بيان
الآيات ختام السورة، و فيها رجوع إلى ذكر معنى الغرض الذي نزلت فيه السورة ففيها أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالسيرة الحسنة الجميلة التي تميل إليها القلوب، و تسكن إليها النفوس، و أمره بالتذكر ثم بالذكر أخيرا.
قوله تعالى: «خذ العفو و أمر بالعرف و أعرض عن الجاهلين» الأخذ بالشيء هو لزومه أو عدم تركه فأخذ العفو ملازمة الستر على إساءة من أساء إليه، و الإغماض عن حق الانتقام الذي يعطيه العقل الاجتماعي لبعضهم على بعض.
هذا بالنسبة إلى إساءة الغير بالنسبة إلى نفسه و التضييع لحق شخصه، و أما ما أضيع فيه حق الغير بالإساءة إليه فليس مما يسوغ العفو فيه لأنه إغراء بالإثم و تضييع لحق الغير بنحو أشد، و إبطال للنواميس الحافظة للاجتماع، و يمنع عنه جميع الآيات الناهية عن الظلم و الإفساد و إعانة الظالمين و الركون إليهم بل جميع الآيات المعطية لأصول الشرائع و القوانين، و هو ظاهر.
فالمراد بقوله: «خذ العفو» هو الستر بالعفو فيما يرجع إلى شخصه (صلى الله عليه وآله وسلم)، و على ذلك كان يسير فقد تقدم في بعض الروايات المتقدمة في أدبه (صلى الله عليه وآله وسلم): أنه لم ينتقم من أحد لنفسه قط.
هذا على ما ذكره القوم أن المراد بالعفو ما يسارق المغفرة، و في بعض الروايات الآتية عن الصادق (عليه السلام) أن المراد به الوسط و هو أنسب بالآية و أجمع للمعنى من غير شائبة التكرار الذي يلزم من قوله: «و أعرض عن الجاهلين» على التفسير الأول.
و قوله: «و أمر بالعرف» و العرف هو ما يعرفه عقلاء المجتمع من السنن و السير الجميلة الجارية بينهم بخلاف ما ينكره المجتمع و ينكره العقل الاجتماعي من الأعمال النادرة الشاذة، و من المعلوم أن لازم الأمر بمتابعة العرف أن يكون نفس الآمر مؤتمرا بما يأمر به من المتابعة، و من ذلك أن يكون نفس أمره بنحو معروف غير منكر فمقتضى قوله: «و أمر بالعرف» أن يأمر بكل معروف، و أن لا يكون نفس الأمر بالمعروف على وجه منكر.
و قوله: «و أعرض عن الجاهلين» أمر آخر بالمداراة معهم، و هو أقرب طريق و أجمله لإبطال نتائج جهلهم و تقليل فساد أعمالهم فإن في مقابلة الجاهل بما يعادل جهله إغراء له بالجهل و الإدامة على الغي و الضلال.
قوله تعالى: «و إما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم» قال الراغب في المفردات،: النزغ دخول في أمر لأجل إفساده، قال: من بعد أن نزغ الشيطان بيني و بين إخوتي.
انتهى، و قيل: هو الإزعاج و الإغراء و أكثر ما يكون حال الغضب، و قيل: هو من الشيطان أدنى الوسوسة، و المعاني متقاربة، و أقربها من الآية هو الأوسط لمناسبته الآية السابقة الآمرة بالإعراض عن الجاهلين فإن مماستهم الإنسان بالجهالة نوع مداخلة من الشيطان لإثارة الغضب، و سوقه إلى جهالة مثله.
فيرجع معنى الآية إلى أنه لو نزغ الشيطان بأعمالهم المبنية على الجهالة و إساءتهم إليك ليسوقك بذلك إلى الغضب و الانتقام فاستعذ بالله إنه سميع عليم، و الآية مع ذلك عامة خوطب بها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و قصد بها أمته لعصمته.
قوله تعالى: «إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون» نحو تعليل للأمر في الآية السابقة و الطائف من الشيطان هو الذي يطوف حول القلب ليلقي إليه الوسوسة أو وسوسته التي تطوف حول القلب لتقع فيه و تستقر عليه، و «من» بيانية على الأول، و نشوئية على الثاني، و مآل المعنيين مع ذلك واحد، و التذكر تفكر من الإنسان في أمور لتهديه إلى نتيجة مغفول عنها أو مجهولة قبله.
