بيان
تتضمن الآيات الكريمة مثلين يمثل بهما الله سبحانه حال الكفار و المؤمنين في أن شقاء الكفار و هلاكهم إنما كان بخيانتهم لله و رسوله و كفرهم و لم ينفعهم اتصال بسبب إلى الأنبياء المكرمين، و أن سعادة المؤمنين و فلاحهم إنما كان بإخلاصهم الإيمان بالله و رسوله و القنوت و حسن الطاعة و لم يضرهم اتصال بأعداء الله بسبب فإنما ملاك الكرامة عند الله التقوى.
يمثل الحال أولا: بحال امرأتين كانتا زوجين لنبيين كريمين عدهما الله سبحانه عبدين صالحين - و يا له من كرامة - فخانتاهما فأمرتا بدخول النار مع الداخلين فلم ينفعهما زوجيتهما للنبيين الكريمين شيئا فهلكتا في ضمن الهالكين من غير أدنى تميز و كرامة.
و ثانيا: بحال امرأتين إحداهما امرأة فرعون الذي كانت منزلته في الكفر بالله أن نادى في الناس فقال: أنا ربكم الأعلى، فآمنت بالله و أخلصت الإيمان فأنجاها الله و أدخلها الجنة و لم يضرها زوجية مثل فرعون شيئا، و ثانيتهما مريم ابنة عمران الصديقة القانتة أكرمها الله بكرامته و نفخ فيها من روحه.
و في التمثيل تعريض ظاهر شديد لزوجي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث خانتاه في إفشاء سره و تظاهرتا عليه و آذتاه بذلك، و خاصة من حيث التعبير بلفظ الكفر و الخيانة و ذكر الأمر بدخول النار.
قوله تعالى: «ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح و امرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما» إلخ، قال الراغب: الخيانة و النفاق واحد إلا أن الخيانة تقال اعتبارا بالعهد و الأمانة، و النفاق يقال اعتبارا بالدين ثم يتداخلان فالخيانة مخالفة الحق بنقض العهد في السر و نقيض الخيانة الأمانة، يقال: خنت فلانا و خنت أمانة فلان.
انتهى.
و قوله: «للذين كفروا» إن كان متعلقا بالمثل كان المعنى: ضرب الله مثلا يمثل به حال الذين كفروا أنهم لا ينفعهم الاتصال بالعباد الصالحين، و إن كان متعلقا بضرب كان المعنى: ضرب الله الامرأتين و ما انتهت إليه حالهما مثلا للذين كفروا ليعتبروا به و يعلموا أنهم لا ينفعهم الاتصال بالصالحين من عباده و أنهم بخيانتهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من أهل النار لا محالة.
و قوله: «امرأة نوح و امرأة لوط» مفعول «ضرب» و المراد بكونهما تحتهما زوجيتهما لهما.
و قوله: «فلم يغنيا عنهما من الله شيئا» ضمير التثنية الأولى للعبدين، و الثانية للامرأتين، و المراد أنه لم ينفع المرأتين زوجيتهما للعبدين الصالحين.
و قوله: «و قيل ادخلا النار مع الداخلين» أي مع الداخلين فيها من قوميهما كما يلوح من قوله في امرأة نوح: «حتى إذا جاء أمرنا و فار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين و أهلك إلا من سبق عليه القول»: هود: 40، و قوله في امرأة لوط: «فأسر بأهلك بقطع من الليل و لا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم»: هود: 81، أو المعنى مع الداخلين فيها من الكفار.
و في التعبير بقيل بالبناء للمفعول، و إطلاق الداخلين إشارة إلى هوان أمرهما و عدم كرامة لهما أصلا فلم يبال بهما أين هلكتا.
قوله تعالى: «و ضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة» إلخ، الكلام في قوله: «للذين آمنوا» كالكلام في قوله: «للذين كفروا».
و قوله: «إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة» لخص سبحانه جميع ما كانت تبتغيه في حياتها و ترومه في مسير عبوديتها في مسألة سألت ربها و ذلك أن الإيمان إذا كمل تواطأ الظاهر و الباطن و توافق القلب و اللسان فلا يقول الإنسان إلا ما يفعل و لا يفعل إلا ما يقول فيكون ما يرجوه أو يتمناه أو يسأله بلسانه هو الذي يريده كذلك بعمله.
و إذ حكى الله فيما يمثل به حالها و يشير إلى منزلتها الخاصة في العبودية دعاء دعت به دل ذلك على أنه عنوان جامع لعبوديتها و على ذلك كانت تسير مدى حياتها، و الذي تتضمنه مسألتها أن يبني الله لها عنده بيتا في الجنة و ينجيها من فرعون و عمله و ينجيها من القوم الظالمين فقد اختارت جوار ربه و القرب منه على أن تكون أنيسة فرعون و عشيقته و هي ملكة مصر و آثرت بيتا يبنيه لها ربها على بيت فرعون الذي فيه مما تشتهيه الأنفس و تتمناه القلوب ما تقف دونه الآمال فقد كانت عزفت نفسها ما هي فيه من زينة الحياة الدنيا و هي لها خاضعة و تعلقت بما عند ربه من الكرامة و الزلفى فآمنت بالغيب و استقامت على إيمانها حتى قضت.
