بيان
الآية الأولى تفريع و استخراج من الخطاب العام الأخير المصدر بقوله: «يا بني آدم» نظير التفريعات المذكورة لسائر الخطابات العامة السابقة، و ما يتلوها بيان لما يستتبعه الكذب على الله و تكذيب آياته من سوء العاقبة، و الإيمان بالله و العمل الصالح من السعادة الخالدة إلا آيتين من آخرها فإن فيهما رجوعا إلى أول الكلام و بيانا لتمام الحجة عليهم بنزول الكتاب.
قوله تعالى: «فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته» تفريع على ما تتضمنه الآية السابقة من إعلام الشريعة العامة المبلغة بواسطة الرسل أي إذا كان الأمر على ذلك و قد أبلغ الله دينه العام جميع أولاد آدم و أخبر بما أعده من الجزاء للأخذ به و تركه فمن أظلم ممن استنكف عن ذلك إما بافتراء الكذب على الله، و نسبة دين إليه، و وضعه موضع ما أتى به الرسل من دين التوحيد، و قد أخبر الله أنهم وسائط بينه و بين خلقه في تبليغهم دينه، و إما بالتكذيب لآياته الدالة على وحدانيته و ما يتبعه من الشرائع.
و من هنا يظهر أن افتراء الكذب على الله و إن كان يعم كل بدعة في الدين أصوله و فروعه غير أن المورد هو الشرك بالله باتخاذ آلهة دون الله، و يدل عليه ما سيأتي من قوله: «قالوا أين ما كنتم تدعون من دون الله».
قوله تعالى: «أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب حتى إذا جاءتهم رسلنا» إلى آخر الآية.
المراد بالكتاب ما قضي و كتب أن يصيب الإنسان من مقدرات الحياة من عمر و معيشة و غنى و صحة و مال و ولد و غير ذلك، و الدليل عليه تقييده بقوله: «حتى إذا جاءتهم رسلنا» إلخ، و المراد به أجل الموت، و من المعلوم أنه غاية للحياة الدنيا بجميع شئونها و مقارناتها.
و المراد بالنصيب من الكتاب السهم الذي يختص كل واحد منهم من مطلق ما كتب له و لغيره، و في جعل النصيب من الكتاب هو الذي ينالهم، و الأمر منعكس بحسب الظاهر دلالة على أن النصيب الذي فرض للإنسان و قضي له من الله سبحانه لم يكن ليخطئه البتة و ما لم يفرض له لم يكن ليصيبه البتة.
و المعنى: أولئك الذين كذبوا على الله بالشرك أو كذبوا بآياته بالرد لجميع الدين أو شطر منه ينالهم نصيبهم من الكتاب، و نصيبهم ما قضي في حقهم من الخير و الشر في الحياة الدنيا حتى إذا قضوا أجلهم و جاءتهم رسلنا من الملائكة و هم ملك الموت و أعوانه نزلوا عليهم و هم يتوفونهم و يأخذون أرواحهم و نفوسهم من أبدانهم سألوهم و قالوا: أين ما كنتم تدعون من دون الله من الشركاء الذين كنتم تدعون أنهم شركاء الله فيكم و شفعاؤكم عنده؟ قالوا ضلوا عنا و إنما ضلت أوصافهم و نعوتهم، و شهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين بمعاينة حقيقة الأمر أن غير الله سبحانه لا ينفع و لا يضر شيئا، و قد أخطئوا في نسبة ذلك إلى أوليائهم.
و في مضمون الآية جهات من البحث تقدمت في نظيرة الآية من سورة الأنعام و غيرها.
قوله تعالى: «قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن و الإنس» الخطاب من الله سبحانه دون الملائكة و إن كانوا في وسائط في التوفي و غيره، و المخاطبون بحسب سياق اللفظ هم بعض الكفار و هم الذين توفيت قبلهم أمم من الجن و الإنس إلا أن الخطاب في معنى: ادخلوا فيما دخل فيه سابقوكم و لاحقوكم و إنما نظم الكلام هذا النظم ليتخلص به إلى ذكر التخاصم الذي يقع بين متقدميهم و متأخريهم، و قد قال تعالى: «إن ذلك لحق تخاصم أهل النار»: ص: 64.
و في الآية دلالة على أن من الجن أمما يموتون بآجال خاصة قبل انتهاء أمد الدنيا على خلاف إبليس الباقي إلى يوم الوقت المعلوم.
قوله تعالى: «كلما دخلت أمة لعنت أختها» هذا من جملة خصامهم في النار و هو لعن كل داخل من تقدم عليه في الدخول، و اللعن هو الإبعاد من الرحمة و من كل خير و الأخت المثل.
قوله تعالى: «حتى إذا اداركوا فيها جميعا» إلى آخر الآيتين، اداركوا أي تداركوا أي أدرك بعضهم بعضا اللاحقون السابقين أي اجتمعوا في النار جميعا.
و المراد بالأولى و الأخرى اللتين تتخاصمان ما هو كذلك بحسب الرتبة أو بحسب الزمان فإن الأولى منهم مقاما و هم رؤساء الضلال، و أئمة الكفر المتبوعون أعانوا تابعيهم بإضلالهم على الضلال، و كذا الأولى منهم زمانا و هم الأسلاف المتقدمون أعانوا متأخريهم على ضلالتهم لأنهم هم الذين جرءوهم بفتح الباب لهم و تمهيد الطريق لسلوكهم.
و الضعف بالكسر فالسكون ما يكرر الشيء فضعف الواحد اثنان و ضعف الاثنين أربعة غير أنه ربما أريد به ما يوجب تكرار شيء آخر فقط كالاثنين يوجب بنفسه تكرار الواحد فضعف الواحد اثنان و ضعفاه أربعة، و ربما أريد به ما يوجب التكرار بانضمامه إلى شيء كالواحد يوجب تكرار واحد آخر بانضمامه إليه لأنهما يصيران بذلك اثنين فكل واحد من جزئي الاثنين ضعف و هما جميعا ضعفان نظير الزوج فالاثنان زوج و هما زوجان و على كلا الاعتبارين ورد استعماله في كلامه تعالى، قال تعالى كما في هذه الآية «فآتهم عذابا ضعفا» و قال تعالى: «ضعفين من العذاب».
و قوله: «قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا» إلخ، نوع من الالتفات لطيف في بابه فيه رجوع من مخاطبتهم بالمخاصمة إلى مخاطبة الله سبحانه بالدعاء عليهم معللا بظلمهم فيفيد فائدة التكنية بالإشارة إلى الملزوم و إفادة الملازمة، و فيه مع ذلك نوع من الإيجاز فإن فيه اكتفاء بمحاورة واحدة عن محاورتين، و التقدير قالت أخراهم لأولاهم أنتم أشد ظلما منا لأنكم ضالون في أنفسكم و قد أضللتمونا فليعذبكم الله عذابا ضعفا من النار، ثم رجعوا إلى ربهم بالدعاء عليهم و قالوا ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا... إلخ، فأجابهم الله و قال لكل ضعف و لكن لا تعلمون، ثم أجابتهم أولاهم و قالوا: فما كان لكم علينا من فضل إلخ.
فمعنى الآية: «حتى إذا اداركوا» و اجتمعوا بلحوق أخراهم لأولاهم «فيها» أي في النار تخاصموا «و قالت أخراهم» و هم اللاحقون مرتبة أو زمانا من التابعين «لأولاهم» و هم الملحوقون المتبوعون من رؤسائهم و أئمتهم، و من آبائهم و الأجيال السابقة عليهم زمانا الممهدين لهم الطريق إلى الضلال أنتم أضللتمونا بإعانتكم عليه فلتعذبوا بأشد من عذابنا فسألوا ربهم ذلك و قالوا: «ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار» يكون ضعف عذابنا لأنهم ضلوا في أنفسهم و أضلوا غيرهم بالإعانة «قال» الله سبحانه «لكل» من الأولى و الأخرى «ضعف من العذاب» أما أولاكم فإنهم ضلوا و أعانوكم على الضلال، و أما أنتم فإنكم ضللتم و أعنتموهم على الإضلال باتباع أمرهم و إجابة دعوة الرؤساء منهم، و تكثير سواد السابقين منهم باللحوق بهم «و لكن لا تعلمون» فإن العذاب إنما يتحقق أو يتم في مرحلة الإدراك و العلم.
