بيان
الآيات تذكر الميثاق من بني آدم على الربوبية و هي من أدق الآيات القرآنية معنى، و أعجبها نظما.
قوله تعالى: «و إذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم و أشهدهم على أنفسهم أ لست بربكم قالوا بلى شهدنا» أخذ الشيء من الشيء يوجب انفصال المأخوذ من المأخوذ منه و استقلاله دونه بنحو من الأنحاء، و هو يختلف باختلاف العنايات المتعلقة بها و الاعتبارات المأخوذة فيها كأخذ اللقمة من الطعام و أخذ الجرعة من ماء القدح و هو نوع من الأخذ، و أخذ المال و الأثاث من زيد الغاصب أو الجواد أو البائع أو المعير و هو نوع آخر، أو أنواع مختلفة أخرى، و كأخذ العلم من العالم و أخذ الأهبة من المجلس و أخذ الحظ من لقاء الصديق و هو نوع و أخذ الولد من والده للتربية و هو نوع إلى غير ذلك.
فمجرد ذكر الأخذ من الشيء لا يوضح نوعه إلا ببيان زائد، و لذلك أضاف الله سبحانه إلى قوله: «و إذ أخذ ربك من بني آدم» الدال على تفريقهم و تفصيل بعضهم من بعض، قوله: «من ظهورهم» ليدل على نوع الفصل و الأخذ، و هو أخذ بعض المادة منها بحيث لا تنقص المادة المأخوذ منها بحسب صورتها و لا تنقلب عن تمامها و استقلالها ثم تكميل الجزء المأخوذ شيئا تاما مستقلا من نوع المأخوذ منه فيؤخذ الولد من ظهر من يلده و يولده، و قد كان جزء ثم يجعل بعد الأخذ و الفصل إنسانا تاما مستقلا من والديه بعد ما كان جزء منهما.
ثم يؤخذ من ظهر هذا المأخوذ مأخوذ آخر و على هذه الوتيرة حتى يتم الأخذ و ينفصل كل جزء عما كان جزء منه، و يتفرق الأناسي و ينتشر الأفراد و قد استقل كل منهم عمن سواه و يكون لكل واحد منهم نفس مستقلة لها ما لها و عليها ما عليها، فهذا مفاد قوله: «و إذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم» و لو قال: أخذ ربك من بني آدم ذريتهم أو نشرهم و نحو ذلك بقي المعنى على إبهامه.
و قوله: «و أشهدهم على أنفسهم أ لست بربكم» ينبىء عن فعل آخر إلهي تعلق بهم بعد ما أخذ بعضهم من بعض و فصل بين كل واحد منهم و غيره و هو إشهادهم على أنفسهم، و الإشهاد على الشيء هو إحضار الشاهد عنده و إراءته حقيقته ليتحمله علما تحملا شهوديا فإشهادهم على أنفسهم هو إراءتهم حقيقة أنفسهم ليتحملوا ما أريد تحملهم من أمرها ثم يؤدوا ما تحملوه إذا سئلوا.
و للنفس في كل ذي نفس جهات من التعلق و الارتباط بغيرها يمكن أن يستشهد الإنسان على بعضها دون بعض غير أن قوله: «أ لست بربكم» يوضح ما أشهدوا لأجله و أريد شهادتهم عليه، و هو أن يشهدوا ربوبيته سبحانه لهم فيؤدوها عند المسألة.
فالإنسان و إن بلغ من الكبر و الخيلاء ما بلغ، و غرته مساعدة الأسباب ما غرته و استهوته لا يسعه أن ينكر أنه لا يملك وجود نفسه و لا يستقل بتدبير أمره، و لو ملك نفسه لوقاها مما يكرهه من الموت و سائر آلام الحياة و مصائبها، و لو استقل بتدبير أمره لم يفتقر إلى الخضوع قبال الأسباب الكونية، و الوسائل التي يرى لنفسه أنه يسودها و يحكم فيها ثم هي كالإنسان في الحاجة إلى ما وراءها، و الانقياد إلى حاكم غائب عنها يحكم فيها لها أو عليها، و ليس إلى الإنسان أن يسد خلتها و يرفع حاجتها.
فالحاجة إلى رب - مالك مدبر - حقيقة الإنسان، و الفقر مكتوب على نفسه، و الضعف مطبوع على ناصيته، لا يخفى ذلك على إنسان له أدنى الشعور الإنساني، و العالم و الجاهل و الصغير و الكبير و الشريف و الوضيع في ذلك سواء.
فالإنسان في أي منزل من منازل الإنسانية نزل يشاهد من نفسه أن له ربا يملكه و يدبر أمره، و كيف لا يشاهد ربه و هو يشاهد حاجته الذاتية؟ و كيف يتصور وقوع الشعور بالحاجة من غير شعور بالذي يحتاج إليه؟ فقوله: «أ لست بربكم» بيان ما أشهد عليه، و قوله: «قالوا بلى شهدنا» اعتراف منهم بوقوع الشهادة و ما شهدوه، و لذا قيل: إن الآية تشير إلى ما يشاهده الإنسان في حياته الدنيا أنه محتاج في جميع جهات حياته من وجوده و ما يتعلق به وجوده من اللوازم و الأحكام، و معنى الآية أنا خلقنا بني آدم في الأرض و فرقناهم و ميزنا بعضهم من بعض بالتناسل و التوالد، و أوفقناهم على احتياجهم و مربوبيتهم لنا فاعترفوا بذلك قائلين: بلى شهدنا أنك ربنا.
و على هذا يكون قولهم: «بلى شهدنا» من قبيل القول بلسان الحال أو إسناد اللازم القول إلى القائل بالملزوم حيث اعترفوا بحاجاتهم و لزمه الاعتراف بمن يحتاجون إليه، و الفرق بين لسان الحال، و القول بلازم القول: أن الأول انكشاف المعنى عن الشيء لدلالة صفة من صفاته و حال من أحواله عليه سواء شعر به أم لا كما تفصح آثار الديار الخربة عن حال ساكنيها، و كيف لعب الدهر بهم؟ و عدت عادية الأيام عليهم؟ فأسكنت أجراسهم و أخمدت أنفاسهم، و كما يتكلم سيماء البائس المسكين عن فقره و مسكنته و سوء حاله.
و الثاني انكشاف المعنى عن القائل لقوله بما يستلزمه أو تكلمه بما يدل عليه بالالتزام.
فعلى أحد هذين النوعين من القول أعني القول بلسان الحال و القول بالاستلزام يحمل اعترافهم المحكي بقوله تعالى: «قالوا بلى شهدنا» و الأول أقرب و أنسب فإنه لا يكتفي في مقام الشهادة إلا بالصريح منها المدلول عليه بالمطابقة دون الالتزام.
و من المعلوم أن هذه الشهادة على أي نحو تحققت فهي من سنخ الاستشهاد المذكور في قوله: «أ لست بربكم» فالظاهر أنه قد استوفى الجواب بعين اللسان الذي سألهم به، و لذلك كان هناك نحو ثالث يمكن أن يحمل عليه هذه المساءلة و المجاوبة فإن الكلام الإلهي يكشف به عن المقاصد الإلهية بالفعل، و الإيجاد كلام حقيقي - و إن كان بنحو التحليل - كما تقدم مرارا في مباحثنا السابقة فليكن هنا قوله: «أ لست بربكم» و قولهم: «بلى شهدنا» من ذاك القبيل، و سيجيء للكلام تتمة.
و كيف كان فقوله: «و إذ أخذ ربك من بني آدم» الآية يدل على تفصيل بني آدم بعضهم من بعض، و إشهاد كل واحد منهم على نفسه، و أخذ الاعتراف على الربوبية منه، و يدل ذيل الآية و ما يتلوه أعني قوله: «أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل و كنا ذرية من بعدهم أ فتهلكنا بما فعل المبطلون» على الغرض من هذا الأخذ و الإشهاد.
و هو على ما يفيده السياق إبطال حجتين للعباد على الله و بيان أنه لو لا هذا الأخذ و الإشهاد و أخذ الميثاق على انحصار الربوبية كان للعباد أن يتمسكوا يوم القيامة بإحدى حجتين يدفعون بها تمام الحجة عليهم في شركهم بالله و القضاء بالنار، على ذلك من الله سبحانه.
