بيان
شروع في بعض قصص بني إسرائيل بعد تخلصهم من إسارة آل فرعون مما يناسب غرض القصص المسرودة سابقا و هو أن الدعوة الدينية ما توجهت إلى أمة إلا كان الكفر إليها أسبق، و الناقضون لعهد الله فيهم أكثر فخص الله المؤمنين منهم بمزيد كرامته، و عذب الكافرين بشديد عذابه.
و قد ذكر في الآيات مجاوزة بني إسرائيل البحر و مسألتهم بعد المجاوزة موسى (عليه السلام) أن يجعل لهم صنما يعبدونه، و فيها عبادتهم للعجل بعد ما ذهب موسى لميقات ربه و في ضمنها حديث نزول التوراة عليه.
قوله تعالى: «و جاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم» الآية، العكوف الإقبال على الشيء و ملازمته على سبيل التعظيم.
ذكره الراغب في المفردات، و قولهم: «اجعل لنا إلها كما لهم آلهة» أي كما لهم آلهة مجعولة.
كان بنو إسرائيل على شريعة جدهم إبراهيم (عليه السلام)، و قد خلا فيهم من الأنبياء إسحاق و يعقوب و يوسف، و هم على دين التوحيد الذي لا يعبد فيه إلا الله سبحانه وحده لا شريك له المتعالي عن أن يكون جسما أو جسمانيا يعرض له شكل أو قدر غير أن بني إسرائيل كما يستفاد من قصصهم كانوا قوما ماديين حسيين يجرون في حياتهم على أصالة الحس و لا يعتنون بما وراء الحس إلا اعتناء تشريفيا من غير أصالة و لا حقيقة، و قد مكثوا تحت إسارة القبط سنين متطاولة، و هم يعبدون الأوثان فتأثرت من ذلك أرواحهم و إن كانت العصبية القومية تحفظ لهم دين آبائهم بوجه.
و لذلك كان جلهم لا يتصورون من الله سبحانه إلا أنه جسم من الأجسام بل جوهر ألوهي يشاكل الإنسان كما هو الظاهر المستفاد من التوراة الدائرة اليوم، و كلما كان موسى يقرب الحق من أذهانهم حولوه إلى إشكال و تماثيل يتوهمون له تعالى، لهذه العلة لما شاهدوا في مسيرهم قوما يعكفون على أصنام لهم استحسنوا مثل ذلك لأنفسهم فسألوا موسى (عليه السلام) أن يجعل لهم إلها كما لهم آلهة يعكفون عليها.
فلم يجد موسى (عليه السلام) بدا من أن يتنزل في بيان توحيد الله سبحانه إلى ما يقارب أفهامهم على قصورها فلا مهم أولا على جهلهم بمقام ربهم مع وضوح أن طريق الوثنية طريق باطل هالك ثم عرف لهم ربهم بالصفة، و أنه لا يقبل صنما و لا يحد بمثال كما سيجيء.
قوله تعالى: «إن هؤلاء متبر ما هم فيه و باطل ما كانوا يعملون» المتبر من التبار و هو الهلاك، و المراد بقوله: «ما هم فيه» سبيلهم الذي يسلكونه و هو عبادة الأصنام و المراد بقوله: «ما كانوا يعملون» أعمالهم العبادية، و المعنى أن هؤلاء الوثنية طريقتهم هالكة و أعمالهم باطلة فلا يحق أن يميل إليه إنسان عاقل لأن الغرض من عبادة الله سبحانه أن يهتدي به الإنسان إلى سعادة دائمة و خير باق.
قوله تعالى: «قال أ غير الله أبغيكم إلها و هو فضلكم على العالمين» «أبغيكم» أي أطلب لكم و ألتمس، يعرف ربهم و يصفه لهم، و قوله: «أ غير الله أبغيكم إلها» فيه تأسيس أن كل إله أبغيه لكم بجعل أو صنع فإنما هو غير الله سبحانه، و الذي يجب عليكم أن تعبدوا الله ربكم بصفة الربوبية التي هي تفضيله إياكم على العالمين.
فكأنهم قالوا: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة فقال: كيف ألتمس لكم ربا مصنوعا و هو غير الله ربكم، و إذا كان غيره فعبادته متبرة باطلة؟ فقالوا: فكيف نعبده و لا نراه و لا سبيل لنا إلى ما لا نشاهده؟ كما يقوله عبدة الأصنام.
فقال: اعبدوه بما تعرفونه من صفته فإنه فضلكم على سائر الأمم بآياته الباهرة و دينه الحق و إنجائكم من فرعون و عمله، فالآية - كما ترى - ألطف بيان و أوجز برهان يجلي عن الحق الصريح للأذهان الضعيفة التعقل.
قوله تعالى: «و إذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب» إلى آخر الآية.
سامه العذاب يسومه أي حمله ذلك على طريق الإذلال، و التقتيل الإكثار في القتل و الاستحياء الاستبقاء للخدمة و قد تقدم، و الظاهر أن قوله: «و في ذلكم» إشارة إلى ما ذكر من سوء تعذيب آل فرعون لهم.
و الآية خطاب امتناني للموجودين من أخلافهم حين النزول يمتن الله فيها عليهم بما من به على آبائهم في زمن فرعون كما قيل، و الأنسب بالسياق أن يكون خطابا لأصحاب موسى بعينهم مسوقا سوق التعجب إذا نسوا عظيم نعمة الله عليهم إذ أنجاهم من تلك البلية العظيمة، و نظيره في الغيبة قوله تعالى فيما سيأتي: «أ لم يروا أنه لا يكلمهم و لا يهديهم سبيلا».
قوله تعالى: «و واعدنا موسى ثلاثين ليلة و أتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة» إلى آخر الآية.
الميقات قريب المعنى من الوقت، قال في المجمع،: الفرق بين الميقات و الوقت أن الميقات ما قدر ليعمل فيه عمل من الأعمال، و الوقت وقت الشيء و قدره، و لذلك قيل: مواقيت الحج و هي المواضع التي قدرت للإحرام فيها انتهى.
و قد ذكر الله سبحانه المواعدة و أخذ أصلها ثلاثين ليلة ثم أتمها بعشر ليال أخر ثم ذكر الفذلكة و هي أربعون، و أما الذي ذكره في موضع آخر إذ قال: «و إذ واعدنا موسى أربعين ليلة»: البقرة: 51 فهو المجموع المتحصل من المواعدتين أعني أن آية البقرة تدل على أن مجموع الأربعين كان عن مواعدة، و آية الأعراف على أن ما في آية البقرة مجموع المواعدتين.
و بالجملة يعود المعنى إلى أنه تعالى وعده ثلاثين ليلة للتقريب و التكليم ثم وعده عشرا آخر لإتمام ذلك فتم ميقات ربه أربعين ليلة، و لعله ذكر الليالي دون الأيام - مع أن موسى مكث في الطور الأربعين بأيامها و لياليها، و المتعارف في ذكر المواقيت و الأزمنة ذكر الأيام دون الليالي - لأن الميقات كان للتقرب إلى الله سبحانه و مناجاته و ذكره، و ذلك أخص بالليل و أنسب لما فيه من اجتماع الحواس عن التفرق و زيادة تهيؤ النفس للأنس و قد كان من بركات هذا الميقات نزول التوراة.
و هذا كما يشير إلى مثله قوله تعالى: «يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا - إلى أن قال - إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا إن ناشئة الليل هي أشد وطئا و أقوم قيلا إن لك في النهار سبحا طويلا»: المزمل: 7، و قوله تعالى: «و قال موسى لأخيه هرون اخلفني في قومي» إنما قاله حين ما كان يفارقهم للميقات، و الدليل على ذلك قوله: اخلفني في قومي» فإن الاستخلاف لا يكون إلا في غيبة.
و إنما عبر بلفظ «قومي» دون بني إسرائيل لتجري القصة على سياق سائر القصص المذكورة في هذه السورة فقد حكي فيها عن لفظ نوح و هود و صالح و غيرهم: يا قوم يا قوم، و على ذلك أجريت هذه القصة فعبر فيها عن بني إسرائيل في بضعة مواضع بلفظ القوم، و قد عبر عنهم في سورة طه ببني إسرائيل.
و أما قوله لأخيه ثانيا: «و أصلح و لا تتبع سبيل المفسدين» فهو أمر له بالإصلاح و أن لا يتبع سبيل أهل الفساد، و هارون نبي مرسل معصوم لا تصدر عنه المعصية، و لا يتأتى منه اتباع أهل الفساد في دينهم، و موسى (عليه السلام) أعلم بحال أخيه فليس مراده نهيه عن الكفر و المعصية بل أن لا يتبع في إدارة أمور قومه ما يشير إليه و يستصوبه المفسدون من القوم أيام خلافته ما دام موسى غائبا.
و من الدليل عليه قوله: «و أصلح» فإنه يدل على أن المراد بقوله: «و لا تتبع سبيل المفسدين» أن يصلح أمرهم و لا يسير فيهم سيرة هي سبيل المفسدين الذي يستحسنونه و يشيرون إليه بذلك.
و من هنا يتأيد أنه كان في قومه يومئذ جمع من المفسدين يفسدون و يقلبون عليه الأمور و يتربصون به الدوائر فنهى موسى أخاه أن يتبع سبيلهم فيشوشوا عليه الأمر و يكيدوا و يمكروا به فيتفرق جمع بني إسرائيل و يتشتت شملهم بعد تلك المحن و الأذايا التي كابدها في إحياء كلمة الاتحاد بينهم.
قوله تعالى: «و لما جاء موسى لميقاتنا و كلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني و لكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني» الآية التجلي مطاوعة التجلية من الجلاء بمعنى الظهور، و الدك هو أشد الدق، و جعله دكا أي مدكوكا و الخرور هو السقوط، و الصعقة هي الموت أو الغشية بجمود الحواس و بطلان إدراكها، و الإفاقة الرجوع إلى حال سلامة العقل و الحواس يقال: أفاق من غشيته أي رجع إلى حال استقامة الشعور و الإدراك.
و معنى الآية على ما يستفاد من ظاهر نظمها أنه «لما جاء موسى لميقاتنا» الذي وقتناه له «و كلمه ربه» بكلامه «قال» أي موسى «رب أرني أنظر إليك» أي أرني نفسك أنظر إليك أي مكني من النظر إليك حتى أنظر إليك و أراك فإن الرؤية فرع النظر، و النظر فرع التمكين من الرؤية و التمكن منها، «قال» الله تعالى لموسى «لن تراني» أبدا «و لكن انظر إلى الجبل» و كان جبلا بحياله مشهودا له أشير إليه بلام العهد الحضوري «و لكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني» أي لن تطيق رؤيتي فانظر إلى الجبل فإني أظهر له فإن استقر مكانه و أطاق رؤيتي فاعلم أنك تطيق النظر إلي و رؤيتي «فلما تجلى» و ظهر «ربه للجبل جعله» بتجليه «دكا» مدكوكا متلاشيا في الجو أو سائحا «و خر موسى صعقا» ميتا أو مغشيا عليه من هول ما رأى «فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك» رجعت إليك مما اقترحته عليك «و أنا أول المؤمنين» بأنك لا ترى.
هذا ظاهر ألفاظ الآية.
و الذي يعطيه التدبر فيها أن حديث الرؤية و النظر الذي وقع في الآية إذا عرضناه على الفهم العامي المتعارف حمله على رؤية العين و نظر الأبصار، و لا نشك و لن نشك أن الرؤية و الإبصار يحتاج إلى عمل طبيعي في جهاز الأبصار يهيىء للباصر صورة مماثلة لصورة الجسم المبصر في شكله و لونه.
