بيان
في الآيات بيان قصص أخرى من قصص بني إسرائيل فسقوا فيها عن أمر الله، و نقضوا ميثاقه فأخذهم الله بعقوبة أعمالهم و سلط عليهم من الظالمين من يسومهم سوء العذاب فهؤلاء أسلافهم و قد خلف من بعدهم أخلاف يشترون بآيات الله ثمنا قليلا و يساهلون في أمر الدين، و هذا حالهم إلا قليل منهم لا يعدون الحق.
قوله تعالى: «و إذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية» إلى آخر الآيتين، القرية هي التي كانت في الأرض المقدسة أمروا بدخولها و قتال أهلها من العمالقة و إخراجهم منها فتمردوا عن الأمر، و ردوا على موسى (عليه السلام) فابتلوا بالتيه، و القصة مذكورة في سورة المائدة آية 20 - 26.
و قوله: «و قولوا حطة و ادخلوا الباب سجدا» الآية تقدم الكلام في نظيره من سورة البقرة آية: 58 - 59، و قوله: «سنزيد المحسنين» في موضع الجواب عن سؤال مقدر كأنه لما قال: «نغفر لكم خطيئاتكم» قيل: ثم ما ذا فقال: «سنزيد المحسنين».
قوله تعالى: «و أسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت» إلى آخر الآية.
أي أسأل بني إسرائيل عن حال أهل القرية «التي كانت حاضرة البحر» أي قريبة منه مشرفة عليه من حضر الأمر إذا أشرف عليه و شهده «إذ يعدون» و يتجاوزون حدود ما أمر الله به في أمر «السبت» و تعظيمه و ترك الصيد فيه «إذ تأتيهم حيتانهم» و السمك الذي في ناحيتهم «يوم سبتهم شرعا» جمع شارع و هو الظاهر البين «و يوم لا يسبتون لا تأتيهم» أي إن تجاوزهم عن حدود ما أمر به الله كان إذ كانت الحيتان تأتيهم شرعا يوم منعوا من الصيد و أمروا بالسبت، و أما إذا مضى اليوم و أبيح لهم الصيد و ذلك غير يوم السبت فكان لا تأتيهم الحيتان و كان ذلك من بلاء الله و امتحانه ابتلاهم بذلك لشيوع الفسق بينهم فبعثهم الحرص على صيدها على مخالفة أمر الله سبحانه، و لم يمنعهم تقوى عن التعدي، و لذلك قال: «كذلك نبلوهم» أي نمتحنهم «بما كانوا يفسقون».
قوله تعالى: «و إذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم» إلى آخر الآية، إنما قالت هذه الأمة ما قالت، لأمة أخرى منهم كانت تعظهم و تنهاهم عن مخالفة أمر الله في السبت.
فالتقدير: «و إذ قالت أمة منهم لأمة أخرى كانت تعظهم» حذف للإيجاز و ظاهر كلامهم: «لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا» أنهم كانوا أهل تقوى يجتنبون مخالفة الأمر إلا أنهم تركوا نهيهم عن المنكر فخالطوهم و عاشروهم و لو كان هؤلاء اللائمون من المتعدين الفاسقين لوعظهم أولئك الملومون، و لم يجيبوهم بمثل قولهم: معذرة إلى ربكم إلخ، و أن المتعدين طغوا في تعديهم و تجاهروا في فسقهم فلم يكونوا لينتهوا بنهي ظاهرا غير أن الأمة التي كانت تعظهم لم ييأسوا من تأثير العظة فيهم، و كانوا يرجون منهم الانتهاء لو استمروا في عظتهم، و لا أقل من انتهاء بعضهم و لو بعض الانتهاء، و ليكون ذلك معذرة منهم إلى الله سبحانه بإظهار أنهم غير موافقين لهم في فسقهم منزجرون عن طغيانهم بالتمرد.
و لذلك أجابوا عن قولهم: «لم تعظون» إلخ، بقولهم: «معذرة إلى ربكم و لعلهم يتقون» أي إنما نعظهم ليكون ذلك عذرا إلى ربكم، و لأنا نرجو منهم أن يتقوا هذا العمل.
