بيان
موعظة و إنذار و تبشير تؤكد التوصية بالتمسك بما شرع الله لهم من الأحكام و من جملتها ما شرعه من أحكام الطلاق و العدة و لم يوص القرآن الكريم و لا أكد في التوصية في شيء من الأحكام المشرعة كما وصى و أكد في أحكام النساء، و ليس إلا لأن لها نبأ.
قوله تعالى: «و كأين من قرية عتت عن أمر ربها و رسله فحاسبناها حسابا شديدا و عذبناها عذابا نكرا» قال الراغب: العتو النبوء عن الطاعة انتهى.
فهو قريب المعنى من الاستكبار، و قال: النكر الدهاء و الأمر الصعب الذي لا يعرف انتهى.
و المراد بالنكر في الآية المعنى الثاني، و في المجمع، النكر المنكر الفظيع الذي لم ير مثله انتهى.
و المراد بالقرية أهلها على سبيل التجوز كقوله: «و اسأل القرية»: يوسف: 82، و في قوله: «عتت عن أمر ربها و رسله» إشارة إلى أنهم كفروا بالله سبحانه بالشرك و كفروا كفرا آخر برسله بتكذيبهم في دعوتهم.
على أنهم كفروا بالله تعالى في ترك شرائعه المشرعة و كفروا برسله فيما أمروا به بولايتهم لهم كما مر نظيره في قوله: «و أطيعوا الله و أطيعوا الرسول فإن توليتم فإنما على رسولنا البلاغ المبين»: التغابن: 12.
و شدة الحساب المناقشة فيه و الاستقصاء لتوفية الأجر كما هو عليه، و المراد به حساب الدنيا غير حساب الآخرة و الدليل على كونه حساب الدنيا قوله تعالى: «و ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم و يعفوا عن كثير»: الشورى: 30، و قوله: «و لو أن أهل القرى آمنوا و اتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء و الأرض و لكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون»: الأعراف: 96.
فما يصيب الإنسان من مصيبة - و هي المصيبة في نظر الدين - هو حاصل محاسبة أعماله و الله يعفو عن كثير منها بالمسامحة و المساهلة في المحاسبة غير أنه تعالى يحاسب العاتين المستكبرين عن أمره و رسله حسابا شديدا بالمناقشة و الاستقصاء و التثريب فيعذبهم عذابا نكرا.
و المعنى: و كم من أهل قرية عتوا و استكبروا عن أمر ربهم و رسله فلم يطيعوا الله و رسله فحاسبناها حسابا شديدا ناقشنا فيه و استقصيناه، و عذبناهم عذابا صعبا غير معهود و هو عذاب الاستئصال في الدنيا.
و ما قيل: إن المراد به عذاب الآخرة، و التعبير بالفعل الماضي للدلالة على تحقق الوقوع غير سديد.
و في قوله: «فحاسبناها حسابا شديدا و عذبناها» التفات من الغيبة إلى التكلم مع الغير، و نكتته الدلالة على العظمة.
قوله تعالى: «فذاقت وبال أمرها و كان عاقبة أمرها خسرا» المراد بأمرها عتوها و استكبارها، و المعنى: فأصابتهم عقوبة عتوهم و كان عاقبة عتوهم خسارا كأنهم اشتروا العتو بالطاعة فانتهى إلى أن خسروا.
قوله تعالى: «أعد الله لهم عذابا شديدا» هذا جزاؤهم في الأخرى كما كان ما في قوله: «فحاسبناها حسابا شديدا و عذبناها عذابا نكرا فذاقت وبال أمرها» جزاؤهم في الدنيا.
و الفضل في قوله: «أعد الله لهم» إلخ، لكونه في مقام دفع الدخل كأنه لما قيل: «و كان عاقبة أمرها خسرا»، قيل: ما المراد بخسرهم؟ فقيل: «أعد الله لهم عذابا شديدا».
قوله تعالى: «فاتقوا الله يا أولي الألباب الذين آمنوا قد أنزل الله إليكم ذكرا» استنتاج مما تقدم خوطب به المؤمنون ليأخذوا حذرهم و يقوا أنفسهم أن يعتوا عن أمر ربهم و يطغوا عن طاعته فيبتلوا بوبال عتوهم و خسران عاقبتهم كما ابتليت بذلك القرى الهالكة.