و بالجملة هذا الذي نسميه الإبصار الطبيعي يحتاج إلى مادة جسمية في المبصر و الباصر جميعا، و هذا لا شك فيه.
و التعليم القرآني يعطي إعطاء ضروريا أن الله تعالى لا يماثله شيء بوجه من الوجوه البتة فليس بجسم و لا جسماني، و لا يحيط به مكان و لا زمان، و لا تحويه جهة و لا توجد صورة مماثلة أو مشابهة له بوجه من الوجوه في خارج و لا ذهن البتة.
و ما هذا شأنه لا يتعلق به الإبصار بالمعنى الذي نجده من أنفسنا البتة، و لا تنطبق عليه صورة ذهنية لا في الدنيا و لا في الآخرة ضرورة، و لا أن موسى ذاك النبي العظيم أحد الخمسة أولي العزم و سادة الأنبياء (عليهم السلام) ممن يليق بمقامه الرفيع و موقفه الخطير أن يجهل ذلك، و لا أن يمني نفسه بأن الله سبحانه أن يقوي بصر الإنسان على أن يراه و يشاهده سبحانه منزها عن وصمة الحركة و الزمان، و الجهة و المكان، و ألواث المادة الجسمية و أعراضها فإنه قول أشبه بغير الجد منه بالجد فما محصل القول: أن من الجائز في قدرة الله أن يقوي سببا ماديا أن يعلق عمله الطبيعي المادي - مع حفظ حقيقة السبب و هوية أثره - بأمر هو خارج عن المادة و آثارها متعال عن القدر و النهاية؟ فهذا الإبصار الذي عندنا و هو خاصة مادية من المستحيل أن يتعلق بما لا أثر عنده من المادة الجسمية و خواصها فإن كان موسى يسأل الرؤية فإنما سأل غير هذه الرؤية البصرية، و بالملازمة ما ينفيه الله سبحانه في جوابه فإنما ينفي غير هذه الرؤية البصرية فأما هي فبديهية الانتفاء لم يتعلق بها سؤال و لا جواب، و قد أطلق الله الرؤية و ما يقرب منها معنى في موارد من كلامه و أثبتها كقوله تعالى «وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة»: القيامة: 23، و قوله: «ما كذب الفؤاد ما رأى»: النجم: 11، و قوله: «من كان يرجوا لقاء الله فإن أجل الله لآت»: العنكبوت: 5، و قوله: «أ و لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم ألا إنه بكل شيء محيط»: حم السجدة: 54، و قوله: «فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا و لا يشرك بعبادة ربه أحدا»: الكهف: 110، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة المثبتة للرؤية و ما في معناه قبال الآيات النافية لها كما في هذه الآية: «قال لن تراني»، و قوله: «لا تدركه الأبصار و هو يدرك الأبصار»: الأنعام: 103 و غير ذلك.
فهل المراد بالرؤية حصول العلم الضروري سمي بها لمبالغة في الظهور و نحوها كما قيل.
لا ريب أن الآيات تثبت علما ما ضروريا لكن الشأن في تشخيص حقيقة هذا العلم الضروري فإنا لا نسمي كل علم ضروري رؤية و ما في معناه من اللقاء و نحوه كما نعلم بوجود إبراهيم الخليل و إسكندر و كسرى فيما مضى و لم نرهم، و نعلم علما ضروريا بوجود لندن و شيكاغو و مسكو و لم نرها، و لا نسميه رؤية و إن بالغنا، فأنت تقول: أعلم بوجود إبراهيم (عليه السلام) و إسكندر و كسرى كأني رأيتهم، و لا تقول رأيتهم أو أراهم، و تقول: أعلم بوجود لندن و شيكاغو و مسكو، و لا تقول: رأيتها أو أراها.
و أوضح من ذلك علمنا الضروري بالبديهيات الأولية التي هي لكليتها غير مادية و لا محسوسة مثل قولنا: «الواحد نصف الاثنين» و «الأربعة زوج» و «الإضافة قائمة بطرفين» فإنها علوم ضرورية يصح إطلاق العلم عليها و لا يصح إطلاق الرؤية البتة.
و نظير ذلك جميع التصديقات العقلية الفكرية، و كذا المعاني الوهمية و بالجملة ما نسميها بالعلوم الحصولية لا نسميها رؤية و إن أطلقنا عليها العلم فنقول علمناها و لا نقول: رأيناها إلا بمعنى القضاء و الحكم لا بمعنى المشاهدة و الوجدان.
لكن بين معلوماتنا ما لا نتوقف في إطلاق الرؤية عليه و استعمالها فيه، نقول: أرى أني أنا و أراني أريد كذا و أكره كذا، و أحب كذا و أبغض كذا و أرجو كذا و أتمنى كذا أي أجد ذاتي و أشاهدها بنفسها من غير أن أحتجب عنها بحاجب، و أجد و أشاهد إرادتي الباطنة التي ليست بمحسوسة و لا فكرية، و أجد في باطن ذاتي كراهة و حبا و بغضا و رجاء و تمنيا و هكذا.
و هذا غير قول القائل: رأيتك تحب كذا و تبغض كذا و غير ذلك فإن معنى كلامه أبصرتك في هيئة استدللت بها على أن فيك حبا و بغضا و نحو ذلك، و أما حكاية الإنسان عن نفسه أنه يراه يريد و يكره و يحب و يبغض فإنه يريد به أنه يجد هذه الأمور بنفسها و واقعيتها لا أنه يستدل عليها فيقضي بوجودها من طريق الاستدلال بل يجدها من نفسه من غير حاجب يحجبها و لا توسل بوسيلة تدل عليها البتة.
و تسمية هذا القسم من العلم الذي يجد فيه الإنسان نفس المعلوم بواقعيته الخارجية رؤية مطردة، و هي علم الإنسان بذاته و قواه الباطنة و أوصاف ذاته و أحواله الداخلية و ليس فيها مداخلة جهة أو مكان أو زمان أو حالة جسمانية أخرى غيرها فافهم ذلك و أجد التدبر فيه.
و الله سبحانه فيما أثبت من الرؤية يذكر معها خصوصيات و يضم إليها ضمائم يدلنا ذلك على أن المراد بالرؤية هذا القسم من العلم الذي نسميه فيما عندنا أيضا رؤية كما في قوله: «أ و لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم ألا إنه بكل شيء محيط» الآية.
حيث أثبت أولا أنه على كل شيء حاضر أو مشهود لا يختص بجهة دون جهة و بمكان دون مكان و بشيء دون شيء بل شهيد على كل شيء محيط بكل شيء فلو وجده شيء لوجده على ظاهر كل شيء و باطنه و على نفس وجدانه و على نفسه، و على هذه السمة لقاؤه لو كان هناك لقاء لا على نحو اللقاء الحسي الذي لا يتأتى البتة إلا بمواجهة جسمانية و تعين جهة و مكان و زمان، و بهذا يشعر ما في قوله: «ما كذب الفؤاد ما رأى» من نسبة الرؤية إلى الفؤاد الذي لا شبهة في كون المراد به هو النفس الإنسانية الشاعرة دون اللحم الصنوبري المعلق على يسار الصدر داخلا.
و نظير ذلك قوله تعالى: «كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون»: المطففين: 15، دل على أن الذي يجبهم عنه تعالى رين المعاصي و الذنوب التي اكتسبوها فحال بين قلوبهم أي أنفسهم و بين ربهم فحجبهم عن تشريف المشاهدة، و لو رأوه لرأوه بقلوبهم أي أنفسهم لا بأبصارهم و أحداقهم.
و قد أثبت الله سبحانه في موارد من كلامه قسما آخر من الرؤية وراء رؤية الجارحة كقوله تعالى: «كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين»: التكاثر: 7، و قوله: «و كذلك نري إبراهيم ملكوت السموات و الأرض و ليكون من الموقنين»: الأنعام: 75، و قد تقدم تفسير الآية في الجزء السابع من الكتاب، و بينا هناك أن الملكوت هو باطن الأشياء لا ظاهرها الحسوس.
فبهذه الوجوه يظهر أنه تعالى يثبت في كلامه قسما من الرؤية و المشاهدة وراء الرؤية البصرية الحسية، و هي نوع شعور في الإنسان يشعر بالشيء بنفسه من غير استعمال آلة حسية أو فكرية، و أن للإنسان شعورا بربه غير ما يعتقد بوجوده من طريق الفكر و استخدام الدليل بل يجده وجدانا من غير أن يحجبه عنه حاجب، و لا يجره إلى الغفلة عنه إلا اشتغاله بنفسه و بمعاصيه التي اكتسبها، و هي مع ذلك غفلة عن أمر موجود مشهود لا زوال علم بالكلية و من أصله فليس في كلامه تعالى ما يشعر بذلك البتة بل عبر عن هذا الجهل بالغفلة و هي زوال العلم بالعلم لا زوال أصل العلم.
فهذا ما بينه كلامه سبحانه، و يؤيده العقل بساطع براهينه، و كذا ما ورد من الأخبار عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) على ما سننقلها و نبحث عنها في البحث الروائي الآتي إن شاء الله تعالى.
و الذي ينجلي من كلامه تعالى أن هذا العلم المسمى بالرؤية و اللقاء يتم للصالحين من عباد الله يوم القيامة كما يدل عليه ظاهر قوله تعالى: «وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة»: القيامة: 23، فهناك موطن التشرف بهذا التشريف، و أما في هذه الدنيا و الإنسان مشتغل ببدنه، و منغمر في غمرات حوائجه الطبيعية، و هو سالك لطريق اللقاء و العلم الضروري بآيات ربه، كادح إلى ربه كدحا ليلاقيه فهو بعد في طريق هذا العلم لن يتم له حق يلاقي ربه، قال تعالى: «يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه»: الإنشقاق: 6، و في معناه آيات كثيرة أخرى تدل على أنه تعالى إليه المرجع و المصير و المنتهى، و إليه يرجعون و إليه يقلبون.
فهذا هو العلم الضروري الخاص الذي أثبته الله تعالى لنفسه و سماه رؤية و لقاء، و لا يهمنا البحث عن أنها على نحو الحقيقة أو المجاز فإن القرائن كما عرفت قائمة على إرادة ذلك فإن كانت حقيقة كانت قرائن معينة، و إن كانت مجازا كانت صارفة، و القرآن الكريم أول كاشف عن هذه الحقيقة على هذا الوجه البديع، فالكتب السماوية السابقة على ما بأيدينا ساكتة عن إثبات هذا النوع من العلم بالله و تخلو عنه الأبحاث المأثورة عن الفلاسفة الباحثين عن هذه المسائل فإن العلم الحضوري عندهم كان منحصرا في علم الشيء بنفسه حتى كشف عنه في الإسلام فللقرآن المنة في تنقيح المعارف الإلهية.
و لنرجع إلى الآية المبحوث عنها: فقوله: «و لما جاء موسى لميقاتنا و كلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك» سؤال منه (عليه السلام) للرؤية بمعنى العلم الضروري على ما تقدم من معناه فإن الله سبحانه لما خصه بما حباه من العلم به من جهة النظر في آياته ثم زاد على ذلك أن اصطفاه برسالاته و بتكليمه و هو العلم بالله من جهة السمع رجا (عليه السلام) أن يزيده بالعلم من جهة الرؤية و هو كمال العلم الضروري بالله، و الله خير مرجو و مأمول.
