بيان
آيات أخر يذكرهم الله تعالى بها دالة على وحدانيته تعالى في الخلق و التدبير مقرونة بالإنذار و التخويف، جارية على غرض السورة و هو التذكرة بالوحدانية مع الإنذار غير أنه تعالى لما أشار إلى لجاجهم و عنادهم للحق في قوله السابق: «بل لجوا في عتو و نفور» غير السياق بالإعراض عن خطابهم و الالتفات إلى خطاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأمره أن يتصدى خطابهم و يقرع أسماعهم آياته في الخلق و التدبير الدالة على توحده في الربوبية و إنذارهم بعذاب الله، و ذلك قوله: «قل هو الذي أنشأكم» إلخ، «قل هو الذي ذرأكم» إلخ، «قل إنما العلم» إلخ، «قل أ رأيتم إن أهلكني الله» إلخ، «قل هو الرحمن» إلخ، «قل أ رأيتم إن أصبح ماؤكم غورا» إلخ.
قوله تعالى: «قل هو الذي أنشأكم و جعل لكم السمع و الأبصار و الأفئدة قليلا ما تشكرون» الإنشاء إحداث الشيء ابتداء و تربيته.
ما في ذيل الآية من لحن العتاب في قوله: «قليلا ما تشكرون» و قد تكرر نظيره في غير موضع من كلامه كما في سورة المؤمنون و الم السجدة يدل على أن إنشاءه تعالى الإنسان و تجهيزه بجهاز الحس و الفكر من أعظم نعمه تعالى التي لا يقدر قدرها.
و ليس المراد بإنشائه مجرد خلقه كيفما كان بل خلقه و إحداثه من دون سابقه في مادته كما أشار إليه في قوله يصف خلقه طورا بعد طور: «و لقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة - إلى أن قال - ثم أنشأناه خلقا آخر»: المؤمنون: 14، فصيرورة المضغة إنسانا سميعا بصيرا متفكرا بتركيب النفس الإنسانية عليها خلق آخر لا يسانخ أنواع الخلقة المادية الواردة على مادة الإنسان من أخذها من الأرض ثم جعلها نطفة ثم علقة ثم مضغة فإنما هي أطوار مادية متعاقبة بخلاف صيرورتها إنسانا ذا شعور فلا سابقة لها تماثلها أو تشابهها فهو الإنشاء.
و مثله قوله: «و من آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون»: الروم: 20 انظر إلى موضع إذا الفجائية.
فقوله: «هو الذي أنشأكم» إشارة إلى خلق الإنسان.
و قوله: «و جعل لكم السمع و الأبصار و الأفئدة» إشارة إلى تجهيزه بجهاز الحس و الفكر، و الجعل إنشائي كجعل نفس الإنسان كما يشير إليه قوله: «و هو الذي أنشأ لكم السمع و الأبصار و الأفئدة قليلا ما تشكرون»: المؤمنون: 78.
فالإنسان بخصوصية إنشائه و كونه بحيث يسمع و يبصر يمتاز من الجماد و النبات - و الاقتصار بالسمع و البصر من سائر الحواس كاللمس و الذوق و الشم لكونهما العمدة و لا يبعد أن يكون المراد بالسمع و البصر مطلق الحواس الظاهرة من باب إطلاق الجزء و إرادة الكل - و بالفؤاد و هو النفس المتفكرة يمتاز من سائر الحيوان.
و قوله: «قليلا ما تشكرون» أي تشكرون قليلا على هذه النعمة - أو النعم - العظمى فما زائدة و قليلا مفعول مطلق تقديره تشكرون شكرا قليلا، و قيل: ما مصدرية و المعنى: قليلا شكركم.
قوله تعالى: «قل هو الذي ذرأكم في الأرض و إليه تحشرون» الذرء الخلق و المراد بذرئهم في الأرض خلقهم متعلقين بالأرض فلا يتم لهم كمالهم إلا بأعمال متعلقة بالمادة الأرضية بما زينها الله تعالى بما تنجذب إليه النفس الإنسانية في حياتها المعجلة ليمتاز به الصالح من الطالح قال تعالى: «إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا و إنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا»: الكهف: 8.
و قوله: «و إليه تحشرون» إشارة إلى البعث و الجزاء و وعد جازم.
قوله تعالى: «و يقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين» المراد بهذا الوعد الحشر الموعود، و هو استعجال منهم استهزاء.
