بيان
الآيات تشتمل على إجمال ما جرى بينه (عليه السلام) و بين فرعون و قومه أيام إقامة موسى بينهم بعد القيام بالدعوة يدعوهم إلى الله و إلى إطلاق بني إسرائيل و يأتيهم بالآية بعد الآية حتى أنجاه الله تعالى و قومه، و أغرق فرعون و جنوده، و أورث بني إسرائيل الأرض المباركة مشارقها و مغاربها.
قوله تعالى: «و قال الملأ من قوم فرعون أ تذر موسى و قومه» إلى آخر الآية.
هذا إغراء منهم لفرعون و تحريض له أن يقتل موسى و قومه، و لذلك رد فرعون قولهم بأنه لا يهمنا قتلهم فإنا فوقهم قاهرون على أي حال بل سنعيد عليهم سابق عذابنا فنقتل أبناءهم و نستحيي نساءهم، و لو كان ما سألوا مطلق تعذيبهم غير القتل لم يقع قوله: «و إنا فوقهم قاهرون» موقعه ذلك الوقوع.
و قولهم: «و يذرك و آلهتك» تأكيد لتحريضهم إياه على قتلهم، و المعنى أن موسى يتركك و آلهتك فلا يعبدكم مع ما يفسد هو و قومه في الأرض، و فيه دلالة على أن فرعون كما كان يدعي الألوهية، و يستعبد الناس لنفسه كان يعبد آلهة أخرى، و هو كذلك و التاريخ يثبت نظائر لذلك في الأمم السالفة، و قد نقل: أن عظماء البيوت و سادات القوم في الروم و ممالك أخرى غيرها كان يعبدهم مرءوسوهم من بيتهم و عشائرهم و هم أنفسهم كانوا يعبدون آباءهم الأولين و أصناما أخرى غيرهم كما يعبدهم ضعفاؤهم، و أيضا بين الأرباب التي تعبدها الوثنية ما هو رب لغيره من الأرباب أو رب لرب آخر كربوبية الأب و الأم للابن و غير ذلك.
إلا أن قوله لقومه فيما حكاه الله سبحانه: «أنا ربكم الأعلى»: النازعات: 24، و قوله: «ما علمت لكم من إله غيري»: القصص: 38، ظاهر في أنه كان لا يتخذ لنفسه ربا، و كان يأمر قومه أن لا يعبدوا إلا إياه، و لذلك قال بعضهم: إنه كان دهريا لا يعترف بصانع، و يأمر قومه بترك عبادة الآلهة مطلقا، و قصر العبادة فيه، و لذلك قرأ بعضهم - على ما قيل - «و إلهتك» بكسر الهمزة و فتح اللام و إثبات الألف بعدها كالعبادة وزنا و معنى.
لكن الأوجه أنه كان يريد بقوله: «ما علمت لكم من إله غيري» نفي إله يخص قومه القبطيين يملكهم و يدبر أمورهم غير نفسه كما هو المعهود من عقائد الوثنيين أن لكل صنف من أصناف الخلائق كالسماء و الأرض و البر و البحر و قوم كذا، أو من أصناف الحوادث و الأمور كالسلم و الحرب و الحب و الجمال ربا على حدة، و إنما كانوا يعبدون من بينها ما يهمهم عبادته كعبادته سكان سواحل البحار رب البحر و الطوفان.
فمعنى كلامه أني أنا ربكم معاشر القبطيين لا ما اتخذه موسى و هو يدعي أنه ربكم أرسله إليكم، و يؤيد ما ذكرناه ما احتف به من القرينة بقوله: «ما علمت لكم من إله غيري، فإنه تعالى يقول: «و قال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى و إني لأظنه من الكاذبين»: القصص: 38، فظاهرها أنه كان يشك في كونه إلها لموسى، و أن معنى قوله: «ما علمت لكم من إله غيري» نفي العلم بوجود إله غيره لا العلم بعدم وجود إله غيره، و بالجملة فكلامه لا ينفي إلها غيره.
و أما احتمال كون فرعون دهريا غير قائل بوجود الصانع فالظاهر أنه الذي يوجد في كلام الرازي قال في التفسير الكبير، ما لفظه: الذي يخطر ببالي أن فرعون إن قلنا: إنه ما كان كامل العقل لم يجز في حكمة الله تعالى إرسال الرسول إليه، و إن كان عاقلا لم يجز أن يعتقد في نفسه كونه خالق السماوات و الأرض، و لم يجز في الجمع العظيم من العقلاء أن يعتقدوا فيه ذلك لأن فساده معلوم بضرورة العقل.