و أنتم تشاهدونهم أمثال أنفسكم في شمول العذاب و إحاطة النار فتتوهمون أن عذابهم مثل عذابكم و ليس كذلك بل لهم من العذاب ما لا طريق لكم إلى إدراكه و الشعور به كما أنهم بالنسبة إليكم كذلك فما عندكم و عندهم من العذاب ضعف و لكن إحاطة العذاب شغلكم عن العلم بذلك.
و هذا خطاب إلهي مبني على القهر و الإذلال فيه تعذيب لهم يسمعه أولاهم و أخراهم جميعا فتعود به أولاهم لأخراهم بالتهكم و تقول كما حكى الله: «و قالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل» بخفة العذاب «فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون» في الدنيا من الذنوب و الآثام.
قوله تعالى: «إن الذين كذبوا بآياتنا و استكبروا عنها لا تفتح لهم» إلى آخر الآية.
السم هو الثقب و جمعه السموم، و الخياط و المخيط الإبرة.
و الذي نفاه الله تعالى من تفتيح أبواب السماء مطلق في نفسه يشمل الفتح لولوج أدعيتهم و صعود أعمالهم و دخول أرواحهم غير أن تعقيبه بقوله: «و لا يدخلون الجنة» إلخ، كالقرينة على أن المراد نفي أن يفتح بابها لدخولهم الجنة فإن ظاهر كلامه سبحانه أن الجنة في السماء كما هو في قوله: «و في السماء رزقكم و ما توعدون»: الذاريات: 22.
و قوله: «حتى يلج الجمل في سم الخياط» من التعليق بالمحال و إنما يعلق الأمر بالمحال كناية عن عدم تحققه و إياسا من وجوده كما يقال: لا أفعل كذا حتى يشيب الغراب و يبيض الفأر، و قد قال تعالى في موضع آخر في هذا المعنى: «و ما هم بخارجين من النار»: البقرة: 167، و الآية في معنى تعليل مضمون الآية السابقة، و الباقي ظاهر.
قوله تعالى: «لهم من جهنم مهاد و من فوقهم غواش» إلخ.
جهنم اسم من أسماء نار الآخرة التي بها التعذيب، و قد قيل: إنه مأخوذ من قولهم «بئر جهنام» أي بعيدة القعر و قيل: فارسي معرب، و المهاد الوطاء الذي يفترش، و منه مهد الصبي و الغواشي جمع غاشية و هي ما يغشى الشيء و يستره و منه غاشية السرج.
و قد أفيد بقوله: «لهم من جهنم مهاد و من فوقهم غواش» أنهم محاطون بالعذاب من تحتهم و من فوقهم، و الباقي ظاهر.
قوله تعالى: «و الذين آمنوا و عملوا الصالحات لا نكلف نفسا إلا وسعها» إلخ.
الآية و ما يتلوها لتتميم بيان حال الطائفتين الكفار و المؤمنين، و لتكون كالتوطئة لقوله الآتي: «و نادى أصحاب الجنة أصحاب النار» إلخ.
و قوله: «لا نكلف نفسا إلا وسعها» مسوق للتخفيف و تقوية الرجاء في قلوب المؤمنين فإن تقييد الإيمان بعمل الصالحات - و الصالحات جمع محلى باللام و هو يفيد الاستغراق - يفيد بظاهره لزوم العمل بجميع الصالحات حتى لا يشذ عنها شاذ، و ما أقل من وفق لذلك من طبقة أهل الإيمان و يسد ذلك باب الرجاء على أكثر المؤمنين فذكر الله سبحانه أن التكليف على قدر الوسع فمن عمل من الصالحات ما وسعه أن يعمله من غير أن يشق على نفسه و يتحمل ما لا طاقة له به بعد الإيمان بالله فهو من أهل هذه الآية، و من أصحاب الجنة هم فيها خالدون.
قوله تعالى: «و نزعنا ما في صدورهم من غل تجري من تحتهم الأنهار» الغل هو الحقد و ضغن القلوب و عداوتها، و في مادتها معنى التوسط باللطف و الحيلة و منه الغلالة و هي الثوب المتوسط بين الدثار و الشعار، و غل الصدور من أعظم ما ينغص عيش الإنسان، و ما من إنسان يعاشر إنسانا و يأتلف به إلا و ائتلافه مشروط بأن يوافقه فيما يراه و يريده فإذا شاهد من حاله ما لا يرتضيه جأش صدره بالغل و راحت الألفة و تنغصت العيشة فإذا ذهب الله سبحانه بغل الصدور لم يسؤ الإنسان ما يشاهده من أليفه على الإطلاق و هي اللذة الكبرى و في قوله: «تجري من تحتهم الأنهار» إشارة إلى أنهم ساكنون في قصورها العالية.
قوله تعالى: «و قالوا الحمد لله الذي هدانا - إلى قوله - بالحق» في نسبة التحميد إليهم دلالة على أن الله سبحانه يخلصهم لنفسه فلا يوجد عندهم اعتقاد باطل و لا عمل سيء كما قال تعالى: «لا يسمعون فيها لغوا و لا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما»: الواقعة 26، فيصح منهم تحميد الله سبحانه و يقع توصيفهم موقعه فليس توصيفه تعالى بحيث يصيب غرضه و يقع موقعه بذلك المبتذل حتى يناله كل نائل، قال تعالى: «سبحان الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصين»: الصافات: 160، و قد تقدم القول في معنى الحمد و خصوصية حمده تعالى في تفسير سورة الحمد.
و في قولهم: «هدانا لهذا و ما كنا لنهتدي لو لا أن هدانا الله» إشارة إلى اختصاص الهداية به تعالى فليس إلى الإنسان من الأمر شيء.
و في قولهم: «لقد جاءت رسل ربنا بالحق» اعتراف بحقية ما وعدهم الله تعالى بلسان أنبيائه، و هو الذي يأخذون الاعتراف به من أصحاب النار على ما تقصه الآية التالية، و في هذا الاعتراف و سائر الاعترافات المأخوذة من الفريقين يوم القيامة من قبل مصدر العظمة و الكبرياء ظهور منه تعالى بالقهر و تمام الربوبية، و يكون ذلك من أهل الجنة شكرا، و من أهل النار تماما للحجة.
و اعتراف أهل الجنة بحقية ما وعدهم الله سبحانه بواسطة رسله هو من الحقائق العالية القرآنية و إن كان بحسب ساذج النظر معنى بسيطا مبتذلا، و لعلنا نوفق لشطر من البحث فيه في ذيل الكلام على هذه الآيات.
قوله تعالى: «و نودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون» في الإشارة بلفظ البعيد - تلكم - إشارة إلى رفعة قدر الجنة و علو مكانها فإن ظاهر السياق - كما قيل - إن النداء إنما هو حين كونهم في الجنة، و قد جعلت الجنة إرثا لهم في قبال عملهم.
و إنما يتحقق الإرث فيما إذا كان هناك مال أو نحوه مما ينتفع به و هو في معرض انتفاع شخص ثم زال عنه الشخص فبقي لغيره يقال: ورث فلان أباه أي مات و ترك مالا بقي له، و العلماء ورثة الأنبياء أي مختصون بما تركوا لهم من العلم، و يرث الله الأرض أي إنه كان خولهم ما بها من مال و نحوه و سوف يموتون فيبقى له ما خولهم.
و على هذا فكون الجنة إرثا لهم أورثوها معناه كونها خلقت معروضة لأن يكسبها بالعمل المؤمن و الكافر جميعا غير أن الكافر زال عنها بشركه و معاصيه فتركها فبقيت للمؤمن فهو الوارث لها بعمله، و لو لا عمله لم يرثها، قال تعالى: «أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس»: المؤمنون: 11.
و قال تعالى: حكاية عن أهل الجنة: «الحمد لله الذي صدقنا وعده و أورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء»: الزمر: 74.
و هذا أوضح مما ذكره الراغب في المفردات، إذ قال: الوراثة و الإرث انتقال قنية إليك عن غيرك من غير عقد و لا ما يجري مجرى العقد، و سمي بذلك المنتقل عن الميت فيقال للقنية الموروثة ميراث و إرث و تراث فقلبت الواو ألفا و تاء قال: و تأكلون التراث، و قال (عليه السلام): اثبتوا على مشاعركم فإنكم على إرث أبيكم أي أصله و بقيته.
