بيان
الآيات تذكر سؤال أهل الكتاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تنزيل كتاب من السماء عليهم حيث لم يقنعوا بنزول القرآن بوحي الروح الأمين نجوما، و نجيب عن مسألتهم.
قوله تعالى: «يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء»، أهل الكتاب هم اليهود و النصارى على ما هو المعهود في عرف القرآن في أمثال هذه الموارد و عليه فالسائل هو الطائفتان جميعا دون اليهود فحسب.
و لا ينافيه كون المظالم و الجرائم المعدودة في ضمن الآيات مختصة باليهود كسؤال الرؤية، و اتخاذ العجل، و نقض الميثاق عند رفع الطور و الأمر بالسجدة و النهي عن العدو في السبت و غير ذلك.
فإن الطائفتين ترجعان إلى أصل واحد و هو شعب إسرائيل بعث إليهم موسى و عيسى (عليهما السلام) و إن انتشرت دعوة عيسى بعد رفعه في غير بني إسرائيل كالروم و العرب و الحبشة و مصر و غيرهم، و ما قوم عيسى بأقل ظلما لعيسى من اليهود لموسى (عليه السلام).
و لعد الطائفتين جميعا ذا أصل واحد يخص اليهود بالذكر فيما يخصهم من الجزاء حيث قال: «فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم» و لذلك أيضا عد عيسى بين الرسل المذكورين بعد كما عد موسى (عليه السلام) بينهم و لو كان وجه الكلام إلى اليهود فقط لم يصح ذلك، و لذلك أيضا قيل بعد هذه الآيات: «يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم و لا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح» إلخ.
و بالجملة السائل هم أهل الكتاب جميعا و وجه الكلام معهم لاشتراكهم في الخصيصة القومية و هو التحكم و القول بغير الحق و المجازفة و عدم التقيد بالعهود و المواثيق، و الكلام جار معهم فيما اشتركوا فإذا اختص منهم طائفة بشيء خص الكلام به.
و الذي سألوه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هو أن ينزل عليهم كتابا من السماء، و لم يسألوه ما سألوه قبل نزول القرآن و تلاوته عليهم كيف و القصة إنما وقعت في المدينة و قد بلغهم من القرآن ما نزل بمكة و شطر مما نزل بالمدينة؟ بل هم ما كانوا يقنعون به دليلا للنبوة، و لا يعدونه كتابا سماويا مع أن القرآن نزل فيما نزل مشفعا بالتحدي و دعوى الإعجاز كما في سور: إسراء، و يونس، و هود، و البقرة النازلة جميعا قبل سورة النساء.
فسؤالهم تنزيل الكتاب من السماء بعد ما كانوا يشاهدونه من أمر القرآن لم يكن إلا سؤالا جزافيا لا يصدر إلا ممن لا يخضع للحق و لا ينقاد للحقيقة و إنما يلغو و يهذو بما قدمته له أيدي الأهواء من غير أن يتقيد بقيد أو يثبت على أساس، نظير ما كانت تتحكم به قريش مع نزول القرآن، و ظهور دعوته فتقول على ما حكاه الله سبحانه عنهم: «لو لا أنزل عليه آية من ربه»: يونس: 20 «أو ترقى في السماء و لن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه: إسراء: 93.
و لهذا الذي ذكرناه أجاب الله سبحانه عن مسألتهم أولا بأنهم قوم متمادون في الجهالة و الضلالة لا يأبون عن أنواع الظلم و إن عظمت، و الكفر و الجحود و إن جاءت البينة، و عن نقض المواثيق و إن غلظت و غير ذلك من الكذب و البهتان و أي ظلم، و من هذا شأنه لا يصلح لإجابة ما سأله و الإقبال على ما اقترحه.
و ثانيا أن الكتاب الذي أنزله الله و هو القرآن مقارن لشهادة الله سبحانه و ملائكته و هو الذي يفصح عن التحدي بعد التحدي بآياته الكريمة.
فقال تعالى في جوابهم أولا: «فقد سألوا موسى أكبر من ذلك» أي مما سألوك من تنزيل كتاب من السماء إليهم «فقالوا أرنا الله جهرة» أي إراءة عيان نعاينه بأبصارنا، و هذه غاية ما يبلغه البشر من الجهالة و الهذر و الطغيان «فأخذتهم الصاعقة بظلمهم» و القصة مذكورة في سورة البقرة آية: 55 - 56 و سورة الأعراف آية: 155.
ثم قال تعالى: «ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات» و هذه عبادة الصنم بعد ظهور بطلانه أو بيان أن الله سبحانه منزه عن شائبة الجسمية و الحدوث، و هو من أفظع الجهالات البشرية «فعفونا عن ذلك و آتينا موسى سلطانا مبينا» و قد أمرهم موسى في ذلك أن يتوبوا إلى بارئهم فيقتلوا أنفسهم فأخذوا فيه فعفا الله عنهم و لما يتم التقتيل و لما يقتل الجميع، و هو المراد بالعفو، و آتى موسى (عليه السلام) سلطانا مبينا حيث سلطه عليهم و على السامري و عجله، و القصة مذكورة في سورة البقرة آية: 54.
ثم قال تعالى: «و رفعنا فوقهم الطور بميثاقهم» و هو الميثاق الذي أخذه الله منهم ثم رفع فوقهم الطور، و القصة مذكورة مرتين في سورة البقرة آية 63، 93.
ثم قال تعالى: «و قلنا لهم ادخلوا الباب سجدا و قلنا لهم لا تعدوا في السبت و أخذنا منهم ميثاقا غليظا» و القصتان مذكورتان في سورة البقرة آية: 58 - 65 و سورة الأعراف 161 - 163 و ليس من البعيد أن يكون الميثاق المذكور راجعا إلى القصتين و إلى غيرهما فإن القرآن يذكر أخذ الميثاق منهم متكررا كقوله تعالى و إذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله» الآية: البقرة: 83، و قوله تعالى «و إذا أخذنا ميثاقكم لا تسفكوا دماءكم و لا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم و أنتم تشهدون»: البقرة: 84.
