بيان
الآيات غير خالية عن الاتصال بما قبلها فإنها تشتمل على نقضهم بعض المواثيق المأخوذة عليهم و هو الميثاق بالسمع و الطاعة لموسى، و تجبيههم موسى (عليه السلام) بالرد الصريح لما دعاهم إليه و ابتلائهم جزاء لذنبهم هذا بالتيه و هو عذاب إلهي.
و في بعض الأخبار ما يشعر أن هذه الآيات نزلت قبل غزوة بدر في أوائل الهجرة، على ما ستجيء الإشارة إليها في البحث الروائي التالي إن شاء الله.
قوله تعالى: «و إذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم» إلى آخر الآية الآيات النازلة في قصص موسى تدل على أن هذه القصة - دعوة موسى إياهم إلى دخول الأرض المقدسة - إنما كانت بعد خروجهم من مصر، كما أن قوله في هذه الآية: «و جعلكم ملوكا» يدل على ذلك أيضا.
و يدل قوله: «و ءاتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين» على سبق عدة من الآيات النازلة عليهم كالمن و السلوى و انفجار العيون من الحجارة و إضلال الغمام.
و يدل قوله: «القوم الفاسقين» المتكرر مرتين على تحقق المخالفة و معصية الرسول منهم قبل القصة مرة بعد مرة حتى عادوا بذلك متلبسين بصفة الفسق.
فهذه قرائن تدل على وقوع القصة أعني قصة التيه في الشطر الأخير من زمان مكث موسى (عليه السلام) فيهم بعد أن بعثه الله تعالى إليهم و أن غالب القصص المقتصة في القرآن عنهم إنما وقعت قبل ذلك.
فقول موسى لهم: «اذكروا نعمة الله عليكم» أريد به مجموع النعم التي أنعم الله بها عليهم، و حباهم بها و إنما بدأ بذلك مقدمة لما سيندبهم إليه من دخول الأرض المقدسة فذكرهم نعم ربهم لينشطوا بذلك لاستزادة النعمة و استتمامها فإن الله قد كان أنعم عليهم ببعثة موسى و هذا يتهم إلى دينه، و نجاتهم من آل فرعون، و إنزال التوراة، و تشريع الشريعة فلم يبق لهم من تمام النعمة إلا أن يمتلكوا أرضا مقدسة يستقلون فيها بالقطون و السؤدد.
و قد قسم النعمة التي ذكرهم بها ثلاثة أقسام حين التفصيل فقال: «إذ جعل فيكم أنبياء» و هم الأنبياء الذين في عمود نسبهم كإبراهيم و إسحاق و يعقوب و من بعدهم من الأنبياء، أو خصوص الأنبياء من بني إسرائيل كيوسف أو الأسباط و موسى و هارون، و النبوة نعمة أخرى.
ثم قال: «و جعلكم ملوكا» أي مستقلين بأنفسكم خارجين من ذل استرقاق الفراعنة و تحكم الجبابرة، و ليس الملك إلا من استقل في أمر نفسه و أهله و ماله، و قد كان بنو إسرائيل في زمن موسى يسيرون بسنة اجتماعية هي أحسن السنن و هي سنة التوحيد التي تأمرهم بطاعة الله و رسوله، و العدل التام في مجتمعهم، و عدم الاعتداء على غيرهم من الأمم من غير أن يتأمر عليهم بعضهم أو يختلف طبقاتهم اختلافا يختل به أمر المجتمع، و ما عليهم إلا موسى و هو نبي غير سائر سيرة ملك أو رئيس عشيرة يستعلي عليهم بغير الحق.
و قيل: المراد بجعلهم ملوكا هو ما قدر الله فيهم من الملك الذي يبتدىء من طالوت فداود إلى آخر ملوكهم، فالكلام على هذا وعد بالملك إخبارا بالغيب فإن الملك لم يستقر فيهم إلا بعد موسى بزمان.