قال الشاعر: فنظر في صحف كالرباط.
فيهن إرث كتاب محي.
قال: و يقال لكل من حصل له شيء من غير تعب: قد ورث كذا و يقال لكل من خول شيئا مهنئا: أورث، قال تعالى: تلك الجنة التي أورثتموها، أولئك هم الوارثون الذين يرثون.
و قوله: و يرث من آل يعقوب فإنه يعني وراثة النبوة و العلم و الفضيلة دون المال فالمال لا قدر له عند الأنبياء حتى يتنافسوا فيه بل قلما يقتنون المال و يملكونه أ لا ترى أنه قال (عليه السلام): «إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة» نصب على الاختصاص فقد قيل: ما تركناه هو العلم و هو صدقة يشترك فيها الأمة، و ما روي عنه (عليه السلام) من قوله: «العلماء ورثة الأنبياء» فإشارة إلى ما ورثوه من العلم و استعمل لفظ الورثة لكون ذلك بغير ثمن و لا منة،: و قال لعلي رضي الله عنه: أنت أخي و وارثي. قال: و ما إرثك؟ قال: ما ورثت الأنبياء قبلي كتاب الله و سنتي، و وصف الله تعالى نفسه بأنه الوارث من حيث إن الأشياء كلها صائرة إلى الله تعالى انتهى كلامه.
و إنما كان ما قدمناه أوضح مما ذكره لصعوبة إرجاع ما ذكره من المعاني إلى أصل واحد هو معنى المادة.
قوله تعالى: «و نادى أصحاب الجنة أصحاب النار» إلى آخر الآية.
هذا في نفسه أخذ اعتراف من أصحاب النار بتوسط أصحاب الجنة و واقع موقع التهكم و السخرية يتهكم و يسخر به أصحاب الجنة من أصحاب النار.
و الاستهزاء و السخرية إنما يكون من اللغو الباطل إذا لم يتعلق به غرض حق كالاستهزاء بالحق و أهله أما إذا كان لغرض المقابلة و المجاراة أو لغرض آخر حق من غير محذور فليس من قبيل اللغو الذي لا يصدر عن أهل الجنة قال تعالى حكاية عن نوح (عليه السلام): «و يصنع الفلك و كلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون»: هود: 38، و قال: «إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون و إذا مروا بهم يتغامزون - إلى أن قال - فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون»: المطففين: 34.
و أما الفرق بين قولهم: «ما وعدنا ربنا» و قولهم: «ما وعد ربكم» حيث ذكر المفعول في الوعد الأول دون الثاني فلعل ذلك للدلالة على نوع من التشريف فإن الظاهر أن المراد بما وعد الله جميع ما وعده من الثواب و العقاب لعامة الناس.
و هناك وجه آخر و هو أن متعلق اعتراف المؤمنين و إنكار الكفار من أمر المعاد مختلف في الدنيا فإن المؤمنين يثبتون البعث بجميع خصوصياته التي بينها الله لهم و وعدها إياهم، و أما الكفار المنكرون فإنهم ينكرون أصل البعث الذي اشترك في الوعد به المؤمنون و الكفار جميعا، و لذلك احتج الله سبحانه و يتم الحجة عليهم بأصله دون خصوصياته كقوله تعالى: «و لو ترى إذ وقفوا على ربهم قال أ ليس هذا بالحق قالوا بلى و ربنا»: الأنعام: 30، و قوله: «و يوم يعرض الذين كفروا على النار أ ليس هذا بالحق قالوا بلى و ربنا»: الأحقاف: 34.
و على هذا فقولهم: «أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا» اعتراف منهم بحقية ما وعدهم الله و كانوا يذعنون به و يشهدون من جميع خصوصيات البعث بما قصهم الله في الدنيا بلسان أنبيائه، و أما الكفار فقد كانوا ينكرون أصل البعث و العذاب، و هو مما يشتركون فيه هم و المؤمنون فلذا قيل: «فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا» و لم يقل ما وعدكم ربكم لأن الوعد بأصل البعث و العذاب لم يكن مختصا بهم.
و بذلك يظهر الجواب عما قيل: إن الوفاء بالوعد واجب دون الوفاء بالوعيد على ما ذكره المتكلمون فما معنى أخذ الاعتراف بحقية ما ذكره الله من عقاب الكفار و المجرمين و أنذرهم به في الدنيا، و ليس تحققه بلازم.
و ذلك أن الملاك فيما ذكروه من الفرق أن الثواب حق العامل على ولي الثواب الذي بيده الأمر، و العقاب حق الولي المثيب على العامل، و من الجائز أن يصرف الشخص نظره عن إعمال حق نفسه لكن لا يجوز إبطال حق الغير فإنجاز الوعد واجب دون إنجاز الوعيد، و هذا إنما يتم في موارد الوعيد الخاصة و مصاديقه في الجملة، و أما عدم إنجاز أصل العقاب على الذنب و إبطال أساس المجازاة على التخلف فليس كذلك إذ في إبطاله إبطال التشريع من أصله و إخلال النظام العام.
و ربما وجه الفرق في قوليه: «وعدنا ربنا» «وعد ربكم» بأن المراد بقوله: «وعدنا» ما وعد الله المتقين من خصوصيات ما يعاملهم به يوم القيامة، و بقوله: «وعد ربكم» عموم ما وعد به المؤمنين و الكفار من الثواب و العقاب يوم القيامة كالذي في قوله: «إما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي» إلى آخر الآيتين.
و من المعلوم أن هذا الوعد لا يختص بالكفار حتى يقال: وعدكم ربكم بل التعبير الحق وعد ربكم.
و فيه: أن أصل الفرق لا بأس به لكنه لا يقطع السؤال فللسائل أن يعود فيقول ما هو السبب الفارق في أن أصحاب الجنة لما أوردوا اعتراف نفسهم اقتصروا بذكر ما يخصهم من أمور يوم القيامة، و أما إذا سألوا أصحاب النار سألوهم عن جميع ما وعد الله به المؤمنين و الكفار؟ و بعبارة أخرى هناك ما يشترك فيه الطائفتان و ما يختص به كل منهما فما بالهم إذا اعترفوا هم أنفسهم اعترفوا بما يختص بأنفسهم و يسألون أصحاب النار الاعتراف بما يشترك فيه الجميع؟.
و ربما وجه الفرق بأن المراد بقوله «ما وعد ربكم» الذي وعده أصحاب الجنة من أنواع الثواب الجزيل فإن أصحاب النار يشاهدون ذلك كما يجدون ما بهم من أليم العقاب.
و هو وجه سخيف على سخافته لا يغني طائلا.
و قوله: «فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين» تفريع على تحقق الاعتراف من الطائفتين جميعا على حقية ما وعده الله سبحانه، و الأذان هو قوله: «لعنة الله على الظالمين» و هو إعلام عام للفريقين - و الدليل عليه ظاهر قوله: «بينهم» - بقضاء اللعنة و هي الإبعاد و الطرد من الرحمة الإلهية على الظالمين و قد فسر الظالمين الذين ضربت عليهم باللعنة بقوله: «الذين يصدون عن سبيل الله و يبغونها عوجا و هم بالآخرة كافرون» فهم الكافرون المنكرون للآخرة الذين يصدون عن سبيل الله محرفة منحرفة، و يصرفون غيرهم عن سلوك الصراط المستقيم فهؤلاء هم المعاندون للحق المنكرون للمعاد.
و هذا الوصف يشمل جميع المعاندين للحق الكافرين بالجزاء حتى المنكرين للصانع الذين لا يدينون بدين فإن الله سبحانه يذكر في كتابه أن دينه و سبيله الذي يهدي إليه و به هو سبيل الإنسانية الذي تدعو إليه الفطرة الإنسانية و الخلقة خص بها الإنسان ليس وراءه إسلام و لا دين.
فالسبيل الذي يسلكه الإنسان في حياته هو سبيل الله و صراطه و هو الدين الإلهي فإن سلكه على استقامة ما تدعو إليه الفطرة و هو الذي يسوقه إلى سعادته كان هو الصراط المستقيم و الإسلام الذي هو الدين عند الله و سبيل الله الذي لا عوج فيه، و إن سلك غير ذلك سواء كان فيه إذعان بألوهية و عبادة لمعبود كالملل و الأديان الباطلة أو لم يكن فيه خضوع لشيء و عبادة لمعبود كالمادية المحضة فهو سلوك يبغون فيه سبيل الله عوجا و هو الإسلام محرفا عن وجهه، و نعمة الله التي بدلت كفرا، فافهم ذلك.
