بيان
فصول أخرى من قصص بني إسرائيل يذكر فيها آيات كثيرة أنزلها الله إليهم و حباهم بها يهديهم بها إلى سبيل الحق، و يدلهم على منهج التقوى فكفروا بها و ظلموا أنفسهم.
قوله تعالى: «و اختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا» أي اختار من قومه فالقوم منصوب بنزع الخافض.
و الآية تدل على أن الله سبحانه عين لهم ميقاتا فحضره منهم سبعون رجلا اختارهم موسى من القوم، و لا يكون ذلك إلا لأمر ما عظيم لكن الله سبحانه لم يبين هاهنا ما هو الغاية المقصودة من حضورهم غير أنه ذكر أنهم أخذتهم الرجفة و لم تأخذهم إلا لظلم عظيم ارتكبوه حتى أدى بهم إلى الهلاك بدليل قول موسى (عليه السلام): «رب لو شئت أهلكتهم من قبل و إياي أ تهلكنا بما فعل السفهاء منا» فيظهر من هنا أن الرجفة أهلكتهم.
و يتأيد بذلك أن هذه القصة هي التي يشير سبحانه إليها بقوله: «و إذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة و أنتم تنظرون ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون»: البقرة: 56، و بقوله: «يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء» فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات فعفونا عن ذلك»: النساء: 153.
و من ذلك يظهر أن المراد بالرجفة التي أخذتهم في الميقات رجفة الصاعقة لا رجفة في أبدانهم كما احتمله بعض المفسرين و لا ضير في ذلك فقد تقدم نظير التعبير في قصة قوم صالح حيث قال تعالى: «فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين»: الأعراف: 78، و قال فيهم: «فأخذتهم صاعقة العذاب الهون»: حم السجدة: 17.
و في آية النساء المنقولة آنفا إشعار بأن سؤالهم الرؤية كان مربوطا بنزول الكتاب و أن اتخاذ العجل كان بعد ذلك فكأنهم حضروا الميقات لنزول التوراة، و أنهم إنما سألوا الرؤية ليكونوا على يقين من كونها كتابا سماويا نازلا من عند الله، و يؤيد ذلك أن الظاهر أن هؤلاء المختارين كانوا مؤمنين بأصل دعوة موسى، و إنما أرادوا بقولهم: «لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة» تعليق إيمانهم به من جهة نزول التوراة عليه على الرؤية.
و بهذا كله يتأيد أن هذه القصة جزء من قصة الميقات و نزول التوراة، و أن موسى (عليه السلام) لما أراد الحضور لميقات ربه و نزول التوراة اختار هؤلاء السبعين فذهبوا معه إلى الطور و لم يقنعوا بتكليم الله كليمه، و سألوا الرؤية فأخذتهم الصاعقة فماتوا ثم أحياهم الله بدعوة موسى، ثم كلم الله موسى و سأل الرؤية و كان ما كان، و مما كان اتخاذ بني إسرائيل العجل بعد غيبتهم و ذهابهم لميقات الله، و قد وقع هذا المعنى في بعض الأخبار المأثورة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) كما سيجيء إن شاء الله.
و على أي حال العناية في هذه القصة ببيان ظلمهم و نزول العذاب عليهم و دعاء موسى لهم لا بيان كون هذه القصة جزءا من القصة السابقة لو كان جزءا، و لا مغايرتها لها لو كانت مغايرة فلا دلالة في اللفظ تنبه على شيء من ذلك.
و ما قيل: إن ظاهر الحال أن تكون هذه القصة مغايرة للمتقدمة إذ لا يليق بالفصاحة ذكر بعض القصة ثم النقل إلى أخرى ثم الرجوع إلى الأولى فإنه اضطراب يصان عند كلامه.
على أنه لو كانت الرجفة بسبب سؤال الرؤية لقيل: أ تهلكنا بما قال السفهاء منا لا بما فعل، و لم يذكر هاهنا أنهم قالوا شيئا، و ليس من المعلوم أن يكون قولهم «أرنا الله جهرة» صدر منهم هاهنا بل الحق أنها قصص ثلاث: قصة سؤالهم الرؤية و نزول الصاعقة، و قصة ميقات موسى و صعقته، و قصة ميقات السبعين و أخذ الرجفة، و سنوردها في البحث الروائي التالي إن شاء الله.
و لذلك ذكر بعضهم أن هذا الميقات غير الميقات الأول، و ذلك أنهم لما عبدوا العجل أمر الله موسى أن يأتي في أناس منهم إلى الطور فيعتذروا من عبادة العجل فاختار منهم سبعين فأتوا الطور فقالوا ما قالوا فأخذتهم رجفة في أبدانهم كادت تهلكهم ثم انكشفت عنهم بدعاء موسى.
و ذكر بعض آخر أن هارون لما مات اتهم بنو إسرائيل موسى في أمره، و قالوا له: أنت حسدته فينا فقتلته، و أصروا على ذلك فاختار منهم سبعين و فيهم ابن هارون فأتوا قبره فكلمه موسى فبرأه هارون من قتله فقالوا: ما نقضي يا موسى ادع لنا ربك يجعلنا أنبياء فأخذتهم الرجفة فصعقوا.
و ذكر آخرون أن بني إسرائيل سألوا موسى الرؤية فاختار منهم السبعين فجاءوا إلى الطور فقالوا ما قالوا و أخذتهم الرجفة فهلكوا ثم أحياهم الله بدعاء موسى إلا أنها قصة مستقلة ليست بجزء من قصة موسى.
و أنت خبير بأن شيئا من هذه الأقوال و بالخصوص القولان الأولان لا دليل عليه من لفظ القرآن، و لا يؤيده أثر معتبر، و تقطيع القصة الواحدة إلى قصص متعددة، و الانتقال من حديث إلى آخر لتعلق عناية بذلك غير عزيز في القرآن الكريم، و ليس القرآن كتاب قصة حتى يعاب بالانتقال عن قصة قبل تمامها، و إنما هو كتاب هداية و دلالة و حكمة يأخذ من القصص ما يهمه.
و أما قوله: «بما فعل السفهاء» و قد كان الصادر منهم قولا لا فعلا فالوجه في ذلك أن المؤاخذة إنما هو على المعصية، و المعصية تعد عملا و فعلا و إن كانت من قبيل الأقوال كما قال تعالى: «إنما تجزون ما كنتم تعملون»: التحريم: 7، فإنه شامل لقول كلمة الكفر و الكذب و الافتراء و نحو ذلك بلا ريب، و الظاهر أنهم عذبوا بما كان يستلزمه قولهم من سوء الأدب و العناد و الاستهانة بمقام ربهم.
على أن ظاهر تلك الأقوال جميعا أنهم إنما عذبوا بالرجفة قبال ما قالوه دون ما فعلوه فالإشكال على تقدير وروده مشترك بين جميع الأقوال فالأقرب كون القصة جزءا من سابقتها كما تقدم.
قوله تعالى: «قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل و إياي - إلى قوله - من تشاء» يريد (عليه السلام) بذلك أن يسأل ربه أن يحييهم خوفا من أن يتهمه بنو إسرائيل فيخرجوا به عن الدين، و يبطل بذلك دعوته من أصلها فهذا هو الذي يبتغيه غير أن المقام و الحال يمنعانه من ذلك فها هو (عليه السلام) واقع أمام معصية موبقة من قومه صرعتهم و غضب إلهي شديد أحاط بهم حتى أهلكهم.
