بيان
هذا هو الفصل الثاني من الآيات يعرف الحاقة ببعض أشراطها و نبذة مما يقع فيها.
قوله تعالى: «فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة» قد تقدم أن النفخ في الصور كناية عن البعث و الإحضار لفصل القضاء، و في توصيف النفخة بالواحدة إشارة إلى مضي الأمر و نفوذ القدرة فلا وهن فيه حتى يحتاج إلى تكرار النفخة، و الذي يسبق إلى الفهم من سياق الآيات أنها النفخة الثانية التي تحيي الموتى.
قوله تعالى: «و حملت الأرض و الجبال فدكتا دكة واحدة» الدك أشد الدق و هو كسر الشيء و تبديله إلى أجزاء صغار، و حمل الأرض و الجبال إحاطة القدرة بها، و توصيف الدكة بالواحدة للإشارة إلى سرعة تفتتهما بحيث لا يفتقر إلى دكة ثانية.
قوله تعالى: «فيومئذ وقعت الواقعة» أي قامت القيامة.
قوله تعالى: «و انشقت السماء فهي يومئذ واهية» انشقاق الشيء انفصال شطر منه من شطر آخر، و واهية من الوهي بمعنى الضعف، و قيل: من الوهي بمعنى شق الأديم و الثوب و نحوهما.
و يمكن أن تكون الآية أعني قوله: «و انشقت السماء فهي يومئذ واهية و الملك على أرجائها» في معنى قوله: «و يوم تشقق السماء بالغمام و نزل الملائكة تنزيلا»: الفرقان: 25.
قوله تعالى: «و الملك على أرجائها و يحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية» قال الراغب: رجا البئر و السماء و غيرهما جانبها و الجمع أرجاء قال تعالى: «و الملك على أرجائها» انتهى، و الملك - كما قيل - يطلق على الواحد و الجمع و المراد به في الآية الجمع.
و قوله: «و يحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية» ضمير «فوقهم» على ظاهر ما يقتضيه السياق للملائكة، و قيل: الضمير للخلائق.
و ظاهر كلامه أن للعرش اليوم حملة من الملائكة قال تعالى: «الذين يحملون العرش و من حوله يسبحون بحمد ربهم و يؤمنون به و يستغفرون للذين آمنوا»: المؤمن: 7 و قد وردت الروايات أنهم أربعة، و ظاهر الآية أعني قوله: «و يحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية» أن الحملة يوم القيامة ثمانية و هل هم من الملائكة أو من غيرهم؟ الآية ساكتة عن ذلك و إن كان لا يخلو السياق من إشعار ما بأنهم من الملائكة.
و من الممكن - كما تقدمت الإشارة إليه - أن يكون الغرض من ذكر انشقاق السماء و كون الملائكة على أرجائها و كون حملة العرش يومئذ ثمانية بيان ظهور الملائكة و السماء و العرش للإنسان يومئذ، قال تعالى: «و ترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم»: الزمر: 75.
قوله تعالى: «يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية» الظاهر أن المراد به العرض على الله كما قال تعالى: «و عرضوا على ربك صفا»: الكهف: 48، و العرض إراءة البائع سلعته للمشتري ببسطها بين يديه، فالعرض يومئذ على الله و هو يوم القضاء إبراز ما عند الإنسان من اعتقاد و عمل إبرازا لا يخفى معه عقيدة خافية و لا فعلة خافية و ذلك بتبدل الغيب شهادة و السر علنا قال: «يوم تبلى السرائر»: الطارق: 9، و قال: «يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء»: المؤمن: 16.
و قد تقدم في أبحاثنا السابقة أن ما عد في كلامه تعالى من خصائص يوم القيامة كاختصاص الملك بالله، و كون الأمر له، و أن لا عاصم منه، و بروز الخلق له و عدم خفاء شيء منهم عليه و غير ذلك، كل ذلك دائمية الثبوت له تعالى، و إنما المراد ظهور هذه الحقائق يومئذ ظهورا لا ستر عليه و لا مرية فيه.
فالمعنى: يومئذ يظهر أنكم في معرض على علم الله و يظهر كل فعلة خافية من أفعالكم.
قوله تعالى: «فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرءوا كتابيه» قال في المجمع، هاؤم أمر للجماعة بمنزلة هاكم، تقول للواحد: هاء يا رجل، و للاثنين: هاؤما يا رجلان، و للجماعة: هاؤم يا رجال، و للمرأة: هاء يا امرأة بكسر الهمزة و ليس بعدها ياء، و للمرأتين: هاؤما، و للنساء: هاؤن.