و قد أبهم الله هذا الذي يخبر عنه بقوله: «فأذن مؤذن بينهم» و لم يعرفه من هو؟ أ من الإنس أم من الجن أم من الملائكة؟ لكن الذي يقتضيه التدبر في كلامه تعالى أن يكون هذا المؤذن من البشر لا من الجن و لا من الملائكة: أما الجن فلم يذكر في شيء من تضاعيف كلامه تعالى أن يتصدى الجن شيئا من التوسط في أمر الإنسان من لدن وروده في عالم الآخرة و هو حين نزول الموت إلى أن يستقر في جنة أو نار فيختم أمره فلا موجب لاحتمال كونه من الجن.
و أما الملائكة فإنهم وسائط لأمر الله و حملة لإرادته بأيديهم إنفاذ الأوامر الإلهية، و بوساطتهم يجري ما قضى به في خلقه، و قد ذكر الله سبحانه أشياء من أمرهم و حكمهم في عالم الموت و في جنة الآخرة و نارها كقولهم للظالمين حين القبض: أخرجوا أنفسكم» إلخ: الأنعام: 93 و قولهم لأهل الجنة: «سلام عليكم ادخلوا الجنة» إلخ: النحل: 32 و قول مالك لأهل النار: «إنكم ماكثون» إلخ:، الزخرف: 77، و نظائر ذلك.
و أما المحشر و هو حظيرة البعث و السؤال و الشهادة و تطاير الكتب و الوزن و الحساب و الظرف الذي فيه الحكم الفصل فلم يذكر للملائكة فيه شيء من الحكم أو الأمر و النهي و لا لغيرهم صريحا إلا ما صرح تعالى به في حق الإنسان.
كقوله تعالى في أصحاب الأعراف في ذيل هذه الآيات حكاية عنهم: «و نادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم» و قولهم لجمع من المؤمنين هناك: «ادخلوا الجنة لا خوف عليكم و لا أنتم تحزنون» و هذا حكم و أمر و تأمين بإذن الله، و قوله تعالى فيما يصف يوم القيامة: «قال الذين أوتوا العلم إن الخزي اليوم و السوء على الكافرين»: النحل: 27 و قوله تعالى بعد ذكر سؤاله أهل الجمع عن مدة لبثهم في الأرض: «و قال الذين أوتوا العلم و الإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث و لكنكم كنتم لا تعلمون»: الروم: 56.
فهذه جهات من تصدي الشئون، و القيام بالأمر يوم القيامة حبا الله الإنسان به دون الملائكة مضافا إلى أمثال الشهادة و الشفاعة اللتين له.
فهذا كله يقرب إلى الذهن أن يكون هذا المؤذن من الإنسان دون الملائكة، و يأتي في البحث الروائي ما له تعلق بالمقام.
قوله تعالى: «و بينهما حجاب و على الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم» الحجاب معروف و هو الستر المتخلل بين شيئين يستر أحدهما من الآخر.
و الأعراف أعالي الحجاب، و التلال من الرمل و العرف للديك و للفرس و هو الشعر فوق رقبته و أعلى كل شيء ففيه معنى العلو على أي حال، و ذكر الحجاب قبل الأعراف، و ما ذكر بعده من إشرافهم على الجميع و ندائهم أهل الجنة و النار جميعا كل ذلك يؤيد أن يكون المراد بالأعراف أعالي الحجاب الذي بين الجنة و النار و هو المحل المشرف على الفريقين أهل الجنة و أهل النار جميعا.
و السيماء العلامة قال الراغب: السيماء و السيمياء العلامة، قال الشاعر: له سيمياء لا تشق على البصر.
و قال تعالى: «سيماهم في وجوههم» و قد سومته أي أعلمته، و مسومين أي معلمين انتهى.
و الذي يعطيه التدبر في معنى هذه الآية و ما يلحق بها من الآيات أن هذا الحجاب الذي ذكره الله تعالى إنما هو بين أصحاب الجنة و أصحاب النار فهما مرجع الضمير في قوله: «و بينهما» و قد أنبأنا الله سبحانه بمثل هذا المعنى عند ذكر محاورة بين المنافقين و المؤمنين يوم القيامة بقوله: «يوم يقول المنافقون و المنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة و ظاهره من قبله العذاب»: الحديد: 13، و إنما هو حجاب لكونه يفرق بين الطائفتين و يحجب إحداهما عن الأخرى لا أنه ثوب منسوج مخيط على هيئة خاصة معلق بين الجنة و النار ثم أخبر الله سبحانه أن على أعراف الحجاب و أعاليه رجالا مشرفين على الجانبين لارتفاع موضعهم يعرفون كلا من الطائفتين أصحاب الجنة و أصحاب النار بسيماهم و علامتهم التي تختص بهم.
و لا ريب في أن السياق يفيد أن هؤلاء الرجال منحازون على الطائفتين متمايزون من جماعتهم فهل ذلك لكونهم خارجين عن نوع الإنسان كالملائكة أو الجن مثلا، أو لكونهم خارجين عن أهل الجمع من حيث ما يتعلق بهم من السؤال و الحساب و سائر الشئون الشبيهة بهما فيكون بذلك أهل الجمع منقسمين إلى طوائف ثلاث: أصحاب الجنة، و أصحاب النار، و أصحاب الأعراف كما قسمهم الله في الدنيا إلى طوائف ثلاث: المؤمنين و الكفار و المستضعفين الذين لم تتم عليهم الحجة و قصروا عن بلوغ التكليف كضعفاء العقول من النساء و الأطفال غير البالغين و الشيخ الهرم الخرف و المجنون و السفيه و أضرابهم، أو لكونهم مرتفعين عن موقف أهل الجمع بمكانتهم؟.
لا ريب أن إطلاق لفظ «رجال» لا يشمل الملائكة فإنهم لا يتصفون بالرجولية و الأنوثية كما يتصف به جنس الحيوان و إن قيل: إنهم ربما يظهرون في شكل الرجال فإن ذلك لا يصحح الاتصاف و التسمية، على أنه لا دليل يدل عليه.
ثم إن التعبير بمثل قوله: «رجال يعرفون» إلخ، و خاصة بالتنكير يدل بحسب عرف اللغة على اعتناء تام بشأن الأفراد المقصودين باللفظ نظرا إلى دلالة الرجل بحسب العادة على الإنسان القوي في تعقله و إرادته الشديد في قوامه.
و على ذلك يجري ما يوجد في كلامه تعالى من مثل هذا التعبير كقوله تعالى: «رجال لا تلهيهم تجارة و لا بيع عن ذكر الله»: النور: 37، و قوله: «فيه رجال يحبون أن يتطهروا»: التوبة: 108، و قوله: «رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه»: الأحزاب: 23، و قوله: «و ما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم»: يوسف: 109 حتى في مثل قوله: «ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار»: ص: 62، و قوله: «و أنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن»: الجن: 6.
فالمراد برجال في الآية أفراد تامون في إنسانيتهم لا محالة، و إن فرض أن فيهم أفرادا من النساء كان من التغليب.
و أما المستضعفون فإنهم ضعفاء أفراد الإنسان لا مزية في أمرهم توجب الاعتناء بشأنهم، و فيهم النساء و الأطفال حتى الأجنة، و لا فضل لبعضهم على بعض، و لرجالهم على غيرهم حتى يعبر به عنهم بالرجال تغليبا فلو كانوا هم المرادين بقوله «رجال يعرفون» إلخ، لكان حق التعبير أن يقال: قوم يعرفون إلخ، أو أناس أو طائفة أو نحو ذلك كما هو المعهود من تعبيرات القرآن الكريم في أمثال هذه الموارد كقوله تعالى: «لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم»: الأعراف: 164، و قوله: «إنهم أناس يتطهرون»: الأعراف: 82، و قوله: «فآمنت طائفة من بني إسرائيل و كفرت طائفة»: الصف: 14.