و هذا الوجه لا بأس به لكن لا يلائمه قوله: «و جعلكم ملوكا» و لم يقل: و جعل منكم ملوكا، كما قال: «جعل فيكم أنبياء». و يمكن أن يكون المراد بالملك مجرد ركوز الحكم عند بعض الجماعة فيشمل سنة الشيخوخة، و يكون على هذا موسى (عليه السلام) ملكا و بعده يوشع النبي و قد كان يوسف ملكا من قبل، و ينتهي إلى الملوك المعروفين طالوت و داود و سليمان و غيرهم.
هذا، و يرد على هذا الوجه أيضا ما يرد على سابقه.
ثم قال: «و ءاتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين» و هي العنايات و الألطاف الإلهية التي اقترنت بآيات باهرة قيمة بتعديل حياتهم لو استقاموا على ما قالوا، و داموا على ما واثقوا، و هي الآيات البينات التي أحاطت بهم من كل جانب أيام كانوا بمصر، و بعد إذ نجاهم الله من فرعون و قومه، فلم يتوافر و يتواتر من الآيات المعجزات و البراهين الساطعات و النعم التي يتنعم بها في الحياة على أمة من الأمم الماضية المتقدمة على عهد موسى ما توافرت و تواترت على بني إسرائيل.
و على هذا فلا وجه لقول بعضهم: إن المراد بالعالمين عالمو زمانهم و ذلك أن الآية تنفي أن يكون أمة من الأمم إلى ذلك الوقت أوتيت من النعم ما أوتي بنو إسرائيل، و هو كذلك.
قوله تعالى: «يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم و لا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين» أمرهم بدخول الأرض المقدسة، و كان يستنبط من حالهم التمرد و التأبي عن القبول، و لذلك أكد أمره بالنهي عن الارتداد و ذكر استتباعه الخسران.
و الدليل على أنه كان يستنبط منهم الرد توصيفه إياهم بالفاسقين بعد ردهم، فإن الرد و هو فسق واحد لا يصحح إطلاق «الفاسقين» عليهم الدال على نوع من الاستمرار و التكرر.
و قد وصف الأرض بالمقدسة، و قد فسروه بالمطهرة من الشرك لسكون الأنبياء و المؤمنين فيها، و لم يرد في القرآن الكريم ما يفسر هذه الكلمة.
و الذي يمكن أن يستفاد منه ما يقرب من هذا المعنى قوله تعالى: «إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله»: إسراء: 1 و قوله: «و أورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض و مغاربها التي باركنا فيها»: الأعراف: 173 و ليست المباركة في الأرض إلا جعل الخير الكثير فيها، و من الخير الكثير إقامة الدين و إذهاب قذارة الشرك.
و قوله: «كتب الله لكم» ظاهر الآيات أن المراد به قضاء توطنهم فيها، و لا ينافيه قوله في آخرها: «فإنها محرمة عليهم أربعين سنة» بل يؤكده فإن قوله: «كتب الله لكم» كلام مجمل أبهم فيه ذكر الوقت و حتى الأشخاص، فإن الخطاب للأمة من غير تعرض لحال الأفراد و الأشخاص، كما قيل: إن السامعين لهذا الخطاب الحاضرين المكلفين به ماتوا و فنوا عن آخرهم في التيه، و لم يدخل الأرض المقدسة إلا أبناؤهم و أبناء أبنائهم مع يوشع بن نون، و بالجملة لا يخلو قوله: «فإنها محرمة عليهم أربعين سنة» عن إشعار بأنها مكتوبة لهم بعد ذلك.