و لذلك أخذ يمهد الكلام رويدا و يسترحم ربه بجمل من الثناء حتى يهيج الرحمة على الغضب، و يثير الحنان و الرأفة الإلهية ثم يتخلص إلى مسألته و ذكر حاجته في جو خال من موانع الإجابة.
«قال» مبتدئا باسم الربوبية المهيجة للرحمة «رب لو شئت أهلكتهم من قبل» فالأمر إلى مشيتك، و لو أهلكتهم من قبل «و إياي» لم يتجه من قومي إلي تهمة في هلاكهم، ثم ذكر أنه ليس من شأن رحمته و سنة ربوبيته أن يؤاخذ قوما بفعل سفهائهم فقال في صورة الاستفهام تأدبا: «أ تهلكنا بما فعل السفهاء منا»؟ ثم أكد القول بقوله: «إن هي إلا فتنتك» و امتحانك «تضل بها» أي بالفتنة «من تشاء و تهدي من تشاء» أي إن هذا المورد أحد موارد امتحانك و ابتلائك العام الذي تبتلي به عبادك و تجريه عليهم ليضل من ضل و يهتدي من اهتدى، و ليس من سنتك أن تهلك كل من افتتن بفتنتك فانحرف عن سوي صراطك.
و بالجملة أنت الذي سبقت رحمتك غضبك ليس من دأبك أن تستعجل المسيئين من عبادك بالعقوبة أو تعاقبهم بما فعل سفهاؤهم، و أنت الذي أرسلتني إلى قومي و وعدتني أن تنصرني في نجاح دعوتي، و هلاك هؤلاء المصعوقين يجلب علي التهمة من قومي.
قوله تعالى: «أنت ولينا فاغفر لنا و ارحمنا و أنت خير الغافرين» شروع منه (عليه السلام) في الدعاء بعد ما قدمه من الثناء، و بدأه بقوله: «أنت ولينا» و ختمه بقوله: «و أنت خير الغافرين» ليقع ما يسأله بين صفتي ولاية الله الخاصة به، و مغفرته التي هي خير مغفرة ثم سأل حاجته بقوله: «فاغفر لنا و ارحمنا» لأنه خير حاجة يرتضي الله من عباده أن يسألوها عنه، و لم يصرح بخصوص حاجته التي بعثته إلى الدعاء، و هي إحياء السبعين الذين أهلكهم الله تذللا و استحياء.
و حاجته هذه مندرجة في قوله: «فاغفر لنا و ارحمنا» لا محالة فإن الله سبحانه يذكر في آية سورة البقرة أنه بعثهم بعد موتهم، و لم يكن ليحييهم بعد ما أهلكهم إلا بشفاعة موسى (عليه السلام) و لم يذكر من دعائه المرتبط بحالهم إلا هذا الدعاء فهو إنما سأله ذلك تلويحا بقوله «فاغفر لنا» إلخ كما تقدم لا تصريحا.
قوله تعالى: «و اكتب لنا في هذه الدنيا حسنة و في الآخرة إنا هدنا إليك» أي رجعنا إليك من هاد يهود إذا رجع، و هو أعني قوله: «إنا هدنا إليك» تعليل لهذا الفصل من الدعاء سأل فيه أن يكتب الله أي يقضي لهم بحسنة في الدنيا و حسنة في الآخرة و المراد بالحسنة لا محالة الحياة و العيشة الحسنة فإن الرجوع إلى الله أي سلوك طريقته و التزام سبيل فطرته يهدي الإنسان إلى حياة طيبة و عيشة حسنة في الدنيا و الآخرة جميعا، و هذا هو الوجه فيما ذكرنا أن قوله: «إنا هدنا إليك» تعليل لهذا الفصل من دعائه فإن الحياة الطيبة من آثار الرجوع إلى الله، و هي شيء من شأنه أن يرزقوه - لو رزقوا - في مستقبل أمرهم، و هو المناسب للكتابة و القضاء، و أما الفصل الأول من الدعاء أعني قوله: «فاغفر لنا و ارحمنا» إلخ فتكفي في تعليله الجمل السابقة عليه، و ما احتف به من قوله: «أنت ولينا» و قوله: «و أنت خير الغافرين» و لا يتعلق بقوله: «إنا هدنا إليك» فافهم ذلك.
قوله تعالى: «قال عذابي أصيب به من أشاء و رحمتي وسعت كل شيء» هذا جواب منه سبحانه لموسى، و فيه محاذاة لما قدمه موسى قبل مسألته من قوله: «رب لو شئت أهلكتهم من قبل و إياي»، و قد قيد الله سبحانه إصابة عذابه بقوله: «من أشاء» دون سعة رحمته لأن العذاب إنما ينشأ من اقتضاء من قبل المعذبين لا من قبله سبحانه، قال تعالى: «ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم و آمنتم»: النساء: 147 و قال: «لئن شكرتم لأزيدنكم و لئن كفرتم إن عذابي لشديد»: إبراهيم: 7 فلا يعذب الله سبحانه باقتضاء من ربوبيته و لو كان كذلك لعذب كل أحد بل إنما يعذب بعض من تعلقت به مشيته فلا تتعلق مشيته إلا بعذاب من كفروا نعمه فالعذاب إنما هو باقتضاء من قبل المعذبين لكفرهم لا من قبله.
على أن كلامه سبحانه يعطي أن العذاب إنما حقيقته فقدان الرحمة، و النقمة عدم بذل النعمة، و لا يتحقق ذلك إلا لعدم استعداد المعذب بواسطة الكفران و الذنب لإفاضة النعمة عليه و شمول الرحمة له، فسبب العذاب في الحقيقة عدم وجود سبب الرحمة.
و أما سعة الرحمة و إفاضة النعمة فمن المعلوم أنه من مقتضيات الألوهية و لوازم صفة الربوبية فما من موجود مخلوق إلا و وجوده نعمة لنفسه و لكثير ممن دونه لارتباط أجزاء الخلقة، و كل ما عنده من خير أو شر نعمة إما لنفسه و لغيره كالقوة و الثروة و غيرهما التي يستفيد منها الإنسان و غيره، و إما لغيره إذا كان نقمة بالنسبة إليه كالعاهات و الآفات و البلايا يستضر بها شيء و ينتفع أشياء و على هذا فالرحمة الإلهية واسعة كل شيء فعلا لا شأنا، و لا يختص بمؤمن و لا كافر و لا ذي شعور و لا غيره و لا دنيا و لا آخرة، و المشيئة لازمة لها.
نعم تحقق العذاب و النقمة في بعض الموارد - و هو معنى قياسي - يوجب أن يتحقق هناك رحمة تقابلها و تقاس إليها فإن حرمان البعض من النعمة التي أنعم الله بها على بعض آخر إذا كان عذابا كان ما يجده البعض الآخر رحمة تقابل هذا العذاب، و كذا نزول ما يتألم به و يؤذى على بعض كالعقوبات الدنيوية و الأخروية إذا كان عذابا كان الأمن و السلامة التي يجدها البعض الآخر رحمة بالنسبة إليه و تقابله، و إن كانت الرحمة المطلقة بالمعنى الذي تقدم بيانه يشملهما جميعا.