هذه لغة أهل الحجاز.
و تميم و قيس يقولون: هاء يا رجل مثل قول أهل الحجاز، و للاثنين: هاءا، و للجماعة: هاؤا، و للمرأة: هائي، و للنساء هاؤن.
و بعض العرب يجعل مكان الهمزة كافا فيقول: هاك هاكما هاكم هاك هاكما هاكن، و معناه: خذ و تناول، و يؤمر بها و لا ينهى.
انتهى.
و الآية و ما بعدها إلى قوله: «الخاطئون» بيان تفصيلي لاختلاف حال الناس يومئذ من حيث السعادة و الشقاء، و قد تقدم في تفسير قوله تعالى: «فمن أوتي كتابه بيمينه»: إسراء: 71 كلام في معنى إعطاء الكتاب باليمين، و الظاهر أن قوله: «هاؤم اقرءوا كتابيه» خطاب للملائكة، و الهاء في «كتابيه» و كذا في أواخر الآيات التالية للوقف و تسمى هاء الاستراحة.
و المعنى: فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول للملائكة: خذوا و اقرءوا كتابيه أي إنها كتاب يقضي بسعادتي.
قوله تعالى: «إني ظننت أني ملاق حسابيه» الظن بمعنى اليقين، و الآية تعليل لما يتحصل من الآية السابقة و محصل التعليل إنما كان كتابي كتاب اليمين و قاضيا بسعادتي لأني أيقنت في الدنيا أني سألاقي حسابي فآمنت بربي و أصلحت عملي.
قوله تعالى: «فهو في عيشة راضية» أي يعيش عيشة يرضاها فنسبة الرضا إلى العيشة من المجاز العقلي.
قوله تعالى: «في جنة عالية - إلى قوله - الخالية» أي هو في جنة عالية قدرا فيها ما لا عين رأت و لا أذن سمعت و لا خطر على قلب بشر.
و قوله: «قطوفها دانية» القطوف جمع قطف بالكسر فالسكون و هو ما يجتنى من الثمر و المعنى: أثمارها قريبة منه يتناوله كيف يشاء.
و قوله: «كلوا و اشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية» أي يقال لهم: كلوا و اشربوا من جميع ما يؤكل فيها و ما يشرب حال كونه هنيئا لكم بما قدمتم من الإيمان و العمل الصالح في الدنيا التي تقضت أيامها.
قوله تعالى: «و أما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه و لم أدر ما حسابيه» و هؤلاء هم الطائفة الثانية و هم الأشقياء المجرمون يؤتون صحيفة أعمالهم بشمالهم و قد مر الكلام في معناه في سورة الإسراء، و هؤلاء يتمنون أن لو لم يكونوا يؤتون كتابهم و يدرون ما حسابهم يتمنون ذلك لما يشاهدون من أليم العذاب المعد لهم.
قوله تعالى: «يا ليتها كانت القاضية» ذكروا أن ضمير «ليتها» للموتة الأولى التي ذاقها الإنسان في الدنيا.
و المعنى: يا ليت الموتة الأولى التي ذقتها كانت قاضية علي تقضي بعدمي فكنت انعدمت و لم أبعث حيا فأقع في ورطة العذاب الخالد و أشاهد ما أشاهد.
قوله تعالى: «ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانية» كلمتا تحسر يقولهما حيث يرى خيبة سعيه في الدنيا فإنه كان يحسب أن مفتاح سعادته في الحياة هو المال و السلطان يدفعان عنه كل مكروه و يسلطانه على كل ما يحب و يرضى فبذل كل جهده في تحصيلهما و أعرض عن ربه و عن كل حق يدعى إليه و كذب داعيه فلما شاهد تقطع الأسباب و أنه في يوم لا ينفع فيه مال و لا بنون ذكر عدم نفع ماله و بطلان سلطانه تحسرا و توجعا و ما ذا ينفع التحسر؟.
قوله تعالى: «خذوه فغلوه - إلى قوله - فاسلكوه» حكاية أمره تعالى الملائكة بأخذه و إدخاله النار، و التقدير يقال للملائكة خذوه إلخ، و «غلوه» أمر من الغل بالفتح و هو الشد بالغل الذي يجمع بين اليد و الرجل و العنق.
و قوله: «ثم الجحيم صلوه» أي أدخلوه النار العظيمة و ألزموه إياها.