و هذه القدم هي التي قدمتها إلى أن جعلها الله مثلا للذين آمنوا و لخص حالها و ما كانت تبتغيه و تعمل له مدى حياتها في مسير العبودية في مسألة حكى عنها و ما معناها إلا أنها انتزعت من كل ما يلهوها عن ربها و لاذت بربها تريد القرب منه تعالى و الإقامة في دار كرامته.
فقوله: «امرأة فرعون» اسمها على ما في الرواية آسية، و قوله: «إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة» الجمع بين كون البيت المبني لها عند الله و في الجنة لكون الجنة دار القرب من الله و جوار رب العالمين كما قال تعالى: «بل أحياء عند ربهم يرزقون»: آل عمران: 169.
على أن الحضور عنده تعالى و القرب منه كرامة معنوية و الاستقرار في الجنة كرامة صورية، و سؤال الجمع بينهما سؤال الجمع بين الكرامتين.
و قوله: «و نجني من فرعون و عمله» تبر منها و سؤال أن ينجيها الله من شخص فرعون و من عمله الذي تدعو ضرورة المصاحبة و المعاشرة إلى الشركة فيه و التلبس به، و قيل: المراد بالعمل الجماع.
و قوله: «و نجني من القوم الظالمين» و هم قوم فرعون و هو تبر آخر و سؤال أن ينجيها الله من المجتمع العام كما أن الجملة السابقة كانت سؤال أن ينجيها من المجتمع الخاص.
قوله تعالى: «و مريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا» إلخ، عطف على امرأة فرعون و التقدير و ضرب الله مثلا للذين آمنوا مريم إلخ.
ضربها الله مثلا باسمها و أثنى عليها و لم يذكر في كلامه تعالى امرأة باسمها غيرها ذكر اسمها في القرآن في بضع و ثلاثين موضعا في نيف و عشرين سورة.
و قوله: «التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا» ثناء عليها على عفتها، و قد تكرر في القرآن ذكر ذلك و لعل ذلك بإزاء ما افتعله اليهود من البهتان عليها كما قال تعالى: «و قولهم على مريم بهتانا عظيما»: النساء: 156، و في سورة الأنبياء في مثل القصة: «و التي أحصنت فرجها فنفخنا فيها»: الأنبياء: 91.
و قوله: «و صدقت بكلمات ربها» أي بما تكلم به الله سبحانه من الوحي إلى أنبيائه كما قيل، و قيل: المراد بها وعده تعالى و وعيده و أمره و نهيه، و فيه أنه يستلزم كون ذكر الكتب مستدركا.
و قوله: «و كتبه» و هي المشتملة على شرائع الله المنزلة من السماء كالتوراة و الإنجيل كما هو مصطلح القرآن و لعل المراد من تصديقها كلمات ربها و كتبه كونها صديقة كما في قوله تعالى: «ما المسيح بن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل و أمه صديقة»: المائدة: 75.
و قوله: «و كانت من القانتين» أي من القوم المطيعين لله الخاضعين له الدائمين عليه غلب فيه المذكر على المؤنث.
و يؤيد هذا المعنى كون القنوت بهذا المعنى واقعا فيما حكى الله من نداء الملائكة لها «يا مريم اقنتي لربك و اسجدي و اركعي مع الراكعين»: آل عمران: 43، و قيل: يجوز أن يراد بالقانتين رهطها و عشيرتها الذين كانت مريم منهم و كانوا أهل بيت صلاح و طاعة، و هو بعيد لما تقدم.
على أن المناسب لكون المثل تعريضا لزوجي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يراد بالقانتين مطلق أهل الطاعة و الخضوع لله تعالى.
بحث روائي
في تفسير البرهان، عن شرف الدين النجفي رفعه عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال قوله تعالى: «ضرب الله مثلا للذين كفروا - امرأة نوح و امرأة لوط» الآية مثل ضربه الله لعائشة و حفصة أن تظاهرتا على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و أفشتا سره.
و في المجمع،: عن أبي موسى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: كمل من الرجال كثير و لم يكمل من النساء إلا أربع: آسية بنت مزاحم امرأة فرعون، و مريم بنت عمران، و خديجة بنت خويلد، و فاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).
و في الدر المنثور، أخرج أحمد و الطبراني و الحاكم و صححه عن ابن عباس قال: قال رسول الله: أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد و فاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) و مريم بنت عمران و آسية بنت مزاحم امرأة فرعون مع ما قص الله علينا من خبرهما في القرآن «قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة».
و فيه، أخرج الطبراني عن سعد بن جنادة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الله زوجني في الجنة مريم بنت عمران و امرأة فرعون و أخت موسى.
أقول: و امرأة فرعون على ما وردت به الروايات مقتولة قتلها زوجها فرعون لما اطلع أنها آمنت بالله وحده، و قد اختلفت الروايات في كيفية قتلها.
ففي بعضها أنه لما اطلع على إيمانها كلفها الرجوع إلى الكفر فأبت إلا الإيمان فأمر بها أن ترمى عليها بصخرة عظيمة حتى ترضح تحتها ففعل بها ذلك.
و في بعضها لما أحضرت للعذاب دعت بما حكى الله عنها في كلامه من قولها: «رب ابن لي عندك بيتا في الجنة» إلخ، فاستجاب الله لها و رأت بيتها في الجنة و انتزعت منها الروح و ألقيت الصخرة على جسد ليس فيه روح.
و في بعضها أن فرعون وتد لها أربعة أوتاد و أضجعها على صدرها و جعل على صدرها رحى و استقبل بها عين الشمس.
و الله أعلم.
|