بل الأقرب أن يقال: إنه كان دهريا ينكر وجود الصانع، و كان يقول: مدبر هذا العالم السفلى هو الكواكب، و أما المجدي في هذا العالم للخلق و لتلك الطائفة و المربي لهم فهو نفسه فقوله: «أنا ربكم الأعلى» أي مربيكم و المنعم عليكم و المطعم لكم، و قوله: «ما علمت لكم من إله غيري» أي لا أعلم لكم أحدا يجب عليكم عبادته إلا أنا.
و إذا كان مذهبه ذلك لم يبعد أن يقال: إنه كان قد اتخذ أصناما على صور الكواكب و يعبدها و يتقرب إليها على ما هو دين عبدة الكواكب، و على هذا التقدير فلا امتناع في حمل قوله تعالى: «و يذرك و آلهتك» على ظاهره فهذا ما عندي في هذا الباب انتهى.
و قد أخطأ في ذلك فليس معنى الألوهية و الربوبية عند الوثنيين و عبدة الكواكب خالقية السماوات و الأرض بل تدبير شيء من أمور العالم كما احتمله أخيرا، و لا في الدهريين من يعبد الكواكب، و لا في الصابئين و عبدة الكواكب من ينكر وجود الصانع.
بل الحق أن فرعون - كما تقدم - كان يرى نفسه ربا لمصر و أهله، و كان إنما ينكر كونهم مربوبي إله آخر على قاعدتهم لا أنهم أو غيرهم من العالم ليسوا مخلوقين لله سبحانه.
و قوله تعالى: «قال سنقتل أبناءهم و نستحيي نساءهم و إنا فوقهم قاهرون» وعد منه للملإ من قومه أن يعيد إلى بني إسرائيل تعذيبه السابق و هو قتل أبنائهم و استحياء نسائهم و استبقاؤهن للخدمة، و عقبه بقوله: «و إنا فوقهم قاهرون» و هو تطييب قلوبهم و إسكان ما في نفوسهم من الاضطراب و الطيش.
قوله تعالى: «قال موسى لقومه استعينوا بالله و اصبروا» إلى آخر الآية.
و هذا من موسى (عليه السلام) بعث لبني إسرائيل و استنهاض لهم على الاستعانة بالله على مقصدهم و هو التخلص من إسارة آل فرعون و استعبادهم ثم بعث على الصبر على شدائد يهددهم بها فرعون من ألوان العذاب، و الصبر هو رائد الخير و فرط كل فرج، ثم علل ذلك بقوله: «إن الأرض لله يورثها من يشاء».
و محصله أن فرعون لا يملك الأرض حتى يمنحها من يشاء، و يمنع من التمتع بها من يشاء بل هي لله يورثها من يشاء، و قد جرت السنة الإلهية أن يخص بحسن العاقبة من يتقيه من عباده فإن استعنتم بالله و صبرتم في ذات الله على ما يهددكم من الشدائد - و هو التقوى - أورثكم الأرض التي ترونها في أيدي آل فرعون.
و لذلك عقب قوله: «إن الأرض لله» الآية بقوله: «و العاقبة للمتقين» العاقبة ما يعقب الشيء كالبادئة لما يبدأ بالشيء، و كون العاقبة مطلقا للمتقين من جهة أن السنة الإلهية تقضي بذلك و ذلك أنه تعالى نظم الكون نظما يؤدي كل نوع إلى غاية وجوده و سعادته التي خلق لأجلها فإن جرى على صراطه الذي ركب عليه، و لم يخرج عن خط مسيره الذي خط له بلغ غاية سعادته لا محالة، و الإنسان الذي هو أحد هذه الأنواع أيضا حاله هذا الحال إن جرى على صراطه الذي رسمته له الفطرة و اتقى الخروج عنه و التعدي منه إلى غير سبيل الله بالكفر بآياته و الإفساد في أرضه هداه الله إلى عاقبته الحسنة، و أحياه الحياة الطيبة، و أرشده إلى كل خير يبتغيه.