و هذه الكتابة هي التي يدل عليها قوله تعالى: «و نريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض و نجعلهم أئمة و نجعلهم الوارثين و نمكن لهم في الأرض»: القصص: 6 و قد كان موسى (عليه السلام) يرجو لهم ذلك بشرط الاستعانة بالله و الصبر حيث يقول: «قال موسى لقومه استعينوا بالله و اصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده و العاقبة للمتقين قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا و من بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم و يستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون»: الأعراف: 192. و هذا هو الذي يخبر تعالى عن إنجازه بقوله: «و أورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض و مغاربها التي باركنا فيها و تمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا»: الأعراف: 173 فدلت الآية على أن استيلاءهم على الأرض المقدسة و توطنهم فيها كانت كلمة إلهية و كتابا و قضاء مقضيا مشترطا بالصبر على الطاعة و عن المعصية، و في مر الحوادث.
و إنما عممنا الصبر لمكان إطلاق الآية، و لأن الحوادث الشاقة كانت تتراكم عليهم أيام موسى و معها الأوامر و النواهي الإلهية، و كلما أصروا على المعصية اشتدت عليهم التكاليف الشاقة كما تدل على ذلك أخبارهم المذكورة في القرآن الكريم.
و هذا هو الظاهر من القرآن في معنى كتابة الأرض المقدسة لهم، و الآيات مع ذلك مبهمة في زمان الكتابة و مقدارها غير أن قوله تعالى في ذيل آيات سورة الإسراء: «و إن عدتم عدنا و جعلنا جهنم للكافرين حصيرا»: إسراء: 8 و كذا قول موسى لهم في ذيل الآية السابقة: «عسى ربكم أن يهلك عدوكم و يستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون»: الأعراف: 192 و قوله أيضا: «و إذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم - إلى أن قال - و إذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم و لئن كفرتم إن عذابي لشديد»: إبراهيم: 7 و ما يناظرها من الآيات تدل على أن هذه الكتابة كتابة مشترطة لا مطلقة غير قابلة للتغير و التبدل.
و قد ذكر بعض المفسرين أن مراد موسى في محكي قوله في الآية: «كتب الله لكم» ما وعد الله إبراهيم (عليه السلام)، ثم ذكر ما في التوراة من وعد الله إبراهيم و إسحاق و يعقوب أنه سيعطي الأرض لنسلهم، و أطال البحث في ذلك.
و لا يهمنا البحث في ذلك على شريطة الكتاب سواء كانت هذه العدات من التوراة الأصلية أو مما لعبت به يد التحريف فإن القرآن لا يفسر بالتوراة.
قوله تعالى: «قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين و إنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون» قال الراغب: أصل الجبر إصلاح الشيء بضرب من القهر يقال: جبرته فانجبر و اجتبر.
قال: و قد يقال الجبر تارة في الإصلاح المجرد نحو قول علي رضي الله عنه: يا جابر كل كسير و يا مسهل كل عسير، و منه قولهم للخبز: جابر بن حبة، و تارة في القهر المجرد نحو قوله (عليه السلام): لا جبر و لا تفويض، قال: و الإجبار في الأصل حمل الغير على أن يجبر الآخر لكن تعورف في الإكراه المجرد فقيل: أجبرته على كذا كقولك: أكرهته.
قال: و الجبار في صفة الإنسان يقال لمن يجبر نقيصة بادعاء منزلة من التعالي لا يستحقها، و هذا لا يقال إلا على طريق الذم كقوله عز و جل: «و خاب كل جبار عنيد» و قوله تعالى.
«و لم يجعلني جبارا شقيا» و قوله عز و جل: «إن فيها قوما جبارين» قال: و لتصور القهر بالعلو على الأقران قيل: نخلة جبارة و ناقة جبارة انتهى موضع الحاجة.
فظهر أن المراد بالجبارين هم أولو السطوة و القوة من الذين يجبرون الناس على ما يريدون.
و قوله: «و إنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها» اشتراط منهم خروج القوم الجبارين في دخول الأرض، و حقيقته الرد لأمر موسى و إن وعدوه ثانيا الدخول على الشرط بقولهم: «فإن يخرجوا منها فإنا داخلون».