فهذا هو المسئول دون الرؤية بمعنى الإبصار بالتحديق الذي يجل موسى (عليه السلام) ذاك النبي الكريم أن يجهل بامتناعه عليه تعالى و تقدس.
و قوله.
«قال لن تراني» نفي مؤبد للرؤية، و إذ أثبت الله سبحانه الرؤية بمعنى العلم الضروري في الآخرة كان تأبيد النفي راجعا إلى تحقق ذلك في الدنيا ما دام للإنسان اشتغال بتدبير بدنه، و علاج ما نزل به من أنواع الحوائج الضرورية، و الانقطاع إليه تعالى بتمام معنى الكلمة لا يتم إلا بقطع الرابطة عن كل شيء حتى البدن و توابعه و هو الموت.
فيئول المعنى إلى أنك لن تقدر على رؤيتي و العلم الضروري بي في الدنيا حتى تلاقيني فتعلم بي علما اضطراريا تريده، و التعبير في قوله: «لن تراني» ب «لن» الظاهر في تأبيد النفي لا ينافي ثبوت هذا العلم الضروري في الآخرة فالانتفاء في الدنيا يقبل التأبيد أيضا كما في قوله تعالى: «إنك لن تخرق الأرض و لن تبلغ الجبال طولا»: إسراء: 37، و قوله: «إنك لن تستطيع معي صبرا»: الكهف: 67.
و لو سلم أنه ظاهر في تأبيد النفي للدنيا و الآخرة جميعا فإنه لا يأبى التقييد كقوله تعالى: «و لن ترضى عنك اليهود و لا النصارى حتى تتبع ملتهم»: البقرة: 120، فلم لا يجوز أن تكون أمثال قوله تعالى: «وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة» مقيدة لهذه الآية مبينة لمعنى التأبيد المستفاد منها.
و الذي ذكرناه من رجوع نفي الرؤية في قوله: «لن تراني» إلى نفي الطاقة و الاستطاعة يؤيده قوله بعده: «و لكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني» فإن فيه تنظير إراءة نفسه لموسى (عليه السلام) بتجليه للجبل، و المراد أن ظهوري و تجليي للجبل مثل ظهوري لك فإن استقر الجبل مكانه أي بقي على ما هو عليه و هو جبل عظيم في الخلقة قوي في الطاقة فإنك أيضا يرجى أن تطيق تجلي ربك و ظهوره.
فقوله: «و لكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني» ليس باستدلال على استحالة التجلي كيف و قد تجلى له؟ بل إشهاد و تعريف لعدم استطاعته و إطاقته للتجلي و عدم استقراره مكانه أي بطلان وجوده لو وقع التجلي كما بطل الجبل بالدك.
و قد دل عليه قوله: «فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا و خر موسى صعقا» و بصيرورة الجبل دكا أي مدكوكا متحولا إلى ذرات ترابية صغار بطلت هويته و ذهبت جبليته و قضى أجله.
و قوله: «و خر موسى صعقا» ظاهر السياق أن الذي أصعقه هو هول ما رأى و شاهد غير أنه يجب أن يتذكر أنه هو الذي ألقي عصاه فإذا هي ثعبان مبين تلقف الألوف من الثعابين و الحيات، و فلق البحر فأغرق الألوف ثم الألوف من آل فرعون في لحظة و رفع الجبل فوق رءوس بني إسرائيل كأنه ظلة، و أتى بآيات هائلة أخرى و هي أهول من اندكاك جبل، و أعظم، و لم يصعقه شيء من ذلك و لم يدهشه.
و اندكاك الجبل أهون من ذلك، و هو بحسب الظاهر في أمن من أن يصيبه في ذلك خطر فإن الله إنما دكه ليشهده كيفية الأمر!.
فهذا كله يشهد أن الذي أصعقه إنما هو ما تمثل له من معنى ما سأله و عظمة القهر الإلهي الذي أشرف أن يشاهده و لم يشاهده هو و إنما شاهده الجبل فآل أمره إلى ذاك الاندكاك العجيب الذي لم يستقر معه مكانه و لا طرفة عين، و يشهد بذلك أيضا توبته (عليه السلام) بعد الإفاقة كما سيأتي.
و قوله: «فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك و أنا أول المؤمنين» توبة و رجوع منه (عليه السلام) بعد الإفاقة إذ تبين له أن الذي سأله وقع في غير موقعه فأخذته العناية الإلهية بتعريفه ذلك و تعليمه عيانا بإشهاده دك الجبل بالتجلي أنه غير ممكن.
فبدأ بتنزيهه تعالى و تقديسه عما كان يرى من إمكان ذلك ثم عقبه بالتوبة عما أقدم عليه و هو يطمع في أن يتوب عليه، و ليس من الواجب في التوبة أن تكون دائما عن معصية و جرم بل هو الرجوع إليه تعالى لشائبة بعد كيف كان كما تقدم البحث فيه في الجزء الرابع من الكتاب.
ثم عقب (عليه السلام) ذلك بالإقرار و الشهادة بقوله: «و أنا أول المؤمنين» أي أول المؤمنين من قومي بأنك لا ترى.
هذا ما يدل عليه المقام، و إن كان من المحتمل أن يكون المراد و أنا أول المؤمنين من بين قومي بما آتيتني و هديتني إليه آمنت بك قبل أن يؤمنوا فحقيق بي أن أتوب إليك إذا علق بي تقصير أو قصور.
لكنه معنى بعيد.
قوله تعالى: «قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي و بكلامي فخذ ما آتيتك و كن من الشاكرين» المراد بالاصطفاء الاختيار على وجه التصفية، و لذلك عدي إلى الناس بعلى، و المراد بالرسالات هو ما حمل من الأوامر و النواهي الإلهية من المعارف و الحكم و الشرائع ليبلغه الناس سواء كان التحميل بواسطة ملك أو بتكليم بلا واسطة ملك فهي غير الكلام و إن حملت بكلام فإن الكلام أمر، و المعاني التي يتلقاها السامع منه أمر آخر.
و المراد بالكلام هو ما شافه به الله سبحانه من غير واسطة ملك و بعبارة أخرى هو ما يكشف به عن مكنون الغيب، و أما أن يكون من نوع الكلام الدائر بيننا معاشر الإنسان فلا فإن الكلام عندنا هو أنا نصطلح و نتعهد فيما بيننا على تخصيص صوت مخصوص من الأصوات لمعنى من المعاني لينتقل ذهن السامع إلى ذلك المعنى ثم نتوسل عند إرادة تفهيمه إلى إيجاد تموج خاص في الهواء يبتدي منا و ينتهي إلى السامع لننقل به ما في ضميرنا إلى ضمير السامع المخاطب و التكلم بهذا الوجه يستلزم التجسم في المتكلم و الله سبحانه منزه عنه، و مجرد إيجاد الصوت و تمويج الهواء بإيجاد أسباب الصوت في مكان لا يدل على كون المعاني التي ينتقل إليها الذهن مقصودة لله سبحانه ما لم تكشف الإرادة بأمر آخر وراء نفس الصوت كما أن من أوجد منا بدق أو ضرب أو نحوهما صوتا يدل على معنى لم نحكم بإرادته ذلك ما لم يكشف من حاله أو مقاله قبلا أنه قاصد لمعنى ما يوجده من الأصوات.
و ما كلم به الله سبحانه موسى (عليه السلام) مما حكاه القرآن الشريف خال عن سؤال الدليل على كونه كلامه، و على كونه تعالى مريدا لمعناه فلم يسأل موسى ربه حين سمع النداء من جانب الطور الأيمن من الشجرة: هل هذا منك يا رب؟ و هل أنت مريد معناه؟ بل أيقن بذلك إيقانا، و نظير الكلام جار في سائر أقسام الوحي غير الكلام.
و هذا يكشف كشفا قطعيا عن ارتباط خاص من السامع بإرادة مصدر الكلام و الوحي يوجب الانتقال إلى المعنى المقصود و إلا فمجرد صدور صوت له معنى مفهوم في اللغة منه تعالى لا يستلزم صحة الانتساب إليه تعالى و لا كونه كلامه كيف؟ و جميع الألفاظ الصادرة من المتكلمين بما أنها أصوات تنتهي إليه تعالى و ليست كلاما له تعالى بل المتكلم بها غيره، و كثيرا ما يحدث من تصادم الأجسام المختلفة أصوات ذوات معان في اللغة و لا نعده كلاما له تعالى.
و بالجملة تكليمه تعالى هو إيجاده اتصالا و ارتباطا خاصا بين مخاطبه و بين الغيب ينتقل به بمشاهدة بعض مخلوقاته إلى معنى مراد، و لا نمنع مقارنة ذلك بأصوات يوجدها الله تعالى في خارج أو سمع أو غير ذلك، و قد تقدم بعض الكلام في الكلام فيما تقدم.
و سيأتي منه تتمة في تفسير سورة الشورى إن شاء الله تعالى.
و كيف كان فقوله تعالى: «قال يا موسى إني اصطفيتك» الآية.
وارد في مورد الامتنان و موعظة لموسى (عليه السلام) أن يكتفي بما اصطفاه الله به من رسالاته و كلامه و يشكره و لا يستزيد.
قوله تعالى: «و كتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة و تفصيلا لكل شيء» الآية.
اللوح صحيفة معدة للكتابة فيه لأنه يلوح و يظهر بما فيه من الخط و أصله من لاح البرق إذا لمع.
و قوله: «من كل شيء» من فيه للتبعيض كما يؤيده السياق اللاحق، و قوله: «موعظة» الظاهر أنه بيان لكل شيء، و يعطف عليه قوله: «و تفصيلا لكل شيء» و تنكير قوله: «تفصيلا» لإفادة الإبهام و التبعيض، و يئول المعنى إلى مثل قولنا: و كتبنا لموسى في الألواح و هي التوراة النازلة مختارات من كل شيء و نعني بذلك أنا كتبنا له موعظة و تفصيلا ما و تشريحا ما لكل شيء حسب ما يحتاج إليها قومه في الاعتقاد و العمل.
ففي الكلام دلالة على أن التوراة لم تستكمل جميع ما تمس به حاجة البشر من المعارف و الشرائع، و هو كذلك كما يدل عليه أيضا قوله تعالى بعد ذكر التوراة و الإنجيل «و أنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب و مهيمنا عليه»: المائدة: 48، و قد تقدم تفسيره.
و قوله: «فخذها بقوة و أمر قومك يأخذوا بأحسنها» عطف تفريع على قوله: «و كتبنا له في الألواح» الآية لأنه مشعر بمعنى القول، و التقدير: و قلنا إنا كتبنا لك في الألواح من كل شيء فخذها بقوة.
و الأخذ بالقوة كناية عن الأخذ بالجد و الحزم فإن من يجد و يحزم في أمر يستعمل ما عنده من القوة فيه حذرا أن يفوته فالأخذ بالقوة لازم الأخذ بالجد و الحزم كنى به عنه.
و قوله: «و أمر قومك يأخذوا بأحسنها» الظاهر أن الضمير في «بأحسنها» راجع إلى الأشياء المدلول عليها بقوله قبلا: «من كل شيء» من المواعظ و تفاصيل الآداب و الشرائع و الأخذ بالأحسن كناية عن ملازمة الحسن في الأمور و اتباعه و اختياره فإن من يهم بأمر الحسن في الأمور إذا وجد سيئا و حسنا اختار الحسن الجميل، و إذا وجد حسنا و أحسن منه اضطره حب الجمال إلى اختيار الأحسن و تقديمه على الحسن فالأخذ بأحسن الأمور لازم حب الجمال و ملازمة الحسن فكنى به عنه، و المعنى: و أمر قومك يجتنبوا السيئات و يلازموا ما تهدي إليه التوراة من الحسنات، و نظير الآية في التكنية قوله تعالى: «الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله و أولئك هم أولوا الألباب»: الزمر: 18.