قوله تعالى: «فبما نقضهم ميثاقهم»، الفاء للتفريع و المجرور متعلق بما سيأتي بعد عدة آيات - يذكر فيها جرائمهم - من قوله «حرمنا عليهم» و الآيات مسوقة لبيان ما جازاهم الله به من وخيم الجزاء الدنيوي و الأخروي، و فيها ذكر بعض ما لم يذكر من سننهم السيئة أولا.
و قوله «فبما نقضهم ميثاقهم» تلخيص لما ذكر منهم من نقض المواثيق و لما لم يذكر من المواثيق المأخوذة منهم.
و قوله «و كفرهم بآيات الله تلخص لأنواع من الكفر كفروا بها في زمن موسى (عليه السلام) و بعده قص القرآن كثيرا منها، و من جملتها الموردان المذكوران في صدر الآيات أعني قوله فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة»، و قوله «ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات» و إنما قدما في الصدر، و أخرا في هذه الآية لأن المقامين مختلفان فيختلف مقتضاهما فإن صدر الآيات متعرض لسؤالهم تنزيل كتاب من السماء و، ذكر سؤالهم أكبر من ذلك و عبادتهم العجل أنسب به و ألصق، و هذه الآية و ما بعدها متعرضة لمجازاتهم في قبال أعمالهم بعد ما كانوا أجابوا دعوة الحق و ذكر أسباب ذلك و الابتداء بذكر نقض الميثاق أنسب في هذا المقام و أقرب.
و قوله «و قتلهم الأنبياء بغير حق» يعني بهم زكريا و يحيى و غيرهما ممن ذكر القرآن قتلهم إجمالا من غير تسمية.
و قوله «و قولهم قلوبنا غلف» جمع أغلف أي في أغشية تمنعها عن استماع الدعوة النبوية، و قبول الحق لو دعيت إليه، و هذه كلمة ذكروها يريدون بها رد الدعوة، و إسناد عدم إجابتهم للدعوة إلى الله سبحانه كأنهم كانوا يدعون أنهم خلقوا غلف القلوب، أو أنهم جعلوا بالنسبة إلى دعوة غير موسى كذلك من غير استناد ذلك إلى اختيارهم و صنعهم.
و لذلك رد الله سبحانه عليهم بقوله «بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا» فبين أن إباء قلوبهم عن استماع الدعوة الحقة مستند إلى صنع الله لكن لا كما يدعون أنهم لا صنع لهم في ذلك بل إنما فعل ذلك بهم في مقابل كفرهم و جحودهم للحق، و كان أثر ذلك أن هذا القوم لا يؤمنون إلا قليل منهم.
و قد تقدم الكلام في هذا الاستثناء، و أن هذه النقمة الإلهية إنما نزلت بهم بقوميتهم و مجتمعهم، فالمجموع من حيث المجموع مكتوب عليهم النقمة، و مطبوع على قلوبهم محال لهم أن يؤمنوا بأجمعهم، و لا ينافي ذلك إيمان البعض القليل منهم.
قوله تعالى: «بكفرهم و قولهم على مريم بهتانا عظيما» و هو قذفها (عليها السلام) في ولادة عيسى بالزنا، و هو كفر و بهتان معا و قد كلمهم عيسى في أول ولادته و قال: «إني عبد الله آتاني الكتاب و جعلني نبيا»: مريم. 30.
قوله تعالى: «و قولهم إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله و ما قتلوه و ما صلبوه و لكن شبه لهم» قد تقدم في قصص عيسى (عليه السلام) في سورة آل عمران أنهم اختلفوا في كيفية قتله صلبا و غير صلب فلعل حكايته تعالى عنهم دعوى قتله أولا ثم ذكر القتل و الصلب معا في مقام الرد و النفي لبيان النفي التام بحيث لا يشوبه ريب فإن الصلب لكونه نوعا خاصا في تعذيب المجرمين لا يلازم القتل دائما، و لا يتبادر إلى الذهن عند إطلاق القتل، و قد اختلف في كيفية قتله فمجرد نفي القتل ربما أمكن أن يتأول فيه بأنهم ما قتلوه قتلا عاديا، و لا ينافي ذلك أن يكونوا قتلوه صلبا فلذلك ذكر تعالى بعد قوله «و ما قتلوه» قوله «و ما صلبوه» ليؤدي الكلام حقه من الصراحة، و ينص على أنه (عليه السلام) لم يتوف بأيديهم لا صلبا و لا غير مصلوب، بل شبه لهم أمره فأخذوا غير المسيح (عليه السلام) مكان المسيح فقتلوه أو صلبوه، و ليس من البعيد عادة، فإن القتل في أمثال تلك الاجتماعات الهمجية و الهجمة و الغوغاء ربما أخطأ المجرم الحقيقي إلى غيره و قد قتله الجنديون من الروميين، و ليس لهم معرفة بحاله على نحو الكمال فمن الممكن أن يأخذوا مكانه غيره، و مع ذلك فقد وردت روايات أن الله تعالى ألقى شبهه على غيره فأخذ و قتل مكانه.
و ربما ذكر بعض محققي التاريخ أن القصص التاريخية المضبوطة فيه (عليه السلام) و الحوادث المربوطة بدعوته و قصص معاصريه من الحكام و الدعاة تنطبق على رجلين اثنين مسميين بالمسيح - و بينهما ما يزيد على خمسمائة سنة -: المتقدم منهما محق غير مقتول، و المتأخر منهما مبطل مصلوب، و على هذا فما يذكره القرآن من التشبيه هو تشبيه المسيح عيسى بن مريم رسول الله بالمسيح المصلوب.
و الله أعلم.