و التدبر في الآيتين و قد عطفت إحدى الحجتين على الأخرى بأو الترديدية، و بنيت الحجتان جميعا على العلم اللازم للإشهاد، و نقلتا جميعا عن بني آدم المأخوذين المفرقين يعطي أن الحجتين كل واحدة منهما مبنية على تقدير من تقديري عدم الإشهاد كذلك.
و المراد أنا أخذنا ذريتهم من ظهورهم و أشهدناهم على أنفسهم فاعترفوا بربوبيتنا فتمت لنا الحجة عليهم يوم القيامة، و لو لم نفعل هذا و لم نشهد كل فرد منهم على نفسه بعد أخذه فإن كنا أهملنا الإشهاد من رأس فلم يشهد أحد نفسه و أن الله ربه، و لم يعلم به لأقاموا جميعا الحجة علينا يوم القيامة بأنهم كانوا غافلين في الدنيا عن ربوبيتنا، و لا تكليف على غافل و لا مؤاخذة، و هو قوله تعالى: «أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين».
و إن كنا لم نهمل أمر الإشهاد من رأس، و أشهدنا بعضهم على أنفسهم دون بعض بأن أشهدنا الآباء على هذا الأمر الهام العظيم دون ذرياتهم ثم أشرك الجميع كان شرك الآباء شركا عن علم بأن الله هو الرب لا رب غيره فكانت معصية منهم، و أما الذرية فإنما كان شركهم بمجرد التقليد فيما لا سبيل لهم إلى العلم به لا إجمالا و لا تفصيلا، و متابعة عملية محضة لآبائهم فكان آباؤهم هم المشركون بالله العاصون في شركهم لعلمهم بحقيقة الأمر، و قد قادوا ذريتهم الضعاف في سبيل شركهم بتربيتهم عليه و تلقينهم ذلك، و لا سبيل لهم إلى العلم بحقيقة الأمر و إدراك ضلال آبائهم و إضلالهم إياهم، فكانت الحجة لهؤلاء الذرية على الله يوم القيامة لأن الذين أشركوا و عصوا بذلك و أبطلوا الحق هم الآباء فهم المستحقين للمؤاخذة، و الفعل فعلهم، و أما الذرية فلم يعرفوا حقا حتى يؤمروا به فيعصوا بمخالفته فهم لم يعصوا شيئا و لم يبطلوا حقا، و حينئذ لم تتم حجة على الذرية فلم تتم الحجة على جميع بني آدم، و هذا معنى قوله تعالى: «أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل و كنا ذرية من بعدهم أ فتهلكنا بما فعل المبطلون».
فإن قلت: هنا بعض تقادير أخر لا يفي به البيان السابق كما لو فرض إشهاد الذرية على أنفسهم دون الآباء مثلا أو إشهاد بعض الذرية مثلا كما أن تكامل النوع الإنساني في العلم و الحضارة على هذه الوتيرة يرث كل جيل ما تركه الجيل السابق و يزيد عليه بأشياء فيحصل للاحق ما لم يحصل للسابق.
قلت: على أحد التقديرين المذكورين تتم الحجة على الذرية أو على بعضهم الذين أشهدوا.
و أما الآباء الذين لم يشهدوا فليس عندهم إلا الغفلة المحضة عن أمر الربوبية فلا يستقلون بشرك إذ لم يشهدوا، و لا يسع لهم التقليد إذ لم يسبق عليهم فيه سابق كما في صورة العكس فيدخلون تحت المحتجين بالحجة الأولى: «إنا كنا عن هذا غافلين».
و أما حديث تكامل الإنسان في العلم و الحضارة تدريجا فإنما هو في العلوم النظرية الاكتسابية التي هي نتائج و فروع تحصل للإنسان شيئا فشيئا، و أما شهود الإنسان نفسه و أنه محتاج إلى رب يربه فهو من مواد العلم التي إنما تحصل قبل النتائج، و هو من العلوم الفطرية التي تنطبع في النفس انطباعا أوليا ثم يتفرع عليها الفروع، و ما هذا شأنه لا يتأخر عن غيره حصولا، و كيف لا، و نوع الإنسان إنما يتدرج إلى معارفه و علومه عن الحس الباطني بالحاجة كما قرر في محله.
فالمتحصل من الآيتين أن الله سبحانه فصل بين بني آدم بأخذ بعضهم من بعض ثم أشهدهم جميعا على أنفسهم و أخذ منهم الميثاق بربوبيته فهم ليسوا بغافلين عن هذا المشهد و ما أخذ منهم الميثاق حتى يحتج كلهم بأنهم كانوا غافلين عن ذلك لعدم معرفتهم بالربوبية أو يحتج بعضهم بأنه إنما أشرك و عصى آباؤهم و هم برآء.
و لذلك ذكر عدة من المفسرين أن المراد بهذا الظرف المشار إليه بقوله: «و إذ أخذ ربك» هو الدنيا، و الآيتان تشيران إلى سنة الخلقة الإلهية الجارية على الإنسان في الدنيا فإن الله سبحانه يخرج الذرية الإنسانية من أصلاب آبائهم إلى أرحام أمهاتهم و منها إلى الدنيا، و يشهدهم في خلال حياتهم على أنفسهم، و يريهم آثار صنعه و آيات وحدانيته، و وجوه احتياجاتهم المستغرقة لهم من كل جهة الدالة على وجوده و وحدانيته فكأنه يقول لهم عند ذلك: أ لست بربكم، و هم يجيبونه بلسان حالهم: بلى شهدنا بذلك و أنت ربنا لا رب غيرك، و إنما فعل الله سبحانه ذلك لئلا يحتجوا على الله يوم القيامة بأنهم كانوا غافلين عن المعرفة، أو يحتج الذرية بأن آباءهم هم الذين أشركوا، و أما الذرية فلم يكونوا عارفين بها و إنما هم ذرية من بعدهم نشئوا على شركهم من غير ذنب.
و قد طرح القوم عدة من الروايات تدل على أن الآيتين تدلان على عالم الذر، و أن الله أخرج ذرية آدم من ظهره فخرجوا كالذر فأشهدهم على أنفسهم و عرفهم نفسه، و أخذ منهم الميثاق على ربوبيته فتمت بذلك الحجة عليهم يوم القيامة.
و قد ذكروا وجوها في إبطال دلالة الآيتين عليه و طرح الروايات بمخالفتها لظاهر الكتاب.
1 - أنه لا يخلو إما أن جعل الله هذه الذرية المستخرجة من صلب آدم عقلاء أو لم يجعلهم كذلك فإن لم يجعلهم عقلاء فلا يصح أن يعرفوا التوحيد، و أن يفهموا خطاب الله تعالى، و إن جعلهم عقلاء و أخذ منهم الميثاق و بنى صحة التكليف على ذلك وجب أن يذكروا ذلك و لا ينسوه لأن أخذ الميثاق إنما تتم الحجة به على المأخوذ منه إذا كان على ذكر منه من غير نسيان كما ينص عليه قوله تعالى: «أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين» و نحن لا نذكر وراء ما نحن عليه من الخلقة الدنيوية الحاضرة شيئا فليس المراد بالآية إلا موقف الإنسان في الدنيا، و ما يشاهده فيه من حاجته إلى رب يملكه و يدبر أمره، و هو رب كل شيء.
2 - أنه لا يجوز أن ينسى الجمع الكثير و الجم الغفير من العقلاء أمرا قد كانوا عرفوه و ميزوه حتى لا يذكره و لا واحد منهم، و ليس العهد به بأطول من عهد أهل الجنة بحوادث مضت عليهم في الدنيا و هم يذكرون ما وقع عليهم في الدنيا كما يحكيه تعالى في مواضع من كلامه كقوله: «قال قائل منهم إني كان لي قرين» إلى آخر الآيات: الصافات: 51 و قد حكى نظير ذلك من أهل النار كقوله: «و قالوا ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار»: ص. 62 إلى غير ذلك من الآيات.
و لو جاز النسيان على هؤلاء الجماعة مع هذه الكثرة لجاز أن يكون الله سبحانه قد كلف خلقه فيما مضى من الزمن ثم أعادهم ليثيبهم أو ليعاقبهم جزاء لأعمالهم في الخلق الأول و قد نسوا ذلك، و لازم ذلك صحة قول التناسخية أن المعاد إنما هو خروج النفس عن بدنها ثم دخولها في بدن آخر لتجد في الثاني جزاء الأعمال التي عملتها في الأول 3 - ما أورد على الأخبار الناطقة بأن الله سبحانه أخذ من صلب آدم ذريته و أخذ منهم الميثاق، بأن الله سبحانه قال: «أخذ ربك من بني آدم» و لم يقل من آدم و قال: «من ظهورهم» و لم يقل من ظهره، و قال: «ذريتهم» و لم يقل: ذريته ثم أخبر بأنه إنما فعل بهم ذلك لئلا يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو يقولوا «إنما أشرك آباؤنا من قبل و كنا ذرية من بعدهم» الآية، و هذا يقتضي أن يكون لهم آباء مشركون فلا يتناول ظاهر الآية أولاد آدم لصلبه.