قوله تعالى: «قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا و من بعد ما جئتنا» الإتيان و المجيء في الآية بمعنى واحد، و الاختلاف في التعبير للتفنن، و ما قيل إن المعنى من قبل أن تأتينا بالآيات و من بعد ما جئتنا لا دليل على ما فيه من التقدير.
على أن غرضهم إظهار أن مجيء موسى و قد وعدوا أن الله ينجيهم بيده من مصيبة الإسارة و هاوية المذلة لم يؤثر أثره فإن الأذى الذي كانوا يحملونه و يؤذون به على حاله، و لا تعلق لغرضهم بأنه أتاهم بالآيات البتة.
و هذا الكلام شكوى منهم يبثونها إلى موسى (عليه السلام).
قوله تعالى: «قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم و يستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون» و هذا جواب من موسى عن قولهم: «أوذينا» إلخ، يسليهم به و يعزيهم بالرجاء، و هو في الحقيقة تكرار لقوله السابق: «استعينوا بالله و اصبروا إن الأرض لله» الآية.
كأنه يقول: ما أمرتكم به أن اتقوا الله في سبيل مقصدكم كلمة حية ثابتة فإن عملتم بها كان من المرجو أن يهلك الله عدوكم، و يستخلفكم في الأرض بإيراثكم إياها و لا يصطفيكم بالاستخلاف اصطفاء جزافا، و لا يكرمكم إكراما مطلقا من غير شرط و لا قيد بل ليمتحنكم بهذا الملك و يبتليكم بهذا التسليط و الاستخلاف فينظر كيف تعملون، قال تعالى: «و تلك الأيام نداولها بين الناس و ليعلم الله الذين آمنوا و يتخذ منكم شهداء»: آل عمران: 140.
و هذا مما يخطىء به القرآن ما يعتقده اليهود من كرامتهم على الله كرامة لا تقبل عزلا، و لا تحتمل شرطا و لا قيدا، و التوراة تعد شعب إسرائيل شعب الله الذي لهم الأرض المقدسة كأنهم ملكوها من الله سبحانه ملكا لا يقبل نقلا و لا إقالة.
قوله تعالى: «و لقد أخذنا آل فرعون بالسنين و نقص من الثمرات» السنون جمع سنة و هي القحط و الجدب، و كان أصله سنة القحط ثم قيل: السنة إشارة إليها ثم كثر الاستعمال حتى تعينت السنة لمعنى القحط و الجدب.
و الله سبحانه يذكر في الآية - و يقسم - أنه أخذ آل فرعون و هم قومه المختصون به من القبطيين بالقحوط المتعددة و نقص من الثمرات لعلهم يذكرون.
و هما نوعان من الآيات التي أرسلها الله إلى آل فرعون، و ظاهر السياق أنه أرسل ما أرسل منهما فصلا فصلا، و لذا جمع السنين و لا يصدق الجمع إلا مع الفصل بين سنة و سنة.
على أنه يقول: «فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه» الآية.
و ظاهره الحسنة التي بعد السيئة ثم السيئة التي بعد هذه الحسنة.
قوله تعالى: «فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه» إلى آخر الآية.
كانوا إذا جاءهم الخصب و وفور النعمة و سعة الرزق بعد ارتفاع السنة و نقص الثمرات قالوا: «لنا هذه» يريدون به الاختصاص و إنما قلنا: إنهم كانوا يقولون ذلك بعد ارتفاع السنة و نقص الثمرات لأن الإنسان بحسب الطبع لا ينتقل إلى ذكر النعمة بما هي نعمة، و لا يتنبه لقدرها إلا بعد مشاهدة النقمة التي هي خلافها، و لا داعي يدعو آل فرعون إلى ذكر النعمة الحسنة و تخصيصها بأنفسهم لو لا أنهم رأوا خلافها و عدوه أمرا بدعا لم يكونوا رأوه قبل ذلك فاطيروا بموسى و من معه ثم إذا بدلت السيئة حسنة عدوها لأنفسهم فالتطير عند السيئة بحسب الوقوع قبل قولهم في الحسنة: لنا هذه و إن كان الأمر بحسب الطبع على خلاف ذلك بمعنى أنهم لو لم يزعموا و لم يرتكز في نفوسهم من اعتيادهم بالرفاهية و وفور النعمة و الخصب أنهم مخصوصون بذلك يملكونه لم يتطيروا بموسى عند نزول المصيبة عليهم فإن من لم تروحه الراحة و العافية لا يتحرج عن خلافهما.