و الآية بمنزلة التعليل للأمر بالاستعاذة في الآية السابقة، و المعنى استعذ بالله عند نزغة الشيطان فإن هذا طريق المتقين فهم إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا أن الله هو ربهم الذي يملكهم و يربيهم يرجع إليه أمرهم فارجعوا إليه الأمر فكفاهم مئونته، و دفع عنهم كيده، و رفع عنهم حجاب الغفلة فإذا هم مبصرون غير مضروب على أبصارهم بحجاب الغفلة.
فالآية - كما عرفت - في معنى قوله: «إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا و على ربهم يتوكلون»: النحل: 99.
و قد ظهر أيضا أن الاستعاذة بالله نوع من التذكر لأنها مبنية على أن الله سبحانه و هو ربه هو الركن الوحيد الذي يدفع هذا العدو المهاجم بما له من قوة، و أيضا الاستعاذة نوع من التوكل كما مر.
قوله تعالى: «و إخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون» كان الجملة حالية، و المراد بإخوانهم إخوان المشركين و هم الشياطين كما وقع قوله: «إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين»: الإسراء: 27 و الإقصار الكف و الانتهاء.
و المعنى: أن الذين اتقوا على هذا الحال من التذكر و الإبصار و الحال أن إخوان المشركين من الشياطين يمدون المشركين في غيهم و يعينونهم ثم لا يكفون عن مدهم و إعانتهم، أو لا يكف المشركون و لا ينتهون عن غيهم.
قوله تعالى: «و إذا لم تأتهم بآية قالوا لو لا اجتبيتها» إلى آخر الآية.
الاجتباء افتعال من الجباية، و قولهم: «لو لا اجتبيتها» كلام منهم جار مجرى التهكم و السخرية و المعنى على ما يعطيه السياق: أنك إذا أتيتهم بآية كذبوا بها و إذا لم تأتهم بآية كما لو أبطأت فيها قالوا: لو لا اجتبيت ما تسميه آية و جمعتها من هنا و هناك فأتيت بها «قل» ليس لي من الأمر شيء «و إنما أتبع ما إلي من ربي هذا» القرآن «بصائر من ربكم» يريد أن يبصركم بها «و هدى و رحمة لقوم يؤمنون».
قوله تعالى: «و إذا قرىء القرآن فاستمعوا له و أنصتوا لعلكم ترحمون» الإنصات السكوت مع استماع، و قيل: هو الاستماع مع سكوت يقال: أنصت الحديث و أنصت له أي استمع ساكتا، و أنصته غيره و أنصت الرجل أي سكت، فالمعنى: استمعوا للقرآن و اسكتوا.
و الآية بحسب دلالتها عامة و إن قيل: إنها نزلت في الصلاة جماعة.
قوله تعالى: «و اذكر ربك في نفسك تضرعا و خيفة و دون الجهر من القول» إلى آخر الآية.
قسم الذكر إلى ما في النفس و دون الجهر من القول: ثم أمر بالقسمين، و أما الجهر من القول في الذكر فمضرب عنه لا لأنه ليس ذكرا بل لمنافاته لأدب العبودية و يدل على ذلك ما ورد: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سار بأصحابه في بعض غزواته فدخلوا واديا موحشا و الليل داج فكان ينادي بعض أصحابه بالتكبير فنهاه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و قال: إنكم لا تدعون غائبا بعيدا.
و التضرع من الضراعة و هو التملق بنوع من الخشوع و الخضوع، و الخيفة بناء نوع من الخوف، و المراد به نوع من الخوف يناسب ساحة قدسه تعالى ففي التضرع معنى الميل إلى المتضرع إليه و الرغبة فيه و التقرب منه، و في الخيفة معنى اتقائه و الرهبة و التبعد عنه، فمقتضى توصيف الذكر بكونه عن تضرع و خيفة أن يكون بحركة باطنية إليه و منه كالذي يحب شيئا و يهابه فيدنو منه لحبه و يتبعد عنه لمهابته، و الله سبحانه و إن كان محض الخير لا شر فيه، و إنما الشر الذي يمسنا هو من قبلنا لكنه تعالى ذو الجلال و الإكرام له أسماء الجمال التي تدعوا إليه و تجذب نحوه كل شيء و له أسماء الجلال التي تقهر و تدفع عنه كل شيء فحق ذكره و هو الله له الأسماء الحسنى كلها أن يكون على ما يقتضيه مجموع أسمائه الجمالية و الجلالية، و هو أن يذكر تعالى تضرعا و خيفة، و رغبا و رهبا.