و في قولهم: «إلى ربكم» حيث أضافوا الرب إلى اللائمين و لم يقولوا: إلى ربنا إشارة إلى أن التكليف بالعظة ليس مختصا بنا بل أنتم أيضا مثلنا يجب عليكم أن تعظوهم لأن ربكم لمكان ربوبيته يجب أن يعتذر إليه، و يبذل الجهد في فراغ الذمة من تكاليفه و الوظائف التي أحالها إلى عباده، و أنتم مربوبون له كما نحن مربوبون فعليكم من التكاليف ما هو علينا.
قوله تعالى: «فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء» المراد بنسيانهم ما ذكروا انقطاع تأثير الذكر في نفوسهم و إن كانوا ذاكرين لنفس التذكر حقيقة فإنما الأخذ الإلهي مسبب عن الاستهانة بأمره و الإعراض عن ذكره، بل حقيقة النسيان بحسب الطبع مانع عن فعلية التكليف و حلول العقوبة.
فالإنسان يطوف عليه طائف من توفيق الله يذكره بتكاليف هامة إلهية ثم إن استقام و ثبت، و إن ترك الاستقامة و لم يزجره زاجر باطني و لا ردعه رادع نفساني عدا حدود الله بالمعصية غير أنه في بادىء أمره يتألم تألما باطنيا و يتحرج تحرجا قلبيا من ذلك ثم إذا عاد إليها ثانيا من غير توبة زادت صورة المعصية في نفسه تمكنا، و ضعف أثر التذكير و هان أمره، و كلما عاد إليها و تكررت منه المخالفة زادت تلك قوة و هذه ضعفا حتى يزول أثر التذكير من أصله، ساوى وجوده عدمه فلحق بالنسيان في عدم التأثير، و هو المراد بقوله: «فلما نسوا ما ذكروا» أي زال أثره كأنه منسي زائل، الصورة عن النفس.
و في الآية دلالة على أن الناجين كانوا هم الناهين عن السوء فقط، و قد أخذ الله الباقين، و هم الذين يعدون في السبت و الذين قالوا: «لم تعظون» إلخ و فيه دلالة على أن اللائمين كانوا مشاركين للعادين في ظلمهم و فسقهم حيث تركوا عظتهم و لم يهجروهم.
و في الآية دلالة على سنة إلهية عامة، و هي أن عدم ردع الظالمين عن ظلمهم بمنع، و عظة إن لم يمكن المنع أو هجره إن لم تمكن العظة أو بطل تأثيرها، مشاركة معهم في ظلمهم، و أن الأخذ الإلهي الشديد كما يرصد الظالمين كذلك يرصد مشاركيهم في ظلمهم.
قوله تعالى: «فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين» العتو المبالغة في المعصية و القردة جمع القرد و هو الحيوان المعروف، و الخاسىء الطريد البعيد من خسأ الكلب إذا بعد.
و قوله: «فلما عتوا عن ما نهوا عنه» أي عن ترك ما نهوا عنه فإن العتو إنما يكون عن ترك المنهيات لا عن نفسها، و الباقي ظاهر.
قوله تعالى: «و إذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة» إلى آخر الآية تأذن و أذن بمعنى أعلم، و اللام في قوله: «ليبعثن» للقسم، و المعنى: و اذكر إذ أعلم ربك أنه قد أقسم ليبعثن على هؤلاء الظالمين بعثا يدوم عليهم ما دامت الدنيا من يذيقهم و يوليهم سوء العذاب.