و قد ورد في عدة من الأخبار في صفة هؤلاء الجبارين من العمالقة و عظم أجسامهم و طول قامتهم أمور عجيبة لا يستطيع ذو عقل سليم أن يصدقها، و لا يوجد في الآثار الأرضية و الأبحاث الطبيعية ما يؤيدها فليست إلا موضوعة مدسوسة.
قوله تعالى: «قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما» إلى آخر الآية ظاهر السياق أن المراد بالمخافة مخافة الله سبحانه و أن هناك رجالا كانوا يخافون الله أن يعصوا أمره و أمر نبيه، و منهم هذان الرجلان اللذان قالا، ما قالا و أنهما كانا يختصان من بين أولئك الذين يخافون بأن الله أنعم عليهما، و قد مر في موارد تقدمت من الكتاب أن النعمة إذا أطلقت في عرف القرآن يراد بها الولاية الإلهية فهما كانا من أولياء الله تعالى، و هذا في نفسه قرينة على أن المراد بالمخافة مخافة الله سبحانه فإن أولياء الله لا يخشون غيره قال تعالى: «ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم و لا هم يحزنون»: يونس: 62.
و يمكن أن يكون متعلق «أنعم» المحذوف أعني المنعم به هو الخوف، فيكون المراد أن الله أنعم عليهما بمخافته، و يكون حذف مفعول «يخافون» للاكتفاء بذكره في قوله: «أنعم الله عليهما» إذ من المعلوم أن مخافتهما لم يكن من أولئك القوم الجبارين و إلا لم يدعو بني إسرائيل إلى الدخول بقولهما: «ادخلوا عليهم الباب».
و ذكر بعض المفسرين: أن ضمير الجمع في «يخافون» عائد إلى بني إسرائيل و الضمير العائد إلى الموصول محذوف، و المعنى: و قال رجلان من الذين يخافهم بنو إسرائيل قد أنعم الله على الرجلين بالإسلام، و أيدوه بما نسب إلى ابن جبير من قراءة «يخافون» بضم الياء قالوا.
و ذلك أن رجلين من العمالقة كانا قد آمنا بموسى، و لحقا بني إسرائيل ثم قالا لبني إسرائيل ما قالا إراءة لطريق الظفر على العمالقة و الاستيلاء على بلادهم و أرضهم.
و كان هذا التفسير باستناد منهم إلى بعض الأخبار الواردة في تفسير الآيات لكنه من الآحاد المشتملة على ما لا شاهد له من الكتاب و غيره.
و قوله: «ادخلوا عليهم الباب» لعل المراد به أول بلد من بلاد أولئك الجبابرة يلي بني إسرائيل، و قد كان على ما يقال: أريحا، و هذا استعمال شائع أو المراد باب البلدة.
و قوله: «فإذا دخلتموه فإنكم غالبون» وعد منهما لهم بالفتح و الظفر على العدو، و إنما أخبرا إخبارا بتيا اتكالا منهما بما ذكره موسى (عليه السلام) أن الله كتب لهم تلك الأرض لإيمانهما بصدق إخباره، أو أنهما عرفا ذلك بنور الولاية الإلهية.
و قد ذكر المعظم من مفسري الفريقين: أن الرجلين هما يوشع بن نون و كالب بن يوفنا و هما من نقباء بني إسرائيل الاثني عشر.
ثم دعواهم إلى التوكل على ربهم بقولهما: «و على الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين» لأن الله سبحانه كافي من توكل عليه و فيه تطييب لنفوسهم و تشجيع لهم.
قوله تعالى: «قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها» الآية تكرارهم قولهم: «إنا لن ندخلها» ثانيا لإيئاس موسى (عليه السلام) من أن يصر على دعوته فيعود إلى الدعوة بعد الدعوة.