و قوله: «سأوريكم دار الفاسقين» ظاهر السياق أن المراد بهؤلاء الفاسقين هم الذين يفسقون بعدم ائتمار قوله: «و أمر قومك يأخذوا بأحسنها» على ما تقدم من معناه من ملازمة طريق الإحسان في الأمور و اتباع الحق و الرشد فإن من فسق عن الطريق صرفه الله عن الصراط المستقيم إلى تتبع السيئات و الميل عن الرشد إلى الغي كما يفصله في الآية التالية فكانت عاقبة أمره خسرانا و آل أمره إلى الهلاك.
و على هذا فما في الآية التالية: «سأصرف عن آياتي» الآية تفسير أو كالتفسير لقوله: «سأوريكم دار الفاسقين» و قيل المراد بدار الفاسقين جهنم، و في الكلام تهديد و تحذير، و قيل المراد بها منازل فرعون و قومه بمصر، و قيل: منازل عاد و ثمود، و قيل المراد دار العمالقة و غيرهم بالشام و أن الله سيدخلهم فيها فيرونها، و قيل: المراد سيجيئكم قوم فساق تكون الدولة لهم عليكم.
قوله تعالى: «سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق و إن يروا كل آية لا يؤمنوا بها» الآية تقييد التكبر في الأرض بغير الحق مع أن التكبر فيها لا يكون إلا بغير الحق كتقييد البغي في الأرض بغير الحق للتوضيح لا للاحتراز و يراد به الدلالة على وجه الذم في العمل و أن التكبر كالبغي مذموم لكونه بغير الحق.
و أما ما قيل: إن القيد احترازي للدلالة على أن المراد هو التكبر المذموم دون التكبر الممدوح كالتكبر على أعداء الله و التكبر على المتكبر و هو تكبر بالحق ففيه أن المذكور في الآية ليس مطلق التكبر بل التكبر في الأرض، و هو الاستعلاء على عباد الله و استذلالهم و التغلب عليهم، و هذا لا يكون إلا بغير الحق.
و قوله: «و إن يروا كل آية لا يؤمنوا بها» عطف على قوله: «يتكبرون» و بيان لأحد أوصافهم و هو الإصرار على الكفر و التكذيب.
و كذا قوله: «و إن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا» الآية و تكرار الجملتين المثبتة و المنفية بجميع خصوصياتهما للدلالة على اعتنائهم الشديد و مراقبتهم الدقيقة على مخالفة سبيل الرشد و اتباع سبيل الغي بحيث لا يعذرون بخطإ و لا يحتمل في حقهم جهل أو اشتباه.
و قوله: «ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا» إلى آخر الآية تعليل لما تحقق فيهم من رذائل الصفات أي إنما جروا على ما جروا بسبب تكذيبهم لآياتنا و غفلتهم عنها، و من المحتمل أن يكون تعليلا لقوله تعالى: «سأصرف عن آياتي».
قوله تعالى: «و الذين كذبوا بآياتنا و لقاء الآخرة حبطت أعمالهم هل يجزون إلا ما كانوا يعملون» معنى الآية ظاهر و يتحصل منها: أولا: أن الجزاء هو نفس العمل و قد تقدم توضيحه كرارا في أبحاثنا السابقة.
و ثانيا: أن الحبط من الجزاء فإن الجزاء بالعمل و إذا كان العمل حابطا فإحباطه هو الجزاء، و الحبط إنما يتعلق بالأعمال التي فيها جهة حسن فتكون نتيجة إحباط الحسنات ممن له حسنات و سيئات أن يجزى بسيئاته جزاء سيئا و يجزى بحسناته بإحباطها فيتمحض له الجزاء السيىء.
و يمكن أن تنزل الآية على معنى آخر و هو أن يكون المراد بالجزاء، الجزاء الحسن و قوله: «هل يجزون إلا ما كانوا يعملون» كناية عن أنهم لا يثابون بشيء إذ لا عمل من الأعمال الصالحة عندهم لمكان الحبط قال تعالى: «و قدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا»: الفرقان: 23، و الدليل على كون المراد بالجزاء هو الثواب أن هذا الجزاء هو جزاء الأعمال المذكورة في الآية قبلا، و المراد بها بقرينة ذكر الحبط هي الأعمال الصالحة.
و من هنا يظهر فساد ما استدل به بعضهم بالآية على أن تارك الواجب من غير أن يشتغل بضده لا عقاب له لأنه لم يعمل عملا حتى يعاقب عليه و قد قال تعالى: «هل يجزون إلا ما كانوا يعملون».
وجه الفساد أن المراد بالجزاء في الآية الثواب و المعنى أنهم لا ثواب لهم في الآخرة لأنهم لم يأتوا بحسنة و لم يعملوا عملا يثابون عليها.
على أن ثبوت العقاب على مجرد ترك الأوامر الإلهية مع الغض عما يشتغل به من الأعمال المضادة كالضروري من كلامه تعالى قال الله عز و جل: «و من يعص الله و رسوله فإن له نار جهنم»: الجن: 23، إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى: «و اتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار» إلى آخر الآية، الحلي على فعول جمع حلي كالثدي جمع ثدي، و هو ما يتحلى و يتزين به من ذهب أو فضة أو نحوهما، و العجل ولد البقرة، و الخوار صوت البقرة خاصة، و في قوله تعالى: «جسدا له خوار» - و هو بيان للعجل - دلالة على أنه كان غير ذي حياة و إنما وجدوا عنده خوارا كخوار البقر.
و الآية و ما بعده تذكر قصة عبادة بني إسرائيل العجل بعد ما ذهب موسى إلى ميقات ربه و استبطئوا رجوعه إليهم، فكادهم السامري و أخذ من حليهم فصاغ لهم عجلا من ذهب له خوار كخوار العجل و ذكر لهم أنه إلههم و إله موسى فسجدوا له و اتخذوه إلها، و قد فصل الله سبحانه القصة في سورة طه تفصيلا، و الذي ذكره في هذه الآيات من هذه السورة لا يستغني عما هناك، و هو يؤيد نزول سورة طه قبل سورة الأعراف.
و كيف كان فقوله: «و اتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا» معناه اتخذ قوم موسى من بعد ذهابه لميقات ربه قبل أن يرجع - فإنه سيذكر رجوعه إليهم غضبان - عجلا فعبدوه، و كان هذا العجل الذي اتخذوه «جسدا له خوار» ثم ذمهم الله سبحانه بأنهم لم يعبئوا بما هو ظاهر جلي بين عند العقل في أول نظرته أنه لو كان هو الله سبحانه لكلمهم و لهداهم السبيل فقال تعالى: «أ لم يروا أنه لا يكلمهم و لا يهديهم سبيلا».
و إنما ذكر من صفاته المنافية للألوهية عدم تكليمه إياهم و عدم هدايته لهم و سكت عن سائر ما فيه كالجسمية و كونه مصنوعا و محدودا ذا مكان و زمان و شكل إلى غير ذلك مع أن الجميع ينافي الألوهية لأن هاتين الصفتين أعني التكليم و الهداية من أوضح ما تستلزمه الألوهية من الصفات عند من يتخذ شيئا إلها إذ من الواجب أن يعبده بما يرتضيه و يسلك إليه من طريق يوصل إليه، و لا يعلم ذلك إلا من قبل الإله بوجه فهو الذي يجب أن يهديه إلى طريق عبادته بنوع من التكليم و التفهيم، و قد رأوا أنه لا يكلمهم و لا يهديهم سبيلا.
على أنهم عهدوا من موسى أن الله سبحانه يكلمه و يهديه، و يكلمهم و يهديهم بواسطته، و قد قالوا حين أخرج السامري لهم العجل: «هذا إلهكم و إله موسى»: طه: 88، فلو كان العجل هو الذي أومأ إليه السامري لكلمهم و هداهم سبيلا.
و بالجملة فقد كان من الواضح البين عند عقولهم لو عقلوا أنه ليس هو، و لذلك أردفه بقوله: «اتخذوه و كانوا ظالمين» كأنه قيل: فلم اتخذوه و أمره بذاك الوضوح، فقيل: «اتخذوه و كانوا ظالمين».
قوله تعالى: «و لما سقط في أيديهم و رأوا أنهم قد ضلوا قالوا» إلى آخر الآية.
قال في المجمع،: معنى «سقط في أيديهم» وقع البلاء في أيديهم أي وجدوه وجدان من يده فيه يقال ذلك للنادم عند ما يجده مما كان خفي عليه، و يقال: سقط في يده، و أسقط في يده و بغير ألف أفصح، و قيل: معناه صار الذي يضر به ملقى في يده انتهى.
و قد ذكر في مطولات التفاسير وجوه كثيرة توجه بها هذه الجملة، جلها أو كلها لا تخلو من تعسف، و أقرب الوجوه ما نقلناه عن المجمع، منقولا عن بعضهم فإن ظاهر سياق الآية أن المراد بقوله: «و لما سقط في أيديهم و رأوا أنهم قد ضلوا» إنهم لما التفتوا إلى ما فعلوه و أجالوا النظر فيه دقيقا ثانيا و رأوا عند ذلك أنهم قد ضلوا قالوا: كذا و كذا فالجملة تفيد معنى التنبه لما ذهلوا عنه و التبصر بما أغفلوه كأنهم عملوا شيئا فقدموه إلى ما عملوا له فرده إليهم و رمى به نحوهم فتناولوه بأيديهم فسقط فيها فرأوا من قريب أنهم ضلوا فيما زعموا، و أهملوا فيه أمرا ما كان لهم أن يهملوه، و فات منهم ما فسد بفوته ما عملوه، و على أي حال تجري الجملة مجرى المثل السائر.
و الآية أعني قوله «و لما سقط» بحسب المعنى مترتب على الآيات التالية فإنهم إنما تبينوا ضلالهم بعد رجوع موسى إليهم كما تفصل ذلك سورة طه لكنه سبحانه كأنه قدم الآية لأنها مشتملة على حديث ندامتهم على ما صنعوا و تحسرهم مما فات منهم، و قد أظهروا ذلك بقولهم: «لئن لم يرحمنا ربنا و يغفر لنا لنكونن من الخاسرين» و الأحرى بالندامة و الحسرة أن يذكرا مع ما تعلقنا به من غير فصل طويل، و لذا لما ذكر اتخاذهم العجل في الآية الأولى وصله بندامتهم و حسرتهم في الآية الثانية.
و لأن ذيل حديث رجوع موسى في الآية التالية مشغول بدعائه لنفسه و أخيه ففصل بينه و بين هذا الذي هو صورة دعاء.
قوله تعالى: «و لما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا» إلى آخر الآية الأسف بكسر السين صفة مشبهة من الأسف و هو شدة الغضب و الحزن و الخلافة القيام بالأمر بعد غيره، و العجلة طلب الشيء و تحريه قبل أوانه على ما ذكره الراغب يقال: عجلت أمرا كذا أي طلبته قبل أوانه الذي له بحسب الطبع فمعنى الآية: و لما رجع موسى إلى قومه و هو في حال غضب و أسف لما أخبره الله تعالى لدى الرجوع بأن قومه ضلوا بعبادة العجل بعده فوبخهم و ذمهم بما صنعوا و قال: بئسما خلفتموني من بعدي أ عجلتم أمر ربكم و طلبتموه قبل بلوغ أجله، و هو أمر من بيده خيركم و صلاحكم و لا يجري أمرا إلا على ما يقتضيه حكمته البالغة، و لا يؤثر فيه عجلة غيره و لا طلبه و لا رضاه إلا بما شاء، و الظاهر أن المراد بأمر ربهم أمره الذي لأجله واعد موسى لميقاته، و هو نزول التوراة.