و قوله: «إن ربك لسريع العقاب» معناه أن من عقابه ما يسرع إلى الناس كعقاب الطاغي لطغيانه، قال تعالى: «الذين طغوا في البلاد - إلى أن قال - إن ربك لبالمرصاد»: الفجر: 14 و الدليل على ما فسرنا به قوله بعده: «و إنه لغفور رحيم» فإن الظاهر أنه لم يؤت به إلا للدلالة على أنه تعالى ليس بسريع العقاب دائما و إلا فمضمون الآية ليس مما يناسب التذليل باسمي الغفور و الرحيم لتمحضه في معنى المؤاخذة و الانتقام فمعنى قوله: «إن ربك لسريع العقاب و إنه لغفور رحيم» إنه تعالى غفور للذنوب رحيم بعباده لكنه إذا قضى لبعض عباده بالعقاب لاستيجابهم ذلك بطغيان و عتو و نحو ذلك فسرعان ما يتبعهم إذ لا مانع يمنع عنه و لا عائق يعوقه.
و لعل هذا هو معنى قول بعضهم: إن معنى قوله «إن ربك لسريع العقاب» سريع العقاب لمن شاء أن يعاقبه في الدنيا، و إن كان الأنسب أن يقال: إن ذلك معنى قوله: «إن ربك لسريع العقاب و إنه لغفور رحيم»، و يرتفع به ما يمكن أن يتوهم أن كونه تعالى سريع العقاب ينافي كونه حليما لا يسرع إلى المؤاخذة.
قوله تعالى: «و قطعناهم في الأرض أمما منهم الصالحون» إلى آخر الآية.
قال: في المجمع،: دون في موضع الرفع بالابتداء، و لكنه جاء منصوبا لتمكنه في الظرفية، و مثله على قول أبي الحسن «لقد تقطع بينكم» هو في موضع الرفع فجاء منصوبا لهذا المعنى، و كذلك في قوله: «يوم القيامة يفصل بينكم» بين في موضع رفع لقيامه مقام الفاعل، و إن شئت كان التقدير: و منهم جماعة دون ذلك فحذف الموصوف و قامت صفته مقامه.
انتهى.
و المراد بالحسنات و السيئات نعماء الدنيا و ضرائها و الباقي ظاهر.
قوله تعالى: «فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب» إلى آخر الآية، العرض ما لا ثبات له، و منه قوله تعالى: «عرض الحياة الدنيا»: النساء: 94 أي ما لا ثبات له من شئونها، و المراد بعرض هذا الأدنى عرض هذه الحياة الدنيا و الدار العاجلة غير أنه أشير إليها بلفظ التذكير لأخذها شيئا ليس له من الخصوصيات إلا أن يشار إليه تجاهلا بخصوصياتها تحقيرا لشأنها كأنها لا يخص بنعت من النعوت يرغب فيها، و قد تقدم نظيره في قول إبراهيم (عليه السلام) على ما حكاه الله.
«هذا ربي هذا أكبر»: الأنعام: 78 يريد الشمس.
و قوله: «و يقولون سيغفر لنا» قول جزافي لهم قالوه، و لا معول لهم فيه إلا الاغترار بشعبهم الذي سموه شعب الله كما سموا أنفسهم أبناء الله و أحباءه، و لم يقولوا ذلك لوعد النفس بالتوبة لأن ذلك قيد لا يدل عليه الكلام، و لا أنهم قالوا ذلك رجاء للمغفرة الإلهية فإن للرجاء آثارا لا تلائم هذه المشيئة إذ رجاء الخير لا ينفك عن خوف الشر الذي يقابله و كما أن الرجاء يستدعي شيئا من ثبات النفس و طيبها كذلك الخوف يوجب قلق النفس و اضطرابها و مساءتها فآية الرجاء الصادق توسط النفس بين سكون و اضطراب، و جذب و دفع، و مسرة و مساءة، و أما من توغل في شهوات نفسه و انغمر في لذائذ الدنيا من غير أن يتذكر بعقوبة ما يجنيه و يقترفه ثم إذا ردعه رادع من نفسه أو غيره بما أوعد الله الظالمين، و ذكره شيئا من سوء عاقبة المجرمين قال: إن الله غفور رحيم يتخلص به من اللوم، و يخلص به إلى صافي لذائذه الدنية فليس ما يتظاهر به رجاء صادقا بل أمنية نفسانية كاذبة، و تسويل شيطاني موبق فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا و لا يشرك بعبادة ربه أحدا.