و من هنا قال بعضهم: إن الآية خاصة ببعض بني آدم غير عامة لجميعهم فإنها لا تشمل آدم و ولده لصلبه، و جميع المؤمنين و من المشركين من ليس له آباء مشركون بل تختص بالمشركين الذين لهم سلف مشرك.
4 - أن تفسير الآية بعالم الذر ينافي قولهم - كما في الآية - «إنما أشرك آباؤنا» لدلالته على وجود آباء لهم مشركين، و هو ينافي وجود الجميع هناك بوجود واحد جمعي.
5 - ما ذكره بعضهم أن الروايات مقبولة مسلمة غير أنها ليست بتأويل للآية، و الذي تقصه من حديث عالم الذر إنما هو أمر فعله الله سبحانه ببني آدم قبل وجودهم في هذه النشأة ليجروا بذلك على الأعراق الكريمة في معرفة ربوبيته كما روي: أنهم ولدوا على الفطرة، و كما قيل: إن نعيم الأطفال في الجنة ثواب إيمانهم بالله في عالم الذر.
و أما الآية فليست تشير إلى ما تشير إليه الروايات فإن الآية تذكر أنه إنما فعل بهم ذلك لتنقطع به حجتهم يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين، و لو كان المراد به ما فعل بهم في عالم الذر لكان لهم أن يحتجوا على الله فيقولوا: ربنا إنك أشهدتنا على أنفسنا يوم أخرجتنا من صلب آدم فكنا على يقين بأنك ربنا كما أنا اليوم و هو يوم القيامة - على يقين من ذلك لكنك أنسيتنا موقف الإشهاد في الدنيا التي هي موطن التكليف و العمل، و وكلتنا إلى عقولنا فعرف ربوبيتك من عرفها بعقله، و أنكرها من أنكرها بعقله كل ذلك بالاستدلال فما ذنبنا في ذلك و قد نزعت منا عين المشاهدة، و جهزتنا بجهاز شأنه الاستدلال و هو يخطىء و يصيب؟.
6 - أن الآية لا صراحة لها فيما تدل عليه الروايات لإمكان حملها على التمثيل، و أما الروايات فهي إما مرفوعة أو موقوفة و لا حجية فيها.
هذه جمل ما أوردوه على دلالة الآية و حجية الروايات، و قد زيفها المثبتون لنشاة الذر و هم عامة أهل الحديث و جمع من غيرهم من المفسرين بأجوبة.
فالجواب عن الأول: أن نسيان الموقف و خصوصياته لا يضر بتمام الحجة و إنما المضر نسيان أصل الميثاق و زوال معرفة وحدانية الرب تعالى: و هو غير منسي و لا زائل عن النفس و ذلك يكفي في تمام الحجة أ لا ترى أنك إذا أردت أن تأخذ ميثاقا من زيد فدعوته إليك و أدخلته بيتك، و أجلسته مجلس الكرامة ثم بشرته و أنذرته ما استطعت، و لم تزل به حتى أرضيته فأعطاك العهد و أخذت منه الميثاق فهو مأخوذ بميثاقه ما دام ذاكرا لأصله و إن نسي حضوره عندك و دخوله بيتك و جميع ما جرى بينك و بينه وقت أخذ الميثاق غير أصل العهد.
و الجواب عن الثاني: أن الامتناع من تجويز نسيان الجمع الكثير لذلك مجرد استبعاد من غير دليل على الامتناع مضافا إلى أن أصل المعرفة بالربوبية مذكور غير منسي كما ذكرنا و هو يكفي في تمام الحجة، و أما حديث التناسخية فليس الدليل على امتناع التناسخ منحصرا في استحالة نسيان الجماعة الكثيرة ما مضى عليهم في الخلق الأول حتى لو لم يستحل ذلك صح القول بالتناسخ بل لإبطال القول به دليل آخر كما يعلم بالرجوع إلى محله، و بالجملة لا دليل على استحالة نسيان بعض العوالم في بعض آخر.
و الجواب عن الثالث: أن الآية غير ساكتة عن إخراج ولد آدم لصلبه من صلبه فإن قوله تعالى: «و إذ أخذ ربك من بني آدم» كاف وحده في الدلالة عليه فإن فرض بني آدم فرض إخراجهم من صلب آدم من غير حاجة إلى مئونة زائدة، ثم إخراج ذريتهم من ظهورهم بإخراج أولاد الأولاد من صلب الأولاد، و هكذا، و يتحصل منه أن الله أخرج أولاد آدم لصلبه من صلبه ثم أولادهم من أصلابهم ثم أولاد أولادهم من أصلاب أولادهم حتى ينتهي إلى آخرهم نظير ما يجري عليه الأمر في هذه النشأة الدنيوية التي هي نشأة التوالد و التناسل.
و قد أجاب الرازي عنه في تفسيره، بأن الدلالة على إخراج أولاده لصلبه من صلبه من ناحية الخبر كما أن الدلالة على إخراج أولاد أولاده من أصلاب آبائهم من ناحية الآية فبمجموع الآية و الخبر تتم الدلالة على المجموع.
و هو كما ترى.
و أما الأخبار المشتملة على ذكر إخراج ذرية آدم من صلبه، و أخذ الميثاق منهم فهي في مقام شرح القصة لا في مقام تفسير ألفاظ الآية حتى يورد عليها بعدم موافقة الكتاب أو مخالفته.
و أما عدم شمول الآية لأولاد آدم من صلبه لعدم وجود آباء مشركين لهم و كذا بعض من عداهم فلا يضر شيئا لأن مراد الآية أن الله سبحانه إنما فعل ذلك لئلا يقول المشركون يوم القيامة: إنما أشرك آباؤنا لا أن يقول كل واحد واحد منهم: إنما أشرك آبائي فهذا مما لم يتعلق به الغرض البتة فالقول قول المجموع من حيث المجموع لا قول كل واحد فيئول المعنى إلى أنا لو لم نفعل ذلك لكان كل من أردنا إهلاكه يوم القيامة يقول: لم أشرك أنا و إنما أشرك من كان قبلي و لم أكن إلا ذرية و تابعا لا متبوعا.
و الجواب عن الرابع: يظهر من الجواب عن سابقه و قد دلت الآية و الرواية على أن الله فصل هناك بين الآباء و الأبناء ثم ردهم إلى حال الجمع.
و الجواب عن الخامس: أنه خلاف ظاهر بعض الروايات و خلاف صريح بعض آخر منها، و ما في ذيله من عدم تمام الحجة من جهة عروض النسيان ظهر الجواب عنه من الجواب عن الإشكال الأول.
و الجواب عن السادس: أن استقرار الظهور في الكلام كاف في حجيته، و لا يتوقف ذلك على صفة الصراحة، و إمكان الحمل على التمثيل لا يوجب الحمل عليه ما لم يتحقق هناك مانع عن حمله على ظاهره، و قد تبين أن لا مانع من ذلك.
و أما أن الروايات ضعيفة لا معول عليها فليس كذلك فإن فيها ما هو الصحيح و فيها ما يوثق بصدوره كما سيجيء إن شاء الله تعالى في البحت الروائي التالي.
هذا ملخص ما جرى بينهم من البحث في ما استفيد من الآية من حديث عالم الذر إثباتا و نفيا، و اعتراضا و جوابا، و استيفاء التدبر في الآية و الروايات، و التأمل فيما يرومه المثبتون بإثباتهم و يدفعه المنكرون بإنكارهم يوجب توجيه البحث إلى جهة أخرى غير ما تشاجر فيه الفريقان بإثباتهم و نفيهم.
