعمل أصلا، و الوجه المشترك بينهما أنهما لم يقدرا اليوم حق قدره.
و يرد على هذا الوجه ما يرد على سابقه.
و هناك وجه ثالث و هو أن يعتبر التغابن بين أهل الضلال متبوعيهم و تابعيهم فالمتبوعون و هم المستكبرون يغبنون تابعيهم و هم الضعفاء حيث يأمرونهم بأخذ الدنيا و ترك الآخرة فيضلون، و التابعون يغبنون المتبوعين حيث يعينونهم في استكبارهم باتباعهم فيضلون، فكل من الفريقين غابن لغيره و مغبون من غيره.
و هناك وجه رابع وردت به الرواية و هو أن لكل عبد منزلا في الجنة لو أطاع الله لدخله، و منزلا في النار لو عصى الله لدخله و يوم القيامة يعطى منازل أهل النار في الجنة لأهل الجنة، و يعطى منازل أهل الجنة في النار لأهل النار فيكون أهل الجنة و هم المؤمنون غابنين لأهل النار و هم الكفار و الكفار هم المغبونون.
و قال بعض المفسرين بعد إيراد هذا الوجه: و قد فسر التغابن قوله ذيلا: «و من يؤمن بالله - إلى قوله - و بئس المصير» انتهى.
و ليس بظاهر ذاك الظهور.
و قوله: «و من يؤمن بالله و يعمل صالحا - إلى قوله - و بئس المصير» تقدم تفسيره مرارا.
بحث روائي
في صحيح البخاري، عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: ما من عبد يدخل الجنة إلا أري مقعده من النار لو أساء ليزداد شكرا. و ما من عبد يدخل النار إلا أري مقعده من الجنة لو أحسن ليزداد حسرة.
أقول: و في هذا المعنى روايات كثيرة من طرق العامة و الخاصة و قد تقدم بعضها في تفسير أول سورة المؤمنون.
و في تفسير البرهان، عن ابن بابويه بإسناده عن حفص بن غياث عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: يوم التلاق يوم يلتقي أهل السماء و الأرض، و يوم التناد يوم ينادي أهل النار أهل الجنة «أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله» و يوم التغابن يوم يغبن أهل الجنة أهل النار، و يوم الحسرة يوم يؤتى بالموت فيذبح.
أقول: و في ذيل آيات صدر السورة المبحوث عنها عدة من الروايات توجه الآيات بشئون الولاية كالذي ورد أن الإيمان و الكفر هما الإيمان و الكفر بالولاية يوم أخذ الميثاق، و ما ورد أن المراد بالبينات الأئمة، و ما ورد أن المراد بالنور الإمام و هي جميعا ناظرة إلى بطن الآيات و ليست بمفسرة البتة.
|