و قوله: «و إن يأتهم عرض مثله يأخذوه» أي لم يقنعوا بما أخذوه من العرض بمرة حتى يكون تركهم ذلك و رجوعهم إلى اتقاء محارم الله نحوا من التوبة، و قولهم: «سيغفر لنا» نوعا من الرجاء يتلبس به التائبون بل كلما وجدوا شيئا من عرض الدنيا أخذوه من غير أن يراقبوا الله تعالى فيه فالجملة أعني قوله: «و إن يأتهم عرض مثله يأخذوه» في معنى قوله تعالى في وصفهم في موضع آخر: «كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه»: المائدة: 79.
و قوله: «و درسوا ما فيه» كان الواو للحال، و الجملة حال عن ضمير «عليهم» و قيل الجملة معطوفة على قوله: «ورثوا الكتاب» في صدر الآية، و لا يخلو من بعد.
و المعنى: «فخلف من بعدهم» أي من بعد هؤلاء الأسلاف من بني إسرائيل و حالهم في تقوى الله و اجتناب محارمه ما وصف «خلف ورثوا الكتاب» و تحملوا ما فيه من المعارف و الأحكام و المواعظ و العبر، و كان لازمه أن يتقوا و يختاروا الدار الآخرة، و يتركوا أعراض الدنيا الفانية الصارفة عما عند الله من الثواب الدائم «يأخذون عرض هذا الأدنى» و ينكبون على اللذائذ الفانية العاجلة، و لا يبالون بالمعصية و إن كثرت «و يقولون سيغفر لنا» قولا بغير الحق و لا يرجعون عن المعصية بالمرة و المرتين بل هم على قصد العود إليها كلما أمكن «و إن يأتهم عرض مثله يأخذوه» و لا يتناهون عما اقترفوه من المعصية.
«أ لم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب» و هو الميثاق المأخوذ عليهم عند حملهم إياه «أن لا يقولوا على الله إلا الحق» و الحال أنهم درسوا ما فيه، و علموا بذلك أن قولهم: «سيغفر لنا» قول بغير الحق ليس لهم أن يتفوهوا به، و هو يجرئهم على معاصي الله و هدم أركان دينه.
«و» الحال أن «الدار الآخرة خير للذين يتقون» لدوام ثوابها و أمنها من كل مكروه «أ فلا تعقلون».
قوله تعالى: «و الذين يمسكون بالكتاب و أقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين» قال في المجمع،: أمسك و مسك و تمسك و استمسك بالشيء بمعنى واحد أي اعتصم به.
انتهى.
و تخصيص إقامة الصلاة بالذكر من بين سائر أجزاء الدين لشرفها و كونها ركنا من الدين يحفظ بها ذكر الله و الخضوع إلى مقامه الذي هو بمنزلة الروح الحية في هيكل الشرائع الدينية.
و الآية تعد التمسك بالكتاب إصلاحا و الإصلاح يقابل الإفساد و هو الإفساد في الأرض أو إفساد المجتمع البشري فيها، و لا تفسد الأرض و لا المجتمع البشري إلا بإفساد طريقة الفطرة التي فطر الله الناس عليها، و الدين الذي يشتمل عليه الكتاب الإلهي النازل في عصر من الأعصار هو المتضمن لطرق الفطرة بحسب ما يستدعيه استعداد أهله فإن الله سبحانه يذكر في كلامه أن الدين القيم الذي يقوم بحوائج الحياة هي الفطرة التي فطر الناس عليها، و الخلقة التي لا حقيقة لهم وراءها قال: «فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم و لكن أكثر الناس لا يعلمون»: الروم: 30 ثم قال: «إن الدين عند الله الإسلام»: آل عمران: 19 و الإسلام هو التسليم لله سبحانه في سنته الجارية في تكوينه المبتنية عليها تشريعه.
