بيان
السورة تذكر الحاقة و هي القيامة و قد سمتها أيضا بالقارعة و الواقعة.
و قد ساقت الكلام فيها في فصول ثلاثة: فصل تذكر فيه إجمالا الأمم الذين كذبوا بها فأخذهم الله أخذة رابية، و فصل تصف فيه الحاقة و انقسام الناس فيها إلى أصحاب اليمين و أصحاب الشمال و اختلاف حالهم بالسعادة و الشقاء، و فصل تؤكد فيه صدق القرآن في إنبائه بها و أنه حق اليقين، و السورة مكية بشهادة سياق آياتها.
قوله تعالى: «الحاقة ما الحاقة و ما أدراك ما الحاقة» المراد بالحاقة القيامة الكبرى سميت بها لثبوتها ثبوتا لا مرد له و لا ريب فيه، من حق الشيء بمعنى ثبت و تقرر تقررا واقعيا.
و «ما» في «ما الحاقة» استفهامية تفيد تفخيم أمرها، و لذلك بعينه وضع الظاهر موضع الضمير و لم يقل: ما هي، و الجملة الاستفهامية خبر الحاقة.
فقوله: «الحاقة ما الحاقة» مسوق لتفخيم أمر القيامة يفيد تفخيم أمرها و إعظام حقيقتها إفادة بعد إفادة.
و قوله: «و ما أدراك ما الحاقة» خطاب بنفي العلم بحقيقة اليوم و هذا التعبير كناية عن كمال أهمية الشيء و بلوغه الغاية في الفخامة و لعل هذا هو المراد مما نقل عن ابن عباس: أن ما في القرآن من قوله تعالى: «ما أدراك» فقد أدراه و ما فيه من قوله: «ما يدريك» فقد طوى عنه، يعني أن «ما أدراك» كناية و «ما يدريك» تصريح.
قوله تعالى: «كذبت ثمود و عاد بالقارعة» المراد بالقارعة القيامة و سميت بها لأنها تقرع و تدك السماوات و الأرض بتبديلها و الجبال بتسييرها و الشمس بتكويرها و القمر بخسفها و الكواكب بنثرها و الأشياء كلها بقهرها على ما نطقت به الآيات، و كان مقتضى الظاهر أن يقال: كذبت ثمود و عاد بها فوضع القارعة موضع الضمير لتأكيد تفخيم أمرها.
و هذه الآية و ما يتلوها إلى تمام تسع آيات و إن كانت مسوقة للإشارة إلى إجمال قصص قوم نوح و عاد و ثمود و فرعون و من قبله و المؤتفكات و إهلاكهم لكنها في الحقيقة بيان للحاقه ببعض أوصافها و هو أن الله أهلك أمما كثيرة بالتكذيب بها فهي في الحقيقة جواب للسؤال بما الاستفهامية كما أن قوله: «فإذا نفخ في الصور» إلخ، جواب آخر.
و محصل المعنى: هي القارعة التي كذبت بها ثمود و عاد و فرعون و من قبله و المؤتفكات و قوم نوح فأخذهم الله أخذة رابية و أهلكهم بعذاب الاستئصال.
قوله تعالى: «فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية» بيان تفصيلي لأثر تكذيبهم بالقارعة، و المراد بالطاغية الصيحة أو الرجفة أو الصاعقة على اختلاف ظاهر تعبير القرآن في سبب هلاكهم في قصتهم قال تعالى: «و أخذ الذين ظلموا الصيحة»: هود: 67، و قال أيضا: «فأخذتهم الرجفة»: الأعراف: 87، و قال أيضا: «فأخذتهم صاعقة العذاب الهون»: حم السجدة: 17.
و قيل: الطاغية مصدر كالطغيان و الطغوى و المعنى: فأما ثمود فأهلكوا بسبب طغيانهم، و يؤيده قوله تعالى: «كذب ثمود بطغواها»: الشمس: 11.
و أول الوجهين أنسب لسياق الآيات التالية حيث سيقت لبيان كيفية إهلاكهم من الإهلاك بالريح أو الأخذ الرابي أو طغيان الماء فليكن هلاك ثمود بالطاغية ناظرا إلى كيفية إهلاكهم.