و قوله «و إن الذين اختلفوا فيه» أي اختلفوا في عيسى أو في قتله «لفي شك منه» أي في جهل بالنسبة إلى أمره «ما لهم به من علم إلا اتباع الظن» و هو التخمين أو رجحان ما بحسب ما أخذه بعضهم من أفواه بعض.
و قوله «و ما قتلوه يقينا» أي ما قتلوه قتل يقين أو ما قتلوه أخبرك خبر يقين، و ربما قيل: إن الضمير في قوله «و ما قتلوه» راجع إلى العلم أي ما قتلوا العلم يقينا.
و قتل العلم لغة تمحيضه و تخليصه من الشك و الريب، و ربما قيل: إن الضمير يعود إلى الظن أي ما محضوا ظنهم و ما تثبتوا فيه، و هذا المعنى على تقدير ثبوته معنى غريب لا يحمل عليه لفظ القرآن.
قوله تعالى: «بل رفعه الله إليه و كان الله عزيزا حكيما» و قد قص الله سبحانه هذه القصة في سورة آل عمران فقال: «إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك و رافعك إلى»: آل عمران: 55 فذكر التوفي ثم الرفع.
و هذه الآية بحسب السياق تنفي وقوع ما ادعوه من القتل و الصلب عليه فقد سلم من قتلهم و صلبهم، و ظاهر الآية أيضا أن الذي ادعي إصابة القتل و الصلب إياه، و هو عيسى (عليه السلام) بشخصه البدني هو الذي رفعه الله إليه، و حفظه من كيدهم فقد رفع عيسى بجسمه و روحه لا أنه توفي ثم رفع روحه إليه تعالى فهذا مما لا يحتمله ظاهر الآية بمقتضى السياق فإن الإضراب الواقع في قوله «بل رفعه الله إليه» لا يتم بمجرد رفع الروح بعد الموت الذي يصح أن يجامع القتل و الموت حتف الأنف.
فهذا الرفع نوع التخليص الذي خلصه الله به و أنجاه من أيديهم سواء كان توفي عند ذلك بالموت حتف الأنف أو لم يتوف حتف الأنف و لا قتلا و صلبا بل بنحو آخر لا نعرفه أو كان حيا باقيا بإبقاء الله بنحو لا نعرفه فكل ذلك محتمل.
و ليس من المستحيل أن يتوفى الله المسيح و يرفعه إليه و يحفظه، أو يحفظ الله حياته على نحو لا ينطبق على العادة الجارية عندنا فليس يقصر عن ذلك سائر ما يقتصه القرآن الكريم من معجزات عيسى نفسه في ولادته و حياته بين قومه، و ما يحكيه من معجزات إبراهيم و موسى و صالح و غيرهم، فكل ذلك يجري مجرى واحدا يدل الكتاب العزيز على ثبوتها دلالة لا مدفع لها إلا ما تكلفه بعض الناس من التأويل تحذرا من لزوم خرق العادة و تعطل قانون العلية العام، و قد مر في الجزء الأول من هذا الكتاب استيفاء البحث عن الإعجاز و خرق العادة.
و بعد ذلك كله فالآية التالية لا تخلو عن إشعار أو دلالة على حياته (عليه السلام) و عدم توفيه بعد.
قوله تعالى: «و إن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته و يوم القيامة يكون عليهم شهيدا». «إن» نافية و المبتدأ محذوف يدل عليه الكلام في سياق النفي، و التقدير: و إن أحد من أهل الكتاب إلا ليؤمنن، و الضمير في قوله «به» و قوله «يكون» راجع إلى عيسى، و أما الضمير في قوله «قبل موته» ففيه خلاف.
فقد قال بعضهم: إن الضمير راجع إلى المقدر من المبتدأ و هو أحد، و المعنى: و كل واحد من أهل الكتاب يؤمن قبل موته بعيسى أي يظهر له قبيل الموت عند الاحتضار أن عيسى كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و عبده حقا و إن كان هذا الإيمان منه إيمانا لا ينتفع به، و يكون عيسى شهيدا عليهم جميعا يوم القيامة سواء آمنوا به إيمانا ينتفع به أو إيمانا لا ينتفع به كمن آمن به عند موته.
و يؤيده أن إرجاع ضمير «قبل موته» إلى عيسى يعود إلى ما ورد في بعض الأخبار أن عيسى حي لم يمت، و أنه ينزل في آخر الزمان فيؤمن به أهل الكتاب من اليهود و النصارى، و هذا يوجب تخصيص عموم قوله «و إن من أهل الكتاب» من غير مخصص، فإن مقتضى الآية على هذا التقدير أن يكون يؤمن بعيسى عند ذلك النزول من السماء الموجودون من أهل الكتاب دون المجموع منهم، ممن وقع بين رفع عيسى و نزوله فمات و لم يدرك زمان نزوله، فهذا تخصيص لعموم الآية من غير مخصص ظاهر.
و قد قال آخرون: إن الضمير راجع إلى عيسى (عليه السلام) و المراد به إيمانهم به عند نزوله في آخر الزمان من السماء، استنادا إلى الرواية كما سمعت.
هذا ما ذكروه، و الذي ينبغي التدبر و الإمعان فيه هو أن وقوع قوله «و يوم القيامة يكون عليهم شهيدا» في سياق قوله «و إن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته و يوم القيامة يكون عليهم شهيدا» ظاهر في أن عيسى شهيد على جميعهم يوم القيامة كما أن جميعهم يؤمنون به قبل الموت، و قد حكى سبحانه قول عيسى في خصوص هذه الشهادة على وجه خاص، فقال عنه: «و كنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم و أنت على كل شيء شهيد»: المائدة: 117.