و في الكلام وجوه من الإهانة و الإزراء و التهكم بمقام موسى و ما ذكرهم به من أمر ربهم و وعده فقد سرد الكلام سردا عجيبا، فهم أعرضوا عن مخاطبة الرجلين الداعيين إلى دعوة موسى (عليه السلام) أولا، ثم أوجزوا الكلام مع موسى بعد ما أطنبوا فيه بذكر السبب و الخصوصيات في بادىء كلامهم، و في الإيجاز بعد الإطناب في مقام التخاصم و التجاوب دلالة على استملال الكلام و كراهة استماع الحديث أن يمضي عليه المتخاصم الآخر.
ثم أكدوا قولهم: «لن ندخلها» ثانيا بقولهم: «أبدا» ثم جرأهم الجهالة على ما هو أعظم من ذلك كله، و هو قولهم مفرعين على ردهم الدعوة: «فاذهب أنت و ربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون». و في الكلام أوضح الدلالة على كونهم مشبهين كالوثنيين، و هو كذلك فإنهم القائلون على ما يحكيه الله سبحانه عنهم في قوله: «و جاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون»: الأعراف: 183 و لم يزالوا على التجسيم و التشبيه حتى اليوم على ما يدل عليه كتبهم الدائرة بينهم.
قوله تعالى: «قال رب إني لا أملك إلا نفسي و أخي فافرق بيننا و بين القوم الفاسقين» السياق يدل على أن قوله: «إني لا أملك إلا نفسي و أخي» كناية عن نفي القدرة على حمل غير نفسه و أخيه على ما أتاهم به من الدعوة.
فإنه إنما كان في مقدرته حمل نفسه على إمضاء ما دعا إليه و حمل أخيه هارون و قد كان نبيا مرسلا و خليفة له في حياته لا يتمرد عن أمر الله سبحانه.
أو إن المراد أنه ليس له قدرة إلا على نفسه و لا لأخيه قدرة إلا كذلك.
و ليس مراده نفي مطلق القدرة حتى من حيث إجابة المسئول لإيمان و نحوه حتى ينافي ظاهر سياق الآية أن الرجلين من الذين يخافون و آخرين غيرهما كانوا مؤمنين به مستجيبين لدعوته فإنه لم يذكر فيمن يملكه حتى أهله و أهل أخيه مع أن الظاهر أنهم ما كانوا ليتخلفوا عن أوامره.
و ذلك أن المقام لا يقتضي إلا ذلك فإنه دعاهم إلى خطب مشروع فأبلغ و أعذر فرد عليه المجتمع الإسرائيلي دعوته أشنع رد و أقبحه، فكان مقتضى هذا الحال أن يقول: رب إني أبلغت و أعذرت و لا أملك في إقامة أمرك إلا نفسي و كذلك أخي، و قد قمنا بما علينا من واجب التكليف و لكن القوم واجهونا بأشد الامتناع، و نحن الآن آيسان منهم، و السبيل منقطع فاحلل أنت هذه العقدة و مهد بربوبيتك السبيل إلى نيل ما وعدته لهم من تمام النعمة و إيراثهم الأرض و استخلافهم فيها، و احكم و افصل بيننا و بين هؤلاء الفاسقين.
و هذا المورد على خلاف جميع الموارد التي عصوا فيها أمر موسى كمسألة الرؤية و عبادة العجل و دخول الباب و قول حطة و غيرها يختص بالرد الصريح من المجتمع الإسرائيلي لأمره من غير أي رفق و ملاءمة، و لو تركهم موسى على حالهم، و أغمض عن أمره لبطلت الدعوة من أصلها، و لم يتمش له بعد ذلك أمر و لا نهي و تلاشت بينهم أركان ما أوجده من الوحدة.
و يتبين بهذا البيان أولا: أن مقتضى هذا الحال أن يتعرض موسى (عليه السلام) في شكواه إلى ربه لحال نفسه و أخيه، و هما المبلغان عن الله تعالى، و لا يتعرض لحال غيرهما من المؤمنين و إن كانوا غير متمردين.
إذ لا شأن لهم في التبليغ و الدعوة، و المقام إنما يقتضي التعرض لحال مبلغ الحكم لا العامل الآخذ به المستجيب له.