قوله تعالى: «و أما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية» الصرصر الريح الباردة الشديدة الهبوب، و عاتية من العتو بمعنى الطغيان و الابتعاد من الطاعة و الملاءمة.
قوله تعالى: «سخرها عليهم سبع ليال و ثمانية أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية» تسخيرها عليهم تسليطها عليهم، و الحسوم جمع حاسم كشهود جمع شاهد من الحسم بمعنى تكرار الكي مرات متتالية، و هي صفة لسبع أي سبع ليال و ثمانية أيام متتالية متتابعة و صرعى جمع صريع و أعجاز جمع عجز بالفتح فالضم آخر الشيء، و خاوية الخالية الجوف الملقاة و المعنى ظاهر.
قوله تعالى: «فهل ترى لهم من باقية» أي من نفس باقية، و الجملة كناية عن استيعاب الهلاك لهم جميعا، و قيل: الباقية مصدر بمعنى البقاء و قد أريد به البقية و ما قدمناه من المعنى أقرب.
قوله تعالى: «و جاء فرعون و من قبله و المؤتفكات بالخاطئة» المراد بفرعون فرعون موسى، و بمن قبله الأمم المتقدمة عليه زمانا من المكذبين، و بالمؤتفكات قرى قوم لوط و الجماعة القاطنة بها، و «خاطئة» مصدر بمعنى الخطاء و المراد بالمجيء بالخاطئة إخطاء طريق العبودية، و الباقي ظاهر.
قوله تعالى: «فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية» ضمير «عصوا» لفرعون و من قبله و المؤتفكات، و المراد بالرسول جنسه، و الرابية الزائدة من ربا يربو ربوة إذا زاد، و المراد بالأخذة الرابية العقوبة الشديدة و قيل: العقوبة الزائدة على سائر العقوبات و قيل: الخارقة للعادة.
قوله تعالى: «إنا لما طغا الماء حملناكم في الجارية» إشارة إلى طوفان نوح و الجارية السفينة، و عد المخاطبين محمولين في سفينة نوح و المحمول في الحقيقة أسلافهم لكون الجميع نوعا واحدا ينسب حال البعض منه إلى الكل و الباقي ظاهر.
قوله تعالى: «لنجعلها لكم تذكرة و تعيها أذن واعية» تعليل لحملهم في السفينة فضمير «لنجعلها» للحمل باعتبار أنه فعله أي فعلنا بكم تلك الفعلة لنجعلها لكم أمرا تتذكرون به و عبرة تعتبرون بها و موعظة تتعظون بها.
و قوله: «و تعيها أذن واعية» الوعي جعل الشيء في الوعاء، و المراد بوعي الأذن لها تقريرها في النفس و حفظها فيها لترتب عليها فائدتها و هي التذكر و الاتعاظ.
و في الآية بجملتيها إشارة إلى الهداية الربوبية بكلا قسميها أعني الهداية بمعنى إراءة الطريق و الهداية بمعنى الإيصال إلى المطلوب.
توضيح ذلك أن من السنة الربوبية العامة الجارية في الكون هداية كل نوع من أنواع الخليقة إلى كماله اللائق به بحسب وجوده الخاص بتجهيزه بما يسوقه نحو غايته كما يدل عليه قوله تعالى: «الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى»: طه: 50، و قوله: «الذي خلق فسوى و الذي قدر فهدى»: الأعلى: 3، و قد تقدم توضيح ذلك في تفسير سورتي طه و الأعلى و غيرهما.
و الإنسان يشارك سائر الأنواع المادية في أن له استكمالا تكوينيا و سلوكا وجوديا نحو كماله الوجودي بالهداية الربوبية التي تسوقه نحو غايته المطلوبة و يختص من بينها بالاستكمال التشريعي فإن للنفس الإنسانية استكمالا من طريق أفعالها الاختيارية بما يلحقها من الأوصاف و النعوت و تتلبس به من الملكات و الأحوال في الحياة الدنيا و هي غاية وجود الإنسان التي تعيش بها عيشة سعيدة مؤبدة.