و ربما قيل: إن معنى «أ عجلتم أمر ربكم»: أ عجلتم بعبادة العجل قبل أن يأتيكم أمر من ربكم: و قيل: المعنى استعجلتم وعد الله و ثوابه على عبادته فلما لم تنالوه عدلتم إلى عبادة غيره؟ و قيل: المعنى أ عجلتم عما أمركم به ربكم و هو انتظار رجوع موسى حافظين لعهده فبنيتم على أن الميقات قد بلغ آخره و لم يرجع إليكم فغيرتم هذا، و ما قدمناه من الوجه أنسب بالسياق.
و بالجملة اشتد غضب موسى (عليه السلام) لما شاهد قومه و وبخهم و ذمهم بقوله: «بئسما خلفتموني من بعدي أ عجلتم أمر ربكم» و هو استفهام إنكاري - «و ألقى الألواح» و هي ألواح التوراة «و أخذ برأس أخيه» قابضا على شعره يجره إليه» و قد قال له - فيما حكى الله في سورة طه: «يا هرون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعن أ فعصيت أمري»؟.
«قال» هارون يا «ابن أم» و إنما خاطبه بذكر أمهما دون أن يقول: يا أخي أو يا ابن أبي للترقيق و تهييج الرحمة «إن القوم استضعفوني و كادوا يقتلونني» لما خالفتهم في أمر العجل و منعتهم عن عبادته «فلا تشمت بي الأعداء و لا تجعلني مع القوم الظالمين» بحسباني كأحدهم في مخالفتك، و كان مما قال له على ما حكاه الله في سورة طه - إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل و لم ترقب قولي.
و ظاهر سياق الآية و كذا ما في سورة طه من آيات القصة أن موسى غضب على هارون كما غضب على بني إسرائيل غير أنه غضب عليه حسبانا منه أنه لم يبذل الجهد في مقاومة بني إسرائيل لما زعم أن الصلاح في ذلك مع أنه وصاه عند المفارقة وصية مطلقة بقوله: «و أصلح و لا تتبع سبيل المفسدين» و هذا المقدار من الاختلاف في السليقة و المشية بين نبيين معصومين لا دليل على منعه، و إنما العصمة فيما يرجع إلى حكم الله سبحانه دون ما يرجع إلى السلائق و طرق الحياة على اختلافها.
و كذا ما فعله موسى بأخيه من أخذ رأسه يجره إليه كأنه مقدمة لضربه حسبانا منه إن استقل بالرأي زاعما المصلحة في ذلك و ترك أمر موسى فما وقع منه إنما هو تأديب في أمر إرشادي لا عقاب في أمر مولوي و إن كان الحق في ذلك مع هارون، و لذلك لما قص عليه القصص عذره في ذلك، و دعا لنفسه و لأخيه بقوله رب اغفر لي و لأخي إلخ.
و قد وجه قوله: «و أخذ برأس أخيه يجره إليه» بوجوه أخر: الأول: أن موسى إنما فعل ذلك مستعظما لفعلهم مفكرا فيما كان منهم كما يفعل الإنسان ذلك بنفسه عند الوجد و شدة الغضب فيقبض على لحيته و يعض على شفته فأجرى موسى أخاه هارون مجرى نفسه فصنع به ما يصنع الإنسان بنفسه عند الغضب و الأسف.
الثاني: أنه أراد أن يظهر ما اعتراه من الغضب على قومه لإكباره منهم ما صاروا إليه من الكفر و الارتداد فصدر ذلك منه لإعلامهم عظم الحال عنده لينزجروا عن مثله في مستقبل الأحوال.
الثالث: أنه إنما جره إلى نفسه ليناجيه و يستفسر حال القوم منه، و لذلك لما ذكر هارون ما ذكر، قبله منه و دعا له.
الرابع: أنه لما رأى أن بهارون مثل ما به من الغضب و الأسف أخذ برأسه متوجعا له مسكنا لما به من القلق فكره هارون أن يظن الجهال أنه استخفاف و إهانة فأظهر براءة نفسه و دعا له أخوه و جل هذه الوجوه أو كلها لا تلائم سياق الآيات.
و قوله في صدر الآية «و لما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا» يدل على أنه كان عالما بأمر ارتداد قومه من قبل، و هو كذلك فإن الله سبحانه - كما حكى في سورة طه - قال له و هو في الميقات: فإنا قد فتنا قومك من بعدك و أضلهم السامري.
و إنما ظهر حكم غضبه عند ما شاهد قومه فاشتد عليهم و ألقى الألواح و أخذ برأس أخيه يجره إليه كل ذلك فعله بعد ما رجع إليهم لا حينما أخبره بذلك ربه، و إخبار الله سبحانه أصدق من الحس لأن الحس يصدق و يكذب، و الله سبحانه لا يقول إلا الحق.
و ذلك لأن للعلم حكما و للمشاهدة حكما آخر، و الغضب هيجان القوة الدافعة للدفع أو الانتقام، و لا يتحقق مورد للدفع و الانتقام بمجرد تحقق العلم لكن الحس و المشاهدة تصاحب وجود المغضوب عليه عند العصيان فيتأتى منه الدفع و الانتقام بالقول و الفعل، و لا يؤثر العلم قبل المشاهدة إلا حزنا و غما و نظير ذلك بالمقابلة أنك لو بشرت بقدوم من تحبه و تتوق نفسك إلى لقائه فلك عند تحقق البشرى حال و هو الفرح، و عند لقاء الحبيب حال آخر و حكم جديد، و كذا إذا شاهدت أمرا عجيبا و أنت وحدك كان حكمه التعجب، و إذا شاهدته و معك غيرك تعجبت و ضحكت، و له نظائر أخر.
قوله تعالى: «قال رب اغفر لي و لأخي و أدخلنا في رحمتك» الآية دعاء منه (عليه السلام) و قد تقدم في الكلام على المغفرة في آخر الجزء السادس من الكتاب أن المغفرة أعم موردا من المعصية.
قوله تعالى: «إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم» الآية.
تنكير الغضب و كذا الذلة للإشعار بعظمتهما و قد أبهم الله سبحانه ما سينالهم من غضبه و ذلة الحياة فلم يبين ما هما فمن المحتمل أن تكون الإشارة بذلك إلى ما جرى عليهم بعد ذلك من تحريق العجل المعبود و نسفه في اليم و طرد السامري و قتل جمع منهم، أو أن يكون المراد به ما ضرب الله على قومهم من الذلة و المسكنة و القتل و الإبادة و الإسارة، و يمكن أن يكون المراد بالغضب هو عذاب الآخرة فيجمع لهم بذلك هوان الآخرة و ذلة الدنيا.
و كيف كان فذيل الآية: «و كذلك نجزي المفترين» بظاهره يدل على أن ذلك أعني نيل غضب الرب سبحانه و ذلة الحياة الدنيا سنة جارية إلهية في المفترين على الله و هذا الذي يدل عليه الآية يهدي إليه الأبحاث العقلية أيضا كما مر مرارا.
قوله تعالى: «و الذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها إن ربك من بعدها لغفور رحيم» ضمير «من بعدها» الأول راجع إلى السيئات، و الثاني إلى التوبة، و معنى الآية ظاهر.
و الآية و إن كانت في نفسها عامة لكنها بالنظر إلى المورد بمنزلة الاستثناء من الذين اتخذوا العجل المذكورين في الآية السابقة فالتوبة إذا تحققت بحقيقة معناها في أية سيئة كانت لم يمنع من قبولها مانع كما تقدم في تفسير قوله تعالى: «إنما التوبة على الله» الآية: النساء: 17.
و هذه الآية و التي قبلها معترضتان في القصة، و وجه الخطاب فيهما إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و الدليل على ذلك قوله في الآية الأولى: «و كذلك نجزي المفترين» و في الآية الثانية «إن ربك» الآية و ظاهر السياق أن الكلام فيهما جار على حكاية الحال الماضية بدليل قوله: «سينالهم غضب».
قوله تعالى: «و لما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح» الآية، الرهبة هي خوف مع تحرز: و الباقي ظاهر.
بحث روائي
في الدر المنثور،: أخرج ابن أبي شيبة و أحمد و النسائي و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و ابن مردويه عن أبي واقد الليثي قال: خرجنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل حنين فمررنا بسدرة فقلت: يا رسول الله اجعل لنا هذه ذات أنواط كما كان للكفار ذات أنواط، و كان الكفار ينوطون سلاحهم بسدرة و يعكفون حولها. فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): الله أكبر هذا كما قالت بنو إسرائيل لموسى: «اجعل لنا إلها كما لهم آلهة» إنكم تركبون سنن الذين قبلكم. أقول: و رواها أيضا بطرق أخرى عن عبد الله بن عوف عن أبيه عن جده أن رجلا قال للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك، و فيها: أنها كانت شجرة سدرة عظيمة كان يناط بها السلاح فسميت ذات أنواط و كانت تعبد من دون الله. و في تفسير البرهان،: في قوله تعالى: «و جاوزنا ببني إسرائيل البحر» الآية: عن محمد بن شهرآشوب: أن رأس الجالوت قال لعلي (عليه السلام): لم تلبثوا بعد نبيكم إلا ثلاثين سنة حتى ضرب بعضكم وجه بعض بالسيف! فقال علي (عليه السلام): و أنتم لم تجف أقدامكم من ماء البحر حتى قلتم: «اجعل لنا إلها كما لهم آلهة». و في تفسير العياشي، عن الفضيل بن يسار عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن موسى لما خرج وافدا إلى ربه واعدهم ثلاثين يوما فلما زاد الله على الثلاثين عشرا قال قومه: أخلفنا موسى فصنعوا ما صنعوا. و في الدر المنثور،: أخرج البزاز و ابن أبي حاتم و أبو نعيم في الحلية و البيهقي في الأسماء و الصفات عن جابر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لما كلم الله موسى يوم الطور كلمه بغير الكلام الذي كلمه يوم ناداه فقال له موسى: يا رب أ هذا كلامك الذي كلمتني به؟ قال: يا موسى إنما كلمتك بقوة عشرة آلاف لسان و لي قوة الألسن كلها و أقوى من ذلك. فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل قالوا: يا موسى صف لنا كلام الرحمن فقال: لا تستطيعونه أ لم تروا إلى أصوات الصواعق الذي يقبل في أحلى حلاوة سمعتموه؟ فذاك قريب منه و ليس به. أقول: أما ذيل الرواية فهو تمثيل للتقريب و ليس به بأس، و أما صدره ففيه خفاء و لعل المراد بقوة عشرة آلاف لسان ما في العشرة آلاف من قوة التفهيم لو تأيد بعضها ببعض فإن ألسن الناس مختلفة في قوة التفهيم فالمراد أن ذلك يعادل من حيث إعطاء التفهيم و الكشف عن المراد عشرة آلاف لسان لو جمع بعضها مع بعض.
و على هذا يكون المراد بالمغايرة في قوله: «كلمه بغير الكلام الذي كلمه يوم ناداه» التفاوت من حيث كيفية التفهيم.