و قوله: «ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه» السلسلة القيد، و الذرع الطول، و الذراع بعد ما بين المرفق و رأس الأصابع و هو واحد الطول و سلوكه فيه جعله فيه، و المحصل ثم اجعلوه في قيد طوله سبعون ذراعا.
قوله تعالى: «إنه كان لا يؤمن بالله العظيم و لا يحض على طعام المسكين» الحض التحريض و الترغيب، و الآيتان في مقام التعليل للأمر بالأخذ و الإدخال في النار أي إن الأخذ ثم التصلية في الجحيم و السلوك في السلسلة لأجل أنه كان لا يؤمن بالله العظيم و لا يحض على طعام المسكين أي يساهل في أمر المساكين و لا يبالي بما يقاسونه.
قوله تعالى: «فليس له اليوم هاهنا حميم - إلى قوله - الخاطئون» الحميم الصديق و الآية تفريع على قوله: «إنه كان لا يؤمن» إلخ، و المحصل: أنه لما كان لا يؤمن بالله العظيم فليس له اليوم هاهنا صديق ينفعه أي شفيع يشفع له إذ لا مغفرة لكافر فلا شفاعة.
و قوله: «و لا طعام إلا من غسلين» الغسلين الغسالة و كان المراد به ما يسيل من أبدان أهل النار من قيح و نحوه و الآية عطف على قوله في الآية السابقة: «حميم» و متفرع على قوله: «و لا يحض» إلخ، و المحصل: أنه لما كان لا يحرض على طعام المسكين فليس له اليوم هاهنا طعام إلا من غسلين أهل النار.
و قوله: «لا يأكله إلا الخاطئون» وصف لغسلين و الخاطئون المتلبسون بالخطيئة و الإثم.
بحث روائي
في الدر المنثور، في قوله تعالى: «و يحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية» أخرج ابن جرير عن ابن زيد قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يحمله اليوم أربعة و يوم القيامة ثمانية.
أقول: و في تقييد الحاملين في الآية بقوله: «يومئذ» إشعار بل ظهور في اختصاص العدد بالقيامة.
و في تفسير القمي، و في حديث آخر قال: حمله ثمانية أربعة من الأولين و أربعة من الآخرين فأما الأربعة من الأولين فنوح و إبراهيم و موسى و عيسى، و أما الأربعة من الآخرين فمحمد و علي و الحسن و الحسين (عليهما السلام).
أقول: و في غير واحد من الروايات أن الثمانية مخصوصة بيوم القيامة، و في بعضها أن حملة العرش - و العرش العلم - أربعة منا و أربعة ممن شاء الله.
و في تفسير العياشي، عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إنه إذا كان يوم القيامة يدعى كل أناس بإمامه الذي مات في عصره فإن أثبته أعطي كتابه بيمينه لقوله: «يوم ندعوا كل أناس بإمامهم» فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم، و اليمين إثبات الإمام لأنه كتابه يقرؤه إلى أن قال و من أنكر كان من أصحاب الشمال الذين قال الله: «و أصحاب الشمال ما أصحاب الشمال - في سموم و حميم و ظل من يحموم» إلخ.
أقول: و في عدة من الروايات تطبيق قوله: «فأما من أوتي كتابه بيمينه» إلخ، على علي (عليه السلام)، و في بعضها عليه و على شيعته، و كذا تطبيق قوله: «و أما من أوتي كتابه بشماله» إلخ، على أعدائه، و هي من الجري دون التفسير.
و في الدر المنثور، أخرج الحاكم و صححه عن أبي سعيد الخدري عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: لو أن دلوا من غسلين يهراق في الدنيا لأنتن بأهل الدنيا.
و فيه، أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن صعصعة بن صوحان قال: جاء أعرابي إلى علي بن أبي طالب فقال: كيف هذا الحرف: لا يأكله إلا الخاطون؟ كل و الله يخطو. فتبسم علي و قال: يا أعرابي «لا يأكله إلا الخاطئون» قال: صدقت و الله يا أمير المؤمنين ما كان الله ليسلم عبده. ثم التفت علي إلى أبي الأسود فقال: إن الأعاجم قد دخلت في الدين كافة فضع للناس شيئا يستدلون به على صلاح ألسنتهم فرسم لهم الرفع و النصب و الخفض.
و في تفسير البرهان، عن ابن بابويه في الدروع الواقية في حديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): و لو أن ذراعا من السلسلة التي ذكرها الله في كتابه وضع على جميع جبال الدنيا لذابت عن حرها.
|