فقصر (عليه السلام) شهادته في أيام حياته فيهم قبل توفيه، و هذه الآية أعني قوله: «و إن من أهل الكتاب» إلخ تدل على شهادته على جميع من يؤمن به فلو كان المؤمن به هو الجميع كان لازمه أن لا يتوفى إلا بعد الجميع، و هذا ينتج المعنى الثاني، و هو كونه (عليه السلام) حيا بعد، و يعود إليهم ثانيا حتى يؤمنوا به.
نهاية الأمر أن يقال: إن من لا يدرك منهم رجوعه إليهم ثانيا يؤمن به عند موته، و من أدرك ذلك آمن به إيمانا اضطرارا أو اختيارا.
على أن الأنسب بوقوع هذه الآية: «و إن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به» فيما وقع فيه من السياق أعني بعد قوله تعالى «و ما قتلوه و ما صلبوه و لكن شبه لهم - إلى أن قال - بل رفعه الله إليه و كان الله عزيزا حكيما» أن تكون الآية في مقام بيان أنه لم يمت و أنه حي بعد إذ لا يتعلق ببيان إيمانهم الاضطراري و شهادته عليهم في غير هذه الصورة غرض ظاهر.
فهذا الذي ذكرناه يؤيد كون المراد بإيمانهم به قبل الموت إيمانهم جميعا به قبل موته (عليه السلام).
لكن هاهنا آيات أخر لا تخلو من إشعار بخلاف ذلك كقوله تعالى: «إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك و رافعك إلي و مطهرك من الذين كفروا و جاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة»: آل عمران: 55 حيث يدل على أن من الكافرين بعيسى من هو باق إلى يوم القيامة، و كقوله تعالى: «و قولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا» حيث إن ظاهره أنه نقمة مكتوبة عليهم، فلا يؤمن مجتمعهم بما هو مجتمع اليهود أو مجتمع أهل الكتاب إلى يوم القيامة.
بل ظاهر ذيل قوله «و كنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم» حيث إن ذيله يدل على أنهم باقون بعد توفي عيسى (عليه السلام).
لكن الإنصاف أن الآيات لا تنافي ما مر فإن قوله «و جاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة» لا يدل على بقائهم إلى يوم القيامة على نعت أنهم أهل الكتاب.
و كذا قوله تعالى: «بل طبع الله عليها بكفرهم» الآية إنما يدل على أن الإيمان لا يستوعبهم جميعا، و لو آمنوا في حين من الأحيان شمل الإيمان منهم قليلا من كثير.
على أن قوله «و إن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته» لو دل على إيمانهم به قبل موته فإنما يدل على أصل الإيمان، و أما كونه إيمانا مقبولا غير اضطراري فلا دلالة له على ذلك.
و كذا قوله «فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم» الآية مرجع الضمير فيه إنما هو الناس دون أهل الكتاب أو النصارى بدليل قوله تعالى في صدر الكلام: «و إذ قال الله يا عيسى بن مريم أ أنت قلت للناس اتخذوني و أمي إلهين من دون الله» الآية: المائدة: 116، و يدل على ذلك أيضا أنه (عليه السلام) من أولي العزم من الرسل مبعوث إلى الناس كافة، و شهادته على أعمالهم تعم بني إسرائيل و المؤمنين به و غيرهم.
و بالجملة، الذي يفيده التدبر في سياق الآيات و ما ينضم إليها من الآيات المربوطة بها هو أن عيسى (عليه السلام) لم يتوف بقتل أو صلب و لا بالموت حتف الأنف على نحو ما نعرفه من مصداقه - كما تقدمت الإشارة إليه - و قد تكلمنا بما تيسر لنا من الكلام في قوله تعالى «يا عيسى إني متوفيك و رافعك إلي»: آل عمران: 55 في الجزء الثالث من هذا الكتاب.
و من غريب الكلام في هذا الباب ما ذكره الزمخشري في الكشاف: أنه يجوز أن يراد أنه لا يبقى أحد من جميع أهل الكتاب إلا ليؤمنن به على أن الله يحييهم في قبورهم في ذلك الزمان، و يعلمهم نزوله، و ما أنزل له، و يؤمنون به حين لا ينفعهم إيمانهم، و هذا قول بالرجعة.
و في معنى الآية بعض وجوه رديئة أخرى: منها: ما يظهر من الزجاج أن ضمير قوله «قبل موته» يرجع إلى الكتابي و أن معنى قوله «و إن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته» أن جميعهم يقولون: إن عيسى الذي يظهر في آخر الزمان نحن نؤمن به.
و هذا معنى سخيف فإن الآيات مسوقة لبيان دعواهم قتل عيسى (عليه السلام) و صلبه و الرد عليهم دون كفرهم به و لا يرتبط ذلك باعترافهم بظهور مسيح في آخر الزمان يحيي أمر شعب إسرائيل حتى يذيل به الكلام.
على أنه لو كان المراد به ذلك لم يكن حاجة إلى ذكر قوله: «قبل موته» لارتفاع الحاجة بدونه، و كذا قوله «و يوم القيامة يكون عليهم شهيدا» لأنه على هذا التقدير فضل من الكلام لا حاجة إليه.
و منها: ما ذكره بعضهم أن المراد بالآية: و إن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بمحمد قبل موت ذلك الكتابي.
و هذا في السخافة كسابقه فإنه لم يجر لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ذكر في سابق الكلام حتى يعود إليه الضمير.
و لا أن المقام يدل على ذلك، فهو قول من غير دليل.
نعم، ورد هذا المعنى في بعض الروايات مما سيمر بك في البحث الروائي التالي لكن ذلك من باب الجري كما سنشير إليه و هذا أمر كثير الوقوع في الروايات كما لا يخفى على من تتبع فيها.