و في المعاني، بإسناده عن هشام قال: كنت عند الصادق جعفر بن محمد (عليهما السلام) إذ دخل عليه معاوية بن وهب و عبد الملك بن أعين فقال له معاوية بن وهب: يا ابن رسول الله ما تقول في الخبر المروي: أن رسول ص رأى ربه؟ على أي صورة رآه؟ و في الخبر الذي رواه أن المؤمنين يرون ربهم في الجنة؟ على أي صورة يرونه؟ فتبسم ثم قال: يا معاوية ما أقبح بالرجل يأتي عليه سبعون سنة و ثمانون سنة يعيش في ملك الله و يأكل من نعمه ثم لا يعرف الله حق معرفته. ثم قال: يا معاوية إن محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) لم ير الرب تبارك و تعالى بمشاهدة العيان، و إن الرؤية على وجهين: رؤية القلب و رؤية البصر فمن عنى برؤية القلب فهو مصيب، و من عنى برؤية البصر فقد كذب و كفر بالله و آياته لقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من شبه الله بخلقه فقد كفر. و لقد حدثني أبي عن أبيه عن الحسين بن علي (عليهما السلام) قال: سئل أمير المؤمنين (عليه السلام) فقيل له: يا أخا رسول الله هل رأيت ربك؟ فقال: لم أعبد ربا لم أره لم تره العيون بمشاهدة العيان و لكن تراه القلوب بحقائق الإيمان. و إذا كان المؤمن يرى ربه بمشاهدة البصر فإن كل من جاز عليه البصر و الرؤية فهو مخلوق، و لا بد للمخلوق من خالق فقد جعلته إذا محدثا مخلوقا، و من شبهه بخلقه فقد اتخذ مع الله شريكا. ويلهم أ لم يسمعوا لقول الله تعالى: «لا تدركه الأبصار و هو يدرك الأبصار و هو اللطيف الخبير» و قوله لموسى: «لن تراني و لكن انظر إلى الجبل - فإن استقر مكانه فسوف تراني - فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا و خر موسى صعقا» و إنما طلع من نوره على الجبل كضوء يخرج من سم الخياط فدكدكت الأرض، و صعقت الجبال، و خر موسى صعقا أي ميتا «فلما أفاق» و رد عليه روحه «قال سبحانك تبت إليك» من قول من زعم أنك ترى و رجعت إلى معرفتي بك: أن الأبصار لا تدركك «و أنا أول المؤمنين» بأنك ترى و لا ترى و أنت بالمنظر الأعلى الحديث.
و في التوحيد، بإسناده عن علي (عليه السلام) في حديث: و سأل موسى و جرى على لسانه من حمد الله عز و جل: «رب أرني أنظر إليك» فكانت مسألته تلك أمرا عظيما، و سأل أمرا جسيما فعوتب فقال الله عز و جل: «لن تراني» في الدنيا حتى تموت و تراني في الآخرة، و لكن إن أردت أن تراني «فانظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني» فأبدى الله بعض آياته و تجلى ربنا للجبل فتقطع الجبل فصار رميما «و خر موسى صعقا» ثم أحياه الله و بعثه فقال: «سبحانك تبت إليك و أنا أول المؤمنين» يعني أول من آمن بك منهم بأنه لا يراك. أقول: الروايتان - كما ترى - تؤيدان ما تقدم في البيان السابق، و يتحصل منهما: أولا: أن السؤال إنما كان عن رؤية القلب دون رؤية البصر المستحيل عليه تعالى بأي وجه تصور، و حاشا مقام الكليم (عليه السلام) أن يجهل من ساحة ربه المنزهة ما هو من البداهة على مكان و هو يسمي القوم الذين اختارهم للميقات سفهاء إذ سألوا الرؤية إذ يقول لربه: «أ تهلكنا بما فعل السفهاء منا»: الأعراف: 155، فكيف يقدم هو نفسه على ما سماه سفهاء؟.
و قد كان النزاع و المشاجرة في الصدر الأول و خاصة في زمان الصادقين إلى زمان الرضا (عليه السلام) في المسألة بالغا أوج شدته ينكرها المعتزلة مطلقا و يثبتها الأشاعرة في الآخرة و هناك طائفة أخرى تثبتها في الدنيا و الآخرة جميعا، و الفريقان جميعا يستدلان بالآية و لم تزل المنازعة قائمة على ساقها لم تنقطع ظاهرا إلا بسيوف آل أيوب التي أبادت المعتزلة و ألحقت طالعهم بغاربهم.
و جملة احتجاج المعتزلة، أنهم كانوا يستدلون بقوله في الآية: «لن تراني» و بسائر ما ينفي الرؤية البصرية من طريق العقل و النقل، و يأولون ما يدل على جوازها من الآيات و الروايات، و جملة احتجاج الأشاعرة أنهم كانوا يستدلون بالتنظير الواقع في الآية بقوله: «و لكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني» الآية و بما في غيرها من الآيات و بعض الروايات من جوازها في الآخرة، و يأولون ما عدا ذلك على ما هو شأن الأبحاث الكلامية عندهم و ربما استدل لذلك بأنه لا دليل على وجوب انحصار الرؤية البصرية في الجسمانيات فمن الجائز أن يتعلق بغير الأمور المادية.
و بأن الإبصار يتعلق بالجوهر و العرض، و لا جامع بينهما إلا الموجود المطلق فكل موجود يمكن أن يتعلق به الإبصار و إن لم يكن جسما أو جسمانيا.
و قد اتضح بطلان هاتين الحجتين و ما يسانخهما من الحجج و الأقاويل في هذه الأزمنة اتضاحا كاد يلحق بالبديهيات.
و على أي حال لا يهمنا إيراد ما أوردوه من الجانبين من نقض و إبرام فمن أراد الوقوف عليها أمكنه أن يراجع الكتب الكلامية و مطولات تفاسير الفريقين.
و الذي تحصل من سابق بحثنا - أولا - أن الرؤية البصرية سواء كانت على هذه الصفة التي هي عليها اليوم أو تحولت إلى أي صفة أخرى هي معها مادية طبيعية متعلقة بقدر و شكل و لون و ضوء تعملها أداة مادية طبيعية فإنها مستحيلة التعلق بالله سبحانه في الدنيا و الآخرة، و عليه يدل البرهان و ما ورد من الآيات و الروايات في نفي الرؤية.
نعم هناك علم ضروري خاص يتعلق به تعالى غير العلم الضروري الحاصل بالاستدلال تسمى رؤية، و إياه تعني الآيات و الروايات الظاهرة في إثبات الرؤية لما فيها من القرائن الكثيرة الصريحة في ذلك، و موطن هذه المعرفة الآخرة.
و - ثانيا - أن قوله تعالى: «رب أرني أنظر إليك» الآية أجنبية أصلا عن الرؤية البصرية الحسية إثباتا و نفيا و سؤالا و جوابا، و إنما يدور الكلام فيها مدار الرؤية بالمعنى الآخر الذي هو رؤية القلب بحسب ما اصطلح عليه في الروايات.
و قد روى الصدوق في العيون،: فيما سأله المأمون عن الرضا (عليه السلام) أنه أجاب عن سؤال الرؤية في الآية، أن موسى إنما سأل ذلك عن لسان قومه لا لنفسه فإنهم لما قالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة ثم أحياهم الله سألوا موسى أن يسأله لنفسه فرد عليهم بالاستحالة فأصروا عليه فقال: «رب أرني» أي على ما يقترحه على قومي. و الرواية كما أشرنا إليه في أخبار جنة آدم ضعيفة السند على أنها لا توافق الأصول المسلمة في أخبار أئمة أهل البيت (عليهم السلام) فإن أخبارهم و خاصة خطب علي و الرضا (عليهما السلام) مملوءة من حديث التجلي و الرؤية القلبية فلا موجب له (عليه السلام) أن يلتزم كون الرؤية المذكورة في الآية سؤالا و جوابا هي الرؤية البصرية ثم الجواب بطريق جدلي لا ينطبق كثير انطباق على الآية لكونه خلاف ظاهرها البتة، و خلاف ظاهر حال موسى فإنهم لو اقترحوا عليه ذلك لرد عليهم كما رد عليهم بقوله: «إنكم قوم تجهلون» حين قالوا: يا موسى «اجعل لنا إلها كما لهم آلهة».
و ثانيا: يتحصل من الروايتين أن موسى (عليه السلام) ما أجيب إلى الرؤية بالمعنى المذكور في الدنيا، و إنما أجيب إليها في الآخرة، و الظاهر أنه يستفاد ذلك من قوله تعالى: «فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا و خر موسى صعقا» فإن الاستدراك في قوله: «و لكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني» إن الذي فرض في الجبل هو بعينه مثل ما فرض في موسى فهو لا يطيق الظهور و الإرادة كما أن ذاك لا يطيقه، و قد وقع التجلي للجبل فدك به و صعق و لو وقع لموسى أيضا لدك به و صعق فالتجلي في نفسه ممكن لكنه بالنسبة إلى المتجلى له يوجب اندكاكه و صعقته، و هذا يشعر أن التجلي لا مانع منه في نفسه مع الصعقة و الموت، و قد استفاضت الروايات من طرق أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أن الله سبحانه و تعالى يتجلى لأهل الجنة، و إن لهم في كل جمعة زورة كما وقع ذلك في قوله تعالى: «وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة»: القيامة: 23.
و ثالثا تحصل من الروايتين: أن صعقة موسى (عليه السلام) كانت موتا ثم رد الله إليه روحه لا غشية.
و رابعا: أن ما ذكره (عليه السلام) أنه تجلى له من نوره مقدار ما يخرج من سم الخياط من النور من قبيل تمثيل المعنى بالأمور المحسوسة فلا نوره تعالى نور حسي، و لا أنه يتقدر بأمر حسي كسم الخياط، و لذلك مثل ذلك في غير هذه الرواية بوضع طرف الإبهام على أنملة الخنصر كما سيأتي، و الغرض على أي تقدير بيان صغره و حقارته.
و على أي حال فالتجلي إنما هو بما يكفي لدكه و صعقته، و أما كمال نوره تعالى فهو غير متناه لا يحاذيه أي أمر متناه مفروض فلا نسبة بين المتناهي و غير المتناهي.
و في الدر المنثور، أخرج أحمد و عبد بن حميد و الترمذي و صححه و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن عدي في الكامل و أبو الشيخ و الحاكم و صححه و ابن مردويه و البيهقي في كتاب الرؤية من طرق عن أنس بن مالك: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قرأ هذه الآية: «فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا» قال هكذا و أشار بإصبعيه، و وضع طرف إبهامه على أنملة الخنصر و في لفظ: على المفصل الأعلى من الخنصر فساخ الجبل و خر موسى صعقا و في لفظ: فساخ الجبل في الأرض فهو يهوي فيها إلى يوم القيامة. أقول: و وقع في أحاديث أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أن الجبل دك فصار رميما، و في بعضها أنه ساخ في البحر فهو يهوي حتى الساعة، و في بعضها: إلى هذه الساعة، و المحصل من تفسير بعضها ببعض أنه صار رميما نزل البحر فلا يرى منه أثر أبدا و ينبغي أن يكون هذا معنى قوله: فساخ الجبل في الأرض أو في البحر فهو يسخ إلى يوم القيامة أو إلى الساعة.