و قد وصف المؤمنين بأولى الألباب فقال: «اتقوا الله يا أولي الألباب الذين آمنوا» استمدادا من عقولهم على ما يريده منهم من التقوى فإنهم لما سمعوا أن قوما عتوا عن أمر ربهم فحوسبوا حسابا شديدا و عذبوا عذابا نكرا و كان عاقبة أمرهم خسرا ثم سمعوا أن ذلك تكرر مرة بعد مرة و أباد قوما بعد قوم، قضت عقولهم بأن العتو و الاستكبار عن أمر الله تعرض لشديد حساب الله و منكر عذابه فتنبههم و تبعثهم إلى التقوى و قد أنزل الله إليهم ذكرا يذكرهم به ما لهم و ما عليهم و يهديهم إلى الحق و إلى طريق مستقيم.
قوله تعالى: «رسولا يتلوا عليكم آيات الله مبينات» إلخ، عطف بيان أو بدل من «ذكرا» فالمراد بالذكر الذي أنزله هو الرسول سمي به لأنه وسيلة التذكرة بالله و آياته و سبيل الدعوة إلى دين الحق، و المراد بالرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) على ما يؤيده ظاهر قوله: «يتلوا عليكم آيات الله مبينات» إلخ.
و على هذا فالمراد بإنزال الرسول بعثه من عالم الغيب و إظهاره لهم رسولا من عنده بعد ما لم يكونوا يحتسبون كما في قوله: «و أنزلنا الحديد»: الحديد: 25.
و قد دعي ظهور الإنزال في كونه من السماء بعضهم كصاحب الكشاف إلى أن فسر «رسولا» بجبريل و يكون حينئذ معنى تلاوته الآيات عليهم تلاوته على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بما أنه متبوع لقومه و وسيلة الإبلاغ لهم لكن ظاهر قوله: «يتلوا عليكم» إلخ، خلاف ذلك.
و يحتمل أن يكون «رسولا» منصوبا بفعل محذوف و التقدير أرسل رسولا يتلو عليكم آيات الله، و يكون المراد بالذكر المنزل إليهم القرآن أو ما بين فيه من الأحكام و المعارف.
و قوله: «ليخرج الذين آمنوا و عملوا الصالحات من الظلمات إلى النور» تقدم تفسيره في نظائره.
و قوله: «و من يؤمن بالله و يعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا» وعد جميل و تبشير.
و قوله: «قد أحسن الله له رزقا» وصف لإحسانه تعالى إليهم فيما رزقهم به من الرزق و المراد بالرزق ما رزقهم من الإيمان و العمل الصالح في الدنيا و الجنة في الآخرة، و قيل المراد به الجنة.
قوله تعالى: «الله الذي خلق سبع سماوات و من الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن» إلخ، بيان يتأكد به ما تقدم في الآيات من حديث ربوبيته تعالى و بعثة الرسول و إنزاله الذكر ليطيعوه فيه و أن في تمرده و مخالفته الحساب الشديد و العذاب الأليم و في طاعته الجنة الخالدة كل ذلك لأنه قدير عليم.
فقوله: «الله الذي خلق سبع سماوات» تقدم بعض الكلام فيه في تفسير سورة حم السجدة.
و قوله: «و من الأرض مثلهن» ظاهره المثلية في العدد، و عليه فالمعنى: و خلق من الأرض سبعا كما خلق من السماء سبعا فهل الأرضون السبع سبع كرات من نوع الأرض التي نحن عليها و التي نحن عليها إحداها؟ أو الأرض التي نحن عليها سبع طبقات محيطة بعضها ببعض و الطبقة العليا بسيطها الذي نحن عليه؟ أو المراد الأقاليم السبعة التي قسموا إليها المعمور من سطح الكرة؟ وجوه ذهب إلى كل منها جمع و ربما لاح بالرجوع إلى ما تقدم في تفسير سورة حم السجدة محتمل آخر غيرها.
و ربما قيل: إن المراد بقوله: «و من الأرض مثلهن» أنه خلق من الأرض شيئا هو مثل السماوات السبع و هو الإنسان المركب من المادة الأرضية و الروح السماوية التي فيها نماذج سماوية ملكوتية.