فالآيتان - كما ترى - تناديان بأن دين الله سبحانه هو تطبيق الإنسان حياته على ما تقتضيه فيه قوانين التكوين و نواميسه حتى يقف بذلك موقفا تتحراه نفسية النوع الإنساني ثم يسير في مسيرها أي يعود بذلك إنسانا نسميه إنسانا طبيعيا و يتربى تربية يستدعيها ذاته بحسب ما ركب عليه تركيبه الطبيعي.
فما تقتضيه نفسية الإنسان الطبيعية من الخضوع إلى المبدإ الغيبي الذي يقوم بإيجاده و إبقائه و إسعاده، و توفيق شئون حياته مع القوانين الحاكمة في الكون حكومة حقيقية هو الدين المسمى بالإسلام الذي يدعو إليه القرآن و سائر كتب الله السماوية المنزلة على أنبيائه و رسله.
فإصلاح شئون الحياة الإنسانية و تخليصها من كل دخيل خرافي، و وضع الإصر و الأغلال التي اختلقتها الأوهام و الأهواء ثم وضعتها على الناس، جزء معنى الدين المسمى بالإسلام لا أثر من آثاره و حكم من أحكامه حتى تختلف فيه الآراء فيسلمه مسلم، و يرده، راد، و يبحث فيه باحث منصف فيتبع ما أدى إليه جهد نظره.
و بعبارة أخرى: الذي يدعي إليه الناس بمنطق الدين الإلهي هو الشرائع و السنن القائمة بمصالح العباد في حياتهم الدنيوية و الأخروية لا أنه يضع مجموعة من معارف و شرائع ثم يدعي أن المصالح الإنسانية تطابقه و هو يطابقها فافهم ذلك.
و إياك أن تتوهم أن الدين الإلهي مجموع أمور من معارف و شرائع جافة تقليدية لا روح لها إلا روح المجازفة بالاستبداد، و لا لسان لها إلا لسان التأمر الجاف و التحكم الجافي و قد قضى شارعها بوجوب اتباعها و الانقياد لها تجاه ما هيأ لهم بعد الموت من نعيم مخلد للمطيعين منهم، و العذاب المؤبد للعاصين، و لا رابط لها يربطها بالنواميس التكوينية المماسة للإنسان الحاكمة في حياته القائمة بشئونها القيمة بإصلاحها فتعود الأعمال الدينية أغلالا غلت بها أيدي الناس في دنياهم، و أما الآخرة فقد ضمنت إصلاحها إرادة مولوية إلهية فحسب، و ليس للمنتحل بالدين في دنياه من سعادة الحياة إلا ما استلذها بالعادة كمن اعتاد بالأفيون و السم حتى عاد يلتذ بما يتألم به المزاج الطبيعي السالم، و يتألم بما يلتذ به غيره.
فهذا من الجهل بالمعارف الدينية، و الفرية على ساحة شارعة الطاهرة يدفعه الكلام الإلهي فكم من آية تتبرأ من ذلك بتصريح أو تلويح أو بإشارة أو كناية و غير ذلك.
و بالجملة الكتاب الإلهي يتضمن مصالح العباد، و فيه ما يصلح المجتمع الإنساني بإجرائه فيه بل الكتاب الإلهي هو الكتاب الذي يشتمل على ذلك، و الدين الإلهي هو مجموع القوانين المصلحة، و مجموع القوانين المصلحة هو الدين فلا يدعو الدين الناس إلا إلى إصلاح أعمالهم و سائر شئون مجتمعهم و يسمى ذلك إسلاما لله لأن من جرى على مجرى الإنسان الطبيعي الذي خطه له التكوين فقد أسلم للتكوين و وافقه بأعماله فيما يقتضيه و موافقته و السير على المسير الذي مهده و خطه إسلام لله سبحانه في ما يريده منه.
و ليس يدعو الدين إلى متابعة مواد قوانينه و محتوياته ثم يدعي أن في ذلك خيرهم و سعادتهم حتى يكون لشاك أن يشك فيه.