قوله تعالى: «قل إنما العلم عند الله و إنما أنا نذير مبين» جواب عن قولهم: «متى هذا الوعد» إلخ، و محصله أن العلم به عند الله لا يعلم به إلا هو كما قال: «لا يجليها لوقتها إلا هو»: الأعراف: 187، و ليس لي إلا أني نذير مبين أمرت أن أخبركم أنكم إليه تحشرون و أما أنه متى هو فليس لي بذلك علم.
هذا على ما يفيده وقوع الآية في سياق الجواب عن السؤال عن وقت الحشر، و على هذا تكون اللام في العلم للعهد، و المراد العلم بوقت الحشر، و أما لو كانت للجنس على ما تفيده جملة «إنما العلم عند الله» في نفسها فالمعنى: إنما حقيقة العلم عند الله و لا يحاط بشيء منه إلا بإذنه كما قال: «و لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء»: البقرة: 255، و لم يشأ أن أعلم من ذلك إلا أنه سيقع و أنذركم به و أما أنه متى يقع فلا علم لي به.
قوله تعالى: «فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا» إلخ، الزلفة القرب و المراد به القريب أو هو من باب زيد عدل، و ضمير «رأوه» للوعد و قيل للعذاب و المعنى: فلما رأوا الوعد المذكور قريبا قد أشرف عليهم ساء ذلك وجوه الذين كفروا به فظهر في سيماهم أثر الخيبة و الخسران.
و قوله: «و قيل هذا الذي كنتم به تدعون» قيل تدعون و تدعون بمعنى واحد كتدخرون و تدخرون و المعنى: و قيل لهم: هذا هو الوعد الذي كنتم تسألونه و تستعجلون به بقولكم: متى هذا الوعد، و ظاهر السياق أن القائل هم الملائكة بأمر من الله، و قيل القائل من الكفار يقوله بعضهم لبعض.
قوله تعالى: «قل أ رأيتم إن أهلكني الله و من معي أو رحمنا فمن يجير الكافرين من عذاب أليم» «إن» شرطية شرطها قوله: «أهلكني الله» و جزاؤها قوله: «فمن يجير» إلخ، و المعنى: قل لهم أخبروني إن أهلكني الله و من معي من المؤمنين أو رحمنا فلم يهلكنا فمن الذي يجير و يعيد الكافرين - و هم أنتم كفرتم بالله فاستحققتم أليم العذاب - من عذاب أليم يهددهم تهديدا قاطعا أي إن هلاكي و من معي و بقاؤنا برحمة ربي لا ينفعكم شيئا في العذاب الذي سيصيبكم قطعا بكفركم بالله.
قيل: إن كفار مكة كانوا يدعون على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و على المؤمنين بالهلاك فأمر (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقول لهم إن أهلكنا الله تعالى أو أبقانا فأمرنا إلى الله و نرجو الخير من رحمته و أما أنتم فما تصنعون؟ من يجيركم من أليم العذاب على كفركم بالله؟.
قوله تعالى: «قل هو الرحمن آمنا به و عليه توكلنا فستعلمون من هو في ضلال مبين» الضمير للذي يدعو إلى توحيده و هم يدعونه عليه، و المعنى: قل الذي أدعوكم إلى توحيده و تدعونه علي و على من معي هو الرحمن الذي عمت نعمته كل شيء آمنا به و عليه توكلنا من غير أن نميل و نعتمد على شيء دونه فستعلمون أيها الكفار من هو في ضلال مبين؟ نحن أم أنتم؟.
قال في الكشاف،: فإن قيل: لم أخر مفعول «آمنا» و قدم مفعول «توكلنا»؟ قلت: لوقوع آمنا تعريضا بالكافرين حين ورد عقيب ذكرهم كأنه قيل: آمنا و لم نكفر كما كفرتم، ثم قال: و عليه توكلنا خصوصا لم نتكل على ما أنتم متكلون عليه من رجالكم و أموالكم.
قوله تعالى: «قل أ رأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين» الغور ذهاب الماء و نضوبه في الأرض و المراد به الغائر، و المعين الظاهر الجاري من الماء، و المعنى: أخبروني إن صار ماؤكم غائرا ناضبا في الأرض فمن يأتيكم بماء ظاهر جار.
و هناك روايات تطبق الآيات على ولاية علي (عليه السلام) و محادته، و هي من الجري و ليست بمفسرة.
|