و ثانيا: أن المقام كان يقتضي رجوع موسى (عليه السلام) إلى ربه بالشكوى و هو في الحقيقة استنصار منه في إجراء الأمر الإلهي.
و ثالثا: أن قوله: «و أخي» معطوف على الياء في قوله: «إني» و المعنى: و أخي مثلي لا يملك إلا نفسه لا على قوله: «نفسي» فإنه خلاف ما يقتضيه السياق و إن كان المعنى صحيحا على جميع التقادير فإن موسى و هارون كما كانا يملك كل منهما من نفسه الطاعة و الامتثال كان موسى يملك من نفس هارون الطاعة لكونه خليفته في حياته، و كذا كانا يملكان ممن أخلص لله من المؤمنين السمع و الطاعة.
و رابعا: أن قوله: «فافرق بيننا و بين القوم الفاسقين» ليس دعاء منه على بني إسرائيل بالحكم الفصل المستعقب لنزول العذاب عليهم أو بالتفريق بينهما و بينهم بإخراجهما من بينهم أو بتوفيهما فإنه (عليه السلام) كان يدعوهم إلى ما كتب الله لهم من تمام النعمة، و كان هو الذي كتب الله المن على بني إسرائيل بإنجائهم و استخلافهم في الأرض بيده كما قال تعالى: «و نريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض و نجعلهم أئمة و نجعلهم الوارثين»: القصص: 5.
و كان بنو إسرائيل يعلمون ذلك منه كما يستفاد من قولهم على ما حكى الله: «قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا و من بعد ما جئتنا» الآية: الأعراف: 192.
و يشهد بذلك أيضا قوله تعالى: «فلا تأس على القوم الفاسقين» فإنه يكشف عن أن موسى (عليه السلام) كان يشفق عليهم من نزول السخط الإلهي، و كان من المترقب أن يحزن بسبب حلول نقمة التيه بهم.
: «قوله تعالى قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين» الضمير في قوله: «فإنها» راجعة إلى الأرض المقدسة، و المراد بالتحريم التحريم التكويني و هو القضاء، و التيه التحير، و اللام في «الأرض» للعهد، و قوله «فلا تأس» نهي من الأسى و هو الحزن، و قد أمضى الله تعالى قول موسى (عليه السلام) حيث وصفهم في دعائه بالفاسقين.
و المعنى: أن الأرض المقدسة أي دخولها و تملكها محرمة عليهم، أي قضينا أن لا يوفقوا لدخولها أربعين سنة يسيرون فيها في الأرض متحيرين لا هم مدنيون يستريحون إلى بلد من البلاد، و لا هم بدويون يعيشون عيشة القبائل و البدويين، فلا تحزن على القوم الفاسقين من نزول هذه النقمة عليهم لأنهم فاسقون لا ينبغي أن يحزن عليهم إذا أذيقوا وبال أمرهم.
بحث روائي
في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: كانت بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم دابة و امرأة كتب ملكا. و فيه: أخرج أبو داود في مراسله عن زيد بن أسلم: في قوله: «و جعلكم ملوكا» قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): زوجة و مسكن و خادم. أقول: و روي غير هاتين الروايتين روايات أخرى في هذا المعنى غير أن الآية في سياقها لا تلائم هذا التفسير، فإنه و إن كان من الممكن أن يكون من دأب بني إسرائيل أن يسموا كل من كان له بيت و امرأة و خادم ملكا أو يكتبوه ملكا إلا أن من البديهي أنهم لم يكونوا كلهم حتى الخوادم على هذا النعت ذوي بيوت و نساء و خدام فالكائن منهم على هذه الصفة بعضهم و يماثلهم في ذلك سائر الأمم و الأجيال فاتخاذ البيوت و النساء و الخدام عادة جارية في جميع الأمم لا يخلو عن ذلك أمة عن الأمم، و إذا كان كذلك لم يكن أمرا يخص بني إسرائيل حتى يمتن الله عليهم في كلامه بأنه جعلهم ملوكا، و الآية في مقام الامتنان.