فالذي فهمه المثبتون من الرواية ثم حملوه على الآية، و انتهضوا لإثباته محصله: أن الله سبحانه بعد ما خلق آدم إنسانا تاما سويا أخرج نطفة التي تكونت في صلبه - ثم صارت هي بعينها أولاده الصلبيين - إلى الخارج من صلبه ثم أخرج من هذه النطف نطفها التي ستتكون أولادا له صلبيين ففصل بين أجزائها و الأجزاء الأصلية التي اشتقت منها ثم من أجزاء هذه النطف أجزاء أخرى هي نطفهاثم من أجزاء الأجزاء أجزاءها و لم يزل حتى أتى آخر جزء مشتق من الأجزاء المتعاقبة في التجزي، و بعبارة أخرى أخرج نطفة آدم التي هي مادة البشر و وزعها بفصل بعض أجزائه من بعض إلى ما لا يحصى من عدد بني آدم بحذاء كل فرد ما هو نصيبه من أجزاء نطفة آدم، و هي ذرات منبثة غير محصورة.
ثم جعل الله سبحانه هذه الذرات المنبثة عند ذلك - أو كان قد جعلها قبل ذلك كل ذرة منها إنسانا تاما في إنسانيته، هو بعينه الإنسان الدنيوي الذي هو جزء المقدم له فالجزء الذي لزيد هناك هو زيد هذا بعينه، و الذي لعمرو هو عمرو هذا بعينه فجعلهم ذوي حياة و عقل و جعل لهم ما يسمعون به و ما يتكلمون به، و ما يضمرون به معاني فيظهرونها أو يكتمونها و عند ذلك عرفهم نفسه فخاطبهم فأجابوه، و أعطوه الإقرار بالربوبية إما بموافقة ما في ضميرهم لما في لسانهم أو بمخالفته ذلك.
ثم إن الله سبحانه ردهم بعد أخذ الميثاق إلى مواطنهم من الأصلاب حتى اجتمعوا في صلب آدم و هي على حياتها و معرفتها بالربوبية و إن نسوا ما وراء ذلك مما شاهدوه عند الإشهاد و أخذ الميثاق، و هم بأعيانهم موجودون في الأصلاب حتى يؤذن لهم في الخروج إلى الدنيا فيخرجون و عندهم ما حصلوه في الخلق الأول من معرفة الربوبية، و هي حكمهم بوجود رب لهم من مشاهدة أنفسهم محتاجة إلى من يملكهم و يدبر أمرهم.
هذا ما يفهمه القوم من الخبر و الآية و يرومون إثباته، و هو مما يدفعه الضرورة و ينفيه القرآن و الحديث بلا ريب، و كيف الطريق إلى إثبات أن ذرة من ذرات بدن زيد - و هو الجزء الذري الذي انتقل من صلب آدم من طريق نطفته إلى ابنه ثم إلى ابن ابنه حتى انتهى إلى زيد - هو زيد بعينه، و له إدراك زيد و عقله و ضميره و سمعه و بصره، و هو الذي يتوجه إليه التكليف، و تتم له الحجة و يحمل عليه العهود و المواثيق، و يقع عليه الثواب و العقاب؟ و قد صح بالحجة القاطعة من طريق العقل و النقل أن إنسانية الإنسان بنفسه التي هي أمر وراء المادة حادث بحدوث هذا البدن الدنيوي، و قد تقدم شطر من البحث فيها.
على أنه قد ثبت بالبحث القطعي أن هذه العلوم التصديقية البديهية و النظرية منها التصديق بأن له ربا يملكه و يدبر أمره تحصل للإنسان بعد حصول و التطورات و الجميع تنتهي إلى الإحساسات الظاهرة و الباطنة، و هي تتوقف على وجود التركيب الدنيوي المادي فهو حال العلوم الحصولية التي منها التصديق بأن له ربا هو القائم برفع حاجته.
على أن هذه الحجة إن كانت متوقفة في تمامها على العقل و المعرفة معا فالعقل مسلوب عن الذرة حين أرجعت إلى موطنه الصلبي حتى تظهر ثانيا في الدنيا، و إن قيل إنه لم يسلب عنها ما تجري في الأصلاب و الأرحام فهو مسلوب عن الإنسان ما بين ولادته و بلوغه أعني أيام الطفولية.
و يختل بذلك أمر الحجة على الإنسان، و إن كانت غير متوقفة عليه بل يكفي في تمامها مجرد حصول المعرفة فأي حاجة إلى الإشهاد و أخذ الميثاق و ظاهر الآية أن الإشهاد و أخذ الميثاق إنما هما لأجل إتمام الحجة فلا محالة يرجع معنى الآية إلى حصول المعرفة فيئول المعنى إلى ما فسرها به المنكرون.
و بتقرير آخر: إن كانت الحجة إنما تتم بمجموع الإشهاد و التعريف و أخذ الميثاق سقطت بنسيان البعض، و قد نسي الإشهاد و التكليم و أخذ الميثاق، و إن كان الإشهاد و أخذ الميثاق جميعا مقدمة لثبوت المعرفة ثم زالت المقدمة و لزمت المعرفة، و بها تمام الحجة تمت الحجة على كل إنسان حتى الجنين و الطفل و المعتوه و الجاهل، و لا يساعد عليه عقل و لا نقل، و إن كانت المعرفة في تمام الحجة بها متوقفة على حصول العقل و البلوغ و نحو ذلك، و قد كانت حصلت في عالم الذر فتمت الحجة ثم زالت و بقيت المعرفة حجة ناقصة ثم كملت ثانيا لبعضهم في الدنيا فتمت الحجة ثانيا بالنسبة إليهم فكما أن لحصول العقل في الدنيا أسبابا تكوينية يحصل بها و هي الحوادث المتكررة من الخير و الشر و حصول الملكة المميزة بينهما من التجارب حصولا تدريجيا ينتهي من جانب إلى حد من الكمال، و من جانب إلى حد من الضعف لا يعبأ به، كذلك المعرفة لها أسباب إعدادية تهيأ الإنسان إلى التلبس بها، و ليست تحصل قبل ذلك، و إذا كانت تحصل في ظرفنا هذا بأسبابها المعدة لها كالعقل فأي حاجة إلى تكوينه تكوينا آخر في سالف من الزمان لإتمام الحجة و الحجة تامة دونه؟ و ما ذا يغني ذلك؟.
على أن هذا العقل الذي لا تتم حجة و لا ينفع إشهاد و لا يصح أخذ ميثاق بدونه حتى في عالم الذر المفروض هو العقل العملي الذي لا يحصل للإنسان إلا في هذا الظرف الذي يعيش فيه عيشة اجتماعية فتتكرر عليه حوادث الخير و الشر، و تهيج عواطفه و إحساساته الباطنية نحو جلب النفع و دفع الضرر فتتعاقب عليه الأعمال عن علم و إرادة فيخطىء و يصيب حتى يتدرب في تمييز الصواب من الخطإ، و الخير من الشر، و النفع من الضر و الظرف الذي يثبتونه أعني ما يصفونه من عالم الذر ليس بموطن العقل العملي إذ ليس فيه شرائط حصوله و أسبابه.
و لو فرضوه موطنا له و فيه أسبابه و شرائطه كما يظهر مما يصفونه تعويلا على ما في ظواهر الروايات أن الله دعاهم هناك إلى التوحيد فأجابه بعضهم بلسان يوافقه قلبه، و أجابه آخرون و قد أضمروا الكفر و بعث إليهم الأنبياء و الأوصياء فصدقهم بعض و كذبهم آخرون و لا يجري ما هاهنا إلا على ما جرى به ما هنالك إلى غير ذلك مما ذكروه كان ذلك إثباتا لنشأة طبيعية قبل هذه النشأة الطبيعية في الدنيا نظير ما يثبته القائلون بالأدوار و الأكوار و احتاج إلى تقديم كينونة ذرية أخرى تتم بها الحجة على من هنالك من الإنسان لأن عالم الذر على هذه الصفة لا يفارق هذا العالم الحيوي الذي نحن فيه الآن فلو احتاج هذا الكون الدنيوي إلى تقديم إشهاد و تعريف حتى يحصل المعرفة و تتم الحجة لاحتاج إليه الكون الذري من غير فرق فارق البتة.
على أن الإنسان لو احتاج في تحقق المعرفة في هذه النشأة الدنيوية إلى تقدم وجود ذري يقع فيه الإشهاد و يوجد فيه الميثاق حتى تثبت بذلك المعرفة بالربوبية لم يكن في ذلك فرق بين إنسان و إنسان فما بال آدم و حواء استثنيا من هذه الكلية؟ فإن لم يحتاجا إلى ذلك لفضل فيهما أو لكرامة لهما ففي ذريتهما من هو أفضل منهما و أكرم! و إن كان لتمام خلقتهما يومئذ فأثبتت فيهما المعرفة من غير حاجة إلى إحضار الوجود الذري فلكل من ذريتهما أيضا خلقة تامة في ظرفه الخاص به فلم لم يؤخر إثبات المعرفة فيهم و لهم إلى تمام خلقتهم بالولادة حتى تتم عند ذلك الحجة؟ و أي حاجة إلى التقديم؟.