و الآية أعني قوله: «و الذين يمسكون بالكتاب» الآية في نفسها عامة مستقلة لكنها بحسب دخولها في سياق الكلام في بني إسرائيل معتنية بشأنهم، و المراد بالكتاب بهذا النظر التوراة أو هي و الإنجيل.
قوله تعالى: «و إذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة» الآية.
النتق قلع الشيء من أصله، و الظلة هي الغمامة، و ما يستظل بها من نحو السقف، و الباقي ظاهر.
و الآية تقص رفع الطور فوق رءوس بني إسرائيل، و قد تقدمت هذه القصة مكررة في سورتي البقرة و النساء.
بحث روائي
في تفسير القمي، عن أبيه عن الحسن بن محبوب عن ابن أبي عمير عن أبي عبيدة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: وجدنا في كتاب علي (عليه السلام) أن قوما من أهل أيلة من قوم ثمود و أن الحيتان كانت سيقت إليهم يوم السبت ليختبر الله طاعتهم في ذلك فشرعت إليهم يوم سبتهم في ناديهم و قدام أبوابهم في أنهارهم و سواقيهم فبادروا إليها فأخذوا يصطادونها و يأكلونها فلبثوا في ذلك ما شاء الله لا ينهاهم الأحبار، و لا يمنعهم العلماء عن صيدها، ثم إن الشيطان أوحى إلى طائفة منهم أنما نهيتم عن أكلها يوم السبت و لم تنهوا عن صيدها فاصطادوها يوم السبت و أكلوها في ما سوى ذلك من الأيام. فقالت طائفة منهم: الآن نصطادها فعتت و انحازت طائفة أخرى منهم ذات اليمين فقالوا: ننهاكم عن عقوبة الله أن تتعرضوا لخلاف أمره، و اعتزلت طائفة منهم ذات اليسار فسكتت و لم تعظهم، فقالت للطائفة التي وعظتهم: لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا؟ فقالت الطائفة التي وعظتهم: معذرة إلى ربكم و لعلهم يتقون، فقال الله عز و جل: فلما نسوا ما ذكروا به يعني لما تركوا ما وعظوا به مضوا على الخطيئة فقالت الطائفة التي وعظتهم: لا و الله لا نجامعكم و لا نبايتكم الليلة في مدينتكم هذه التي عصيتم الله فيها مخافة أن ينزل عليكم البلاء فيعمنا معكم. قال: فخرجوا عنهم من المدينة مخافة أن يصيبهم البلاء فنزلوا قريبا من المدينة فباتوا تحت السماء فلما أصبح أولياء الله المطيعون لأمر الله غدوا لينظروا ما حال أهل المعصية فأتوا باب المدينة فإذا هو مصمت فدقوا فلم يجاوبوا و لم يسمعوا منها حس أحد فوضعوا فيها سلما على سور المدينة ثم أصعدوا رجلا منهم فأشرف على المدينة فنظر فإذا هو بالقوم قرد يتعاونون و لهم أذناب فكسروا الباب فعرفت الطائفة أنسابها من الإنس، و لم يعرف الإنس أنسابها من القردة فقال القوم للقردة: أ لم ننهكم؟. فقال علي (عليه السلام): و الذي فلق الحبة و برأ النسمة إني لأعرف أنسابها من هذه الأمة لا ينكرون و لا يغيرون بل تركوا ما أمروا به فتفرقوا، و قد قال الله: فبعدا للقوم الظالمين، فقال الله: «و أنجينا الذين ينهون عن السوء - و أخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون»:. أقول: و رواه العياشي في تفسيره، عن أبي عبيدة عن أبي جعفر (عليه السلام).
و روي هذا المعنى في الدر المنثور، عن عبد الرزاق و ابن جرير و ابن أبي حاتم و البيهقي في سننه عن عكرمة عن ابن عباس غير أن فيها أن المذكورين في الآية حي من اليهود من أهل أيلة و ظاهره أنهم كانوا من بني إسرائيل و رواية أبي جعفر (عليه السلام) تصرح بأنهم كانوا من قوم ثمود، و ليس من البعيد أن يكونوا قوما من عرب ثمود دخلوا في دين اليهود لقرب دارهم و جوارهم فإن أيلة كما يقال: كانت بلدة بين مصر و المدينة على شاطىء البحر.