و قوله: «بالغدو و الآصال» ظاهره أنه قيد لقوله: «و دون الجهر من القول» فيكون الذكر القولي هو الموزع إلى الغدو و الآصال، و ينطبق على بعض الفرائض اليومية.
و قوله: «و لا تكن من الغافلين» تأكيد للأمر بالذكر في أول الآية و لم ينه تعالى عن أصل الغفلة، و إنما نهى عن الدخول في زمرة الغافلين، و هم الموصوفون بالغفلة الذين استقرت فيهم هذه الصفة.
و يتبين بذلك أن الذكر المطلوب المأمور به هو أن يكون الإنسان على ذكر من ربه حينا بعد حين، و يبادر إليه لو عرضت له غفلة منسية، و لا يدع الغفلة تستقر في نفسه، و في الآية التالية: دلالة على ذلك على ما سيجيء.
فمحصل الآية: الأمر بالاستمرار على ذكر الله في النفس تضرعا و خيفة حينا بعد حين، و ذكره بالقول دون الجهر بالغدو و الآصال.
قوله تعالى: «إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته و يسبحونه و له يسجدون» ظاهر السياق أنه في موضع التعليل للأمر الواقع في الآية السابقة فيكون المعنى: اذكر ربك كذا و كذا فإن الذين عند ربك كذلك أي اذكر ربك كذا لتكون من الذين عند ربك و لا تخرج من زمرتهم.
و يتبين بذلك أن المراد بقوله: «الذين عند ربك» ليس هم الملائكة فقط - على ما فسره كثير من المفسرين - إذ لا معنى لقولنا: اذكر ربك كذا لأن الملائكة يذكرونه كذلك بل مطلق المقربين عنده تعالى على ما يفيده لفظ: «عند ربك» من الحضور من غير غيبة.
و يظهر من الآية أن القرب من الله إنما هو بذكره، فبه يرتفع الحجاب بينه و بين عبده، و إلا فجميع الأشياء متساوية في النسبة إليه من غير اختلاف بينها بقرب أو بعد أو غير ذلك.
و قوله: «لا يستكبرون عن عبادته و يسبحونه و له يسجدون» فيه أمور ثلاثة يتصف بها الذكر النفسي كما يتصف بها الذكر القولي فإن للنفس أن تتصف بحال عدم الاستكبار، و بحال تنزيهه تعالى، و بحال السجدة و كمال الخشوع له كما يتصف بها الذكر القولي و يعنون بها العمل الخارجي، فليس التسبيح و السجود مما يختص بالأعضاء من لسان و غيره كما يدل عليه قوله: «و إن من شيء إلا يسبح بحمده»: إسراء: 44، و قوله: «و النجم و الشجر يسجدان»: الرحمن: 6، و قوله: «و لله يسجد ما في السماوات و ما في الأرض»: النحل: 49.
و ما في الآية من توصيف القوم بعدم الاستكبار و التسبيح و السجود أخف و أهون مما يشتمل عليه قوله تعالى: «و من عنده لا يستكبرون عن عبادته و لا يستحسرون يسبحون الليل و النهار لا يفترون»: الأنبياء: 20 و قوله: «فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل و النهار و هم لا يسأمون»: حم السجدة: 38 فإن هذه الآيات ظاهرها الاستمرار الذي لا يتخلله عدم، و لا يتوسطه مناف، و الآية التي نبحث عنها لم يأمر إلا بما لا تثبت معه الغفلة في النفس كما عرفت.
فهذه الآية تأمر بمرتبة من الذكر هي دون ما تتضمنه آيات سورتي الأنبياء و حم السجدة و الله العالم.
بحث روائي
في تفسير العياشي، عن الحسن بن علي بن النعمان عن أبيه عمن سمع أبا عبد الله (عليه السلام) و هو يقول: إن الله أدب رسوله فقال: يا محمد خذ العفو و أمر بالعرف و أعرض عن الجاهلين قال: خذ منهم ما ظهر و ما تيسر، و العفو الوسط. و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن أنس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن مكارم الأخلاق عند الله أن تعفو عمن ظلمك و تصل من قطعك، و تعطي من حرمك. ثم تلا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «خذ العفو و أمر بالعرف - و أعرض عن الجاهلين». أقول: و في هذا المعنى روايات كثيرة مروية عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من طرق أهل السنة.