على أن ما يصفهم الله تعالى به في الآيات التالية من الأوصاف و يذكرهم به من الشئون أمور تأبى إلا أن يكون القائمون به من أهل المنزلة و المكانة، و أصحاب القرب و الزلفى فضلا أن يكونوا من الناس المتوسطين فضلا أن يكونوا من المستضعفين.
فأول ذلك: أنهم جعلوا على الأعراف و وصفوا بأنهم مشرفون على أهل الجمع عامة، و مطلعون على أصحاب الجنة و أصحاب النار يعرفون كل إنسان منهم بسيماه الخاص به و يحيطون بخصوصيات نفوسهم و تفاصيل أعمالهم، و لا ريب أن ذلك منزلة رفيعة يختصون بها من بين الناس، و ليست مشاهدة جميع الناس يوم القيامة و خاصة بعد دخول الجنة و النار أمرا عاما موجودا عند الجميع فإن الله يقول حكاية عن قول أهل النار: «ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار»: ص: 62، و قولهم: «ربنا أرنا الذين أضلانا من الجن و الإنس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين»: حم السجدة: 29، و قال: «لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه»: عبس: 37.
و ليس معنى السيماء أن يعلم المؤمنون و الكفار بعلامة عامة يعرف صنفهم بها كل من شاهدهم كبياض الوجه و سواده مثلا فإن قوله تعالى في الآية التالية: «و نادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم و ما كنتم تستكبرون أ هؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة» يفيد أنهم ميزوا خصوصيات من أحوالهم و أعمالهم من سيماهم ككونهم مستكبرين أولي جمع و قد أقسموا كذا و كذا، و هذه أمور وراء الكفر و الإيمان في الجملة.
و ثانيا: أنهم يحاورون الفريقين فيكلمون أصحاب الجنة و يحيونهم بتحية الجنة، و يكلمون أئمة الكفر و الضلال و الطغاة من أهل النار فيقرعون عليهم بأحوالهم و أقوالهم مسترسلين في ذلك من غير أن يحجزهم حاجز، و ليس التكلم بمجاز يومئذ إلا للأوحدي من عباد الله الذين لا ينطقون إلا بحق، قال تعالى: «لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن و قال صوابا»: النبأ: 38، و هذا وراء ما يناله المستضعفون.
و ثالثا: أنهم يؤمنون أهل الجنة بالتسليم عليهم ثم يأمرونهم بدخول الجنة في أمر مطلق على ما هو ظاهر السياق في الآيات التالية.
و رابعا: أنه لا يشاهد فيما يذكره الله من مكانتهم و ما يحاورون به أصحاب الجنة و الجبابرة المستكبرين من أصحاب النار شيء من آثار الفزع و القلق عليهم و لا اضطراب في أقوالهم، و لم يذكر أنهم محضرون فيه مختلطون بالجماعة داخلون فيما دخلوا فيه من الأهوال التي تجعل الأفئدة هواء و الجبال سرابا، و قد قال تعالى: «فإنهم لمحضرون إلا عباد الله المخلصين»: الصافات: 128، فجعل ذلك من خاصة مخلصي عباده، ثم استثناهم من كل هول أعد ليوم القيامة.
ثم إنه تعالى ذكر دعاءهم في قوله: «و إذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين» و لم يعقبه بالرد فدل ذلك على أنهم مجازون فيما يتكلمون به مستجاب دعاؤهم، و لو لا ذلك لعقبه بالرد كما في موارد ذكرت فيها أدعية أهل الجمع و مسائل أصحاب النار و أدعية أخرى من غيرهم.
فهذه الخصوصيات التي تنكشف واحدة بعد واحدة من هذه الآيات بالتدبر فيها و أخرى تتبعها لا تبقي ريبا للمتدبر في أن هؤلاء الذين أخبر الله سبحانه عنهم في قوله: «و على الأعراف رجال» جمع من عباد الله المخلصين من غير الملائكة هم أرفع مقاما و أعلى منزلة من سائر أهل الجمع يعرفون عامة الفريقين، لهم أن يتكلموا بالحق يوم القيامة و لهم أن يشهدوا، و لهم أن يشفعوا، و لهم أن يأمروا و يقضوا.
و أما أنهم من الإنس أو من الجن أو من القبيلين مختلطين؟ فلا طريق من اللفظ يوصلنا إلى العلم به غير أن شيئا من كلامه تعالى لا يدل على تصدي الجن شيئا من شئون يوم القيامة و لا توسطا في أمر يعود إلى الحكم الفصل الذي يجري على الإنسان يومئذ كالشهادة و الشفاعة و نحوهما.
و لا ينافي ما قدمناه من أوصافهم و نعوتهم أمثال قوله تعالى: «يوم لا تملك نفس لنفس شيئا و الأمر يومئذ لله»: الانفطار: 19، فإن الآية مفسرة بآيات أخرى تدل على أن المراد بها إنما هو ظهور ملكه تعالى لكل شيء و إحاطته بكل أمر لا حدوث ملكه يومئذ فإنه مالك على الإطلاق دائما لا وقتا دون وقت، و لا يملك نفس لنفس شيئا دائما لا في الآخرة فحسب لنفسه؟ و الملائكة على وساطتهم يومئذ، و الشهداء يملكون شهادتهم يومئذ، و الشفعاء يملكون شفاعتهم يومئذ و قد نص على ذلك كلامه تعالى قال: «و تتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون»: الأنبياء: 103، و قال: «يوم يقوم الأشهاد»: المؤمن: 51، و قال: «و لا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق و هم يعلمون»: الزخرف: 86.
فلله سبحانه الملك يومئذ و له الحكم يومئذ، و لغيره ما أذن له فيه كالدنيا غير أن الذي يختص به يوم القيامة ظهور هذه الحقائق ظهور عيان لا يقبل الخفاء، و حضورها بحيث لا يغيب بغفلة أو جهل أو خطإ أو بطلان.
و قد اشتد الخلاف بينهم في معنى الآية حتى ساق بعضهم إلى أقوال لا تخلو عن المجازفة فقد اختلفوا في معنى الأعراف: 1 - فمن قائل: أنه شيء مشرف على الفريقين.
2 - و قيل: سور له عرف كعرف الديك.
3 - و قيل: تل بين الجنة و النار جلس عليه ناس من أهل الذنوب.
4 - و قيل: السور الذي ذكره الله في القرآن بين المؤمنين و المنافقين إذ قال: «فضرب بينهم بسور له باب».
5 - و قيل: معنى الأعراف التعرف أي على تعرف حال الناس رجال.
6 - و قيل: هو الصراط.
ثم اختلفوا في الرجال الذين على الأعراف على أقوال أنهيت إلى اثني عشر قولا: 1 - أنهم أشراف الخلق الممتازون بكرامة الله.
2 - أنهم قوم استوت حسناتهم و سيئاتهم فلم يترجح حسناتهم حتى يدخلوا الجنة و لا غلبت سيئاتهم حتى يؤمروا بدخول النار فأوقفهم الله تعالى على هذه الأعراف لكونها درجة متوسطة بين الجنة و النار ثم يدخلهم الجنة برحمته.
3 - أنهم أهل الفترة.
4 - أنهم مؤمنوا الجن.
5 - أنهم أولاد الكفار الذين لم يبلغوا في الدنيا أوان البلوغ.
6 - أنهم أولاد الزنا.
7 - أنهم أهل العجب بأنفسهم.
8 - أنهم ملائكة واقفون عليها يعرفون كلا بسيماهم، و إذا أورد عليهم أن الملائكة لا تتصف بالرجولية و الأنوثية قالوا: إنهم يتشكلون بأشكال الرجال.
9 - أنهم الأنبياء (عليهم السلام) يقامون عليها تمييزا لهم على سائر الناس و لأنهم شهداء عليهم.
10 - أنهم عدول الأمم الشهداء على الناس يقومون عليها للشهادة على أممهم.
11 - أنهم قوم صالحون فقهاء علماء.
12 - أنهم العباس و حمزة و علي و جعفر يجلسون على موضع من الصراط يعرفون محبيهم ببياض الوجوه، و مبغضيهم بسوادها ذكر الآلوسي في روح المعاني، أن هذا القول رواه الضحاك عن ابن عباس.