و ربما قيل: إن القرية التي أشارت إليها الآية هي مدين، و قيل: هي طبرية، و قيل: هي قرية يقال لها: مقنا، بين مدين و عينونا.
و في رواية ابن عباس التي أشرنا إليها و غيرها مما روي عنه أيضا أنه كان يبكي و يقول: نجا الناهون، و هلك الفاعلون، و لا أدري ما فعل بالساكتين، و في رواية عكرمة: قلت لابن عباس: أي جعلني الله فداك أ لا ترى أنهم كرهوا ما هم عليه و خالفوهم و قالوا لم تعظون قوما الله مهلكهم؟ قال: فأمرني فكسيت ثوبين غليظين.
يريد أنه استحسن قولي بنجاتهم لكراهتهم فعلهم و اعتقادهم بأنهم معاقبون لا محالة فخلع علي بثوبين، و أخذ بقولي.
و قد أخطأ عكرمة فإن القوم و إن كانوا كرهوا فعلهم و لم يشاركوهم في الصيد المحرم لكنهم اقترفوا معصية هي أعظم من ذلك و هو ترك النهي عن المنكر، و قد نبههم الناهون بذلك إذ قالوا: معذرة إلى ربكم و لعلهم يتقون، و كلامهم يدل على أن المقام لم يكن مقام اليأس عن تأثير الموعظة حتى يسقط بذلك التكليف، و لما يئس منهم الناهون هجروهم و فارقوهم، و لم يهجرهم الآخرون و لم يفارقوهم على ما في الروايات.
على أن الله تعالى قال: «أنجينا الذين ينهون عن السوء و أخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون» فلم يذكر في جانب النجاة إلا الذين ينهون عن السوء و أخذ في جانب الأخذ الذين ظلموا دون الذين صادوا، و لا مانع من شمول «الذين ظلموا» لأولئك التاركين للنهي عن المنكر.
و أما قوله: «فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة» فإن كان معناه عتوا عن ترك ما نهوا عنه كما تقدم عن المفسرين كان هذا العذاب بحسب دلالة هذه الآية مختصا بالصائدين لكنها لا تمنع عموم الآية السابقة للصائدين و الساكتين جميعا لاشتراكهم في الظلم و الفسق، و إن كان معنى الآية الإعراض عما نهوا عنه من غير تقدير الترك و ما بمعناه اختصت الآية ببيان عذاب الساكتين و كان عذاب الصائدين مبينا في الآية السابقة: «فلما نسوا ما ذكروا به» الآية كما يومىء إليه بعض الروايات الآتية.
و في المجمع،: أنه هلكت الفرقتان، و نجت الفرقة الناهية: روي ذلك عن أبي عبد الله (عليه السلام). أقول: و لا ينافيه نص الآية على مسخ العاتين فإن الهلاك يعم مثل المسخ.
على أن الأخبار متظافرة في أن الممسوخ لا يعيش بعد المسخ إلا أياما ثم يهلك.
و في الكافي، عن سهل بن زياد عن عمرو بن عثمان عن عبد الله بن المغيرة عن طلحة بن يزيد عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله تعالى: «فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء» قال: كانوا ثلاثة أصناف: صنف ائتمروا و أمروا و نجوا، و صنف ائتمروا و لم يأمروا فمسخوا، و صنف لم يأتمروا و لم يأمروا فهلكوا. أقول: و الرواية - كما ترى - مبنية على كون قوله: «فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة» الآية ناظرا إلى عذاب الساكتين دون المرتكبين للصيد المحرم و معنى «عتوا عن ما نهوا» كفوا عن الصيد الذي نهوا عنه و لا حاجة حينئذ إلى تقدير الترك و نحوه في الكلام و يبقى لبيان عذاب الفرقة الأخرى قوله في الآية السابقة.