و فيه، أخرج أبو الشيخ و ابن مردويه من طريق ثابت عن أنس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في قوله: «فلما تجلى ربه للجبل» قال: أظهر مقدار هذا و وضع الإبهام على خنصر الإصبع الصغرى. فقال حميد راوي الحديث يا أبا محمد الراوي عن أنس ما تريد إلى هذا؟ فضرب في صدره و قال: من أنت يا حميد؟ و ما أنت يا حميد؟ يحدثني أنس بن مالك عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و تقول أنت: ما تريد إلى هذا؟ و فيه،: أخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول و أبو نعيم في الحلية عن ابن عباس قال: تلا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هذه الآية: «رب أرني أنظر إليك» قال: قال الله عز و جل يا موسى إنه لا يراني حي إلا مات، و لا يابس إلا تدهده و لا رطب إلا تفرق، و إنما يراني أهل الجنة الذين لا تموت أعينهم، و لا تبلى أجسادهم. أقول: و الرواية نظيرة ما تقدم من رواية التوحيد عن علي (عليه السلام) و تقدم توضيح معناها.
و في تفسير العياشي، عن أبي بصير، عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لما سأل موسى ربه تبارك و تعالى، «قال رب أرني أنظر إليك - قال لن تراني و لكن انظر إلى الجبل - فإن استقر مكانه فسوف تراني» قال: فلما صعد موسى على الجبل فتحت أبواب السماء، و أقبلت الملائكة أفواجا في أيديهم العمد، و في رأسها النور يمرون به فوجا بعد فوج، يقولون: يا ابن عمران اثبت فقد سألت عظيما. قال: فلم يزل موسى واقفا حتى تجلى ربنا جل جلاله فجعل الجبل دكا و خر موسى صعقا فلما أن رد الله عليه روحه أفاق «قال سبحانك تبت إليك و أنا أول المؤمنين». و فيه، أيضا عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن موسى بن عمران لما سأل ربه النظر إليه وعد الله أن يقعد في موضع ثم أمر الملائكة تمر عليه موكبا موكبا بالرعد و البرق و الريح و الصواعق فكلما مر به موكب من المواكب ارتعدت فرائصه فيرفع رأسه فيسأل: أيكم ربي؟ فيجاب هو آت و قد سألت عظيما يا ابن عمران. أقول: و الرواية موضوعة، و ما تشمل عليه لا يقبل الانطباق على شيء من مسلمات الأصول المتخذة من الكتاب و السنة.
و في البصائر، بإسناده عن أبي محمد عبد الله بن أبي عبد الله الفارسي و غيره فرفعوه إلى أبي عبد الله (عليه السلام): أن الكروبيين قوم من شيعتنا من الخلق الأول جعلهم الله خلف العرش لو قسم نور واحد منهم على أهل الأرض لكفاهم، ثم قال: إن موسى (عليه السلام) لما سأل ربه ما سأل أمر واحدا من الكروبيين تجلى للجبل فجعله دكا. أقول: محصل الرواية أن تجليه سبحانه يقبل الوسائط كما أن سائر الأمور المنسوبة إليه تعالى كالتوفي و الإحياء و الرزق و الوحي و غيرها يقبل الوسائط فهو تعالى يتجلى بالوسائط كما يتوفى بملك الموت، و يحيي بصاحب الصور، و يرزق بميكائيل، و يوحي بجبرئيل الروح الأمين، و سيوافيك شرح الرواية في موضع مناسب له إن شاء الله.
و للكروبيين ذكر في التوراة.
و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه و الحاكم و صححه عن أنس: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قرأ «دكا» منونة و لم يمده. و فيه، أخرج ابن مردويه عن أنس أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قرأ «فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا» مثقلة ممدودة. و فيه، أخرج أبو نعيم في الحلية عن معاوية بن قرة عن أبيه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): فلما تجلى ربه للجبل طارت لعظمته ستة أجبل فوقعن بالمدينة: أحد و ورقان و رضوى. و وقع بمكة ثور و ثبير و حراء:. أقول: و رواه أيضا عن ابن أبي حاتم و أبي الشيخ و ابن مردويه عن أنس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
و فيه، أخرج الطبراني في الأوسط عن ابن عباس أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: لما تجلى الله لموسى تطايرت سبعة أجبال ففي الحجاز منها خمسة، و في اليمن اثنان: في الحجاز أحد و ثبير و حراء و ثور و ورقان، و في اليمن حصور و صير. أقول: و روي في تقطع الجبل غير ذلك، و هذه الروايات على ما فيها من الاختلاف في عدد الجبال المتطايرة إن كان المراد بها تفسير دك الجبل لم ينطبق على الآية، و إن أريد غير ذلك فهو و إن كان ممكن الوقوع غير أنه لا يكفي لإثباته أمثال هذه الآحاد.
و كذا ما ورد من طرق الشيعة و أهل السنة أن ألواح التوراة كانت من زبرجد، و في بعضها من طرق أهل السنة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الألواح التي أنزلت على موسى كانت من سدر الجنة كان طول اللوح اثني عشر ذراعا، و في بعضها: كتب الله الألواح لموسى و هو يسمع صريف الأقلام في الألواح، و في بعض أخبارنا أن هذه الألواح مدفونة في جبل من جبال اليمن، أو التقمها حجر هناك فهي محفوظة في بطنه إلى غير ذلك من آحاد الأخبار غير المؤيدة بقرائن قطعية.
على أن البحث التفسيري لا يتوقف على الغور في البحث عنها.
و في روح المعاني، قال: و عن علي كرم الله وجهه: أنه قرأ «جؤار» بجيم مضمومة و همزة. قال و هو الصوت الشديد. و في الدر المنثور، في قوله تعالى: «و ألقى الألواح» الآية: أخرج أحمد و عبد بن حميد و البزاز و ابن أبي حاتم و ابن حبان و الطبراني و أبو الشيخ و ابن مردويه عن ابن عباس قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): ليرحم الله موسى ليس المعاين كالمخبر أخبره ربه تبارك و تعالى أن قومه فتنوا بعده فلم يلق الألواح فلما رآهم و عاينهم ألقى الألواح فتكسر منها ما تكسر. و في تفسير العياشي، عن محمد بن أبي حمزة عمن ذكره عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله تبارك و تعالى لما أخبر موسى أن قومه اتخذوا عجلا " جسدا " له خوار فلم يقع منه موقع العيان فلما رآهم اشتد غضبه فألقى الألواح من يده، قد قال أبو عبد الله (عليه السلام): و للرؤية فضل على الخبر. و في الكافي، بإسناده عن سفيان بن عيينة عن السدي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: ما أخلص عبد الإيمان بالله أربعين يوما أو قال: ما أجل عبد ذكر الله أربعين يوما إلا زهده الله في الدنيا، و بصره داءها و دواءها، و أثبت الحكمة في قلبه، و أنطق به لسانه. ثم تلا: «إن الذين اتخذوا العجل - سينالهم غضب من ربهم و ذلة في الحياة الدنيا - و كذلك نجزي المفترين» فلا ترى صاحب بدعة إلا ذليلا، و مفتريا على الله عز و جل و على رسوله و على أهل بيته إلا ذليلا.
بحث روائي آخر
نورد فيها بعض ما ورد عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) في معنى رؤية القلب في التوحيد، و الأمالي، بإسناده عن الرضا (عليه السلام) في خطبة له قال: أحد لا بتأويل عدد ظاهر لا بتأويل المباشرة، متجل لا باستهلال رؤية، باطن لا بمزايلة. أقول: و حديث تجليه تعالى الدائم لخلقه متكرر في كلام علي و الأئمة من ذريته (عليهم السلام)، و قد نقلنا شذرات من كلامه (عليه السلام) في مباحث التوحيد في ذيل قوله تعالى: «لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة»: المائدة: 73.
و في التوحيد، بإسناده عن الصادق (عليه السلام) في كلام له في التوحيد: واحد صمد أزلي صمدي، لا ظل له يمسكه، و هو يمسك الأشياء بأظلتها، عارف بالمجهول، معروف عند كل جاهل، لا هو في خلقه و لا خلقه فيه. أقول: قوله (عليه السلام) «معروف عند كل جاهل» ظاهر في أن له تعالى معرفة عند خلقه لا يطرأ عليها غفلة، و لا يغشاها جهل، و لو كانت هي المعرفة الحاصلة من طريق الاستدلال لزالت بزوال صورته عن الذهن هذا إذا كان المراد من قوله: «معروف عند كل جاهل» أن الإنسان يجهل كل شيء و لا يجهل ربه، و أما لو كان المراد أن الله سبحانه معروف عند كل جاهل به فكون هذه المعرفة غير المعرفة الحاصلة بالاستدلال أظهر.
و قوله (عليه السلام): لا ظل له يمسكه و هو يمسك الأشياء بأظلتها، الأظلة و الظلال اصطلاح منهم (عليهم السلام) و المراد بظل الشيء حده، و لذلك كان منفيا عن الله سبحانه ثابتا في غيره، و قد فسره أبو جعفر الباقر (عليه السلام) في بعض أحاديث الذر و الطينة حيث ذكر: أن الله خلق طائفة من خلقه من طينة الجنة، و طائفة أخرى من طينة النار ثم بعثهم في الظلال فقيل: و أي شيء الظلال؟ فقال (عليه السلام): أ لم تر إلى ظلك في الشمس شيء و ليس بشيء؟ فالحدود الوجودية بالنظر إلى وجود الأشياء غيره و ليست غيره، و بها تتعين الأشياء و لولاها لبطلت، و لعل الاصطلاح مأخوذ من آية الظلال.
و في الإرشاد، و غيره عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في كلام له: إن الله أجل من أن يحتجب عن شيء أو يحتجب عنه شيء. و عنه (عليه السلام): ما رأيت شيئا إلا و رأيت الله قبله. و عنه: لم أعبد ربا لم أره. و في النهج، عنه: لم تره العيون بمشاهدة الأبصار، و لكن رأته القلوب بحقائق الإيمان. و في التوحيد، بإسناده عن أبي بصير عن الصادق (عليه السلام) قال: سألته عن الله عز و جل هل يراه المؤمنون يوم القيامة؟ قال: نعم و قد رأوه قبل يوم القيامة. قلت: متى؟ قال حين قال لهم: «أ لست بربكم؟ قالوا بلى» ثم سكت ساعة ثم قال: و إن المؤمنين ليرونه في الدنيا قبل يوم القيامة. أ لست تراه في وقتك هذا؟. قلت: فأحدث بهذا عنك؟ فقال: لا، فإنك إذا حدثت به فأنكره منكر جاهل بمعنى ما تقوله ثم قدر أن ذلك تشبيه كفر، و ليست الرؤية بالقلب كالرؤية بالعين تعالى الله عما يصفه المشبهون و الملحدون. أقول: و ظاهر من الرواية أن هذه الرؤية ليست هي الاعتقاد و الإيمان القلبي المكتسب بالدليل كما أنها غير الرؤية البصرية الحسية، و إن المانع من تكثير استعمال لفظ الرؤية في مورده تعالى و إذاعة هذا الاستعمال انصراف اللفظ عند الأفهام العامية إلى الرؤية الحسية المنفية عن ساحة قدسه، و إلا فحقيقة الرؤية ثابتة و هي نيل الشيء بالمشاهدة العلمية من غير طريق الاستدلال الفكري بل هناك عدة من الأخبار تنكر أن يكون الله سبحانه معلوما معروفا من طريق الفكر و سيأتي بعضها.
و في التوحيد، بإسناده عن موسى بن جعفر (عليه السلام) في كلام له في التوحيد: ليس بينه و بين خلقه حجاب غير خلقه فقد احتجب بغير حجاب محجوب، و استتر بغير ستر مستور، لا إله إلا هو الكبير المتعال. أقول: و هذا المعنى مروي عن الرضا (عليه السلام) أيضا على ما في العلل، و جوامع التوحيد،.