و لعل هذا هو الوجه في تقديمه تعالى اغترارهم بالنعمة قبل تطيرهم عند النقمة ثم ذكر الحسنة بكلمة «إذا» و السيئة بلفظة «إن» حيث قال: «فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه و إن تصبهم سيئة يطيروا بموسى و من معه» فقد جعل مجيء الحسنة كالأصل الثابت فذكره بإذا و التعريف بلام الجنس، ثم ذكر إصابة السيئة بطريق الشرط، و نكر السيئة ليدل على ندرتها و كونها اتفاقية.
و التطير مشتق من الطير باعتبار اشتماله على نسبة من النسب، و هي نسبة التشؤم فإنهم كانوا يتشأمون ببعض الطيور كالغراب فاشتق منه ما يفيد معنى التشؤم و هو التطير و معناه التشؤم بالطير حتى سمي مطلق النصيب أو النصيب من الشر و الشأمة طائرا.
فقوله تعالى: «ألا إنما طائرهم عند الله و لكن أكثرهم لا يعلمون» معناه أن نصيبهم من الشر و الشؤم الذي يحق به أن يسمى نصيب الشر و هو العذاب، هو عند الله، و لكن أكثرهم لا يعلمون لظنهم أن ما تجنيه أيديهم يفوت و يزول و لا يحفظ عليهم.
و ربما يذكر للطائر في الآية معان أخر ككتاب الأعمال الذي سماه الله طائرا و غير ذلك لكن الأنسب بالسياق هو الذي تقدم.
قوله تعالى: «و قالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين» مهما من أسماء الشرط معناه أي شيء، و قولهم هذا إياس منهم لموسى من أن يؤمنوا به و إن أتى بأي آية و في قولهم: «من آية لتسحرنا بها» استهزاء به حيث سموها آية و جعلوا غرضه منها أن يسحرهم أي إنك تأتينا بالسحر و تسميها آية.
قوله تعالى: «فأرسلنا عليهم الطوفان و الجراد و القمل و الضفادع و الدم آيات مفصلات» الآية.
الطوفان على ما قاله الراغب - كل حادثة تحيط بالإنسان، و صار متعارفا في الماء المتناهي في الكثرة، و في المجمع،: أنه السيل الذي يعم بتغريقه الأرض و هو مأخوذ من الطوف فيها انتهى.
و القمل بالضم و التشديد قيل: كبار القردان، و قيل: صغار الذباب و بالفتح فالسكون معروف، و الجراد و الضفادع و الدم معروفة.
و التفصيل تفريق الشيء إلى أجزاء مفصولة منفصلة بعضها عن بعض، و لازم ذلك تميز كل بعض و ظهوره في نفسه فقوله: «آيات مفصلات» يدل على أنها أرسلت إليهم لا مجتمعة و دفعة بل متفرقة منفصلة بعضها عن بعض ظاهرة في أنها آيات إلهية مقصودة غير اتفاقية و لا جزافية.
و من الدليل على كون المفصلات بهذا المعنى قوله في الآية التالية: «و لما وقع عليهم الرجز قالوا» الآية.
الظاهر أن الآية كانت تأتيهم عن إخبار من موسى و إنذار ثم إذا نزلت بهم و دهمتهم التجئوا إليه فسألوه أن يدعو لهم لتنكشف عنهم، و أعطوه عهدا إن كشفت عنهم آمنوا به و أرسلوا معه بني إسرائيل فلما كشفت نكثوا و نقضوا و على هذا القياس.
قوله تعالى: «و لما وقع عليهم الرجز قالوا يا موسى ادع لنا ربك» إلى آخر الآية.
الرجز هو العذاب و يعني به العذاب الذي كانت تشتمل عليه كل واحدة من الآيات المفصلات فإنها آيات عذاب و نكال و قوله: «بما عهد عندك» على ما يؤيده المقام أي بما التزم عندك أن لا يرد دعاءك فيما تسأله، و اللام عندئذ للقسم، و المعنى ادع لنا ربك بالعهد الذي له عندك.
و قوله: «لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك و لنرسلن معك بني إسرائيل» هو ما عاهدوا به موسى لكشف الرجز عنهم.
