بيان
بعد ما أجاب عما اقترحه أهل الكتاب من سؤالهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تنزيل كتاب من السماء ببيان أن رسوله إنما جاء بالحق من عند ربه، و أن الكتاب الذي جاء به من عند ربه حجة قاطعة لا ريب فيها استنتج منه صحة دعوة الناس كافة إلى نبيه و كتابه.
و قد كان بين فيما بين أن جميع رسله و أنبيائه - و قد ذكر فيهم عيسى - على سنة واحدة متشابهة الأجزاء و الأطراف، و هي سنة الوحي من الله فاستنتج منه صحة دعوة النصارى و هم أهل كتاب و وحي إلى أن لا يغلوا في دينهم، و أن يلحقوا بسائر الموحدين من المؤمنين، و يقروا في عيسى بما أقروا به هم و غيرهم في سائر الأنبياء أنهم عباد الله و رسله إلى خلقه.
فأخذ تعالى يدعو الناس كافة إلى الإيمان برسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأن المبين أولا هو صدق نبوته في قوله «إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح و النبيين من بعده» الآيات.
ثم دعا إلى عدم الغلو في حق عيسى (عليه السلام) لأنه المتبين ثانيا في ضمن الآيات المذكورة ثم دعا إلى اتباع كتابه و هو القرآن الكريم لأنه المبين أخيرا في قوله تعالى: «لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه» الآية.
قوله تعالى: «يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيرا لكم»، خطاب عام لأهل الكتاب و غيرهم من الناس كافة، متفرع على ما مر من البيان لأهل الكتاب، و إنما عمم الخطاب لصلاحية المدعو إليه و هو الإيمان بالرسول كذلك لعموم الرسالة.
و قوله «خيرا لكم» حال من الإيمان و هي حال لازمة أي حال كون الإيمان من صفته اللازمة أنه خير لكم.
و قوله «و إن تكفروا فإن لله ما في السموات و الأرض»، أي إن تكفروا لم يزد كفركم عليكم شيئا، و لا ينقص من الله سبحانه شيئا، فإن كل شيء مما في السماوات و الأرض لله فمن المحال أن يسلب منه تعالى شيء من ملكه فإن في طباع كل شيء مما في السماوات و الأرض أنه لله لا شريك له فكونه موجودا و كونه مملوكا شيء واحد بعينه، فكيف يمكن أن ينزع من ملكه تعالى شيء و هو شيء؟.
و الآية من الكلمات الجامعة التي كلما أمعنت في تدبرها أفادت زيادة لطف في معناها و سعة عجيبة في تبيانها، فإحاطة ملكه تعالى على الأشياء و آثارها تعطي في الكفر و الإيمان و الطاعة و المعصية معاني لطيفة، فعليك بزيادة التدبر فيها.
قوله تعالى: «يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم و لا تقولوا على الله إلا الحق»، ظاهر الخطاب بقرينة ما يذكر فيه من أمر المسيح (عليه السلام) أنه خطاب للنصارى، و إنما خوطبوا بأهل الكتاب - و هو وصف مشترك - إشعارا بأن تسميهم بأهل الكتاب يقتضي أن لا يتجاوزوا حدود ما أنزله الله و بينه في كتبه، و مما بينه أن لا يقولوا عليه إلا الحق.
و ربما أمكن أن يكون خطابا لليهود و النصارى جميعا، فإن اليهود أيضا كالنصارى في غلوهم في الدين، و قولهم على الله غير الحق، كما قال تعالى: «و قالت اليهود عزير ابن الله: التوبة: 30، و قال تعالى: «اتخذوا أحبارهم و رهبانهم أربابا من دون الله»: التوبة: 31، و قال تعالى: «قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا و بينكم - إلى أن قال - و لا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله»: آل عمران: 64.
و على هذا فقوله: «إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله» إلخ تخصيص في الخطاب بعد التعميم أخذا بتكليف طائفة من المخاطبين بما يخص بهم.
هذا، لكن يبعده أن ظاهر السياق كون قوله: «إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله»، تعليلا لقوله: «لا تغلوا في دينكم»، و لازمه اختصاص الخطاب بالنصارى و قوله «إنما المسيح» أي المبارك «عيسى بن مريم» تصريح بالاسم و اسم الأم ليكون أبعد من التفسير و التأويل بأي معنى مغاير، و ليكون دليلا على كونه إنسانا مخلوقا كأي إنسان ذي أم.