و لعل التنبه على ذلك أوجب وقوع ما وقع في بعض الروايات كما عن قتادة: أنهم أول من ملك الخدم، و التاريخ لا يصدقه.
و في أمالي المفيد، بإسناده عن أبي حمزة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لما انتهى لهم موسى إلى الأرض المقدسة قال لهم: «ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم - و لا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين» و قد كتبها الله لهم «قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين و إنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها - فإن يخرجوا منها فإنا داخلون - قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب - فإذا دخلتموه فإنكم غالبون - و على الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين - قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها - فاذهب أنت و ربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون - قال رب إني لا أملك إلا نفسي و أخي - فافرق بيننا و بين القوم الفاسقين» فلما أبوا أن يدخلوها حرمها الله عليهم فتاهوا في أربع فراسخ أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين. قال أبو عبد الله (عليه السلام): كانوا إذا أمسوا نادى مناديهم: الرحيل فيرتحلون بالحداء و الزجر حتى إذا أسحروا أمر الله الأرض فدارت بهم فيصبحوا في منزلهم الذي ارتحلوا منه فيقولون: قد أخطأتم الطريق فمكثوا بهذا أربعين سنة، و نزل عليهم المن و السلوى حتى هلكوا جميعا إلا رجلان: يوشع بن نون و كالب بن يوفنا و أبناؤهم و كانوا يتيهون في نحو أربع فراسخ فإذا أرادوا أن يرتحلوا يبست ثيابهم عليهم و خفافهم. قال: و كان معهم حجر إذا نزلوا ضربه موسى بعصاه فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا لكل سبط عين، فإذا ارتحلوا رجع الماء إلى الحجر و وضع الحجر على الدابة، الحديث.
أقول: و الروايات فيما يقرب من هذه المعاني كثيرة من طرق الشيعة و أهل السنة و قوله في الرواية: و قال أبو عبد الله إلخ رواية أخرى، و هذه الروايات و إن اشتملت في معنى التيه و غيره على أمور لا يوجد في كلامه تعالى ما تتأيد به لكنها مع ذلك لا تشتمل على شيء مما يخالف الكتاب، و أمر بني إسرائيل في زمن موسى (عليه السلام) كان عجيبا تحتف بحياتهم خوارق العادة من كل ناحية فلا ضير في أن يكون تيههم على هذا النحو المذكور في الروايات.
و في تفسير العياشي، عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله (عليه السلام): أنه سئل عن قول: «ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم» قال: كتبها لهم ثم محاها ثم كتبها لأبنائهم فدخلوها و الله يمحو ما يشاء و يثبت و عنده أم الكتاب.
أقول.
و روي هذا المعنى أيضا عن إسماعيل الجعفي عنه (عليه السلام) و عن زرارة و حمران و محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام).
و قد قاس (عليه السلام) الكتابة بالنسبة إلى السامعين لخطاب موسى (عليه السلام) بدخول الأرض، و إلى الداخلين فيها فأنتج البداء في خصوص المكتوب لهم فلا ينافي ذلك ظاهر سياق الآية أن المكتوب لهم هم الداخلون، و إنما حرموا الدخول أربعين سنة و رزقوه بعدها فإن الخطاب في الآية متوجه بحسب المعنى إلى المجتمع الإسرائيلي فيتحد عليه المكتوب لهم الدخول مع الداخلين لكونهم جميعا أمة واحدة كتب لها الدخول إجمالا ثم حرمت الدخول مدة و رزقته بعدها و لا بداء على هذا و إن كان بالنظر إلى خصوص الأشخاص بداء.
و في الكافي، بإسناده عن عبد الرحمن بن يزيد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): مات داود النبي يوم السبت مفجوا فأظلته الطير بأجنحتها، و مات موسى كليم الله في التيه فصاح صائح من السماء مات موسى و أي نفس لا تموت.
|