قوله تعالى: «فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون» النكث نقض العهد، و قوله: «إلى أجل هم بالغوه» متعلق بقوله: «كشفنا» و هو يدل على أنه كان يضم إلى معاهدة أجل مضروب كأن يقول موسى (عليه السلام) إن الله سيرفع العذاب عنكم بشرط أن تؤمنوا و ترسلوا معي بني إسرائيل إلى أجل كذا، أو يقول آل فرعون ما يشابه هذا المعنى فلما كشف العذاب عنهم و حل الأجل المضروب نكثوا و نقضوا عهدهم الذي عاهدوا الله و عاهدوا موسى عليه.
و الباقي ظاهر.
قوله تعالى: «فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم» اليم البحر، و الباقي ظاهر.
قوله تعالى: «و أورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض و مغاربها» إلى آخر الآية.
الظاهر أن المراد بالأرض أرض الشام و فلسطين و يؤيده أو يدل عليه قوله بعد: «التي باركنا فيها» فإن الله سبحانه لم يذكر بالبركة غير الأرض المقدسة التي هي نواحي فلسطين إلا ما وصف به الكعبة المباركة، و المعنى: أورثنا بني إسرائيل و هم المستضعفون الأرض المقدسة بمشارقها و مغاربها، و إنما ذكرهم بوصفهم فقال: القوم الذين كانوا يستضعفون ليدل على عجيب صنعه تعالى في رفع الوضيع، و تقوية المستضعف، و تمليكه من الأرض ما لا يقدر على مثله عادة إلا كل قوي ذو أعضاد و أنصار.
و قوله: «و تمت كلمة ربك الحسنى» الآية يريد به ما قضاه في حقهم أنه سيورثهم الأرض و يهلك عدوهم، و إليه إشارة موسى (عليه السلام) في قوله لهم و هو يسليهم و يؤكد رجاءهم: «عسى ربكم أن يهلك عدوكم و يستخلفكم في الأرض» و يشير سبحانه إليه في قوله: «و نريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض و نجعلهم أئمة و نجعلهم الوارثين»: القصص: 5، و تمام الكلمة خروجها من مرحلة القوة إلى مرحلة الفعلية، و علل ذلك بصبرهم.
و قوله: «و دمرنا ما كان يصنع فرعون و قومه» الآية.
أي أهلكنا ما كانوا يصنعونه و ما كانوا يسقفونه من القصور و الأبنية و ما كانوا يعرشونه من الكرم و غيره.
بحث روائي
في المجمع،: قال ابن عباس و سعيد بن جبير و قتادة و محمد بن إسحاق بن بشار، و رواه علي بن إبراهيم بإسناده عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام) دخل حديث بعضهم في بعض قالوا: لما آمنت السحرة و رجع فرعون مغلوبا و أبى هو و قومه إلا الإقامة على الكفر قال هامان لفرعون: إن الناس قد آمنوا بموسى فانظر من دخل في دينه فاحبسه فحبس كل من آمن به من بني إسرائيل فتابع الله عليهم بالآيات، و أخذهم بالسنين و نقص من الثمرات. ثم بعث عليهم الطوفان فخرب دورهم و مساكنهم حتى خرجوا إلى البرية و ضربوا الخيام، و امتلأت بيوت القبط ماء، و لم يدخل بيوت بني إسرائيل من الماء قطرة، و أقام على وجه أرضيهم لا يقدرون على أن يحرثوا فقالوا لموسى: ادع لنا ربك أن يكشف عنا المطر فنؤمن لك و نرسل معك بني إسرائيل فدعا ربه فكشف عنهم الطوفان فلم يؤمنوا و قال هامان لفرعون: لئن خليت بني إسرائيل غلبك موسى و أزال ملكك و أنبت الله لهم في تلك السنة من الكلإ و الزرع و الثمر ما أعشبت به بلادهم و أخصبت فقالوا: ما كان هذا الماء إلا نعمة علينا و خصبا. فأنزل الله عليهم في السنة الثانية عن علي بن إبراهيم و في الشهر الثاني عن غيره من المفسرين الجراد فجردت زروعهم و أشجارهم حتى كانت تجرد