قال في المنار،: و لم نره في شيء من كتب التفسير المأثور، و الظاهر أنه نقله عن تفاسير الشيعة، و فيه أن أصحاب الأعراف يعرفون كلا من أهل الجنة و أهل النار بسيماهم فيميزون بينهم أو يشهدون عليهم فأي فائدة في تمييز هؤلاء السادة على الصراط لمن كان يبغضهم من الأمويين و من يبغضون عليا خاصة من المنافقين و النواصب؟ و أين الأعراف من الصراط؟ هذا بعيد عن نظم الكلام و سياقه جدا انتهى.
أقول: أما الرواية فلا توجد في شيء من تفاسير الشيعة بطرقهم إلى الضحاك، و قد نقله في مجمع البيان، عن الثعلبي في تفسيره بإسناده عن الضحاك عن ابن عباس، و سيأتي ما في روايات الشيعة في رجال الأعراف في البحث الروائي الآتي إن شاء الله تعالى.
و أما طرحه الرواية فهو في محله غير أن الذي استند إليه في طرحها ليس في محله فإنه يكشف عن نحو السلوك الذي يسلكه في الأبحاث المتعلقة بالمعاد فإنه يقيس نظام الوقائع التي يقصها القرآن و الحديث ليوم القيامة إلى النظام الجاري في النشأة الدنيوية، و يعده من نوعه فيوجه منها ما لاح سبب وقوعه، و يبقي ما لا ينطبق على النظام، الدنيوي على الجمود و هو الجزاف في الإرادة فافهم ذلك.
و لو جاز أن يغني تمييز أهل الأعراف عن تمييز أهل الصراط فتبطل فائدته فيبطل بذلك أصله - كما ذكره - لأغنى الصراط نفسه عن تمييز أهل الأعراف، و أغنى عن المسألة و الحساب، و نشر الدواوين، و نصب الموازين، و حضور الأعمال، و إقامة الشهود و إنطاق الأعضاء، و لأغنى بعض هذه عن بعض، و وراء ذلك كله إحاطة رب العالمين فعلمه يغني عن الجميع، و هو لا يسأل عما يفعل.
و كأنه فرض أن نسبة الأعراف و هي أعالي الحجاب من الصراط الممدود هناك كنسبة السور و الحائط الذي عندنا إلى الصراط الممدود الذي يسلكه الطراق السالكون لا يجتمع هاهنا الصراط و السور و لا يتحدان فلا يسع لأحد أن يكون سالك صراط أو واقفا عليه و واقفا على السور معا في زمان واحد، و لذلك قال: و أين الصراط من الأعراف؟ فقاس ما هناك إلى ما هاهنا، و قد عرفت فساده.
ثم الوارد في ظواهر الحديث أن الصراط جسر ممدود على النار يعبر منه أهل المحشر من موقفهم إلى الجنة فينجي الله الذين آمنوا و يسقط الظالمون من الناس في النار فما المانع من أن يكون الحجاب الموعود مضروبا عليه و الأعراف في الحجاب؟.
على أنه فات منه أن أحد الأقوال في معنى الأعراف أنه الصراط كما رواه الطبري في تفسيره، عن ابن مسعود و رواه في الدر المنثور، عن ابن أبي حاتم عن ابن جريح قال: زعموا أنه الصراط.
و أما قوله: «هذا بعيد عن نظم الكلام و سياقه جدا» فأوضح فسادا فسياق هذه الأنباء الغيبية و النظم المأخوذ فيها يذكر لنا أمورا بنعوت عامة و بيانات مطلقة معانيها معلومة، و حقائقها مبهمة مجهولة إلا المقدار الذي تهدي إليه بياناته تعالى، و يوضع بعض أجزائه بعضا، و لا يأبى ذلك أن يقصد ببعض النعوت المذكورة فيها رجال معينون بأشخاصهم إذا انطبقت عليهم الأوصاف المذكورة فيها، و لا أن ينطبق بعض البيانات على بعض في موارد مع تعدد البيان لفظا كالعدل و الميزان مثلا.
فهذه اثنا عشر قولا و يمكن أن يضاف إلى عدتها قولان آخران: أحدهما: أنهم المستضعفون ممن لم تتم عليهم الحجة و لم يتعلق بهم التكليف كالضعفاء من الرجال و النساء و الأطفال غير البالغين، و يمكن أن يدرج في القول الثاني المتقدم بأن يقال: إنهم الذين لا تترجح أعمالهم من الحسنات أو السيئات على خلافها سواء كان ذلك لعدم تمام الحجة فيهم و تعلق التكليف بهم حتى يحاسبوا عليه كالأطفال و المجانين و أهل الفترة و نحوهم أو لأجل استواء حسناتهم و سيئاتهم في القدر و الوزن فحكم القسمين واحد.
الثاني: أنهم الذين خرجوا إلى الجهاد من غير إذن آبائهم فاستشهدوا فيها فهم من أهل النار لمعصيتهم و من أهل الجنة لشهادتهم! و عليه رواية، و يمكن إدراجه في القول الثاني.
و الأقوال المذكورة غير متقابلة جميعا في الحقيقة فإن القول بكونهم أهل الفترة و القول بكونهم أولاد الكفار إنما ملاكهما عدم ترجح شيء من الحسنات و السيئات على الآخر فيرجعان بوجه إلى القول الثاني و كذا القول بكونهم أولاد الزنا نظرا إلى أنهم لا مؤمنون و لا كفار، و كذا رجوع القول التاسع و العاشر و الحادي عشر و الثاني عشر إلى القول الأول بوجه.
فأصول الأقوال في رجال الأعراف ثلاثة: أحدها: أنهم رجال من أهل المنزلة و الكرامة على اختلاف بينهم في أنهم من هم؟ فقيل: هم الأنبياء، و قيل: الشهداء على الأعمال، و قيل: العلماء الفقهاء، و قيل: غير ذلك كما مر.
و الثاني: أنهم الذين لا رجحان في أعمالهم للحسنة على السيئة و بالعكس على اختلاف منهم في تشخيص المصداق.
و الثالث: أنهم من الملائكة، و قد مال الجمهور إلى الثاني من الأقوال، و عمدة ما استندوا إليه في ذلك أخبار مأثورة سنوردها في البحث الروائي الآتي إن شاء الله.
و قد عرفت أن الذي يعطيه سياق الآيات هو الأول من الأقوال حتى أن بعضهم مع تمايله إلى القول الثاني لم يجد بدا من بعض الاعتراف بعدم ملاءمة سياق الآيات ذلك كالآلوسي في روح المعاني،.
قوله تعالى: «و نادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها و هم يطمعون» المنادون هم الرجال الذين على الأعراف - على ما يعطيه السياق - و قوله: «أن سلام عليكم» يفسر ما نادوا به، و قوله: «لم يدخلوها و هم يطمعون» جملتان حاليتان فجملة «لم يدخلوها» من أصحاب الجنة، و جملة «و هم يطمعون» حال آخر من أصحاب الجنة و المعنى: أن أصحاب الجنة نودوا و هم في حال لم يدخلوا الجنة بعد و هم يطمعون في أن يدخلوها، أو حال من ضمير الجمع في «لم يدخلوها» و هو العامل فيه، و المعنى أن أصحاب الجنة نودوا بذلك و هم في الجنة لكنهم لم يدخلوا الجنة على طمع في دخولها لأن ما شاهدوه من أهوال الموقف و دقة الحساب كان أيأسهم من أن يفوزوا بدخول الجنة لكن قوله بعد: «أ هؤلاء الذين» إلى آخر الآية يؤيد أول الاحتمالين و أنهم إنما سلموا عليهم قبل دخولهم الجنة.
و أما احتمال أن تكون الجملتان حالين من ضمير الجمع في «نادوا» فيوجب سقوط الجملة عن الإفادة كما هو ظاهر، و ذلك لرجوع المعنى إلى أن هؤلاء الرجال الذين هم على أعراف الحجاب بين الجنة و النار نادوا و هم لم يدخلوا.
و على من يميل إلى أن يجعل قوله: «لم يدخلوها و هم يطمعون» بيانا لحال أصحاب الأعراف أن يجعل قوله: «لم يدخلوها» استئنافا يخبر عن حال أصحاب الأعراف أو صفة لرجال و التقدير: و على الأعراف رجال لم يدخلوها و هم يطمعون و إذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا... إلخ كما نقل عن الزمخشري في الكشاف،.