قوله تعالى: «فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم» الفاء للتفريع، و قد نكر لفظ الظلم و كأنه للدلالة على تفخيم أمره أو للإبهام، إذ لا يتعلق على تشخيصه غرض مهم و هو بدل مما تقدم ذكره من فجائعهم غير أنه ليس بدل الكل من الكل كما ربما قيل، بل بدل البعض من الكل، فإنه تعالى جعل هذا الظلم منهم سببا لتحريم الطيبات عليهم، و لم تحرم عليهم إلا في شريعة موسى المنزلة في التوراة، و بها تختتم شريعة موسى، و قد ذكر فيما ذكر من فجائعهم و مظالمهم أمور جرت و وقعت بعد ذلك كالبهتان على مريم و غير ذلك.
فالمراد بالظلم بعض ما ذكر من مظالمهم الفجيعة فهو السبب لتحريم ما حرم عليهم من الطيبات بعد إحلالها.
ثم ضم إلى ذلك قوله «و بصدهم عن سبيل الله كثيرا» و هو إعراضهم المتكرر عن سبيل الله «و أخذهم الربوا و قد نهوا عنه و أكلهم أموال الناس بالباطل». قوله تعالى: «و اعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما» معطوف على قوله «حرمنا عليهم طيبات» فقد استوجبوا بمظالمهم من الله جزاءين: جزاء دنيوي عام و هو تحريم الطيبات، و جزاء أخروي خاص بالكافرين منهم و هو العذاب الأليم.
قوله تعالى: «لكن الراسخون في العلم منهم و المؤمنين يؤمنون بما أنزل إليك و ما أنزل من قبلك» استثناء و استدراك من أهل الكتاب، و الراسخون» و ما عطف عليه مبتدأ و «يؤمنون» خبره، و قوله «منهم» متعلق بالراسخون و «من» فيه تبعيضية.
و الظاهر أن «المؤمنون» يشارك «الراسخون» في تعلق قوله «منهم» به معنى و المعنى: لكن الراسخون في العلم و المؤمنون بالحقيقة من أهل الكتاب يؤمنون بك و بما أنزل من قبلك، و يؤيده التعليل الآتي في قوله «إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح و النبيين من بعده» إلخ، فإن ظاهر الآية كما سيأتي بيان أنهم آمنوا بك لما وجدوا أن نبوتك و الوحي الذي أكرمناك به يماثل الوحي الذي جاءهم به الماضون السابقون من أنبياء الله: نوح و النبيون من بعده، و الأنبياء من آل إبراهيم، و آل يعقوب، و آخرون ممن لم نقصصهم عليك من غير فرق.
و هذا المعنى - كما ترى - أنسب بالمؤمنين من أهل الكتاب أن يوصفوا به دون المؤمنين من العرب الذين وصفهم الله سبحانه بقوله «لتنذر قوما ما أنذر ءاباؤهم فهم غافلون»: يس: 6.
و قوله «و المقيمين الصلاة» معطوف على «الراسخون» و منصوب على المدح، و مثله في العطف قوله «و المؤتون الزكاة» و قوله «و المؤمنون بالله و اليوم الآخر» مبتدأ خبره قوله «أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما» و لو كان قوله «و المقيمين الصلاة» مرفوعا كما نقل عن مصحف ابن مسعود كان هو و ما عطف عليه مبتدأ خبره قوله «أولئك».
قال في المجمع: اختلف في نصب المقيمين فذهب سيبويه و البصريون إلى أنه نصب على المدح على تقدير أعني المقيمين الصلاة، قالوا: إذا قلت، مررت بزيد الكريم و أنت تريد أن تعرف زيدا الكريم من زيد غير الكريم فالوجه الجر، و إذا أردت المدح و الثناء فإن شئت نصبت و قلت: مررت بزيد الكريم كأنك قلت: أذكر الكريم، و إن شئت رفعت فقلت: الكريم، على تقدير هو الكريم.
و قال الكسائي، موضع المقيمين جر، و هو معطوف «على» ما من قوله «بما أنزل إليك» أي و بالمقيمين الصلاة.
و قال قوم: إنه معطوف على الهاء و الميم من قوله «منهم» على معنى: لكن الراسخون في العلم منهم و من المقيمين الصلاة، و قال آخرون: إنه معطوف على الكاف من «قبلك» أي مما أنزل من قبلك و من قبل المقيمين الصلاة.
و قيل: إنه معطوف على الكاف في «إليك» أو الكاف في قبلك.
و هذه الأقوال الأخيرة لا تجوز عند البصريين لأنه لا يعطف بالظاهر على الضمير المجرور من غير إعادة الجار.
قال: و أما ما روي عن عروة عن عائشة قال: سألتها عن قوله «و المقيمين الصلاة» و عن قوله «و الصابئين» و عن قوله «إن هذان» فقالت: يا ابن أختي هذا عمل الكتاب أخطئوا في الكتاب، و ما روي عن بعضهم: أن في كتاب الله أشياء ستصلحها العرب بألسنتها، قالوا: و في مصحف ابن مسعود: «و المقيمون الصلاة» فمما لا يلتفت إليه لأنه لو كان كذلك لم يكن ليعلمه الصحابة الناس على الغلط و هم القدوة و الذين أخذوه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) انتهى.
و بالجملة قوله «لكن الراسخون في العلم» استثناء من أهل الكتاب من حيث لازم سؤالهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن ينزل عليهم كتابا من السماء كما تقدم أن لازم سؤالهم ذلك أن لا يكفي ما جاءهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من الكتاب و الحكمة المصدقين لما أنزل من قبله من آيات الله على أنبيائه و رسله، في دعوتهم إلى الحق و إثباته، مع أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يأتهم إلا مثل ما أتاهم به من قبله من الأنبياء، و لم يعش فيهم و لم يعاشرهم إلا بما عاشوا به و عاشروا به كما قال تعالى «قل ما كنت بدعا من الرسل»: الأحقاف: 9 و قال تعالى: «و ما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون و ما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام و ما كانوا خالدين - إلى أن قال - لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أ فلا تعقلون»: الأنبياء: 10.