فهذه جهات من الإشكال في تحقق الوجود الذري للإنسان على ما فهموه من الروايات لا طريق إلى حلها بالأبحاث العلمية، و لا حمل الآية عليه معها حتى بناء على عادة القوم في تحميل المعنى على الآية إذا دلت عليه الرواية و إن لم يساعد عليه لفظ الآية لأن الرواية القطعية الصدور كالآية مصونة عن أن تنطق بالمحال، و أما الحشوية و بعض المحدثين ممن يبطل حجة العقل الضرورية قبال الرواية، و يتمسك بالآحاد في المعارف اليقينية فلا بحث لنا معهم هذا ما على المثبتين.
بقي الكلام فيما ذكره النافون أن الآية تشير إلى ما عليه حال الإنسان في هذه الحياة الدنيا، و هو أن الله سبحانه أخرج كلا من آحاد الإنسان من الأصلاب و الأرحام إلى مرحلة الانفصال و التفرق، و ركب فيهم ما يعرفون به ربوبيته و احتياجهم إليه كأنه قال لهم إذا وجه وجوههم نحو أنفسهم المستغرقة في الحاجة: أ لست بربكم؟ و كأنهم لما سمعوا هذا الخطاب من لسان الحال قالوا: بلى أنت ربنا شهدنا بذلك، و إنما فعل الله ذلك لتتم عليهم حجته بالمعرفة و تنقطع حجتهم عليه بعدم المعرفة، و هذا ميثاق مأخوذ منهم طول الدنيا جار ما جرى الدهر و الإنسان يجري معه.
و الآية بسياقها لا تساعد عليه فإنه تعالى افتتح الآية بقوله: «و إذ أخذ ربك» الآية فعبر عن ظرف هذه القضية بإذ و هو يدل على الزمن الماضي أو على أي ظرف محقق الوقوع نحوه كما في قوله: «و إذ قال الله يا عيسى بن مريم أ أنت قلت للناس - إلى أن قال - قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم»: المائدة: 119 فعبر بإذ عن ظرف مستقبل لتحقق وقوعه.
و قوله: «و إذ أخذ ربك» خطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو له و لغيره كما يدل عليه قوله: «أن تقولوا يوم القيامة» الآية، إن كان الخطاب متوجها إلينا معاشر السامعين للآيات المخاطبين بها و الخطاب خطاب دنيوي لنا معاشر أهل الدنيا، و الظرف الذي يتكي عليه هو زمن حياتنا في الدنيا أو زمن حياة النوع الإنساني فيها و عمره الذي هو طول إقامته في الأرض، و القصة التي يذكرها في الآية ظرفها عين ظرف وجود النوع في الدنيا فلا مصحح للتعبير عن ظرفها بلفظة «إذ» الدالة على تقدم ظرف القصة على ظرف الخطاب، و لا عناية أخرى في المقام تصحح هذا التعبير من قبيل تحقق الوقوع و نحوه و هو ظاهر.
فقوله: «و إذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم» في عين أنه يدل على قصة خلقه تعالى النوع الإنساني بنحو التوليد و أخذ الفرد من الفرد، و بث الكثير من القليل كما هو المشهود في نحو تكون الآحاد من الإنسان، و حفظهم وجود النوع بوجود البعض من البعض على التعاقب، يدل على أن للقصة - و هي تنطبق على الحال المشهود - نوعا من التقدم على هذا المشهود من جريان الخلقة و سيرها.
و قد تقدمت استحالة ما افترضوا لهذا التقدم من تقدم هذه الخلقة بنحو تقدما زمانيا بأن يأخذ الله أول فرد من هذا النوع فيأخذ منه مادة النطفة التي منها نسل هذا النوع فيجزؤها أجزاء ذرية بعدد أفراد النوع إلى يوم القيامة ثم يلبس وجود كل فرد بعينه بحياته و عقله و سمعه و بصره و ضميره و ظهره و بطنه و يكسيه وجوده التي هي له قبل أن يسير مسيره الطبيعي فيشهده نفسه و يأخذ منه الميثاق، ثم ينزعه منها و يردها إلى مكانها الصلبي حتى يسير سيره الطبيعي، و ينتهي إلى موطنها الذي لها من الدنيا فقد تقدم بطلان ذلك، و أن الآية أجنبية عنه.
لكن الذي أحال هذا المعنى هو استلزامه وجود الإنسان بما له من الشخصية الدنيوية مرتين في الدنيا، واحدة بعد أخرى المستلزم لكون الشيء غير نفسه بتعدد شخصيته فهو الأصل الذي تنتهي إليه جميع المشكلات السابقة.
و أما وجود الإنسان أو غيره في امتداد مسيره إلى الله و رجوعه إليه في عوالم مختلفة النظام متفاوتة الحكم فليس بمحال، و هو مما يثبته القرآن الكريم و لو كره ذلك الكافرون الذين يقولون إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت و نحيا، و ما يهلكنا إلا الدهر فقد أثبت الله الحياة الآخرة للإنسان و غيره يوم البعث، و فيه هذا الإنسان بعينه، و قد وصفه بنظام و أحكام غير هذه النشأة الدنيوية نظاما و أحكاما، و قد أثبت حياة برزخية لهذا الإنسان بعينه و هي غير الحياة الدنيوية نظاما و حكما، و أثبت بقوله: «و إن من شيء إلا عندنا خزائنه و ما ننزله إلا بقدر معلوم»: الحجر: 21 أن لكل شيء عنده وجودا وسيعا غير مقدر في خزائنه، و إنما يلحقه الأقدار إذا نزله إلى الدنيا مثلا فللعالم الإنساني على سعته سابق وجود عنده تعالى في خزائنه أنزله إلى هذه النشأة.
و أثبت بقوله: «إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء»: يس 83 و قوله: «و ما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر»: القمر: 50 و ما يشابههما من الآيات أن هذا الوجود التدريجي الذي للأشياء و منها الإنسان هو أمر من الله يفيضه على الشيء، و يلقيه إليه بكلمة «كن» إفاضة دفعية و إلقاء غير تدريجي فلوجود هذه الأشياء وجهان وجه إلى الدنيا و حكمه أن يحصل بالخروج من القوة إلى الفعل تدريجا، و من العدم إلى الوجود شيئا فشيئا، و يظهر ناقصا ثم لا يزال يتكامل حتى يفني و يرجع إلى ربه، و وجه إلى الله سبحانه و هي بحسب هذا الوجه أمور تدريجية و كل ما لها فهو لها في أول وجودها من غير أن تحتمل قوة تسوقها إلى الفعل.
و هذا الوجه غير الوجه السابق و إن كانا وجهين لشيء واحد، و حكمه غير حكمه و إن كان تصوره التام يحتاج إلى لطف قريحة، و قد شرحناه في الأبحاث السابقة بعض الشرح و سيجيء إن شاء الله استيفاء الكلام في شرحه.
و مقتضى هذه الآيات أن للعالم الإنساني على ما له من السعة وجودا جميعا عند الله سبحانه، و هو الذي يلي جهته تعالى و يفيضه على أفراده لا يغيب فيها بعضهم عن بعض و لا يغيبون فيه عن ربهم و لا هو يغيب عنهم، و كيف يغيب فعل عن فاعله أو ينقطع صنع عن صانعه، و هذا هو الذي يسميه الله سبحانه بالملكوت، و يقول: «و كذلك نري إبراهيم ملكوت السموات و الأرض و ليكون من الموقنين»: الأنعام 75 و يشير إليه بقوله: «كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين»: التكاثر: 7.
و أما هذا الوجه الدنيوي الذي نشاهده نحن من العالم الإنساني و هو الذي يفرق بين الآحاد، و يشتت الأحوال و الأعمال بتوزيعها على قطعات الزمان، و تطبيقها على مر الليالي و الأيام و يحجب الإنسان عن ربه بصرف وجهه إلى التمتعات المادية الأرضية و اللذائذ الحسية فهو متفرع على الوجه السابق متأخر عنه.