و فيه، أخرج ابن أبي الدنيا في مكارم الأخلاق عن إبراهيم بن أدهم قال: لما أنزل الله «خذ العفو و أمر بالعرف و أعرض عن الجاهلين» قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أمرت أن آخذ العفو من أخلاق الناس. و فيه، أخرج ابن جرير عن ابن زيد قال: لما نزلت: «خذ العفو و أمر بالعرف و أعرض عن الجاهلين» قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): كيف يا رب و الغضب؟ فنزل: «و إما ينزغنك من الشيطان نزغ» الآية. أقول: و في الرواية شيء، و يمكن أن يوجه بما قدمناه في الآية.
و في تفسير القمي،: في الآية قال: إن عرض في قلبك منه شيء و وسوسة فاستعذ بالله إنه سميع عليم. و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقرأ: «إذا مسهم طائف» بالألف. و في الكافي، بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله عز و جل: «إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا - فإذا هم مبصرون» قال: هو العبد يهم بالذنب ثم يتذكر فيمسك، فذلك قوله: «تذكروا فإذا هم مبصرون»: أقول: و رواه العياشي عن أبي بصير، و علي بن أبي حمزة، و زيد بن أبي أسامة عنه (عليه السلام)، و لفظ الأولين: هو الرجل يهم بالذنب ثم يتذكر فيدعه، و لفظ الأخير: هو الذنب يهم به العبد فيتذكر فيدعه، و في معناه روايات أخر.
و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: صلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقرأ خلفه قوم فنزلت: «و إذا قرىء القرآن فاستمعوا له و أنصتوا». أقول: و في ذلك عدة روايات من طرق أهل السنة و في بعضها: أنهم كانوا يتكلمون خلفه و هم في الصلاة فنزلت، و في بعضها: أنه كان فتى من الأنصار، و في بعضها رجل.
و في المجمع، بعد ذكر القول: إن الآية نزلت في الصلاة جماعة خلف الإمام: قال: و روي ذلك عن أبي جعفر (عليه السلام). و فيه، و روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: يجب الإنصات للقرآن في الصلاة و غيرها:. أقول: و رواه العياشي عن زرارة عنه (عليه السلام)، و في آخره: و إذا قرىء عندك القرآن وجب عليك الإنصات و الاستماع. و فيه، عن عبد الله بن أبي يعفور عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: الرجل يقرأ القرآن و أنا في الصلاة هل يجب على الإنصات و الاستماع؟ قال: نعم إذا قرىء القرآن وجب عليك الإنصات و الاستماع. و في تفسير العياشي، عن أبي كهمش عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال قرأ ابن الكواء خلف أمير المؤمنين (عليه السلام): «لئن أشركت ليحبطن عملك و لتكونن من الخاسرين» فأنصت أمير المؤمنين (عليه السلام). أقول: و الروايات في غير صورة قراءة الإمام محمولة على الاستحباب و تمام البحث في الفقه.
و في الدر المنثور، أخرج الحكيم الترمذي عن عمر بن الخطاب قال: أتاني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و أنا أعرف الحزن في وجهه فأخذ بلحيتي فقال: إنا لله و إنا إليه راجعون أتاني جبرئيل آنفا فقال: إنا لله و إنا إليه راجعون قلت: أجل فإنا لله و إنا إليه راجعون فمم ذاك يا جبرئيل؟ فقال: إن أمتك مفتتنة بعدك بقليل من الدهر غير كثير. قلت: فتنة كفر أو فتنة ضلالة؟ قال: كل ذلك سيكون. قلت: و من أين ذاك و أنا تارك فيهم كتاب الله؟ قال: بكتاب الله يضلون، و أول ذلك من قبل قرائهم و أمرائهم يمنع الأمراء الناس حقوقهم فلا يعطونها فيقتتلون، و تتبع القراء أهواء الأمراء فيمدونهم في الغي ثم لا يقصرون. قلت يا جبرئيل فبم يسلم من سلم منهم فقال: بالكف و الصبر إن أعطوا الذي لهم أخذوه و إن منعوه تركوه. و في تفسير القمي،: في معنى قوله: إن الذين عند ربك الآية، يعني الأنبياء و الرسل و الأئمة. تم و الحمد الله.
|