بيان
الكلام في الآيات جار على ما جرت عليه سائر آيات السورة من مواثيق النوع الإنساني و نقضها على الأغلب الأكثر.
قوله تعالى: «هو الذي خلقكم من نفس واحدة» إلى آخر الآيتين.
الكلام في الآيتين جار مجرى المثل المضروب لبني آدم في نقضهم موثقهم الذي واثقوه، و ظلمهم بآيات الله.
و المعنى «هو الذي خلقكم» يا معشر بني آدم «من نفس واحدة» هو أبوكم «و جعل منها» أي من نوعها «زوجها ليسكن» الرجل الذي هو النفس الواحدة «إليها» أي إلى الزوج التي هي امرأته «فلما تغشاها» و التغشي هو الجماع «حملت حملا خفيفا» و المحمول النطفة و هي خفيفة «فمرت به» أي استمرت الزوج بحملها تذهب و تجيء و تقوم و تقعد حتى نمت النطفة في رحمها و صارت جنينا ثقيلا أثقلت به الزوج «فلما أثقلت دعوا الله ربهما» و عاهداه و واثقاه «لئن آتيتنا» و رزقتنا ولدا «صالحا» يصلح للحياة و البقاء بكونه إنسانا سويا تام الأعضاء غير ذي عاهة و آفة فإن ذلك هو المرجو للولد حين ولادته و بدء نشوئه دون الصلاح الديني «لنكونن من الشاكرين» لك بإظهار نعمتك، و الانقطاع إليك في أمره لا نميل إلى سبب دونك، و لا نتعلق بشيء سواك.
«فلما آتاهما صالحا» كما سألاه و جعله إنسانا سويا صالحا للبقاء و قرت به أعينهما «جعلا له شركاء فيما آتاهما» من الولد الصالح حيث بعثتهما المحبة و الشفقة عليه أن يتعلقا بكل سبب سواه، و يخضعا لكل شيء دونه مع أنهما كانا قد اشترطا له أن يكونا شاكرين له غير كافرين لنعمته و ربوبيته فنقضا عهدهما و شرطهما.
و هكذا عامة الإنسان إلا من رحمة الله مهتمون بنقض مواثيقهم و خلف وعدهم، و عدم الوفاء بعهدهم مع الله «فتعالى الله عما يشركون».
و القصة - كما ترى - يمكن أن يراد بها بيان حال الأبوين من نوع الإنسان في استيلادهما الولد بالاعتبار العام النوعي فإن كل إنسان فإنه مولود أبويه فالكثرة الإنسانية نتيجة أبوين يولدان ولدا كما في قوله تعالى: «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر و أنثى و جعلناكم شعوبا و قبائل»: الحجرات: 13.
و الغالب على حال الأبوين و هما يحبان ولدهما و يشفقان عليه أن ينقطعا طبعا إلى الله في أمر ولدهما و إن لم يلتفتا إلى تفصيل انقطاعهما كما ينقطع راكب البحر إلى الله سبحانه إذا تلاطمت و أخذت أمواجها تلعب به ينقطع إلى ربه و إن لم يعبد ربا قط فإنما هو حال قلبي يضطر الإنسان إليه.
فللأبوين انقطاع إلى ربهما في أمر ولدهما لئن آتيتنا صالحا نرضاه لنكونن من الشاكرين فلما استجاب لهما و آتاهما صالحا جعلا له شركاء و تشبثا في حفظه و تربيته بكل سبب، و لاذا إلى كل كهف.
و يؤيد هذا الوجه قوله في ذيل الآية: «فتعالى الله عما يشركون» فإن المراد بالنفس و زوجها في صدر الكلام لو كان شخصين من الإنسان بعينهما كآدم و حواء مثلا كان من حق الكلام أن يقال: فتعالى الله عن شركهما أو عما أشركا.