و قوله: «يتنزل الأمر بينهن» الظاهر أن الضمير للسماوات و الأرض جميعا و الأمر هو الأمر الإلهي الذي فسره بقوله: «إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن»: يس: 83، و هو كلمة الإيجاد، و تنزله هو أخذه بالنزول من مصدر الأمر إلى سماء بعد سماء حتى ينتهي إلى العالم الأرضي فيتكون ما قصد بالأمر من عين أو أثر أو رزق أو موت أو حياة أو عزة أو ذلة أو غير ذلك قال تعالى: «و أوحى في كل سماء أمرها»: حم السجدة: 12، و قال: «يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون»: الم السجدة: 5.
و قيل: المراد بالأمر الأمر التشريعي يتنزل ملائكة الوحي به من السماء إلى النبي و هو بالأرض.
و هو تخصيص من غير مخصص و ذيل الآية «لتعلموا أن الله» إلخ، لا يلائمه.
و قوله: «إن الله على كل شيء قدير و أن الله قد أحاط بكل شيء علما» من الغايات المترتبة على خلقة السماوات السبع و من الأرض مثلهن و تنزيله الأمر بينهن، و في ذلك انتساب الخلق و الأمر إليه و اختصاصهما به فإن المتفكر في ذلك لا يرتاب في قدرته على كل شيء و علمه بكل شيء فليتق مخالفة أمره أولوا الألباب من المؤمنين فإن سنة هذا القدير العليم تجري على إثابة المطيعين لأوامره، و مجازاة العاتين المستكبرين و كذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى و هي ظالمة إن أخذه أليم شديد.
بحث روائي
في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «و كأين من قرية» قال: أهل القرية.
و في تفسير البرهان، عن ابن بابويه بإسناده عن الريان بن الصلت عن الرضا (عليه السلام) في حديث المأمون قال: الذكر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و نحن أهله و ذلك بين في كتاب الله حيث يقول في سورة الطلاق: «فاتقوا الله يا أولي الألباب الذين آمنوا - قد أنزل الله إليكم ذكرا - رسولا يتلوا عليكم آيات الله مبينات» قال: فالذكر رسول الله و نحن أهله.
و في تفسير القمي، حدثني أبي عن الحسين بن خالد عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: قلت له: أخبرني عن قول الله عز و جل: «و السماء ذات الحبك» فقال: هي محبوكة إلى الأرض و شبك بين أصابعه فقلت: كيف تكون محبوكة إلى الأرض و الله يقول: رفع السماوات بغير عمد ترونها؟ فقال: سبحان الله أ ليس الله يقول: بغير عمد ترونها؟ قلت: بلى. قال: فثم عمد و لكن لا ترونها. قلت: فكيف ذلك جعلني الله فداك؟ قال: فبسط كفه اليسرى ثم وضع اليمنى عليها فقال: هذه أرض الدنيا و السماء الدنيا فوقها قبة، و الأرض الثانية فوق السماء الدنيا و السماء الثانية فوقها قبة، و الأرض الثالثة فوق السماء الثانية و السماء الثالثة فوقها قبة، و الأرض الرابعة فوق السماء الثالثة و السماء الرابعة فوقها قبة، و الأرض الخامسة فوق السماء الرابعة و السماء الخامسة فوقها قبة، و الأرض السادسة فوق السماء الخامسة و السماء السادسة فوقها قبة، و الأرض السابعة فوق السماء السادسة و السماء السابعة فوقها قبة و عرش الرحمن تبارك و تعالى فوق السماء السابعة و هو قول الله عز و جل: الذي خلق سبع سماوات - و من الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن. فأما صاحب الأمر فهو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و الوصي بعد رسول الله قائم على وجه الأرض فإنما يتنزل الأمر إليه من فوق السماء من بين السماوات و الأرضين. قلت: فما تحتنا إلا أرض واحدة؟ فقال: ما تحتنا إلا أرض واحدة و إن الست لهن فوقنا:. أقول: و عن الطبرسي عن العياشي عن الحسين بن خالد عن الرضا (عليه السلام): مثله.
و الحديث نادر في بابه، و هو و خاصة ما في ذيله من تنزل الأمر أقرب إلى الحمل على المعنى منه إلى الحمل على الصورة و الله أعلم.
|