«و كلمته ألقاها إلى مريم» تفسير لمعنى الكلمة، فإنه كلمة «كن» التي ألقيت إلى مريم البتول، لم يعمل في تكونه الأسباب العادية كالنكاح و الأب، قال تعالى: «إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون»: آل عمران: 47 فكل شيء كلمة له تعالى غير أن سائر الأشياء مختلطة بالأسباب العادية، و الذي اختص لأجله عيسى (عليه السلام) بوقوع اسم الكلمة هو فقدانه بعض الأسباب العادية في تولده «و روح منه» و الروح من الأمر، قال تعالى: «قل الروح من أمر ربي»: إسراء: 85 و لما كان عيسى (عليه السلام) كلمة «كن» التكوينية و هي أمر فهو روح.
و قد تقدم البحث عن الآية في الكلام على خلقة المسيح في الجزء الثالث من هذا الكتاب.
قوله تعالى: «فآمنوا بالله و رسله و لا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد» تفريع على صدر الكلام بما أنه معلل بقوله: «إنما المسيح» إلخ أي فإذا كان كذلك وجب عليكم الإيمان على هذا النحو، و هو أن يكون إيمانا بالله بالربوبية و لرسله - و منهم عيسى - بالرسالة، و لا تقولوا ثلاثة انتهوا حال كون الانتهاء أو حال كون الإيمان بالله و رسله و نفي الثلاثة خيرا لكم.
و الثلاثة هم الأقانيم الثلاثة: الأب و الابن و روح القدس، و قد تقدم البحث عن ذلك في الآيات النازلة في أمر المسيح (عليه السلام) من سورة آل عمران.
قوله تعالى: «سبحانه أن يكون له ولد له ما في السموات و ما في الأرض»، السبحان مفعول مطلق مقدر الفعل، يتعلق به قوله: «أن يكون»، و هو منصوب بنزع الخافض، و التقدير: أسبحه تسبيحا و أنزهه تنزيها من أن يكون له ولد، و الجملة اعتراض مأتي به للتعظيم.
و قوله «له ما في السموات و ما في الأرض» حال أو جملة استيناف، و هو على أي حال احتجاج على نفي الولد عنه سبحانه، فإن الولد كيفما فرض هو الذي يماثل المولد في سنخ ذاته متكونا منه، و إذا كان كل ما في السماوات و الأرض مملوكا في أصل ذاته و آثاره لله تعالى و هو القيوم لكل شيء وحده فلا يماثله شيء من هذه الأشياء فلا ولد له.
و المقام مقام التعميم لكل ما في الوجود غير الله عز اسمه و لازم هذا أن يكون قوله «ما في السموات و ما في الأرض» تعبيرا كنائيا عن جميع ما سوى الله سبحانه إذ نفس السماوات و الأرض مشمولة لهذه الحجة، و ليست مما في السماوات و الأرض بل هي نفسها.
ثم لما كان ما في الآية من أمر و نهي هداية عامة لهم إلى ما هو خير لهم في دنياهم و أخراهم ذيل الكلام بقوله «و كفى بالله وكيلا» أي وليا لشئونكم، مدبرا لأموركم، يهديكم إلى ما هو خير لكم و يدعوكم إلى صراط مستقيم.
قوله تعالى: «لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله و لا الملائكة المقربون» احتجاج آخر على نفي ألوهية المسيح (عليه السلام) مطلقا سواء فرض كونه ولدا أو أنه ثالث ثلاثة، فإن المسيح عبد لله لن يستنكف أبدا عن عبادته، و هذا مما لا ينكره النصارى، و الأناجيل الدائرة عندهم صريحة في أنه كان يعبد الله تعالى، و لا معنى لعبادة الولد الذي هو سنخ إله و لا لعبادة الشيء لنفسه و لا لعبادة أحد الثلاثة لثالثها الذي ينطبق وجوده على كل منها، و قد تقدم الكلام على هذا البرهان في مباحث المسيح (عليه السلام).
و قوله «و لا الملائكة المقربون» تعميم للكلام على الملائكة لجريان الحجة بعينها فيهم و قد قال جماعة من المشركين - كمشركي العرب -: بكونهم بنات الله فالجملة استطرادية.
و التعبير في الآية أعني قوله «لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله و لا الملائكة المقربون» عن عيسى (عليه السلام) بالمسيح، و كذا توصيف الملائكة بالمقربين مشعر بالعلية لما فيهما من معنى الوصف، أي إن عيسى لن يستنكف عن عبادته و كيف يستنكف و هو مسيح مبارك؟ و لا الملائكة و هم مقربون؟ و لو رجي فيهم أن يستنكفوا لم يبارك الله في هذا و لا قرب هؤلاء، و قد وصف الله المسيح أيضا بأنه مقرب في قوله: «وجيها في الدنيا و الآخرة و من المقربين»: آل عمران: 45.