فهناك رحمة إلهية عامة يتنعم بها المؤمن و الكافر و البر و الفاجر و ذو الشعور و غير ذي الشعور فيوجدون بها و يرزقون بها في أول وجودهم ثم في مسيرة الوجود ما داموا سالكين سبيل البقاء، و رحمة إلهية خاصة و هي العطية الهنيئة التي يجود بها الله سبحانه في مقابل الإيمان و العبودية، و تختص لا محالة بالمؤمنين الصالحين من عباده من حياة طيبة نورانية في الدنيا، و جنة و رضوان في الآخرة و لا نصيب فيها للكافرين و المجرمين، و يقابل الرحمة الخاصة عذاب و هو اللاملائم الذي يصيب الكافرين و المجرمين من جهة كفرهم و جرمهم في الدنيا كعذاب الاستئصال و المعيشة الضنك و في الآخرة من النار و آلامها، و لا يقابل الرحمة العامة شيء من العذاب إذ كل ما يصدق عليه اسم شيء فهو من مصاديق الرحمة العامة لنفسه أو لغيره، و كونه رحمة هي المقصودة في الخلقة، و ليس وراء الشيء شيء.
إذا تحقق هذا تبين أن قوله تعالى: «عذابي أصيب به من أشاء و رحمتي وسعت كل شيء» بيان لخصوص العذاب و عموم الرحمة، و إنما قابل بين العذاب و الرحمة العامة مع عدم تقابلهما لأن ذكر الرحمة العامة توطئة و تمهيد لما سيذكره من صيرورتها رحمة خاصة في حق المتقين من المؤمنين.
و قد اتضح بما تقدم أن سعة الرحمة ليست سعة شأنية و أن قوله: «و رحمتي وسعت كل شيء» ليس مقيدا بالمشيئة المقدرة بل من لوازم سعة الرحمة الفعلية كما تقدم، و ذلك لأن الظاهر من الآية أن المراد بالرحمة الرحمة العامة و هي تسع كل شيء بالفعل و قد شاء الله ذلك فلزمتها فلا محل لتقدير «إن شئت» خلافا لظاهر كلام جمع من المفسرين.
قوله تعالى: «فسأكتبها للذين يتقون و يؤتون الزكاة و الذين هم بآياتنا يؤمنون» تفريع على قوله: «عذابي أصيب به من أشاء و رحمتي» الآية أي لازم وجوب إصابة العذاب بعض الناس و سعة الرحمة لكل شيء أن أوجب الرحمة على البعض الباقي، و هم الذين يتقون و يؤتون الزكاة الآية.
و قد ذكر سبحانه الذين تنالهم الرحمة بأوصاف عامة و هي التقوى و إيتاء الزكاة و الإيمان بآيات الله من غير أن يقيدهم بما يخص قومه كقولنا: للذين يتقون منكم و نحو ذلك لأن ذلك مقتضى عموم البيان في قوله: «عذابي أصيب به من أشاء» الآية و البيان العام ينتج نتيجة عامة.
و إذا قوبلت مسألة موسى بالآية كانت الآية بمنزلة المقيدة لها فإنه (عليه السلام) سأل الحسنة و الرحمة لقومه ثم عللها بقوله: «إنا هدنا إليك» فكان معنى ذلك مسألة الرحمة لكل من هاد و رجع منهم بأن يكتب الله حسنة الدنيا و الآخرة لمجرد هودهم و عودهم إليه فكان فيما أجابه الله به أنه سيكتب رحمته للذين آمنوا و اتقوا فكأنه قال: اكتب رحمتك لمن هاد إليك منا، فأجابه الله أن سأكتب رحمتي لمن هاد و اتقى و آمن بآياتي فكان في ذلك تقييد لمسألته.
و لا ضير في ذلك فإنه سبحانه هو الهادي لأنبيائه و رسله المعلم لهم يعلم كليمه أن يقيد مسألته بالتقوى و هو الورع عن محارمه و بالإيمان بآياته و هو التسليم لأنبيائه و للأحكام النازلة إليهم، و لا يطلق الهود و هو الرجوع إلى الله بالإيمان به، فهذا تصرف في دعاء موسى بتقييده كما تصرف تعالى في دعاء إبراهيم بالتقييد في قوله: «قال إني جاعلك للناس إماما قال و من ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين»: البقرة: 124، و بالتعميم و الإطلاق في قوله فيما يحكي من دعائه لأهل مكة: «و ارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله و اليوم الآخر قال و من كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار و بئس المصير»: البقرة: 126، فقد تبين أولا أن الآية تتضمن استجابته تعالى لدعاء موسى: «و اكتب لنا في هذه الدنيا حسنة و في الآخرة» بتقييد ما له فمن العجيب ما ذكره بعضهم: أن الآية بسياقها تدل على أن الله سبحانه رد دعوة موسى و لم يستجبها، و كذا قول بعضهم: إن موسى (عليه السلام) دعا لقومه فاستجابه الله في حق أمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بناء على بيانية قوله: «الذين يتبعون الرسول» الآية لقوله: «للذين يتقون» الآية و سيجيء.
و ثانيا: أنه تعالى استجاب ما اشتمل عليه الفصل الأول من دعائه فإنه تعالى لم يرده، و حاشا أن يحكي الله في كلامه دعاء لاغيا غير مستجاب، و قوله: «فسأكتبها للذين» الآية فإنه يحاذي ما سأله (عليه السلام) من الحسنة المستمرة الباقية في الدنيا و الآخرة لقومه، و أما طلب المغفرة لذنب دفعي صدر عنهم بقولهم: «أرنا الله جهرة» فلا يحاذيه قوله: «فسأكتبها» الآية بوجه، فسكوته تعالى عن رد دعوته دليل إجابتها كما في سائر الموارد التي تشابهه في القرآن.
و يلوح إلى استجابة دعوته لهم بالمغفرة قوله في القصة في موضع آخر: «ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون»: البقرة: 56 فمن البعيد المستبعد أن يحييهم الله بعد إهلاكهم و لم يغفر لهم ذنبهم الذي أهلكوا به و على أي حال معنى الآية: «فسأكتبها» أي سأكتب رحمتي و أقضيها و أوجبها استعيرت الكتابة للإيجاب لأن الكتابة أثبت و أحكم «للذين يتقون» و يجتنبون المعاصي و ترك الواجبات «و يؤتون الزكاة» و هي الحق المالي أو مطلق الإنفاق في سبيل الله الذي ينمو به المال، و يصلح به مفاسد الاجتماع، و يتم به نواقصه، و ربما قيل: إن المراد بها زكاة النفس و طهارتها، و إيتاء الزكاة إصلاح أخلاق النفس.
و ليس بشيء.
«و الذين هم بآياتنا يؤمنون» أي يسلمون لما جاءتهم من عند الله من الآيات و العلامات سواء كانت آيات معجزة كمعجزات موسى و عيسى و محمد صلى الله عليه و آله و عليهم، أو أحكاما سماوية كشرائع موسى و أوامره و شرائع غيره من الأنبياء، أو الأنبياء أنفسهم أو علامات صدق الأنبياء كعلائم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) التي ذكرها الله تعالى لهم في كتاب موسى و عيسى (عليهما السلام) فكل ذلك آيات له تعالى يجب عليهم و على غيرهم أن يؤمنوا بها و يسلموا لها، و لا يكذبوا بها.
و في الآية التفات من سياق التكلم مع الغير إلى الغيبة فإنه قال أولا: «و اختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا».
ثم قال: «قال عذابي أصيب به» الآية و كان النكتة فيه إظهار ما له سبحانه من العناية الخاصة باستجابة دعاء الداعين من عباده فيقبل عليهم هو تعالى من غير أن يشاركه فيه غيره و لو بالتوسط فإن التكلم بلفظ المتكلم مع الغير لإظهار العظمة لمكان أن العظماء يتكلمون عنهم و عن أتباعهم فإذا أريد إظهار عناية خاصة بالمخاطب أو بالخطاب تكلم بلفظ المتكلم وحده.