و هذا هو السبب الداعي إلى تشريع السنة الدينية بإرسال الرسل و إنزال الكتب و الهداية إليها «لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل»: النساء: 165، و قد تقدم تفصيله في أبحاث النبوة في الجزء الثاني من الكتاب و غيره، و هذه هداية بمعنى إراءة الطريق و إعلام الصراط المستقيم الذي لا يسع الإنسان إلا أن يسلكه، قال تعالى: «إنا هديناه السبيل إما شاكرا و إما كفورا»: الدهر: 3، فإن لزم الصراط و سلكه حي بحياة طيبة سعيدة و إن تركه و أعرض عنه هلك بشقاء دائم و تمت عليه الحجة على أي حال، قال تعالى: «ليهلك من هلك عن بينة و يحيي من حي عن بينة»: الأنفال: 42.
إذا تقرر هذا تبين أن من سنة الربوبية هداية الناس إلى سعادة حياتهم بإراءة الطريق الموصل إليها، و إليها الإشارة بقوله: «لنجعلها لكم تذكرة» فإن التذكرة لا تستوجب التذكر ممن ذكر بها بل ربما أثرت و ربما تخلفت.
و من سنة الربوبية هداية الأشياء إلى كمالاتها بمعنى إنهائها و إيصالها إليها بتحريكها و سوقها نحوه، و إليها الإشارة بقوله: «و تعيها أذن واعية» فإن الوعي المذكور من مصاديق الاهتداء بالهداية الربوبية و إنما لم ينسب تعالى الوعي إلى نفسه كما نسب التذكرة إلى نفسه لأن المطلوب بالتذكرة إتمام الحجة و هو من الله و أما الوعي فإنه و إن كان منسوبا إليه كما أنه منسوب إلى الإنسان لكن السياق سياق الدعوة و بيان الأجر و المثوبة على إجابة الدعوة و الأجر و المثوبة من آثار الوعي بما أنه فعل للإنسان منسوب إليه لا بما أنه منسوب إلى الله تعالى.
و يظهر من الآية الكريمة أن للحوادث الخارجية تأثيرا في أعمال الإنسان كما يظهر من مثل قوله: «و لو أن أهل القرى آمنوا و اتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء و الأرض»: الأعراف: 96 أن لأعمال الإنسان تأثيرا في الحوادث الخارجية و قد تقدم بعض الكلام فيه.
بحث روائي
في الدر المنثور، أخرج ابن المنذر عن ابن جريح في قوله: «لنجعلها لكم تذكرة» قال: لأمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، و كم من سفينة قد هلكت و أثر قد ذهب يعني ما بقي من السفينة حتى أدركته أمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فرأوه كانت ألواحها ترى على الجودي.
أقول: و تقدم ما يؤيد ذلك في قصة نوح في تفسير سورة هود.
و فيه، أخرج سعيد بن منصور و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن مكحول قال: لما نزلت «و تعيها أذن واعية» قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): سألت ربي أن يجعلها أذن علي. قال مكحول: فكان علي يقول: ما سمعت عن رسول الله شيئا فنسيته.
و فيه، أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم و الواحدي و ابن مردويه و ابن عساكر و ابن النجاري عن بردة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي: إن الله أمرني أن أدنيك و لا أقصيك و أن أعلمك و أن تعي و حق لك أن تعي فنزلت هذه الآية «و تعيها أذن واعية».
و فيه، أخرج أبو نعيم في الحلية عن علي قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يا علي إن الله أمرني أن أدنيك و أعلمك لتعي فأنزلت هذه الآية «و تعيها أذن واعية» فأنت أذن واعية لعلمي:. أقول: و روي هذا المعنى في تفسير البرهان، عن سعد بن عبد الله بإسناده عن أبي عبد الله (عليه السلام)، و عن الكليني بإسناده عنه (عليه السلام)، و عن ابن بابويه بإسناده عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام). و رواه أيضا عن ابن شهرآشوب عن حلية الأولياء عن عمر بن علي، و عن الواحدي في أسباب النزول عن بريدة، و عن أبي القاسم بن حبيب في تفسيره عن زر بن حبيش عن علي (عليه السلام). و قد روي في غاية المرام، من طرق الفريقين ستة عشر حديثا في ذلك و قال في البرهان إن محمد بن العباس روى فيه ثلاثين حديثا من طرق العامة و الخاصة.
|