على أنه تعالى يعقب هذه الآية بآيات أخر يذم فيها الشرك و يوبخ المشركين بما ظاهره أنه الشرك بمعنى عبادة غير الله، و حاشا أن يكون صفي الله آدم يعبد غير الله و قد نص الله سبحانه على أنه اجتباه و هداه، و نص على أن لا سبيل للضلال على من هداه الله و أي ضلال أضل من عبادة غير الله، قال تعالى: «ثم اجتباه ربه فتاب عليه و هدى»: طه: 122، و قال: «و من يهد الله فهو المهتد»: إسراء: 97، و قال: «و من أضل ممن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة»: الأحقاف: 5 و بذلك يظهر أن الضلال و الشرك غير منسوب إلى آدم و إن لم نقل بنبوته أو قلنا بها و لم نقل بعصمة الأنبياء (عليهم السلام) و إن أريد بالنفس و زوجها في القصة آدم و زوجته كان المراد بشركهما المذكور في الآية أنهما اشتغلا بتربية الولد و اهتما في أمره بتدبير الأسباب و العوامل، و صرفهما ذلك عن بعض ما لهما من التوجه إلى ربهما و الخلوص في ذلك، و من الدليل على ذلك قوله تعالى حكاية عنهما: «لنكونن من الشاكرين» و قد تقدم في تفسير أوائل هذه السورة في قوله: «و لا تجد أكثرهم شاكرين»: الآية: 17 أن الشاكرين في عرف القرآن هم المخلصون - بفتح اللام - الذين لا سبيل لإبليس عليهم و لا دبيب للغفلة في قلوبهم فالعتاب المتوجه إليهما في قوله: «فتعالى الله عما يشركون» إنما هو بالشرك بمعنى الاشتغال عن الله بغيره من الأسباب الكونية يوجه خلاف إخلاص القلب له تعالى.
لكن يبقى عليه إتيان قوله: «فتعالى الله عما يشركون» بصيغة الجمع، و تعقيبه بما ظاهره أنه الشرك بمعنى عبادة غير الله.
و ربما دفعه بعضهم بأن الآية في التخصيص أولا و التعميم ثانيا عكس قوله تعالى: «هو الذي يسيركم في البر و البحر حتى إذا كنتم في الفلك و جرين بهم بريح طيبة»: يونس 22 حيث خاطب أولا عامتهم بالتسيير ثم خص الكلام براكبي الفلك منهم خاصة، و الآية التي نحن فيها تخص أول القصة بآدم و زوجته فهما المعنيان بقوله: «هو الذي خلقكم من نفس واحدة و جعل منها زوجها» ثم انقضى حديث آدم و زوجته، و خص بالذكر المشركون من بني آدم الذين سألوا ما سألوا، و جعلوا له شركاء فيما آتاهم أي إن كل اثنين منهم يولدان ولدا هذا حالهما من العهد ثم النقض.
و فيه أن قوله: «هو الذي يسيركم» الآية محفوف بقرينة قطعية تدل على المراد و تزيل اللبس بخلاف التدرج من الخصوص إلى العموم في هذه الآية فإنه موقع في اللبس لا يصار إليه في الكلام البليغ، اللهم إلا أن يجعل قوله: «فتعالى الله عما يشركون» إلى آخر الآيات قرينة على ذلك.
و كيف كان فهذا الوجه كالمأخوذ من الوجهين الأولين بحمل صدر الآية على الوجه الثاني و ذيلها على الوجه الأول.
و ربما دفع الاعتراض السابق بأن في الكلام حذفا و إيصالا و التقدير: «فلما آتاهما أي آدم و حواء صالحا جعل أولادهما له شركاء» فحذف المضاف و هو الأولاد، و أقيم المضاف إليه و هو ضمير التثنية المدلول عليه في قوله: «جعلا مقامه».
و فيه أنه لا دليل عليه.
و ربما التزم بعض المفسرين الإشكال، و تسلم أن المراد بهما آدم و زوجته، و أنهما أشركا بالله عملا بروايات وردت في القصة عن بعضهم، و هي موضوعة أو مدسوسة مخالفة للكتاب لا سبيل إلى الأخذ بأمثالها.
قوله تعالى: «أ يشركون ما لا يخلق شيئا و هم يخلقون» إلى آخر الآيات الثلاث.
صدر الآيات و إن احتمل أن يكون المراد الشرك بالأصنام أو بسائر الأسباب غير الله، التي الاعتماد عليها نوع من الشرك لكن ذيلها ظاهر في أن المراد هو الشرك بالأصنام المتخذة آلهة و هي جماد لا يستطيع نصر من يعبدها و لا نصر أنفسها، و لا يشعر بشيء من الدعاء و عدمه.