و على هذا جرى كلامه تعالى فاختار سياق المتكلم وحده المناسب لمعنى المناجاة و المسارة فيما حكى من أدعية أنبيائه و أوليائه و استجابته لهم في كلامه كأدعية نوح و إبراهيم و دعاء موسى ليلة الطور، و أدعية سائر الصالحين و استجابته لهم، و لم يعدل عن سياق المتكلم وحده إلا لنكتة زائدة.
و أما قوله: «و الذين هم بآياتنا يؤمنون» و ما فيه من العدول من التكلم وحده - السياق السابق - إلى التكلم مع الغير فالظاهر أن النكتة فيه إيجاد الاتصال بين هذه الآية و الآية التالية التي هي نوع من البيان لهذه الجملة أعني قوله: «و الذين هم بآياتنا يؤمنون» فإن الآية التالية - كما سيجيء - بمنزلة المعترضة من النتيجة المأخوذة في ضمن الكلام الجاري، و سياقها سياق خارج عن سياق هذه القطعة المتعرضة للمشافهة و المناجاة بين موسى و بينه تعالى راجع إلى السياق الأصلي السابق الذي هو سياق المتكلم مع الغير.
فبتبديل «و الذين هم بآياتي يؤمنون» إلى قوله: «و الذين هم بآياتنا يؤمنون» يتصل الآية التالية بسابقتها في السياق بنحو لطيف فافهم ذلك و تدبر فيه فإنه من أعجب السياقات القرآنية.
قوله تعالى: «الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة و الإنجيل - إلى قوله - كانت عليهم».
قال الراغب في المفردات،: الإصر عقد الشيء و حبسه بقهره يقال: أصرته فهو مأصور، و المأصر و المأصر - بفتح الصاد و كسرها - محبس السفينة، قال تعالى: و يضع عنهم إصرهم أي الأمور التي تثبطهم و تقيدهم عن الخيرات، و عن الوصول إلى الثوابات، و على ذلك: و لا تحمل علينا إصرا، و قيل ثقلا و تحقيقه ما ذكرت.
انتهى و الأغلال جمع غل و هو ما يقيد به.
و قوله: «الذين يتبعون الرسول النبي الأمي» الآية بحسب ظاهر السياق بيان لقوله: «و الذين هم بآياتنا يؤمنون» و يؤيده ما هو ظاهر الآية أن كونه (صلى الله عليه وآله وسلم) رسولا نبيا أميا و يأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر، و يحل لهم الطيبات و يحرم عليهم الخبائث، و يضع عنهم إصرهم و الأغلال التي كانت عليهم كل ذلك من أمارات النبوة الخاتمية و آياتها المذكورة لهم في التوراة و الإنجيل فمن الإيمان بآيات الله الذي شرطه الله تعالى لهم في كلامه: أن يؤمنوا بالآيات المذكورة لهم أمارات لنبوة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).
غير أن من المسلم الذي لا مرية فيه أن الرحمة التي وعد الله كتابته لليهود بشرط التقوى و الإيمان بآيات الله ليست بحيث تختص بالذين آمنوا منهم بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و يحرم عنها صالحو بني إسرائيل من لدن أجاب الله دعوة موسى (عليه السلام) إلى أن بعث الله محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) فآمن به شرذمة قليلة من اليهود، فإن ذلك مما لا ينبغي توهمه أصلا.
فبين موسى و عيسى (عليهما السلام)، و كذا بعد عيسى (عليه السلام) ممن آمن به من بني إسرائيل جم غفير من المؤمنين الذين آمنوا بالدعوة الإلهية فقبل الله منهم إيمانهم و وعدهم بالخير، و الكلام الإلهي بذلك ناطق فكيف يمكن أن تقصر الرحمة الإلهية المبسوطة على بني إسرائيل في جماعة قليلة منهم آمنوا بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)؟.
فقوله: «الذين يتبعون الرسول النبي الأمي» الآية و إن كان بيانا لقوله: «و الذين هم بآياتنا يؤمنون» إلا أنه ليس بيانا مساويا في السعة و الضيق لمبينه بل بيان مستخرج من مبينه انتزع منه، و خص بالذكر ليستفاد منه فيما هو الغرض من سوق الكلام، و هو بيان حقيقة الدعوة المحمدية، و لزوم إجابتهم لها و تلبيتهم لداعيها.
و لذلك في القرآن الكريم نظائر من حيث التضييق و التوسعة في البيان كما قال تعالى حاكيا عن إبليس: «فبعزتك لأغوينهم أجمعين» الآية ثم قال في موضع آخر حاكيا عنه: «لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا لأضلنهم و لأمنينهم و لآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام و لآمرنهم فليغيرن خلق الله»: النساء: 119 فإن القول الثاني المحكي عن إبليس مستخرج من عموم قوله المحكي أولا: «لأغوينهم أجمعين».
و قال تعالى في أول هذه السورة: «و لقد خلقناكم ثم صورناكم - إلى أن قال - يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم» الآية و قد تقدم أن ذلك من قبيل استخراج الخطاب من الخطاب لغرض التعميم إلى غير ذلك من النظائر.
فيئول معنى بيانية قوله: «الذين يتبعون الرسول» إلى استخراج بيان من بيان للتطبيق على مورد الحاجة كأنه قيل: فإذا كان المكتوب من رحمة الله لبني إسرائيل قد كتب للذين يتقون و يؤتون الزكاة و الذين هم بآياتنا يؤمنون فمصداقه اليوم - يوم بعث محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) - هم الذين يتبعونه من بني إسرائيل لأنهم الذين اتقوا و آتوا الزكاة و هم الذين آمنوا بآياتنا فإنهم آمنوا بموسى و عيسى و محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) و هم آياتنا، و آمنوا بمعجزات هؤلاء الرسل و ما نزل عليهم من الشرائع و الأحكام و هي آياتنا، و آمنوا بما ذكرنا لهم في التوراة و الإنجيل من أمارات نبوة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) و علامات ظهوره و دعوته، و هي آياتنا.
ثم قوله: «الذين يتبعون الرسول النبي الأمي» الآية أخذ فيه «يتبعون» موضع يؤمنون، و هو من أحسن التعبير لأن الإيمان بآيات الله سبحانه كأنبيائه و شرائعهم إنما هو بالتسليم و الطاعة فاختير لفظ الاتباع للدلالة على أن الإيمان بمعنى الاعتقاد المجرد لا يغني شيئا فإن ترك التسليم و الطاعة عملا تكذيب بآيات الله و إن كان هناك اعتقاد بأنه حق.
و ذكره (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذه الأوصاف الثلاث: الرسول النبي الأمي، و لم يجتمع له في موضع من كلامه تعالى إلا في هذه الآية و الآية التالية، مع قوله تعالى بعده: «الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة و الإنجيل» تدل على أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان مذكورا فيهما معرفا بهذه الأوصاف الثلاث.
و لو لا أن الغرض من توصيفه بهذه الثلاث هو تعريفه بما كانوا يعرفونه به من النعوت المذكورة له في كتابيهم لما كانت لذكر الثلاث: «الرسول النبي الأمي» و خاصة الصفة الثالثة نكتة ظاهرة.