فذكر الله سبحانه في فصل من القول: أن هؤلاء السائلين و هم أهل الكتاب ليست عندهم سجية اتباع الحق و لا ثبات و لا عزم و لا رأي، و كم من آية بينة ظلموها، و دعوة حق صدوا عنها، إلا أن الراسخين في العلم منهم لما كان عندهم ثبات على علمهم و ما وضح من الحق لديهم، و كذا المؤمنون حقيقة منهم لما كان عندهم سجية اتباع الحق يؤمنون بما أنزل إليك و ما أنزل من قبلك لما وجدوا أن الذي نزل إليك من الوحي يماثل ما نزل من قبلك على سائر النبيين: نوح و من بعده.
و من هنا يظهر أولا وجه توصيف من اتبع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من أهل الكتاب بالراسخين في العلم و المؤمنين، فإن الآيات السابقة تقص عنهم أنهم غير راسخين فيما علموا غير مستقرين على شيء من الحق و إن استوثق منهم بأغلظ المواثيق، و أنهم غير مؤمنين بآيات الله صادون عنها و إن جاءتهم البينات، فهؤلاء الذين استثناهم الله راسخون في العلم أو مؤمنون حقيقة.
و ثانيا وجه ذكر ما أنزل قبلا مع القرآن في قوله «يؤمنون بما أنزل إليك و ما أنزل من قبلك لأن المقام مقام نفي الفرق بين القبيلين.
و ثالثا أن قوله في الآية التالية: «إنا أوحينا إليك كما أوحينا» إلخ في مقام التعليل لإيمان هؤلاء المستثنين.
قوله تعالى: «إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح و النبيين من بعده» في مقام التعليل لقوله «يؤمنون بما أنزل إليك» كما عرفت آنفا.
و محصل المعنى - و الله أعلم - أنهم آمنوا بما أنزل إليك لأنا لم نؤتك أمرا مبتدعا يختص من الدعاوي و الجهات بما لا يوجد عند غيرك من الأنبياء السابقين، بل الأمر على نهج واحد لا اختلاف فيه، فإنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح و النبيين من بعده، و نوح أول نبي جاء بكتاب و شريعة، و كما أوحينا إلى إبراهيم و من بعده من آله، و هم يعرفونهم و يعرفون كيفية بعثتهم و دعوتهم، فمنهم من أوتي بكتاب كداود أوتي زبورا و هو وحي نبوي، و موسى أوتي التكليم و هو وحي نبوي، و غيرهما كإسماعيل و إسحاق و يعقوب أرسلوا بغير كتاب، و ذلك أيضا عن وحي نبوي.
و يجمع الجميع أنهم رسل مبشرون بثواب الله منذرون بعذابه، أرسلهم الله لإتمام الحجة على الناس ببيان ما ينفعهم و ما يضرهم في أخراهم و دنياهم لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل.
قوله تعالى: «و الأسباط» تقدم في قوله تعالى: «و يعقوب و الأسباط»: آل عمران: 84 أنهم أنبياء من ذرية يعقوب أو من أسباط بني إسرائيل.
قوله تعالى: «و ءاتينا داود زبورا» قيل إنه بمعنى المكتوب من قولهم: زبره أي كتبه فالزبور بمعنى المزبور.
قوله تعالى: «رسلا مبشرين و منذرين» أحوال ثلاثة أو الأول حال و الأخيران وصفان له.
و قد تقدم استيفاء البحث عن معنى إرسال الرسل و تمام الحجة من الله على الناس، و أن العقل لا يغني وحده عن بعثة الأنبياء بالشرائع الإلهية في الكلام على قوله تعالى: «كان الناس أمة واحدة»: سورة البقرة: 213 في الجزء الثاني من هذا الكتاب.
قوله تعالى: «و كان الله عزيزا حكيما» و إذا كانت له العزة المطلقة و الحكمة المطلقة استحال أن يغلبه أحد بحجة بل له الحجة البالغة، قال تعالى: «قل فلله الحجة البالغة»: الأنعام: 149.
قوله تعالى: «لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه و الملائكة يشهدون»، استدراك آخر في معنى الاستثناء المنقطع من الرد المتعلق بسؤالهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تنزيل كتاب إليهم من السماء، فإن الذي ذكر الله تعالى في رد سؤالهم بقوله «فقد سألوا موسى أكبر من ذلك» إلى آخر الآيات لازم معناه أن سؤالهم مردود إليهم، لأن ما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بوحي من ربه لا يغاير نوعا ما جاء به سائر النبيين من الوحي، فمن ادعى أنه مؤمن بما جاءوا به فعليه أن يؤمن بما جاء به من غير فرق.
ثم استدرك عنه بأن الله مع ذلك يشهد بما أنزل على نبيه و الملائكة يشهدون و كفى بالله شهيدا.
و متن شهادته قوله «أنزله بعلمه» فإن مجرد النزول لا يكفي في المدعى، لأن من أقسام النزول النزول بوحي من الشياطين، بأن يفسد الشيطان أمر الهداية الإلهية فيضع سبيلا باطلا مكان سبيل الله الحق، أو يخلط فيدخل شيئا من الباطل في الوحي الإلهي الحق فيختلط الأمر، كما يشير إلى نفيه بقوله: «عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه و من خلفه رصدا ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم و أحاط بما لديهم و أحصى كل شيء عددا»: الجن: 28 و قال تعالى: «و إن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم»: الأنعام. 121. و بالجملة فالشهادة على مجرد النزول أو الإنزال لا يخرج الدعوى عن حال الإبهام لكن تقييده بقوله «بعلمه» يوضح المراد كل الوضوح، و يفيد أن الله سبحانه أنزله إلى رسوله و هو يعلم ما ذا ينزل، و يحيط به و يحفظه من كيد الشياطين.