و موقع تلك النشأة و هذه النشأة في تفرعها عليها موقعا كن و يكون في قوله تعالى: «أن نقول له كن فيكون»: يس: 82.
و يتبين بذلك أن هذه النشأة الإنسانية الدنيوية مسبوقة بنشأة أخرى إنسانية هي هي بعينها غير أن الآحاد موجودون فيها غير محجوبين عن ربهم يشاهدون فيها وحدانيته تعالى في الربوبية بمشاهدة أنفسهم لا من طريق الاستدلال بل لأنهم لا ينقطعون عنه و لا يفقدونه، و يعترفون به و بكل حق من قبله، و أما قذارة الشرك و ألواث المعاصي فهو من أحكام هذه النشأة الدنيوية دون تلك النشأة التي ليس فيها إلا فعله تعالى القائم به فافهم ذلك.
و أنت إذا تدبرت هذه الآيات ثم راجعت قوله تعالى: «و إذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم» الآية و أجدت التدبر فيها وجدتها تشير إلى تفصيل أمر تشير هذه الآيات إلى إجماله فهي تشير إلى نشأة إنسانية سابقة فرق الله فيها بين أفراد هذا النوع، و ميز بينهم و أشهدهم على أنفسهم: أ لست بربكم؟ قالوا: بلى شهدنا.
و لا يرد عليه ما أورد على قول المثبتين في تفسير الآية على ما فهموه من معنى عالم الذر من الروايات على ما تقدم فإن هذا المعنى المستفاد من سائر الآيات و النشأة السابقة التي تثبته لا تفارق هذه النشأة الإنسانية الدنيوية زمانا بل هي معها محيطة بها لكنها سابقة عليها السبق الذي في قوله تعالى: «كن فيكون» و لا يرد عليه شيء من المحاذير المذكورة.
و لا يرد عليه ما أوردناه على قول المنكرين في تفسيرهم الآية بحال وجود النوع الإنساني في هذه النشأة الدنيوية من مخالفته لقوله: «و إذ أخذ ربك» ثم التجوز في الإشهاد بإرادة التعريف منه، و في الخطاب بقوله: «أ لست بربكم» بإرادة دلالة الحال، و كذا في قوله: «قالوا بلى» و قوله: «شهدنا» بل الظرف ظرف سابق على الدنيا و هو غيرها، و الإشهاد على حقيقته، و الخطاب على حقيقته.
و لا يرد عليه أنه من قبيل تحميل الآية معنى لا تدل عليه فإن الآية لا تأبى عنه و سائر الآيات تشير إليه بضم بعضها إلى بعض.
و أما الروايات فسيأتي أن بعضها يدل على أصل تحقق هذه النشأة الإنسانية كالآية، و بعضها يذكر أن الله كشف لآدم (عليه السلام) عن هذه النشأة الإنسانية، و أراه هذا العالم الذي هو ملكوت العالم الإنساني، و ما وقع فيه من الإشهاد و أخذ الميثاق كما أرى إبراهيم (عليه السلام) ملكوت السماوات و الأرض.
رجعنا إلى الآية: قوله: «و إذ أخذ ربك» أي و اذكر لأهل الكتاب في تتميم البيان السابق أو و اذكر للناس في بيان ما نزلت السورة لأجل بيانه و هو أن لله عهدا على الإنسان و هو سائله عنه و أن أكثر الناس لا يفون به و قد تمت عليهم الحجة.
اذكر لهم موطنا قبل الدنيا أخذ فيه ربك «من بني آدم من ظهورهم ذريتهم» فما من أحد منهم إلا استقل من غيره و تميز منه فاجتمعوا هناك جميعا و هم فرادى فأراهم ذواتهم المتعلقة بربهم «و أشهدهم على أنفسهم» فلم يحتجبوا عنه و عاينوا أنه ربهم كما أن كل شيء بفطرته يجد ربه من نفسه من غير أن يحتجب عنه، و هو ظاهر الآيات القرآنية كقوله «و إن من شيء إلا يسبح بحمده و لكن لا تفقهون تسبيحهم»: إسراء: 44.
«أ لست بربكم» و هو خطاب حقيقي لهم لا بيان حال و تكليم إلهي لهم فإنهم يفهمون مما يشاهدون أن الله سبحانه يريد به منهم الاعتراف و إعطاء الموثق، و لا نعني بالكلام إلا ما يلقى للدلالة به على معنى مراد، و كذا الكلام في قوله: «قالوا بلى شهدنا».
و قوله: «أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين» الخطاب للمخاطبين بقوله: «أ لست بربكم» القائلين: «بلى شهدنا» فهم هناك يعاينون الإشهاد و التكليم من الله و التكلم بالاعتراف من أنفسهم، و إن كانوا في نشأة الدنيا على غفلة مما عدا المعرفة بالاستدلال، ثم إذا كان يوم البعث و انطوى بساط الدنيا، و انمحت هذه الشواغل و الحجب عادوا إلى مشاهدتهم و معاينتهم، و ذكروا ما جرى بينهم و بين ربهم.
و يحتمل أن يكون الخطاب راجعا إلينا معاشر المخاطبين بالآيات أي إنما فعلنا ببني آدم ذلك حذر أن تقولوا أيها الناس يوم القيامة كذا و كذا، و الأول أقرب و يؤيده قراءة: «أن يقولوا» بلفظ الغيبة.
و قوله: «أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل» هذه حجة الناس إن فرض الإشهاد و أخذ الميثاق من الآباء خاصة دون الذرية كما أن قوله: «أن تقولوا» إلخ حجة الناس إن ترك الجميع فلم يقع إشهاد و لا أخذ ميثاق من أحد منهم.
و من المعلوم أن لو فرض ترك الإشهاد و أخذ الميثاق في تلك النشأة كان لازمه عدم تحقق المعرفة بالربوبية في هذه النشأة إذ لا حجاب بينهم و بين ربهم في تلك النشأة فلو فرض هناك علم منهم كان ذلك إشهادا و أخذ ميثاق، و أما هذه النشأة فالعلم فيها من وراء الحجاب و هو المعرفة من طريق الاستدلال.
فلو لم يقع هناك بالنسبة إلى الذرية إشهاد و أخذ ميثاق كان لازمه في هذه النشأة أن لا يكون لهم سبيل إلى معرفة الربوبية فيها أصلا، و حينئذ لم يقع منهم معصية شرك بل كان ذلك فعل آبائهم، و ليس لهم إلا التبعية العملية لآبائهم و النشوء على شركهم من غير علم فصح لهم أن يقولوا: إنما أشرك آباؤنا من قبل و كنا ذرية من بعدهم أ فتهلكنا بما فعل المبطلون.
قوله تعالى: «و كذلك نفصل الآيات و لعلهم يرجعون» تفصيل الآيات تفريق بعضها و تمييزه من بعض ليتبين بذلك مدلول كل منها و لا تختلط وجود دلالتها، و قوله: «و لعلهم يرجعون» عطف على مقدر، و التقدير: لغايات عالية كذا و كذا و لعلهم يرجعون من الباطل إلى الحق.
بحث روائي
في الكافي، بإسناده عن زرارة عن حمران عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن الله تبارك و تعالى حيث خلق الخلق ماء عذبا و ماء مالحا أجاجا فامتزج الماءان فأخذ طينا من أديم الأرض فعركه عركا شديدا فقال لأصحاب اليمين و هم كالذر يدبون: إلى الجنة و لا أبالي و قال لأصحاب الشمال: إلى النار و لا أبالي. ثم قال: أ لست بربكم؟ قالوا بلى شهدنا - أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين. الحديث.