و كذلك ظاهر الآية يدل أو يشعر بأن قوله: يأمرهم بالمعروف و ينهاهم عن المنكر إلى آخر الأمور الخمسة التي وصفه (صلى الله عليه وآله وسلم) بها في الآية من علائمه المذكورة في الكتابين، و هي مع ذلك من مختصات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و ملته البيضاء فإن الأمم الصالحة و إن كانوا يقومون بوظيفة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر كما ذكره تعالى من أهل الكتاب في قوله: «ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة - إلى أن قال - و يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر و يسارعون في الخيرات و أولئك من الصالحين»: آل عمران 114.
و كذلك تحليل الطيبات و تحريم الخبائث في الجملة من الجملة الفطريات التي أجمع عليها الأديان الإلهية، و قد قال تعالى: «قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده و الطيبات من الرزق»: الأعراف: 32.
و كذلك وضع الإصر و الأغلال و إن كان مما يوجد في الجملة في شريعة عيسى (عليه السلام) كما يدل عليه قوله فيما حكى الله عنه في القرآن الكريم: «و مصدقا لما بين يدي من التوراة و لأحل لكم بعض الذي حرم عليكم»: آل عمران: 50 و يشعر به قوله خطابا لبني إسرائيل: «قد جئتكم بالحكمة و لأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه»: الزخرف 63.
إلا أنه لا يرتاب ذو ريب في أن الدين الذي جاء به محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بكتاب من عند الله مصدق لما بين يديه من الكتب السماوية - و هو دين الإسلام - هو الدين الوحيد الذي نفخ في جثمان الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر كل ما يسعه من روح الحياة، و بلغ به من حد الدعوة الخالية إلى درجة الجهاد في سبيل الله بالأموال و النفوس، و هو الدين الوحيد الذي أحصى جميع ما يتعلق به حياة الإنسان من الشئون و الأعمال ثم قسمها إلى طيبات فأحلها، و إلى خبائث فحرمها، و لا يعادله في تفصيل القوانين المشرعة أي شريعة دينية و قانون اجتماعي، و هو الدين الذي نسخ جميع الأحكام الشاقة الموضوعة على أهل الكتاب و اليهود خاصة، و ما تكلفها علماؤهم، و ابتدعها أحبارهم و رهبانهم من الأحكام المبتدعة.
فقد اختص الإسلام بكمال هذه الأمور الخمسة و إن كانت توجد في غيره نماذج من ذلك.
على أن كمال هذه الأمور الخمسة في هذه الملة البيضاء أصدق شاهد و أبين بينة على صدق الناهض بدعوتها (صلى الله عليه وآله وسلم)، و لو لم تكن تذكر أمارات له في الكتابين فإن شريعته كمال شريعة الكليم و المسيح (عليه السلام) و هل يطلب من شريعة حقة إلا عرفانها المعروف و إنكارها المنكر، و تحليلها الطيبات، و تحريمها الخبائث، و إلغاؤها كل إصر و غل؟ و هي تفاصيل الحق الذي يدعو إليه الشرائع الإلهية فليعترف أهل التوراة و الإنجيل أن الشريعة التي تتضمن كمال هذه الأمور بتفاصيلها هي عين شريعتهم في مرحلة كاملة.
و بهذا البيان يظهر أن قوله تعالى: «يأمرهم بالمعروف و ينهاهم عن المنكر» الآية يفيد بمجموعه معنى تصديقه لما في كتابيهم من شرائع الله تعالى كأنه قيل مصدقا لما بين يديه كما في قوله تعالى: «و لما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون»: البقرة 101 و قوله: «و لما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم و كانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين»: البقرة: 89 يريد مجيء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بكمال ما في كتابهم من الشريعة مصدقا له ثم كفرهم به و هم يعلمون أنه المذكور في كتبهم المبشر به بلسان أنبيائهم كما حكى سبحانه عن المسيح في قوله: «يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة و مبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد»: الصف: 6.
و سنبحث عن بشاراته (عليه السلام) الواقعة في كتبهم المقدسة بما تيسر من البحث إن شاء الله العزيز.
غير أنه تعالى لم يقل: مصدقا لما بين يديه بدل قوله: «يأمرهم بالمعروف» الآية لأن وجه الكلام إلى جميع الناس دون أهل الكتاب خاصة، و لذا أمر نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) في الآية التالية بقوله: «قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا» و لم يقيد الكلام في قوله: «فالذين آمنوا به» إلخ بما يختص به بأهل الكتاب.
قوله تعالى: «فالذين آمنوا به و عزروه و نصروه و اتبعوا النور» إلى آخر الآية التعزير النصرة مع التعظيم، و المراد بالنور النازل معه القرآن الكريم ذكر بنعت النورية ليدل به على أنه ينير طريق الحياة، و يضيء الصراط الذي يسلكه الإنسان إلى موقف السعادة و الكمال، و الكلام في هذا الشأن.
و في قوله تعالى: «أنزل معه» و لم يقل: أنزل عليه أو أنزل إليه و «مع» تدل على المصاحبة و المقارنة تلويح إلى معنى الأمارة و الشهادة التي ذكرناها كأنه قيل: و اتبعوا النور الذي أنزل عليه و هو بما يحتوي عليه من كمال الشرائع السابقة، و يظهره بالإضاءة شاهد على صدقه، و أمارة أنه هو الذي وعد به أنبياؤهم، و ذكر لهم في كتبهم فقوله: «معه» حال من نائب فاعل «أنزل».
و قد وقع نظيره في قوله تعالى: «فبعث الله النبيين مبشرين و منذرين و أنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه»: البقرة: 213.
و قد اختلف المفسرون في توجيه هذه المعية و معناها: فقيل: إن الظرف - معه - متعلق بأنزل، و الكلام على حذف مضاف أي مع نبوته أو إرساله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأنه لم ينزل معه، و إنما أنزل مع جبرئيل، و قيل: متعلق ب «اتبعوا» و المعنى شاركوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في اتباعه، أو المعنى اتبعوا القرآن مع اتباعهم له و قيل: حال عن فاعل اتبعوا، و المعنى اتبعوا القرآن مصاحبين للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في اتباعه، و قيل: «مع» هنا بمعنى على، و قيل: بمعنى عند، و لا يخفى بعد الجميع.
و قوله: «فالذين آمنوا به و عزروه و نصروه و اتبعوا النور» الآية بمنزلة التفسير لقوله في صدر الآية: «الذين يتبعون الرسول» و أن المراد باتباعه حقيقة اتباع كتاب الله المشتمل على شرائعه، و أن الذي له (عليه السلام) من معنى الاتباع هو الإيمان بنبوته و رسالته من غير تكذيب به، و احترامه بالتسليم له و نصرته فيما عزم عليه من سيرته.
و الكلام أعني قوله: «فالذين آمنوا به» الآية نتيجة متفرعة على قوله في صدر الآية: «الذين يتبعون الرسول» الآية بناء على ما قدمناه من أنه بيان خاص مستخرج من قوله: «و الذين هم بآياتنا يؤمنون» الذي هو بيان عام، و المعنى إذا كان اتباع الرسول بهذه الأوصاف و النعوت هو من الإيمان بآياتنا الذي شرطناه على بني إسرائيل في قبول دعوة موسى لهم ببسط الرحمة في الدنيا و الآخرة و فيه الفلاح بكتابة الحسنة في الدنيا و الآخرة فالذين آمنوا به - إلى آخر ما شرط الله - أولئك هم المفلحون.