و إذا كانت الشهادة على الإنزال و الإنزال إنما هو بواسطة الملائكة كما يدل عليه قوله تعالى: «من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك»: البقرة: 97 و قال تعالى في وصف هذا الملك المكرم: «إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين»: التكوير: 21 فدل على أن تحت أمره ملائكة أخرى و هم الذين ذكرهم إذ قال: «كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة»: عبس: 16.
و بالجملة لكون الملائكة وسائط في الإنزال فهم أيضا شهداء كما أنه تعالى شهيد و كفى بالله شهيدا.
و الدليل على شهادته تعالى ما أنزله في كتابه من آيات التحدي كقوله تعالى: «قل لئن اجتمعت الإنس و الجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله و لو كان بعضهم لبعض ظهيرا»: إسراء: 88 و قوله «أ فلا يتدبرون القرآن و لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا»: النساء: 82، و قوله «فأتوا بسورة مثله و ادعوا من استطعتم من دون الله: يونس. 38. قوله تعالى: «إن الذين كفروا و صدوا عن سبيل الله قد ضلوا ضلالا بعيدا» لما ذكر تعالى الحجة البالغة في رسالة نبيه و نزول كتابه من عند الله، و أنه من سنخ الوحي الذي أوحي إلى النبيين من قبله و أنه مقرون بشهادته و شهادة ملائكته و كفى به شهيدا حقق ضلال من كفر به و أعرض عنه كائنا من كان من أهل الكتاب.
و في الآية تبديل الكتاب الذي كان الكلام في نزوله من عند الله بسبيل الله حيث قال: «و صدوا عن سبيل الله» و فيه إيجاز لطيف كأنه قيل: إن الذين كفروا و صدوا عن هذا الكتاب و الوحي الذي يتضمنه فقد كفروا و صدوا عن سبيل الله و الذين كفروا و صدوا عن سبيل الله إلخ. قوله تعالى: «إن الذين كفروا و ظلموا لم يكن الله ليغفر لهم» إلخ تحقيق و تثبيت آخر مقامه التأكيد من الآية السابقة، و على هذا يكون المراد بالظلم هو الصد عن سبيل الله كما هو ظاهر.
و يمكن أن يكون الآية في مقام التعليل بالنسبة إلى الآية السابقة، يبين فيها وجه ضلالهم البعيد و المعنى ظاهر.
بحث روائي
و في تفسير البرهان،: في قوله تعالى: «و قولهم على مريم بهتانا عظيما»: عن ابن بابويه بإسناده عن علقمة عن الصادق (عليه السلام) في حديث قال: أ لم ينسبوا مريم بنت عمران إلى أنها حملت بصبي من رجل نجار اسمه يوسف؟ و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «و إن من أهل الكتاب - إلا ليؤمنن به قبل موته» الآية: قال: حدثني أبي، عن القاسم بن محمد عن سليمان بن داود المنقري، عن أبي حمزة، عن شهر بن حوشب: قال لي الحجاج: يا شهر آية في كتاب الله قد أعيتني فقلت: أيها الأمير أية آية هي؟ فقال: قوله «و إن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته» و الله إني لأمر باليهودي و النصراني فيضرب عنقه ثم أرمقه بعيني فما أراه يحرك شفتيه حتى يخمد، فقلت: أصلح الله الأمير ليس على ما أولت قال: كيف هو: قلت: إن عيسى ينزل قبل يوم القيامة إلى الدنيا، فلا يبقى أهل ملة يهودي و لا غيره إلا آمن به قبل موته، و يصلي خلف المهدي قال: ويحك أنى لك هذا؟ و من أين جئت به؟ فقلت: حدثني به محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقال: و الله جئت بها من عين صافية و في الدر المنثور: أخرج ابن المنذر عن شهر بن حوشب قال: قال لي الحجاج: يا شهر آية من كتاب الله ما قرأتها إلا اعترض في نفسي منها شيء قال الله: «و إن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته» و إني أوتي بالأسارى فأضرب أعناقهم و لا أسمعهم يقولون شيئا، فقلت: رفعت إليك على غير وجهها، إن النصراني إذا خرجت روحه ضربته الملائكة من قبله و من دبره و قالوا: أي خبيث إن المسيح الذي زعمت أنه الله أو ابن الله أو ثالث ثلاثة عبد الله و روحه و كلمته فيؤمن حين لا ينفعه إيمانه، و إن اليهودي إذا خرجت نفسه ضربته الملائكة من قبله و من دبره، و قالوا: أي خبيث إن المسيح الذي زعمت أنك قتلته، عبد الله و روحه فيؤمن به حين لا ينفعه الإيمان، فإذا كان عند نزول عيسى آمنت به أحياؤهم كما آمنت به موتاهم: فقال: من أين أخذتها؟ فقلت: من محمد بن علي قال: لقد أخذتها من معدنها. قال شهر: و ايم الله ما حدثنيه إلا أم سلمة، و لكني أحببت أن أغيظه: أقول: و رواه أيضا ملخصا عن عبد بن حميد و ابن المنذر، عن شهر بن حوشب، عن محمد بن علي بن أبي طالب و هو ابن الحنفية، و الظاهر أنه روى عن محمد بن علي، ثم اختلف الرواة في تشخيص ابن الحنفية أو الباقر (عليه السلام)، و الرواية - كما ترى - تؤيد ما قدمناه في بيان معنى الآية و فيه، أخرج أحمد و البخاري و مسلم و البيهقي في الأسماء و الصفات قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): كيف أنتم إذا نزل فيكم ابن مريم و إمامكم منكم؟. و فيه: أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يوشك أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا يقتل الدجال، و يقتل الخنزير، و يكسر الصليب، و يضع الجزية، و يقبض المال، و تكون السجدة واحدة لله رب العالمين، و اقرءوا إن شئتم: «و إن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته» موت عيسى بن مريم. ثم يعيدها أبو هريرة ثلاث مرات.