لكن يبعد الاستئناف أن اللازم حينئذ إظهار الفاعل في قوله: «لم يدخلوها» دون إضماره لمكان اللبس كما فعل ذلك في قوله: «و نادى أصحاب الأعراف رجالا» إلخ، و يبعد الوصفية الفصل بين الموصوف و الصفة بقوله: «و نادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم» من غير ضرورة موجبة.
و هذا التقدير الذي تقدم أعني رجوع معنى قوله: «لم يدخلوها و هم يطمعون و إذا صرفت أبصارهم» إلى آخر الآية، إلى قولنا: و على الأعراف رجال يطمعون في دخول الجنة و يتعوذون من دخول النار - على ما زعموا - هو الذي مهد لهم الطريق و سواه للقول بأن أصحاب الأعراف رجال استوت حسناتهم و سيئاتهم فلم يترجح لهم أن يدخلوا الجنة أو النار فأوقفوا على الأعراف!.
لكنك عرفت أن قوله «لم يدخلوها» إلخ، حال أصحاب الجنة لا وصف أصحاب الأعراف، و أما قوله: «و إذا صرفت أبصارهم» إلخ، فسيأتي ما في كونه بيانا لحال أصحاب الأعراف من الكلام.
قوله تعالى: «و إذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين» التلقاء كالبيان مصدر لقي يلقى ثم استعمل بمعنى جهة اللقاء، و ضمير الجمع في قوله: «أبصارهم» و قوله: «قالوا» عائد إلى «رجال» و التعبير عن النظر إلى أصحاب النار بصرف أبصارهم إليه كأن الوجه فيه أن الإنسان لا يحب إلقاء النظر إلى ما يؤلمه النظر إليه و خاصة في مثل المورد الذي يشاهد الناظر فيه أفظع الحال و أمر العذاب و أشقه الذي لا يطاق النظر إليه غير أن اضطراب النفس و قلق القلب ربما يفتح العين نحوه للنظر إليه كان غيره هو الذي صرف نظره إليه و إن كان الإنسان لو خلي و طبعه لم يرغب في النظر و لو بوجه نحوه، و لذا قيل: «و إذا صرفت أبصارهم» إلخ و لم يقل و إذا نظروا إليه أو ما يفيد مفاده.
و معنى الآية: و إذا نظر أصحاب الأعراف أحيانا إلى أصحاب النار تعوذوا بالله من أن يجعلهم مع أصحاب النار فيدخلهم النار، و قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين.
و ليس دعاؤهم هذا الدعاء دالا على سقوط منزلتهم، و خوفهم من دخول النار كما يدل على رجائهم دخول الجنة قوله «و هم يطمعون» و ذلك أن ذلك مما دعا به أولوا العزم من الرسل و الأنبياء المكرمون و العباد الصالحون و كذا الملائكة المقربون فلا دلالة فيه و لو بالإشعار الضعيف على كون الداعي ذا سقوط في حاله و حيرة من أمره.
هذا ما فسروا به الآية بإرجاع ضميري الجمع إلى «رجال».
لكنك خبير بأن ذلك لا يلائم الإظهار الذي في مفتتح الآية التالية في قوله: «و نادى أصحاب الأعراف» إذ الكلام في هذه الآيات الأربع جار في أوصاف أصحاب الأعراف و أخبارهم كقوله: «يعرفون كلا» إلخ، و قوله: «و نادوا أصحاب الجنة» إلخ و قوله: «لم يدخلوها» إلخ، على احتمال، و قوله: «و إذا صرفت أبصارهم» إلخ، فكان من اللازم أن يقال: «و نادوا - أي أصحاب الأعراف - رجالا يعرفونهم» إلخ، و ليس في الكلام أي لبس و لا نكتة ظاهرة توجب العدول من الإضمار الذي هو الأصل في المقام إلى الإظهار بمثل قوله: «و نادى أصحاب الأعراف».
فالظاهر أن ضميري الجمع أعني ما في قوله: «أبصارهم» و قوله «قالوا» راجعان إلى أصحاب الجنة، و الجملة إخبار عن دعائهم إذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار كما أن الجملة السابقة بيان لطمعهم في دخول الجنة، و كل ذلك قبل دخولهم الجنة.
قوله تعالى: «و نادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم» إلى آخر الآية، في توصيف الرجال بقوله: «يعرفونهم بسيماهم» دلالة على أن سيماءهم كما يدلهم على أصل كونهم من أصحاب الجنة يدلهم على أمور أخر من خصوصيات أحوالهم، و قد مرت الإشارة إليه.
و قوله: «قالوا ما أغنى عنكم جمعكم و ما كنتم تستكبرون» تقريع لهم و شماتة، و كشف عن تقطع الأسباب الدنيوية عنهم فقد كانوا يستكبرون عن الحق و يستذلونه و يغترون بجمعهم.
قوله تعالى: «أ هؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة» إلى آخر الآية.
الإشارة إلى أصحاب الجنة، و الاستفهام للتقرير أي هؤلاء هم الذين كنتم تجزمون قولا أنهم لا يصيبهم فيما يسلكونه من طريق العبودية خير، و أصابه الخير هي نيله تعالى إياهم برحمة و وقوع النكرة - برحمة - في حيز النفي يفيد استغراق النفي للجنس، و قد كانوا ينفون عن المؤمنين كل خير.
و قوله: ادخلوا الجنة لا خوف عليكم و لا أنتم تحزنون، أمر من أصحاب الأعراف للمؤمنين أن يدخلوا الجنة بعد تقرير حالهم بالاستفهام، و هذا هو الذي يفيده السياق.
و قول بعضهم في الآية: إنها بتقدير القول أي قيل لهم من قبل الرحمن: ادخلوا الجنة لا خوف عليكم مما يكون في مستقبل أمركم، و لا أنتم تحزنون من شيء ينغص عليكم حاضركم، و حذف القول للعلم به من قرائن الكلام كثير في التنزيل و في كلام العرب الخلص انتهى.
مدفوع بعدم مساعدة السياق و دلالة القرائن عليه بوجه كما تقدم بيانه، و ليس إذا جاز تقدير القول في محل لتبادر معناه من الكلام جاز ذلك في أي مقام أريد، و أي سياق أم أية قرينة تدل على ذلك في المقام؟
كلام في معنى الأعراف في القرآن
لم يذكر الأعراف في القرآن إلا في هذه الآيات الأربع من سورة الأعراف 46 - 49 و قد استنتج باستيفاء البحث في الآيات الشريفة أنه من المقامات الكريمة الإنسانية التي تظهر يوم القيامة، و قد مثله الله سبحانه بأن بين الدارين دار الثواب و دار العقاب حجابا يحجز إحداهما من الأخرى - و الحجاب بالطبع خارج عن حكم طرفيه في عين أنه مرتبط بهما جميعا - و للحجاب أعراف و على الأعراف رجال مشرفون على الناس من الأولين و الآخرين يشاهدون كل ذي نفس منهم في مقامه الخاص به على اختلاف مقاماتهم و درجاتهم و دركاتهم من أعلى عليين إلى أسفل سافلين، و يعرفون كلا منهم بما له من الحال الذي يخصه و العمل الذي عمله، لهم أن يكلموا من شاءوا منهم، و يؤمنوا من شاءوا، و يأمروا بدخول الجنة بإذن الله.
و يستفادوا من ذلك أن لهم موقفا خارجا من موقفي السعادة التي هي النجاة بصالح العمل، و الشقاوة التي هي الهلاك بطالح العمل، و مقاما أرفع من المقامين معا و لذلك كان مصدرا للحكم و السلطة عليهما جميعا.
و لك أن تعتبر في تفهم ذلك بما تجده عند الملوك و مصادر الحكم فهناك جماعة منعمون بنعمتهم مشمولون لرحمتهم يستدرون ضرع السعادة بما تشتهيه أنفسهم، و آخرون محبوسون في سجونهم معذبون بأليم عذابهم قد أحاط بهم هوان الشقاوة من كل جانب فهذان ظرفان ظرف السعادة و ظرف الشقاوة، و الظرفان متمايزان لا يختلطان بظرف آخر ثالث يحكم فيهما و يصلح شأن كل منهما و ينظم أمره و في هذا الظرف قوم خدمة يخدمون العرش بمداخلتهم الجانبين و إهداء النعم إلى أهل السعادة، و إيصال النقم إلى أهل الشقاوة، و هم مع ذلك من السعداء، و قوم آخر وراء الخدمة و العمال هم المدبرون لأمر الجميع و هم أقرب الوسائط من العرش، و هم أيضا من السعداء، فللسعادة مراتب من حيث الإطلاق و التقييد.