قوله تعالى: «إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم - إلى قوله - يسمعون بها» احتجاج على مضمون الآيات الثلاث السابقة، و المعنى إنما قلنا إنهم مخلوقون لا يقدرون على شيء لأنهم عباد أمثالكم فكما أنكم مخلوقون مدبرون كذلك هم.
و الحجة عليه أنهم لا يستجيبون لكم إن دعوتموهم فادعوهم إن كنتم صادقين في دعواكم أن لهم علما و قدرة و إنما نسب إليهم دعوى كونهم ذوي علم و قدرة لما في دعوتهم من الدلالة على ذلك - و كيف يستجيبون لكم؟ و ليست ما عبأتم لهم من الأرجل و الأيدي ماشية و باطشة، و لا ما صورتم لهم من الأعين و الآذان مبصرة و سامعة لأنهم جمادات.
و في الآيات إطلاق العباد على الجمادات.
قوله تعالى: «قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون» إلى آخر الآيات ثم أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يكر عليهم على انتصارهم بأربابهم و آلهتهم بالتحدي و الإعجاز ليستبين سبيله من سبيلهم، و يظهر أن ربه هو الله الذي له كل العلم و القدرة، و أن أربابهم لا يملكون علما ليهتدوا به إلى شيء و لا قدرة لينصروهم في شيء.
فقال: قل لهم ادعوا شركاءكم لنصركم علي ثم كيدوني فلا تنظروني و لا تمهلوني إن ربي ينصرني و يدفع عني كيدكم فإنه الذي نزل الكتاب ليهدي به الناس، و هو يتولى الصالحين من عباده فينصرهم، و هو القائل: إن الأرض يرثها عبادي الصالحون و أنا من الصالحين فينصرني و لا محالة، و أما أربابكم الذين تدعون من دونه فلا يستطيعون نصركم و لا نصر أنفسهم و لا يسمعون و لا يبصرون فلا قدرة لهم و لا علم.
و في الآيات أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يخبرهم أنه من الصالحين و لم يعهد فيما يخبر به القرآن من صلاح الأنبياء مثل ذلك في غيره (صلى الله عليه وآله وسلم).
و فيها التحدي على الأصنام و عبدتهم كما تحدى بذلك غيره من الأنبياء (عليهم السلام).
بحث روائي
في العيون، بإسناده عن أبي الصلت الهروي عن الرضا (عليه السلام) في حديث: قال له المأمون: فما معنى قوله تعالى: «فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما» فقال الرضا (عليه السلام) إن حواء ولدت لآدم خمس مائة بطن في كل بطن ذكرا و أنثى، و إن آدم و حواء عاهدا الله تعالى و دعواه و قالا: لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين، فلما آتاهما صالحا من النسل خلقا سويا بريئا من الزمانة و العاهة كان ما آتاهما صنفين: صنفا ذكرانا و صنفا إناثا فجعل الصنفان لله تعالى ذكره شركاء فيما آتاهما، و لم يشكراه كشكر أبويهما له عز و جل قال المأمون: أشهد أنك ابن رسول الله حقا. أقول: مرجعه إلى بعض الوجوه السابقة في دفع ما أورد على الآية، و قد وردت في تفسير الآية عدة من الروايات مروية عن سمرة بن جندب و أبي و زيد و ابن عباس فيها أن آدم و حواء لم يكن يعيش لهما ولد فأمرهما الشيطان أو أمر حواء أن يسمياه عبد الحارث حتى يعيش - و كان الحارث اسمه في السماء - و في بعضها: عبد الشمس، و في بعضها: أنه خوفها أن تلد ناقة أو بقرة أو بهيمة أخرى، و شرط لها إن سمته عبد الحارث ولدت إنسانا سويا.
الأحاديث.
و هي موضوعة أو مدسوسة من الإسرائيليات.
و قد روي في المجمع، عن تفسير العياشي عنهم (عليهم السلام): أنه كان شركهما شرك طاعة و لم يكن شرك معصية، و ظاهره أنه جرى على ما يجري عليه تلك الأحاديث فحاله حالها و كيف يفرق بين الطاعة و العبادة و خاصة في مورد إبليس و قد قال تعالى: «أ لم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين و أن اعبدوني»: يس: 61 و مع ذلك فقد ذكر بعضهم أن هذه الروايات لا تدل على أزيد من الإشراك في التسمية، و ليس ذلك بكفر و لا معصية، و اختاره الطبري هذا.
|