قوله تعالى: «قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا - إلى قوله - و يميت» لما لاح من الأوصاف التي وصف بها نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن عنده كمال الدين الذي به حياة الناس الطيبة في أي مكان فرضوا و في أي زمان قدر وجودهم، و لا حاجة للناس في طيب حياتهم إلى أزيد من أن يؤمروا بالمعروف، و ينهوا عن المنكر، و تحلل لهم الطيبات، و تحرم عليهم الخبائث، و يوضع عنهم إصرهم و الأغلال التي عليهم أمر نبيهم (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يعلن بنبوته الناس جميعا من غير أن تختص بقوم دون قوم فقال: «قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا».
و قوله: الذي له ملك السماوات و الأرض لا إله إلا هو يحيي و يميت» صفات وصف الله بها، و هي بمجموعها بمنزلة تعليل يبين بها إمكان الرسالة من الله في نفسها أولا و إمكان عمومها لجميع الناس ثانيا فيرتفع به استيحاش بني إسرائيل أن يرسل إليهم من غير شعبهم و خاصة من الأميين و هم شعب الله و من مزاعمهم أنه ليس عليهم في الأميين سبيل، و هم خاصة الله و أبناؤه و أحباؤه، و به يزول استبعاد غير العرب من جهة العصبية القومية أن يرسل إليهم رسول عربي.
و ذلك أن الله الذي اتخذه رسولا هو الذي له ملك السماوات و الأرض و السلطنة العامة عليها، و لا إله غيره حتى يملك شيئا منها فله أن يحكم بما يشاء من غير أن يمنع عن حكمه مانع يزاحمه أو تعوق إرادته إرادة غيره فله أن يتخذ رسولا إلى عباده و أن يرسل رسوله إلى بعض عباده أو إلى جميعهم كيف شاء و هو الذي له الإحياء و الإماتة فله أن يحيي قوما أو الناس جميعا بحياة طيبة سعيدة و السعادة و الهدى من الحياة كما أن الشقاوة و الضلالة موت، قال تعالى: «يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله و للرسول إذا دعاكم لما يحييكم»: الأنفال: 24، و قال: «أ و من كان ميتا فأحييناه و جعلنا له نورا يمشي به في الناس»: الأنعام: 122، و قال: «إنما يستجيب الذين يسمعون، و الموتى يبعثهم الله»: الأنعام: 36.
قوله تعالى: «فآمنوا بالله و رسوله النبي الأمي» إلى آخر الآية تفريع على ما تقدم أي إذا كان الحال هذا الحال فآمنوا بي فإني ذاك الرسول النبي الأمي الذي بشر به في التوراة و الإنجيل، و أنا أومن بالله و لا أكفر به و أومن بكلماته و هي ما قضى به من الشرائع النازلة علي و على الأنبياء السالفين، و اتبعوني لعلكم تفلحون.
هذا ما يقتضيه السياق، و منه يعلم وجه الالتفات من التكلم إلى الغيبة في قوله «و رسوله النبي الأمي الذي» الآية فإن الظاهر من السياق أن هذه الآية ذيل الآية السابقة، و هما جميعا من كلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
و وجه الالتفات - كما ظهر مما تقدم - أن يدل بالأوصاف الموضوعة مكان ضمير المتكلم على تعليل الأمر في قوله: «فآمنوا» و قوله: «و اتبعوه لعلكم تهتدون».
و المراد بالاهتداء الاهتداء إلى السعادة الآخرة التي هي رضوان الله و الجنة لا الاهتداء إلى سبيل الحق فإن الإيمان بالله و رسوله و اتباع رسوله بنفسه اهتداء، فيرجع معنى قوله: «لعلكم تهتدون» إلى معنى قوله في الآية السابقة في نتيجة الإيمان و الاتباع: «أولئك هم المفلحون».
قوله تعالى: «و من قوم موسى أمة يهدون بالحق و به يعدلون» و هذا من نصفة القرآن مدح من يستحق المدح، و حمد صالح أعمالهم بعد ما قرعهم بما صدر عنهم من السيئات فالمراد أنهم ليسوا جميعا على ما وصفنا من مخالفة الله و رسوله، و التزام الضلال و الظلم بل منهم أمة يهدون الناس بالحق و بالحق يعدلون فيما بينهم فالباء في قوله: «بالحق» للآلة و تحتمل الملابسة.
و على هذا فالآية من الموارد التي نسبت الهداية فيها إلى غيره تعالى و غير الأنبياء و الأئمة كما في قوله حكاية عن مؤمن آل فرعون و لم يكن بنبي ظاهرا: «و قال الذي آمن يا قوم اتبعوني أهدكم سبيل الرشاد»: المؤمن: 38.
و لا يبعد أن يكون المراد بهذه الأمة من قوم موسى (عليه السلام) الأنبياء و الأئمة الذين نشئوا فيهم بعد موسى و قد وصفهم الله في كلامه بالهداية كقوله تعالى: «و جعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا و كانوا بآياتنا يوقنون»: الم السجدة: 24 و غيره من الآيات و ذلك أن الآية أعني قوله: «أمة يهدون بالحق و به يعدلون» لو حملت على حقيقة معناها من الهداية بالحق و العدل بالحق لم يتيسر لغير النبي و الإمام أن يتلبس بذلك و قد تقدم كلام في الهداية في تفسير قوله تعالى: «قال إني جاعلك للناس إماما»: البقرة 124 و قوله: «فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره»: الأنعام: 125.
و غيرهما من الآيات.
قوله تعالى: «و قطعناهم اثنتي عشرة أسباطا أمما» إلى آخر الآية.
السبط بحسب اللغة ولد الولد أو ولد البنت.
و الجمع أسباط، و هو في بني إسرائيل بمعنى قوم خاص، فالسبط عندهم بالمنزلة القبيلة عند العرب.
و قد نقل عن ابن الحاجب أن أسباطا في الآية بدل من العدد لا تمييز و إلا لكانوا ستة و ثلاثين سبطا على إرادة أقل الجمع من «أسباطا» و تمييز العدد محذوف للدلالة عليه بقوله: «أسباطا» و التقدير و قطعناهم اثنتي عشرة فرقة أسباطا هذا.
و ربما قيل: إنه تمييز لكونه بمعنى المفرد و المعنى اثنتي عشرة جماعة مثلا.
و قوله: «و أوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه» الآية الانبجاس هو الانفجار و قيل الانبجاس خروج الماء بقلة، و الانفجار خروجه بكثرة، و ظاهر من قوله: «فانبجست منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم» أن العيون كانت بعدد الأسباط و أن كل سبط اختصوا بعين من العيون، و أن ذلك كانت عن مشاجرة بينهم و منافسة، و هو يؤيد ما في الروايات من قصتها.
و باقي الآية ظاهر.
و قد عد الله سبحانه في هذه الآيات من معجزات موسى (عليه السلام) و آياته: الثعبان و اليد البيضاء، و سني آل فرعون و نقص ثمراتهم، و الطوفان، و الجراد، و القمل، و الضفادع، و الدم، و فلق البحر، و إهلاك السبعين، و إحياءهم، و انبجاس العيون من الحجر بضرب العصا، و التظليل بالغمام، و إنزال المن و السلوى، و نتق الجبل فوقهم كأنه ظلة.
و يمكنك أن تضيف إليها التكليم و نزول التوراة، و مسخ بعضهم قردة خاسئين.