شعورهم و لحاهم، و تأكل الأثواب و الثياب و الأمتعة، و كانت لا تدخل بيوت بني إسرائيل و لا يصيبهم من ذلك شيء فعجوا و ضجوا و جزع فرعون من ذلك جزعا شديدا، و قال: يا موسى ادع لنا ربك أن يكشف عنا الجراد حتى أخلي عن بني إسرائيل فدعا موسى ربه فكشف عنه الجراد بعد ما أقام عليهم سبعة أيام من السبت إلى السبت. و قيل: إن موسى برز إلى الفضاء فأشار بعصاه نحو المشرق و المغرب فرجعت الجراد من حيث جاءت حتى كأن لم تكن قط، و لم يدع هامان فرعون أن يخلي عن بني إسرائيل. فأنزل الله عليهم في السنة الثالثة في رواية علي بن إبراهيم و في الشهر الثالث عن غيره من المفسرين القمل و هو الجراد الصغار الذي لا أجنحة له، و هو شر ما يكون و أخبثه فأتى على زروعهم كلها و اجتثها من أصلها فذهبت زروعهم، و لحس الأرض كلها. و قيل: أمر موسى أن يمشي إلى كثيب أعفر بقرية من قرى مصر تدعى عين الشمس فأتاه فضربه بعصاه فانثال عليهم قملا فكان يدخل بين ثوب أحدهم فيعضه، و كان يأكل أحدهم الطعام فيمتلىء قملا قال سعيد بن جبير: القمل السوس الذي يخرج من الحبوب فكان الرجل يخرج عشرة أجربة إلى الرحى فلم يرد منها ثلاثة أقفزة فلم يصابوا ببلاء كان أشد عليهم من القمل، و أخذت أشعارهم و أبصارهم و أشفار عيونهم و حواجبهم، و لزمت جلودهم كأنها الجدري عليهم، و منعتهم النوم و القرار فصرخوا و صاحوا و قال فرعون لموسى: ادع لنا ربك لئن كشفت عنا القمل لأكفن عن بني إسرائيل فدعا موسى حتى ذهب القمل بعد ما أقام عندهم سبعة أيام من السبت إلى السبت فنكثوا. فأنزل الله عليهم في السنة الرابعة و قيل: في الشهر الرابع الضفادع فكانت تكون في طعامهم و شرابهم، و امتلأت منها بيوتهم و أبنيتهم فلا يكشف أحد ثوبا و لا إناء و لا طعاما و لا شرابا إلا وجد فيه ضفادع. و كانت تثب في قدورهم فتفسد عليهم ما فيها، و كان الرجل يجلس إلى ذقنه في الضفادع، و يهم أن يتكلم فيثب الضفدع في فيه، و يفتح فاه لأكلته فيسبق الضفدع أكلته إلى فيه فلقوا منها أذى شديدا فلما رأوا ذلك بكوا و شكوا ذلك إلى موسى و قالوا: هذه المرة نتوب و لا نعود فادع الله أن يذهب عنا الضفادع فإنا نؤمن بك و نرسل معك بني إسرائيل فأخذ عهودهم و مواثيقهم ثم دعا ربه فكشف عنهم الضفادع بعد ما أقام عليهم سبعا من السبت إلى السبت ثم نقضوا العهد و عادوا لكفرهم. فلما كانت السنة الخامسة أرسل الله عليهم الدم فسال ماء النيل عليهم دما فكان القبطي يراه دما، و الإسرائيلي يراه ماء فإذا شربه الإسرائيلي كان ماء، و إذا شربه القبطي كان دما، و كان القبطي يقول للإسرائيلي: خذ الماء في فيك و صبه في في فكان إذا صبه في فم القبطي يحول دما، و إن فرعون اعتراه العطش حتى إنه ليضطر إلى مضغ الأشجار الرطبة فإذا مضغها يصير ماؤه في فيه دما فمكثوا في ذلك سبعة أيام لا يأكلون إلا الدم، و لا يشربون إلا الدم. قال زيد بن أسلم الدم الذي سلط عليهم كان الرعاف فأتوا موسى فقالوا: ادع لنا ربك يكشف عنا هذا الدم فنؤمن لك و نرسل معك بني إسرائيل فلما دفع الله عنهم الدم لم يؤمنوا و لم يخلوا عن بني إسرائيل. في تفسير العياشي، عن محمد بن قيس عن أبي عبد الله (عليه السلام) لئن كشف عنا الرجز لنؤمنن لك، قال: الرجز هو الثلج ثم قال: بلاد خراسان بلاد رجز. أقول: و الرواية لا تنطبق على الآية ذاك الانطباق.
|