قوله تعالى: «و من يستنكف عن عبادته و يستكبر فسيحشرهم إليه جميعا» حال.
من المسيح و الملائكة و هو في موضع التعليل أي و كيف يستنكف المسيح و الملائكة المقربون عن عبادته و الحال أن الذين يستنكفون عن عبادته و يستكبرون من عباده من الإنس و الجن و الملائكة يحشرون إليه جميعا، فيجزون حسب أعمالهم، و المسيح و الملائكة يعلمون ذلك و يؤمنون به و يتقونه.
و من الدليل على أن قوله: «و من يستنكف عن عبادته و يستكبر» إلخ في معنى أن المسيح و الملائكة المقربين عالمون بأن المستنكفين يحشرون إليه قوله «و يستكبر» إنما قيد به قوله «و من يستنكف» لأن مجرد الاستنكاف لا يوجب السخط الإلهي إذا لم يكن عن استكبار كما في الجهلاء و المستضعفين، و أما المسيح و الملائكة فإن استنكافهم لا يكون إلا عن استكبار لكونهم عالمين بمقام ربهم، و لذلك اكتفى بذكر الاستنكاف فحسب فيهم، فيكون معنى تعليل هذا بقوله: «و من يستنكف عن عبادته و يستكبر»، أنهم عالمون بأن من يستنكف عن عبادته إلخ».
و قوله «جميعا» أي صالحا و طالحا و هذا هو المصحح للتفضيل الذي يتلوه من قوله: «فأما الذين ءامنوا و عملوا الصالحات» إلخ.
قوله تعالى: «و لا يجدون لهم من دون الله وليا و لا نصيرا» التعرض لنفي الولي و النصير مقابلة لما قيل به من ألوهية المسيح و الملائكة.
قوله تعالى: «يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم و أنزلنا إليكم نورا مبينا قال الراغب: البرهان بيان للحجة، و هو فعلان مثل الرجحان و الثنيان.
و قال بعضهم: هو مصدر بره يبره إذا ابيض.
انتهى، فهو على أي حال مصدر.
و ربما استعمل بمعنى الفاعل كما إذا أطلق على نفس الدليل و الحجة.
و المراد بالنور هو القرآن لا محالة بقرينة قوله «و أنزلنا إليكم» و يمكن أن يراد بالبرهان أيضا ذلك، و الجملتان إذا تؤكد إحداهما الأخرى.
و يمكن أن يراد به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و يؤيده وقوع الآية في ذيل الآيات المبينة لصدق النبي في رسالته، و نزول القرآن من عند الله تعالى، و كون الآية تفريعا لذلك و يؤيده أيضا قوله تعالى في الآية التالية.
«و اعتصموا به» لما تقدم في الكلام على قوله «و من يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم»: آل عمران. 101 إن المراد بالاعتصام الأخذ بكتاب الله و الاتباع لرسوله (صلى الله عليه وآله وسلم).
قوله تعالى: «فأما الذين ءامنوا بالله و اعتصموا به»، بيان لثواب من اتبع برهان ربه و النور النازل من عنده.
و الآية كأنها منتزعة من الآية السابقة المبينة لثواب الذين آمنوا و عملوا الصالحات أعني قوله «فأما الذين ءامنوا و عملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم و يزيدهم من فضله»، و لعله لذلك لم يذكر هاهنا جزاء المتخلف من تبعية البرهان و النور، لأنه بعينه ما ذكر في الآية السابقة، فلا حاجة إلى تكراره ثانيا بعد الإشعار بأن جزاء المتبعين هاهنا جزاء المتبعين هنالك، و ليس هناك إلا فريقان: المتبعون و المتخلفون.
و على هذا فقوله في هذه الآية: «فسيدخلهم في رحمة منه» يحاذي قوله في تلك الآية: «فيوفيهم أجورهم» و هو الجنة، و أيضا قوله في هذه الآية: «و فضل» يحاذي قوله في تلك الآية: «و يزيدهم من فضله» و أما قوله «و يهديهم إليه صراطا مستقيما» فهو من آثار ما ذكر فيها من الاعتصام بالله كما في قوله: «و من يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم: آل عمران: 101.
|