و فيه، بإسناده عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله عز و جل: «فطرة الله التي فطر الناس عليها» ما تلك الفطرة؟ قال: هي الإسلام فطرهم الله حين أخذ ميثاقهم على التوحيد قال: أ لست بربكم؟ و فيه المؤمن و الكافر. و في تفسير العياشي، و خصائص السيد الرضي، عن الأصبغ بن نباتة عن علي (عليه السلام) قال: أتاه ابن الكواء فقال: أخبرني يا أمير المؤمنين عن الله تبارك و تعالى هل كلم أحدا من ولد آدم قبل موسى؟ فقال علي (عليه السلام) قد كلم الله جميع خلقه برهم و فاجرهم و ردوا عليه الجواب فثقل ذلك على ابن الكواء و لم يعرفه فقال له: كيف كان ذلك يا أمير المؤمنين؟ فقال له: أ و ما تقرأ كتاب الله إذ يقول لنبيه: «و إذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم - و أشهدهم على أنفسهم أ لست بربكم قالوا بلى» فقد أسمعهم كلامه و ردوا عليه الجواب كما تسمع في قول الله يا ابن الكواء «قالوا بلى» فقال لهم إني أنا الله لا إله إلا أنا و أنا الرحمن الرحيم فأقروا له بالطاعة و الربوبية، و ميز الرسل و الأنبياء و الأوصياء و أمر الخلق بطاعتهم فأقروا بذلك في الميثاق فقالت الملائكة عند إقرارهم بذلك شهدنا عليكم يا بني آدم أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين. أقول: و الرواية كما تقدم و بعض ما يأتي من الروايات يذكر مطلق أخذ الميثاق من بني آدم من غير ذكر إخراجهم من صلب آدم و إراءتهم إياه.
و كان تشبيههم بالذر كما في كثير من الروايات تمثيل لكثرتهم كالذر لا لصغرهم جسما أو غير ذلك، و لكثرة ورود هذا التعبير في الروايات سميت هذه النشأة بعالم الذر.
و في الرواية دلالة ظاهرة على أن هذا التكليم كان تكليما حقيقيا لا مجرد دلالة الحال على المعنى.
و فيما دلالة على أن الميثاق لم يؤخذ على الربوبية فحسب بل على النبوة و غير ذلك، و في كل ذلك تأييد لما قدمناه.
و في تفسير العياشي، عن رفاعة قال: سألت أبا عبد الله عن قول الله: «و إذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم» قال: نعم لله الحجة على جميع خلقه أخذهم يوم أخذ الميثاق هكذا و قبض يده. أقول: و ظاهر الرواية أنها تفسر الأخذ في الآية بمعنى الإحاطة و الملك.
و في تفسير القمي، عن أبيه عن ابن أبي عمير عن ابن مسكان عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله: «و إذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم - و أشهدهم على أنفسهم أ لست بربكم قالوا بلى» قلت: معاينة كان هذا؟ قال: نعم فثبتت المعرفة و نسوا الموقف و سيذكرونه و لو لا ذلك لم يدر أحد من خالقه و رازقه فمنهم من أقر بلسانه في الذر و لم يؤمن بقلبه فقال الله: «فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل». أقول: و الرواية ترد على منكري دلالة الآية على أخذ الميثاق في الذر تفسيرهم قوله: «و أشهدهم على أنفسهم أ لست بربكم» أن المراد به أنه عرفهم آياته الدالة على ربوبيته، و الرواية صحيحة و مثلها في الصراحة و الصحة ما سيأتي من رواية زرارة و غيره.
و في الكافي، عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن زرارة: أن رجلا سأل أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: و إذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم» إلى آخر الآية، فقال و أبوه يسمع: حدثني أبي. إن الله عز و جل قبض قبضة من تراب التربة التي خلق منها آدم فصب عليها الماء العذب الفرات ثم تركها أربعين صباحا ثم صب عليها الماء المالح الأجاج فتركها أربعين صباحا فلما اختمرت الطينة أخذها فعركها عركا شديدا فخرجوا كالذر من يمينه و شماله و أمرهم جميعا أن يقعوا في النار فدخلها أصحاب اليمين فصارت عليهم بردا و سلاما، و أبى أصحاب الشمال أن يدخلوها. أقول: و في هذا المعنى روايات أخر و كان الأمر بدخول النار كناية عن الدخول في حظيرة العبودية و الانقياد للطاعة.
و فيه، بإسناده عن عبد الله بن محمد الحنفي و عقبة جميعا عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن الله عز و جل خلق الخلق فخلق من أحب مما أحب فكان ما أحب أن خلقه من طينة الجنة، و خلق من أبغض مما أبغض و كان ما أبغض أن خلقه من طينة النار ثم بعثهم في الظلال فقيل: و أي شيء الظلال؟ قال: أ لم تر إلى ظلك في الشمس شيء و ليس بشيء ثم بعث معهم النبيين فدعوهم إلى الإقرار بالله و هو قوله: و لئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله، ثم دعوهم إلى الإقرار فأقر بعضهم و أنكر بعض، ثم دعوهم إلى ولايتنا فأقر بها و الله من أحب، و أنكرها من أبغض، و هو قوله: «و ما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل» ثم قال أبو جعفر (عليه السلام): كان التكذيب. أقول: و الرواية و إن لم تكن مما وردت في تفسير آية الذر غير أنا أوردناها لاشتمالها على قصة أخذ الميثاق، و فيها ذكر الظلال، و قد تكرر ذكر الظلال في لسان أئمة أهل البيت (عليهم السلام) و المراد به - كما هو ظاهر الرواية - وصف هذا العالم الذي هو بوجه عين العالم الدنيوي و بوجه غيره، و له أحكام غير أحكام الدنيا بوجه و عينها بوجه فينطبق على ما وصفناه في البيان المتقدم.
و في الكافي، و تفسير العياشي، عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): كيف أجابوا و هم ذر؟ قال: جعل فيهم ما إذا سألهم أجابوه. و زاد العياشي: يعني في الميثاق. أقول: و ما زاده العياشي من كلام الراوي، و ليس المراد بقوله «جعل فيهم ما إذا سألهم أجابوه» دلالة حالهم على ذلك بل لما فهم الراوي من الجواب ما هو من نوع الجوابات الدنيوية استبعد صدوره عن الذر فسأل عن ذلك فأجابه (عليه السلام) بأن الأمر هناك بحيث إذا نزلوا في الدنيا كان ذلك منهم جوابا دنيويا باللسان و الكلام اللفظي و يؤيده قوله (عليه السلام) ما إذا سألهم، و لم يقل: ما لو تكلموا و نحو ذلك.
و في تفسير العياشي، أيضا عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله: «أ لست بربكم» قالوا بألسنتهم؟ قال نعم و قالوا بقلوبهم. فقلت: و أين كانوا يومئذ؟ قال: صنع منهم ما اكتفى به. أقول: جوابه (عليه السلام) أنهم قالوا: بلى بألسنتهم و قلوبهم مبني على كون وجودهم يومئذ بحيث لو انتقلوا إلى الدنيا كان ذلك جوابا بلسان على النحو المعهود في الدنيا لكن اللسان و القلب هناك واحد، و لذلك قال (عليه السلام): نعم و بقلوبهم فصدق اللسان، و أضاف إليه القلب.
ثم لما كان في ذهن الراوي أنه أمر واقع في الدنيا و نشأة الطبيعة، و قد ورد في بعض الروايات التي تذكر قصة إخراج الذرية من ظهر آدم: تعيين المكان له و قد روى بعضها هذا الراوي أعني أبا بصير سأله (عليه السلام) عن مكانهم بقوله: و أين كانوا يومئذ، فأجابه (عليه السلام) بقوله: «صنع منهم ما اكتفى به» فلم يجبه بتعيين المكان بل بأن الله سبحانه خلقهم خلقا يصح معه السؤال و الجواب، و كل ذلك يؤيد ما قدمناه في وصف هذا العالم، الرواية كغيرها مع ذلك كالصريح في أن التكليم و التكلم في الآية على الحقيقة دون المجاز بل هي صريحة فيه.
و في الدر المنثور، أخرج عبد بن حميد و الحكيم الترمذي في نوادر الأصول و أبو الشيخ في العظمة و ابن مردويه عن أبي أمامة: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: خلق الله الخلق و قضى القضية، و أخذ ميثاق النبيين و عرشه على الماء، فأخذ أهل اليمين بيمينه، و أخذ أهل الشمال بيده الأخرى و كلتا يد الرحمن يمين فقال: يا أصحاب اليمين فاستجابوا له فقالوا: لبيك ربنا، و سعديك. قال: أ لست بربكم؟ قالوا: بلى قال: يا أصحاب الشمال فاستجابوا له فقالوا لبيك ربنا و سعديك قال: أ لست بربكم؟ قالوا: بلى. فخلط بعضهم ببعض فقال قائل منهم: رب لم خلطت بيننا؟ قال: و لهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون أن يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ثم ردهم في صلب آدم فأهل الجنة أهلها، و أهل النار أهلها. فقال قائل: يا رسول الله فما الأعمال؟ قال: يعمل كل قوم لمنازلهم. فقال عمر بن الخطاب: إذا نجتهد. أقول: قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) «و عرشه على الماء» كناية عن تقدم أخذ الميثاق، و ليس المراد به تقدم خلق الأرواح على الأجساد زمانا فإن عليه من الإشكال ما على عالم الذر بالمعنى الذي فهمه جمهور المثبتين، و قد تقدم.