أقول: و الروايات في نزول عيسى (عليه السلام) عند ظهور المهدي (عليه السلام) مستفيضة من طرق أهل السنة، و كذا من طرق الشيعة عن النبي و الأئمة من أهل بيته عليهم الصلاة و السلام.
و في تفسير العياشي، عن الحارث بن مغيرة: عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله «و إن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به - قبل موته و يوم القيامة يكون عليهم شهيدا» قال: هو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
أقول: ظاهره و إن كان مخالفا لظاهر سياق الآيات المتعرضة لأمر عيسى (عليه السلام) لكن يمكن أن يراد به بيان جري القرآن، بمعنى أنه بعد ما بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و جاء بكتاب و شريعة ناسخة لشريعة عيسى كان على كل كتابي أن يؤمن به و يؤمن بعيسى و من قبله في ضمن الإيمان به، فلو انكشف لكتابي عند الاحتضار مثلا حقية رسالة عيسى بعد بعثة رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فإنما ينكشف في ضمن انكشاف حقية رسالة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإيمان كل كتابي لعيسى (عليه السلام) إنما يعد إيمانا إذا آمن بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أصالة و بعيسى (عليه السلام) تبعا، فالذي يؤمن به كل كتابي حقيقة و يكون عليهم يوم القيامة شهيدا هو محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد بعثته، و إن كان عيسى (عليه السلام) كذلك أيضا فلا منافاة، و الخبر التالي لا يخلو من ظهور ما في هذا المعنى.
و فيه، عن ابن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله في عيسى: «و إن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به - قبل موته و يوم القيامة يكون عليهم شهيدا» فقال: إيمان أهل الكتاب إنما هو لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم). و فيه، عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله «و إن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به - قبل موته و يوم القيامة يكون عليهم شهيدا» قال: ليس من أحد من جميع الأديان يموت إلا رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و أمير المؤمنين (عليه السلام) حقا من الأولين و الآخرين.
أقول: و كون الرواية من الجري أظهر.
على أن الرواية غير صريحة في كون ما ذكره (عليه السلام) ناظرا إلى تفسير الآية و تطبيقها، فمن المحتمل أن يكون كلاما أورد في ذيل الكلام على الآية و لذلك نظائر في الروايات.
و فيه، عن المفضل بن عمر قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله: «و إن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته، فقال: هذه نزلت فينا خاصة، إنه ليس رجل من ولد فاطمة يموت و لا يخرج من الدنيا حتى يقر للإمام و بإمامته، كما أقر ولد يعقوب ليوسف حين قالوا: «تالله لقد آثرك الله علينا».
أقول: الرواية من الآحاد، و هي مرسلة، و في معناها روايات مروية في ذيل قوله تعالى: «ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه و منهم مقتصد و منهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير»: فاطر: 32 سنستوفي الكلام فيها إن شاء الله تعالى.
و فيه،: في قوله تعالى: «إنا أوحينا إليك - كما أوحينا إلى نوح و النبيين من بعده» الآية: عن زرارة و حمران عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إني أوحيت إليك كما أوحيت إلى نوح و النبيين من بعده فجمع له كل وحي.
أقول: الظاهر أن المراد أنه لم يشذ عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) من سنخ الوحي ما يوجب تفرق السبيل و تفاوت الدعوة، لا أن كل ما أوحي به إلى نبي على خصوصياته فقد أوحي إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فهذا مما لا معنى له، و لا أن ما أوحي إليك جامع لجميع الشرائع السابقة، فإن الكلام في الآية غير موضوع لإفادة هذا المعنى، و يؤيد ما ذكرناه من المعنى الخبر التالي.
و في الكافي، بإسناده عن محمد بن سالم عن أبي جعفر (عليه السلام): قال الله لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم): «إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح و النبيين من بعده»، و أمر كل نبي بالسبيل و السنة. و في تفسير العياشي، عن الثمالي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: و كان بين آدم و بين نوح من الأنبياء مستخفين و مستعلنين، و لذلك خفي ذكرهم في القرآن فلم يسموا كما سمي من استعلن من الأنبياء، و هو قول الله عز و جل: «و رسلا لم نقصصهم عليك و كلم الله موسى تكليما» يعني لم أسم المستخفين كما سميت المستعلنين من الأنبياء. أقول: و رواه في الكافي، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن الحسن بن محبوب، عن محمد بن الفضيل، عن أبي حمزة عنه (عليه السلام)، و فيه: من الأنبياء مستخفين، و لذلك خفي ذكرهم في القرآن فلم يسموا كما سمي من استعلن من الأنبياء، و هو قول الله عز و جل. «رسلا قد قصصناهم عليك» من قبل و رسلا لم نقصصهم عليك يعني لم أسم المستخفين كما سميت المستعلنين من الأنبياء الحديث.
و المراد بالرواية على أي حال أن الله تعالى لم يذكر قصة المستخفين أصلا و لا سماهم، كما قص بعض قصص المستعلنين و سمى من سمى منهم.
و من الجائز أن يكون قوله: «يعني لم أسم» إلخ من كلام الراوي.
و في تفسير العياشي، عن أبي حمزة الثمالي قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: لكن الله يشهد بما أنزل إليك في علي أنزله بعلمه و الملائكة يشهدون و كفى بالله شهيدا.
أقول: و روى هذا المعنى القمي في تفسيره مسندا عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) و هو من قبيل الجري و التطبيق فإن من القرآن ما نزل في ولايته (عليه السلام)، و ليس المراد به تحريف الكتاب و لا هو قراءة منه (عليه السلام).
و نظيره ما رواه في الكافي، و تفسير العياشي، عن أبي جعفر (عليه السلام)، و القمي في تفسيره، عن أبي عبد الله (عليه السلام): إن الذين كفروا و ظلموا آل محمد حقهم لم يكن الله ليغفر لهم الآية و ما رواه في المجمع، عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله «قد جاءكم الرسول بالحق» أي بولاية من أمر الله بولايته.
|