و سيجيء تفصيل البحث في قصته (عليه السلام) في تفسير سورة هود إن شاء الله.
بحث روائي
في تفسير العياشي، عن محمد بن سالم بياع القصب عن الحارث بن المغيرة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: إن عبد الله بن عجلان قال في مرضه الذي مات فيه: أنه لا يموت فمات. فقال: لا غفر الله شيئا من ذنوبه أين ذهب إن موسى اختار سبعين رجلا من قومه فلما أخذتهم الرجفة قال رب: أصحابي أصحابي. قال: إني أبدلك بهم من هو خير لكم منهم فقال: إني عرفتهم و وجدت ريحهم. قال: فبعث الله له أنبياء. أقول: المراد أن الله بدل له بعبد الله بن عجلان أصحابا هم خير منه كما فعل بموسى، و الخبر غريب في بابه و لا يوافق ظاهر الكتاب.
و في البرهان، عن ابن بابويه بإسناده عن سعد بن عبد الله القمي في حديث طويل عن القائم (عليه السلام) قال: قلت: فأخبرني يا مولاي عن العلة التي تمنع القوم من اختيار إمام لأنفسهم. قال: مصلح أو مفسد؟ قلت: مصلح. قال: فهل يجوز أن يقع خيرتهم على المفسد بعد أن لا يعلم أحدهم ما يخطر ببال غيره من صلاح أو فساد؟ قلت: بلى. قال: هي العلة التي أوردها لك برهانا: أخبرني عن الرسل الذين اصطفاهم الله، و أنزل عليهم الكتاب و أيدهم بالعصمة إذ هم أعلام الأمم و أهدى للاختيار منهم مثل موسى و عيسى هل يجوز مع وفور عقلهما و كمال علمهما إذا هما بالاختيار أن يقع خيرتهما على المنافق و هما يظنان أنه مؤمن؟ قلت: لا. فقال: هذا موسى كليم الله مع وفور عقله، و كمال علمه: و نزول الوحي عليه اختار من أعيان قومه، و وجوه عسكره لميقات ربه سبعين رجلا ممن لا يشك في إيمانهم و إخلاصهم فوقعت خيرته على المنافقين قال الله عز و جل: «و اختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا إلى قوله لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة - فأخذتهم الصاعقة بظلمهم». فلما وجدنا اختيار من قد اصطفاه للنبوة واقعا على الأفسد دون الأصلح و هو يظن أنه الأصلح دون الأفسد علمنا أن الاختيار ليس إلا لمن يعلم بما تخفي الصدور، و تكن الضمائر و تنصرف عليه السرائر، و أن لا خطر لاختيار المهاجرين و الأنصار بعد وقوع خيرة الأنبياء على ذوي الفساد لما أرادوا أهل الصلاح. أقول: الآية فيها منقولة بالمعنى بمعنى أنها ملفقة من آيات القصة في سورتي الأعراف و النساء.
و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم و أبو الشيخ عن نوف الحميري قال: لما اختار موسى قومه سبعين رجلا لميقات ربه قال الله لموسى: أجعل لكم الأرض مسجدا و طهورا، و أجعل السكينة معكم في بيوتكم، و أجعلكم تقرءون التوراة من ظهور قلوبكم فيقرؤها الرجل منكم و المرأة و الحر و العبد و الصغير و الكبير. فقال موسى: إن الله قد جعل لكم الأرض مسجدا و طهورا. قالوا: لا نريد أن نصلي إلا في الكنائس. قال: و يجعل السكينة معكم في بيوتكم. قالوا: لا نريد إلا كما كانت في التابوت. قال: و يجعلكم تقرءون التوراة عن ظهور قلوبكم فيقرؤها الرجل منكم و المرأة و الحر و العبد و الصغير و الكبير. قالوا: لا نريد أن نقرأها إلا نظرا. قال الله: فسأكتبها للذين يتقون و يؤتون الزكاة إلى قوله المفلحون. قال موسى: أتيتك بوفد قومي فجعلت وفادتهم لغيرهم اجعلني من هذه الأمة. قال: إن نبيهم منهم. قال: اجعلني من هذه الأمة قال: إنك لن تدركهم. قال: رب أتيتك بوفد قومي فجعلت وفادتهم لغيرهم. قال: فأوحى إليه «و من قوم موسى أمة يهدون بالحق و به يعدلون» قال: فرضي موسى. قال نوف: أ لا تحمدون ربا شهد غيبتكم، و أخذ لكم بسمعكم، و جعل وفادة غيركم لكم. و فيه، أخرج ابن أبي حاتم و أبو الشيخ عن نوف البكالي: أن موسى لما اختار من قومه سبعين رجلا قال لهم: فدوا إلى الله و سلوه فكانت لموسى مسألة و لهم مسألة فلما انتهى إلى الطور المكان الذي وعده الله به قال لهم موسى: سلوا الله. قالوا: أرنا الله جهرة. قال: ويحكم تسألون الله هذا مرتين؟ قالوا: هي مسألتنا أرنا الله جهرة فأخذتهم الرجفة فصعقوا. فقال موسى: أي رب جئتك بسبعين من خيار بني إسرائيل فارجع إليهم و ليس معي منهم أحد فكيف أصنع ببني إسرائيل؟ أ ليس يقتلوني؟ فقال له: سل مسألتك. قال: أي رب إني أسألك أن تبعثهم، فبعثهم الله، فذهبت مسألتهم و مسألته، و جعلت تلك الدعوة لهذه الأمة. أقول: و إنما أوردنا الروايتين لكونهما بما فيهما من القصة شبيهتين بالموقوفات لكنهما مع الاختلاف لا ينطبقان على شيء مما فيهما من أطراف القصة و نزول الآيات، على ظاهر شيء من الآيات فمسألتهم إنما هي الرؤية و قد ردت إليهم.
و مسألة موسى (عليه السلام) إنما هي بعثهم، و قد أجيبت فبعثوا، و كتابة الرحمة على بني إسرائيل، و قد أجيبت بشرط التقوى و الإيمان بآيات الله، و لم يجعل شيء من وفادتهم لغيرهم، و الخطاب بقوله: «و من قوم موسى أمة يهدون بالحق و به يعدلون» للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) دون موسى على ما يعطيه السياق.
و نظير الروايتين في عدم الانطباق على الآية ما روي عن ابن عباس: في قوله: «و اكتب لنا في هذه الدنيا حسنة و في الآخرة» قال: فلم يعطها موسى قال: «عذابي أصيب به من أشاء إلى قوله المفلحون» و المراد أنه لم يعطها بل أعطيتها هذه الأمة و قد مر أن ظهور الآية في غير ذلك.