و لا مانع من هذا المعنى إلا أن مقتضى المقام أن يذكر السبب لعذاب الساكتين كفهم عن موعظة الفاعلين لا عتوهم عما نهوا عنه مع ما في استعمال العتو في مورد الكف و الإعراض من البعد، و الرواية مع ذلك ضعيفة و قد رواها الصدوق بالسند بعينه عن طلحة عن أبي جعفر (عليه السلام) في الآية و فيها: قال: كانوا ثلاثة أصناف: صنف ائتمروا و أمروا، و صنف ائتمروا و لم يأمروا، و صنف لم يأتمروا و لم يأمروا فهلكوا و و رواها العياشي عن طلحة عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليه السلام) في الآية قال: افترق القوم ثلاث فرق فرقة انتهت و اعتزلت، و فرقة أقامت و لم يقارف الذنوب، و فرقة اقترفت الذنوب فلم ينج من العذاب إلا من انتهت قال جعفر: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): ما صنع بالذين أقاموا و لم يقارفوا الذنوب؟ قال أبو جعفر (عليه السلام): بلغني أنهم صاروا ذرا، و الظاهر أنها جميعا رواية واحدة على ما في سندها من الضعف، و في متنها من التشويش و الاختلاف.
و في الكافي، بإسناده عن إسحاق بن عبد الله عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «إن الله خص عباده بآيتين من كتابه: أن لا يقولوا حتى يعلموا، و لا يردوا ما لم يعلموا قال الله عز و جل: «أ لم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب - أن لا يقولوا على الله إلا الحق» و قال: «بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه و لما يأتهم تأويله»:. أقول: و رواه العياشي عن إسحاق عنه (عليه السلام)، و روي مثله عن إسحاق بن عبد العزيز عن أبي الحسن الأول (عليه السلام). و في تفسير القمي،: في معنى قوله تعالى: «و إذ نتقنا الجبل» الآية قال الصادق (عليه السلام): لما أنزل الله التوراة على بني إسرائيل لم يقبلوه فرفع الله عليهم جبل طور سيناء فقال لهم موسى: إن لم تقبلوا وقع عليكم الجبل فقبلوه و طأطئوا رءوسهم. و في الإحتجاج، عن أبي بصير قال: كان مولانا أبو جعفر محمد بن علي (عليهما السلام) جالسا في الحرم و حوله جماعة من أوليائه إذ أقبل طاووس اليماني في جماعة من أصحابه. ثم قال لأبي جعفر (عليه السلام): أ تأذن لي في السؤال؟ قال: أذنا لك فاسأل. فسأله عن سؤال و أجابه و كان فيما سأله قال: فأخبرني عن طائر طار و لم يطر قبلها و لا بعدها ذكره الله عز و جل في القرآن، ما هو؟ فقال: طور سيناء أطاره الله عز و جل على بني إسرائيل الذين أظلهم بجناح منه فيه ألوان العذاب حتى قبلوا التوراة، و ذلك قوله عز و جل: «و إذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة و ظنوا أنه واقع بهم» الآية. أقول: و قد روي ما في معنى الرواية الأولى من طرق أهل السنة عن ثابت بن الحجاج قال: جاءتهم التوراة جملة واحدة فكبر عليهم فأبوا أن يأخذوه حتى ظلل الله عليهم الجبل فأخذوه عند ذلك. و الرواية الثانية من طرقهم عن ابن عباس في مسائل كتبها هرقل ملك الروم إلى معاوية يسأله عنها فقيل له: لست هناك و إنك متى تخطىء شيئا في كتابك إليه يغتمزه فيك فاكتب إلى ابن عباس فكتب إليه بها فأرسل ذلك إلى قيصر فقال قيصر: ما يعلم هذا إلا نبي أو أهل بيت نبي.
و اعلم أن في الآية بعض روايات أخر تقدمت في نظيرة الآية من سورة البقرة فراجعها إن شئت.
|