و الرواية الشريفة تفسر معنى حصول المعرفة به تعالى معرفة لا تقبل الجهالة، و لا يطرأ عليها زوال و لا تغيير و لا خطأ البتة فهي توضح أن الله سبحانه غير محتجب عن شيء إلا بنفس ذلك الشيء فالالتفات إلى الأشياء هو العائق عن الالتفات إلى مشاهدته تعالى.
ثم حكم (عليه السلام) أن هذا الحاجب الساتر غير مانع حقيقة فهو حجاب غير حاجب و ستر غير ساتر.
و ينتج مجموع الكلامين أنه سبحانه مشهود لخلقه معروف لهم غير غائب عنهم غير أن اشتغالهم بأنفسهم و التفاتهم إلى ذواتهم حجبهم عن التنبه على أنهم يشهدونه دائما فالعلم موجود أبدا، و العلم بالعلم مفقود في بعض الأحيان، و قد بنى الصادق (عليه السلام) على هذا الأساس فيما أجاب به بعض من شكى إليه كثرة الشبهات فقال (عليه السلام) له: هل ركبت السفينة فانكسرت و غرقت و بقيت وحدك على لوحة خشبة منها تلعب بك الأمواج فانقطعت عن كل سبب ينجيك؟ قال: نعم. قال: فهل تعلق قلبك إذ ذاك بشيء؟ قال: نعم. قال: ذلك الشيء هو الله و في جوامع التوحيد، عن الرضا (عليه السلام) قال: خلقة الله الخلق حجاب بينه و بينهم. و في العلل، بإسناده عن الثمالي قال: قلت لعلي بن الحسين (عليهما السلام): لأي علة حجب الله عز و جل الخلق عن نفسه؟ قال: لأن الله تبارك و تعالى بناهم بنية على الجهل. أقول: يظهر من رواية التوحيد، السابقة أن بناءهم على الجهل هو خلقهم بحيث يشتغلون بأنفسهم.
و في المحاسن، بإسناده عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن الله عز و جل كان و لا شيء غيره نورا لا ظلام فيه، و صادقا لا كذب فيه، و عالما لا جهل فيه، و حيا لا موت فيه و كذلك هو اليوم، و كذلك لا يزال أبدا الحديث.
و في التوحيد، بإسناده عن الرضا (عليه السلام) في حديث: كان يعني رسول ص إذا نظر إلى ربه بقلبه جعله في نور مثل نور الحجب حتى يستبين له ما في الحجب. و فيه، أيضا بإسناده عن محمد بن الفضيل قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) هل رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ربه عز و جل؟ فقال: نعم بقلبه رآه أ ما سمعت الله عز و جل يقول: «ما كذب الفؤاد ما رأى» لم يره بالبصر و لكن رآه بالفؤاد. و فيه، بإسناده عن عبد الأعلى مولى آل سام عن الصادق (عليه السلام) في حديث: و من زعم أنه يعرف الله بحجاب أو بصورة أو بمثال فهو مشرك لأن الحجاب و المثال و الصورة غيره و إنما هو واحد موحد فكيف يوحد من زعم أنه عرفه بغيره؟ إنما عرف الله من عرفه بالله فمن لم يعرفه به فليس يعرفه، إنما يعرف غيره، ليس بين الخالق و المخلوق شيء، و الله خالق الأشياء لا من شيء. تسمى بأسمائه فهو غير أسمائه، و الأسماء غيره، و الموصوف غير الواصف، فمن زعم أنه يؤمن بما لا يعرف فهو ضال عن المعرفة، لا يدرك مخلوق شيئا إلا بالله، و لا تدرك معرفة الله إلا بالله، و الله خلو من خلقه و خلقه خلو منه. أقول: الرواية تثبت معرفة الله لكل مخلوق يدرك شيئا ما من الأشياء، و تثبت أن هذه المعرفة غير المعرفة الفكرية التي تحصل من طريق الأدلة و الآيات و أن القصر على المعرفة الاستدلالية لا يخلو عن جهل بالله، و شرك خفي.
بيان ذلك بما تعطيه الرواية من المقدمات أن المعرفة المتعلقة بشيء إنما هي إدراكه فما وقع في ظرف الإدراك فهو الذي تتعلق به المعرفة حقيقة لا غيره، فلو فرضنا أنا عرفنا شيئا من الأشياء بشيء آخر هو واسطة في معرفته فالذي تعلق به إدراكنا هو الوسط دون الظرف الذي هو ذو وسط، فلو كانت المعرفة بالوسط مع ذلك معرفة بذي الوسط كان لازمه أن يكون ذلك الوسط بوجه هو ذا الوسط حتى تكون المعرفة بأحدهما هي بعينها معرفة بالآخر فهو هو بوجه و ليس هو بوجه فيكون واسطة رابطة بين الشيئين فزيد الخارجي الذي نتصوره في ذهننا هو زيد بعينه و لو كان غيره لم نكن تصورناه بل تصورنا غيره، و عاد عند ذلك علومنا جهالات.
و إذ كان لا واسطة بين الخالق و المخلوق ليكون رابطة بينهما فلا تمكن معرفته سبحانه بشيء آخر غير نفسه فلو عرف بشيء كان ذلك الشيء هو نفسه بعينه، و إن لم يعرف بنفسه لم يعرف بشيء آخر أبدا فدعوى أنه تعالى معروف بشيء من الأشياء كتصور أو تصديق أو آية خارجية شرك خفي لأنه إثبات واسطة بين الخالق و المخلوق يكون غيرهما جميعا و ما هذا وصفه غير محتاج الوجود إلى الخالق تعالى فهو مثله و شريكه فالله سبحانه لو عرف عرف بذاته، و لو لم يعرف بذاته لم يعرف بشيء آخر البتة لكنه سبحانه معروف، فهو معروف بذاته أي إن ذاته المتعالية و المعروفية شيء واحد بعينه فمن المستحيل أن يكون مجهولا لأن ثبوت ذاته عين ثبوت معروفيته.
و أما بيان كونه تعالى معروفا فلأن شيئا من الأشياء المخلوقة لا يستقل عنه تعالى بذاته بوجه من الوجوه لا في خارج و لا في ذهن، فوجوده كالنسبة و الربط الذي لا يمكنه الاستقلال عن طرفه بوجه من الوجوه، فإذا تعلق علم مخلوق بشيء من الأشياء أي وقع المعلوم في ظرف علمه لم يتحقق هناك إلا و معه خالقا متكئا بوجوده عليه و إلا لاستقل دونه فلا يجد عالم معلومه إلا و قد وجد الله سبحانه قبله، و العالم نفسه حيث كان مخلوقا لم يستقل بالعلم إلا بالله سبحانه الذي قوم وجود هذا العالم، و لو استقل به دونه كان مستقلا دونه غير مخلوق له، فالله سبحانه يحتاج إليه العالم في كونه عالما كما يفتقر إليه وجود المعلوم في كونه معلوما أي إن العلم يتعلق باستقلال ذات المعلوم أي إن الله سبحانه هو المعلوم أولا و يعلم به المعلوم ثانيا كما أنه تعالى هو العالم أولا و به يكون الشيء عالما ثانيا فافهم ذلك و تدبر في قوله تعالى: «و لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء»: البقرة: 255، و في قوله (عليه السلام): «ما رأيت شيئا إلا و رأيت الله قبله». فقد تبين أنه تعالى معروف لأن ثبوت علم ما بمعلوم ما في الخارج لا يتم إلا بكونه تعالى هو المعروف أولا، و ثبوت ذلك ضروري.
فقوله (عليه السلام): «من زعم أنه يعرف الله بحجاب أو صورة أو مثال فهو مشرك كان المراد بالحجاب هو الشيء الذي يفرض فاصلا بينه تعالى و بين العارف، و بالصورة الصورة الذهنية المقارنة للأوصاف المحسوسة من الأضواء و الألوان و الأقدار و بالمثال ما هو من المعاني العقلية غير المحسوسة أو المراد بالصورة الصورة المحسوسة، و بالمثال الصورة المتخيلة، أو المراد بالصورة التصور و بالمثال التصديق، و كيف كان فالعلوم الفكرية داخلة في ذلك، و الأخبار في نفي كون العلم الفكري إحاطة علمية بالله كثيرة جدا.
و كون هذه المعرفة شركا لإثباتها أمرا ليس بخالق و لا مخلوق كما عرفت آنفا، و لزوم كونه مشاركا معه بوجه مباينا له بوجه، و لذلك عقب (عليه السلام) الكلام بقوله: «و إنما هو واحد موحد» أي إنه لا يشاركه في ذاته شيء بوجه من الوجوه حتى يوجب ذلك تركبه و انتفاء وحدته كما أن الصورة العلمية تشارك المعلوم الخارجي في معناه و ماهيته و تفارقه في وجوده فيصير المعلوم بذلك مركبا من ماهية و وجود.
«فكيف يوحد من زعم أنه يعرفه بغيره» مع إثباته شريكا له في وجوده و تركبا له في ذاته «إنما عرف الله من عرفه بالله» أي بنفس ذاته من غير واسطة «و من لم يعرفه به فليس يعرفه إنما يعرف غيره» كل ذلك «لأنه ليس بين الخالق و المخلوق شيء» أي أمر يربطهما هو غيرهما «و الله خالق الأشياء لا من شيء» يكون رابطا بينهما موصلا للخالق إلى المخلوق و بالعكس كما أن الإنسان الصانع يربطه إلى مصنوعه مثاله الذي في ذهن الصانع، و المادة الخارجية التي بيده.
و قوله (عليه السلام): «تسمى بأسمائه فهو غير أسمائه» في موضع دفع اعتراض مقدر، و هو أن يقال: إنا إنما نعرفه سبحانه بأسمائه الحاكية لجماله و جلاله، فدفعه بأن نفس التسمي بالأسماء يقضي بأن الأسماء غيره إذ لو لم تكن غيره لكان معرفته بأسمائه معرفة له بنفسه لا بشيء آخر ثم أكده بأن الأسماء واصفة، و الذات موصوفة «و الموصوف غير الواصف».
فإن رجع المعترض و قال: إنا نؤمن بما نجهله، و لا يمكننا معرفته بنفسه إلا بما تسمى معرفة به بنوع من المجاز كالمعرفة بالآيات و «زعم أنه يؤمن بما لا يعرف فهو ضال عن المعرفة لا يدري ما ذا يقول فإنه يدرك شيئا لا محالة لا مجال له لإنكار ذلك «و لا يدرك مخلوق شيئا إلا بالله» فهو يعرف الله و إلا لم يمكنه أن يعرف به، و لا تنال «و لا تدرك معرفة الله إلا بالله» و لا رابطة مشتركة بين الخالق و المخلوق «و الله خلو من خلقه و خلقه خلو منه».
فقد تحصل من الرواية أن معرفة الله سبحانه ضروري لكل مدرك ذي شعور من خلقه إلا أن الكثير منهم ضال عن المعرفة مختلط عليه، و العارف بالله يعرفه به، و يعلم أنه يعرفه و يعرف كل شيء به، و في بعض هذه المعاني روايات أخر.
و اعلم أن الروايات من طرق أئمة أهل البيت (عليهم السلام) كثيرة جدا لا حاجة إلى إيرادها على كثرتها.
و اعلم أنا لم نورد بحثا فلسفيا في مسألة الرؤية لأن الذي تتضمنه غالب ما أوردناه من الروايات من البيان بيان فلسفي فلم تمس الحاجة إلى عقد بحث على حدة.
|