و قوله: (صلى الله عليه وآله وسلم) «يعمل كل قوم لمنازلهم» أي إن كل واحد من المنزلين يحتاج إلى أعمال تناسبه في الدنيا فإن كان العامل من أهل الجنة عمل الخير لا محالة، و إن كان من أهل النار عمل الشر لا محالة، و الدعوة إلى الجنة و عمل الخير لأن عمل الخير يعين منزله في الجنة، و أن عمل الشر يعين منزله في النار لا محالة كما قال تعالى: «و لكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات»: البقرة: 148.
فلم يمنع تعين الوجهة عن الدعوة إلى استباق الخيرات، و لا منافاة بين تعين السعادة و الشقاوة بالنظر إلى العلل التامة و بين عدم تعينها بالنظر إلى اختيار الإنسان في تعيين عمله فإنه جزء العلة، و جزء علة الشيء لا يتعين معه وجود الشيء و لا عدمه بخلاف تمام العلة، و قد تقدم استيفاء هذا البحث في موارد من هذا الكتاب، و آخرها في تفسير قوله تعالى: «كما بدأكم تعودون فريقا هدى و فريقا حق عليهم الضلالة»: الأعراف: 30، و أخبار الطينة المتقدمة من أخبار هذا الباب بوجه.
و فيه، أخرج عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: «و إذ أخذ ربك من بني آدم» الآية قال: خلق الله آدم و أخذ ميثاقه أنه ربه، و كتب أجله و رزقه و مصيبته ثم أخرج ولده من ظهره كهيئة الذر فأخذ مواثيقهم أنه ربهم، و كتب آجالهم و أرزاقهم و مصائبهم. أقول: و قد روي هذا المعنى عن ابن عباس بطرق كثيرة في ألفاظ مختلفة لكن الجميع تشترك في أصل المعنى، و هو إخراج ذرية آدم من ظهره و أخذ الميثاق منهم.
و فيه، أخرج ابن عبد البر في التمهيد من طريق السدي عن أبي مالك و عن أبي صالح عن ابن عباس، و عن مرة الهمداني عن ابن مسعود و ناس من الصحابة في قوله تعالى: «و إذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم». قالوا: لما أخرج الله آدم من الجنة قبل تهبيطه من السماء مسح صفحة ظهره اليمنى فأخرج منه ذرية بيضاء مثل اللؤلؤ كهيئة الذر فقال لهم: ادخلوا الجنة برحمتي و مسح صفحة ظهره اليسرى فأخرج منه ذرية سوداء كهيئة الذر: فقال: ادخلوا النار و لا أبالي فذلك قوله: «أصحاب اليمين و أصحاب الشمال». ثم أخذ منهم الميثاق فقال: أ لست بربكم قالوا بلى فأعطاه طائفة طائعين، و طائفة كارهين على وجه التقية فقال هو و الملائكة: شهدنا أن يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو يقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل. قالوا: فليس أحد من ولد آدم إلا و هو يعرف الله أنه ربه و ذلك قوله عز و جل: «و له أسلم من في السموات و الأرض طوعا و كرها»، و ذلك قوله: «فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين» يعني يوم أخذ الميثاق. أقول: و قد روي حديث الذر كما في الرواية موقوفة و موصولة عن عدة من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كعلي (عليه السلام)، و ابن عباس، و عمر بن الخطاب، و عبد الله بن عمر، و سلمان، و أبي هريرة، و أبي أمامة، و أبي سعيد الخدري، و عبد الله بن مسعود، و عبد الرحمن بن قتادة، و أبي الدرداء، و أنس، و معاوية، و أبي موسى الأشعري.
كما روي من طرق الشيعة عن علي و علي بن الحسين و محمد بن علي و جعفر بن محمد و الحسن بن علي العسكري (عليهما السلام)، و من طرق أهل السنة أيضا عن علي بن الحسين و محمد بن علي و جعفر بن محمد (عليهما السلام) بطرق كثيرة فليس من البعيد أن يدعى تواتره المعنوي.
و في الدر المنثور، أيضا أخرج ابن سعد و أحمد عن عبد الرحمن بن قتادة السلمي و كان من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: إن الله تبارك و تعالى خلق آدم ثم أخذ الخلق من ظهره فقال: هؤلاء في الجنة و لا أبالي، و هؤلاء في النار و لا أبالي. فقال رجل: يا رسول الله فعلى ما ذا نعمل؟ قال: على مواقع القدر. أقول: القول في ذيل الرواية نظير القول في ذيل رواية أبي أمامة المتقدمة، و قد فهم الرجل من قوله «هؤلاء في الجنة و لا أبالي، و هؤلاء في النار و لا أبالي» الخبر سقوط الاختيار، فأجابه (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن هذا قدر منه تعالى و أن أعمالنا في عين أنا نعملها و هي منسوبة إلينا تقع على ما يقع عليه القدر فتنطبق على القدر و ينطبق هو عليها، و ذلك أن الله قدر ما قدر من طريق اختيارنا فنعمل نحن باختيارنا، و يقع مع ذلك ما قدره الله سبحانه لا أنه تعالى أبطل بالقدر اختيارنا، و نفي تأثير إرادتنا و الروايات بهذا المعنى كثيرة.
و في الكافي، عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن ابن أذينة عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله عز و جل: «حنفاء لله غير مشركين» قال: الحنفية من الفطرة التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله قال: فطرهم على المعرفة به. قال زرارة: و سألته عن قول الله عز و جل: «و إذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم - و أشهدهم على أنفسهم أ لست بربكم قالوا بلى» الآية قال: أخرج من ظهر آدم ذريته إلى يوم القيامة فخرجوا كالذر فعرفهم و أراهم نفسه، و لو لا ذلك لم يعرف أحد ربه. و قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): كل مولود يولد على الفطرة يعني على المعرفة بأن الله عز و جل خالقه، كذلك قوله: «و لئن سألتهم من خلق السموات و الأرض ليقولن الله». أقول: و روى وسط الحديث العياشي في تفسيره، عن زرارة بعين اللفظ، و فيه شهادة على ما تقدم من تقرير معنى الإشهاد و الخطاب في الآية خلافا لما ذكره النافون أن المراد بذلك المعرفة بالآيات الدالة على ربوبيته تعالى لجميع خلقه.
و قد روي الحديث في المعاني، بالسند بعينه عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) إلا أنه قال: فعرفهم و أراهم صنعه بدل قوله: فعرفهم و أراهم نفسه، و لعله من تغيير اللفظ قصدا للنقل بالمعنى زعما أن ظاهر اللفظ يوهم التجسم، و فيه إفساد اللفظ و المعنى جميعا، و قد عرفت أن الرواية مروية في الكافي، و تفسير العياشي، بلفظ: أراهم نفسه.
و تقدم في حديث ابن مسكان عن الصادق (عليه السلام) قوله: قلت معاينة كان هذا؟ قال: نعم. و قد تقدم أن لا ارتباط للكلام بمسألة التجسم.
و في المحاسن، عن الحسن بن علي بن فضال عن ابن بكير عن زرارة قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله: «و إذ أخذ ربك» الآية قال: ثبتت المعرفة في قلوبهم و نسوا الموقف، و يذكرونه يوما، و لو لا ذلك لم يدر أحد من خالقه و رازقه. و في الكافي، بإسناده عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان علي بن الحسين (عليهما السلام) لا يرى بالعزل بأسا، يقرأ هذه الآية: «و إذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم - و أشهدهم على أنفسهم أ لست بربكم قالوا بلى» فكل شيء أخذ الله من الميثاق فهو خارج و إن كان على صخرة صماء:. أقول: و رواه في الدر المنثور، عن ابن أبي شيبة و ابن جرير عنه (عليه السلام)، و روي هذا المعنى أيضا عن سعيد بن منصور و ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
و اعلم أن الروايات في الذر كثيرة جدا و قد تركنا إيراد أكثرها لوفاء ما أوردنا من ذلك بمعناها، و هنا روايات أخر في أخذ الميثاق عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و سائر الأنبياء (عليهم السلام) سنوردها في محلها إن شاء الله تعالى.
|