و نظير ذلك ما روي عن السدي: في قوله تعالى: «إن هي إلا فتنتك» الآية قال: قال موسى: يا رب إن هذا السامري أمرهم أن يتخذوا العجل أ رأيت الروح من نفخها فيه؟ قال الرب: أنا، قال: فأنت إذا أضللتهم، و روى العياشي في تفسيره، مثله عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام) مرسلا، و فيه: قال موسى: يا رب و من أخار العجل؟ قال: أنا. قال موسى عنده: إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء و تهدي من تشاء. و ذلك أن الآية أعني قوله: «إن هي إلا فتنتك» من كلامه (عليه السلام) في قصة هلاك السبعين، و أين هي من قصة العجل؟ إلا أن يتكرر منه ذلك و في الدر المنثور، أخرج أحمد و أبو داود عن جندب بن عبد الله البجلي قال جاء أعرابي فأناخ راحلته ثم عقلها ثم صلى خلف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم نادى: اللهم ارحمني و محمدا و لا تشرك في رحمتنا أحدا. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لقد حظرت رحمة واسعة إن الله خلق مائة رحمة فأنزل رحمة يتعاطف بها الخلق جنها و إنسها و بهائمها، و عنده تسعة و تسعون. و فيه، أخرج أحمد و مسلم عن سلمان عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إن لله مائة رحمة فمنها رحمة يتراحم بها الخلق، و بها تعطف الوحوش على أولادها، و آخر تسعة و تسعين إلى يوم القيامة. و فيه، أخرج ابن أبي شيبة عن سلمان موقوفا و ابن مردويه عن سلمان قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الله خلق مائة رحمة يوم خلق السماوات و الأرض كل رحمة منها طباق ما بين السماء و الأرض فأهبط منها رحمة إلى الأرض فبها تراحم الخلائق، و بها تعطف الوالدة على ولدها، و بها تشرب الطير و الوحوش من الماء، و بها تعيش الخلائق فإذا كان يوم القيامة انتزعها من خلقه ثم أفاضها على المتقين، و زاد تسعة و تسعين رحمة ثم قرأ: «و رحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون». أقول: و هذا المعنى مروي أيضا من طرق الشيعة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، و الرواية الثانية كأنها نقل بالمعنى للرواية الأولى، و قد أفسد الراوي المعنى بقوله: «فإذا كان يوم القيامة انتزعها من خلقه» و ليت شعري إذا سلب الرحمة عن غير المتقين من خلقه فبما ذا يبقى و يعيش السماوات و الأرض و الجنة و النار و من فيها و الملائكة و غيرهم و لا رحمة تشملهم.
و الأحسن في التعبير ما ورد في بعض رواياتنا - على ما أذكر - أن الله يومئذ يجمع المائة للمؤمنين، و جمع المائة لهم و استعمالها فيهم غير انتزاعها عن غيرهم و تخصيصها بهم فالأول جائز معقول دون الثاني فافهم ذلك.
و فيه، أخرج الطبراني عن حذيفة بن اليمان عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث: و الذي نفسي بيده ليغفرن الله يوم القيامة مغفرة يتطاول بها إبليس رجاء أن تصيبه. أقول: و من طرق الشيعة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ما في معناه.
و فيه، أخرج ابن أبي حاتم و أبو الشيخ عن أبي بكر الهذلي قال: لما نزلت «و رحمتي وسعت كل شيء» قال إبليس: يا رب و أنا من الشيء فنزلت فسأكتبها «للذين يتقون» الآية فنزعها الله من إبليس. أقول: و الظاهر أنه فرض و تقدير من أبي بكر، و لا ريب في تنعم إبليس بالرحمة العامة التي يشتمل عليها صدر الآية، و حرمانه من الرحمة الخاصة الأخروية التي يتضمنها ذيلها.
في تفسير البرهان، عن نهج البيان روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: أي الخلق أعجب إيمانا؟ فقالوا: الملائكة، فقال: الملائكة عند ربهم فما لهم لا يؤمنون؟ فقالوا: الأنبياء. فقال: الأنبياء يوحى إليهم فما لهم لا يؤمنون؟ فقالوا: نحن. فقال: أنا فيكم فما لكم لا تؤمنون؟ إنما هم قوم يكونون بعدكم فيجدون كتابا في ورق فيؤمنون به، و هذا معنى قوله: «و اتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون». أقول: و الخبر لا بأس به، و هو من الجري و الانطباق، و في بعض الروايات أن النور هو علي (عليه السلام) و هو أيضا من قبيل الجري أو الباطن.
و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب قال: افترقت بنو إسرائيل بعد موسى إحدى و سبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة، و افترقت النصارى بعد عيسى على اثنتين و سبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة، و تفترق هذه الأمة على ثلاث و سبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة. فأما اليهود فإن الله يقول: «و من قوم موسى أمة يهدون بالحق و به يعدلون» و أما النصارى فإن الله يقول: «منهم أمة مقتصدة» فهذه التي تنجو، و أما نحن فنقول: «و ممن خلقنا أمة يهدون بالحق و به يعدلون» فهذه التي تنجو من هذه الأمة. و في تفسير العياشي، عن أبي الصهبان البكري قال: سمعت علي بن أبي طالب (عليه السلام) دعا رأس الجالوت و أسقف النصارى فقال: إني سائلكما عن أمر و أنا أعلم به منكما و لا تكتماني. يا رأس الجالوت بالذي أنزل التوراة على موسى، و أطعمهم المن و السلوى، و ضرب لهم في البحر طريقا يبسا، و فجر لهم من الحجر الطوري اثنتي عشرة عينا لكل سبط من بني إسرائيل عينا إلا ما أخبرتني على كم افترقت بنو إسرائيل بعد موسى؟ فقال: فرقة واحدة، فقال: كذبت و الذي لا إله إلا هو لقد افترقت على إحدى و سبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة فإن الله يقول: «و من قوم موسى أمة يهدون بالحق و به يعدلون» فهذه التي تنجو. و في المجمع،: أنهم قوم من وراء الصين و بينهم و بين الصين واد من الرمال لم يغيروا و لم يبدلوا. قال: و هو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام). أقول: الرواية ضعيفة غير مسلمة، و لا خبر عن هذه الأمة اليهودية الهادية العادلة اليوم، و لو كانوا اليوم لم يكونوا هادين و لا مهتدين لنسخ شريعة موسى بشريعة عيسى (عليه السلام) أولا ثم نسخ شريعتهما جميعا بشريعة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ثانيا، و لذا اضطر بعض من أورد هذه القصة الخرافية فأضاف إليها أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نزل إليهم ليلة المعراج و دعاهم فآمنوا به و علمهم الصلاة.
و قد اختلقوا لهم قصصا عجيبة مختلفة، فعن مقاتل: أن مما فضل الله به محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه عاين ليلة المعراج قوم موسى الذين من وراء الصين، و ذلك أن بني إسرائيل حين عملوا بالمعاصي و قتلوا الذين يأمرون بالقسط من الناس دعوا ربهم و هم بالأرض المقدسة فقالوا: اللهم أخرجنا من بين أظهرهم. فاستجاب لهم فجعل لهم سربا في الأرض فدخلوا فيه، و جعل معهم نهرا يجري، و جعل لهم مصباحا من نور بين أيديهم فساروا فيه سنة و نصفا، و ذلك من بيت المقدس إلى مجلسهم الذي هم فيه فأخرجهم الله إلى أرض يجتمع فيها الهوام و البهائم و السباع مختلطين بها ليست فيها ذنوب و لا معاص، فأتاهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تلك الليلة و معه جبرئيل فآمنوا به و صدقوه و علمهم الصلاة. و قالوا: إن موسى قد بشرهم به. و عن الشعبي قال: إن لله عبادا من وراء الأندلس كما بيننا و بين الأندلس لا يرون أن الله عصاه مخلوق رضراضهم الدر و الياقوت، و جبالهم الذهب و الفضة لا يزرعون و لا يحصدون و لا يعملون عملا، لهم شجر على أبوابهم لها أوراق عراض هي لبوسهم، و لهم شجر على أبوابهم لها ثمر فمنها يأكلون. إلى غير ذلك مما ورد في قصتهم، و هي جميعا مجعولة، و قد عرفت معنى الآية في البيان المتقدم.
|