و ليس من الممتنع على ملك يوم الدين أن يخص قوما برحمته فيدخلهم بحسناتهم الجنة و يبسط عليهم بركاته بما أنه الغفور ذو الفضل العظيم، و يدخل آخرين في ناره و دار هوانه بما عملوه من سيئاتهم و هو عزيز ذو انتقام شديد العقاب ذو البطش، و يأذن لطائفة ثالثة أن يتوسطوا بينه و بين الفريقين بإجراء أوامره و أحكامه فيهم أو إصدارها عليهم بإسعاد من سعد منهم و إشقاء من شقي فإنه الواحد القهار الذي يقهر بوحدته كل شيء كما شاء بتوسيط أو إسعاد أو إشقاء، و قد قال تعالى: «لمن الملك اليوم لله الواحد القهار» فافهم.
قوله تعالى: «و نادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا» إلخ، الإفاضة من الفيض و هو سيلان الماء منصبا، قال تعالى: «ترى أعينهم تفيض من الدمع» أي يسيل دمعها منصبا، و عطف سائر ما رزقهم الله من النعم على الماء يدل على أن المراد بالإفاضة صب مطلق النعم أعم من المائع و غيره على نحو عموم المجاز، و ربما قيل: إن الإفاضة حقيقة في إعطاء النعمة الكثيرة فيكون تعليقه على الماء و غيره حقيقة حينئذ.
و كيف كان ففي الآية إشعار بعلو مكانة أهل الجنة بالنسبة إلى مكان أهل النار.
و إنما أفرز الماء و هو من جملة ما رزقهم الله ثم قدم في الذكر على سائر ما رزقهم الله لأن الحاجة إلى بارد الماء أسبق إلى الذهن طبعا بالنسبة إلى غيره عند ما تحيط الحرارة بالإنسان، و معنى الآية ظاهر.
قوله تعالى: «الذين اتخذوا دينهم لهوا و لعبا» إلى آخر الآية.
اللهو ما يشغلك عما يهمك، و اللعب الفعل المأتي به لغاية خيالية غير حقيقية، و الغرور إظهار النصح و استبطان الغش، و النسيان يقابل الذكر، و ربما يستعار لترك الشيء و عدم الاعتناء بشأنه كالشيء المنسي، و على ذلك يجري في الآية، و الجحد النفي و الإنكار، و الآية مسوقة لتفسير الكافرين، و يستفاد منها تفسيرات ثلاثة للكفر: أولها: أنه اتخاذ الإنسان دينه لهوا و لعبا و غرور الحياة الدنيا له، و الثاني: نسيان يوم اللقاء، و الثالث: الجحد بآيات الله، و لكل من التفاسير وجه.
و في قوله تعالى: «الذين اتخذوا دينهم لهوا و لعبا» دلالة على أن الإنسان لا غنى له عن الدين على أي حال حتى من اشتغل باللهو و اللعب و محض حياته فيها محضا فإن الدين - كما تقدمت الإشارة إليه في تفسير قوله: «الذين يصدون عن سبيل الله و يبغونها عوجا» الآية - هو طريق الحياة الذي يسلكه الإنسان في الدنيا، و لا محيص له عن سلوكه، و قد نظمه الله سبحانه بحسب ما تهدي إليه الفطرة الإنسانية و دعت إليه، و هو دين الإنسان الذي يخصه و ينسب إليه، و هو الذي يهم الإنسان و يسوقه إلى غاية حقيقية هي سعادة حياته.
فحيث جرى عليه الإنسان و سلكه كان على دينه الذي هو دين الله الفطري، و حيث اشتغل عنه إلى غيره الذي يلهو عنه و لا يهديه إلا إلى غايات خيالية و هي اللذائذ المادية التي لا بقاء لها و لا نفع فيها يعود إلى سعادته فقد اتخذ دينه لهوا و لعبا و غرته الحياة الدنيا بسراب زخارفها.
و قوله تعالى: «فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا» أي اليوم نتركهم و لا نقوم بلوازم حياتهم السعيدة كما تركوا يومهم هذا فلم يقوموا بما يجب أن يعملوا له و بما كانوا بآياتنا يجحدون و نظير الآية في جعل تكذيب الآيات سببا لنسيان الله له يوم القيامة قوله: «قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها و كذلك اليوم تنسى»: طه: 126، و قد بدل هناك الجحد نسيانا.
قوله تعالى: «و لقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم» الآية عود على بدء الكلام أعني قوله في أول الآيات: «فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته» أي من أعظم من هؤلاء ظلما و لقد أتممنا عليهم الحجة و أقمنا لهم البيان فجئناهم بكتاب فصلناه و أنزلناه إليهم على علم منا بنزوله؟.
فقوله: «على علم» متعلق بقوله «لقد جئناهم» و الكلمة تتضمن احتجاجا على حقية الكتاب و التقدير: و لقد جئناهم بكتاب حق: و كيف لا يكون حقا؟ و قد نزل على علم منا بما يشتمل عليه من المطالب.
و قوله: «هدى و رحمة لقوم يؤمنون» أي هدى و إراءة طريق للجميع و رحمة للمؤمنين به خاصة، أو هدى و إيصالا بالمطلوب للمؤمنين و رحمة لهم، و الأول أنسب بالمقام و هو مقام الاحتجاج.
قوله تعالى: «هل ينظرون إلا تأويله» إلى آخر الآية.
الضمير في تأويله راجع إلى الكتاب، و قد تقدم في تفسير قوله تعالى: «هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات» الآية: آل عمران: 7 إن التأويل في عرف القرآن هو الحقيقة التي يعتمد عليها حكم أو خبر أو أي أمر ظاهر آخر اعتماد الظاهر على الباطن و المثل على المثل.
فقوله: «هل ينظرون إلا تأويله» معناه هل ينتظر هؤلاء الذين يفترون على الله كذبا أو يكذبون بآياته و قد تمت عليهم الحجة بالقرآن النازل عليهم، إلا حقيقة الأمر التي كانت هي الباعثة على سوق بياناته و تشريع أحكامه و الإنذار و التبشير الذين فيه؟ فلو لم ينتظروه لم يتركوا الأخذ بما فيه.
ثم يخبر تعالى عن حالهم في يوم إتيان التأويل بقوله: يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه إلخ، أي إذا انكشفت حقيقة الأمر يوم القيامة يعترف التاركون له بحقية ما جاءت به الرسل من الشرائع التي أوجبوا العمل بها، و أخبروا أن الله سيبعثهم و يجازيهم عليها.
و إذ شاهدوا عند ذلك أنهم صفر الأيدي من الخير، هالكون بفساد أعمالهم سألوا أحد أمرين يصلح به ما فسد من أمرهم إما شفعاء ينجونهم من الهلاك الذي أطل عليهم أو أنفسهم، بأن يردوا إلى الدنيا فيعملوا صالحا غير الذي كانوا يعملونه من السيئات و ذلك قوله حكاية عنهم: «فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل»؟.
و قوله تعالى: «قد خسروا أنفسهم و ضل عنهم ما كانوا يفترون» فصل في معنى التعليل لما حكي عنهم من سؤال أحد أمرين: إما الشفعاء و إما الرد إلى الدنيا كأنه قيل: لما ذا يسألون هذا الذي يسألون؟ فقيل: «قد خسروا أنفسهم» فيما بدلوا دينهم لهوا و لعبا، و اختاروا الجحود على التسليم و قد زال عنهم الافتراءات المضلة التي كانت تحجبهم عن ذلك في الدنيا فبان لهم أنهم في حاجة إلى من يصلح لهم أعمالهم إما أنفسهم أو غيرهم ممن يشفع لهم.
و قد تقدم في مبحث الشفاعة في الجزء الأول من الكتاب أن في قوله «فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا» دلالة على أن هناك شفعاء يشفعون للناس إذ قال: من شفعاء، و لم يقل: من شفيع فيشفع لنا.
بحث روائي
في الكافي، بإسناده عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال في قوله تعالى: «و ما أضلنا إلا المجرمون» إذ دعوهم إلى سبيلهم ذلك قول الله عز و جل فيهم إذ جمعهم إلى النار: «قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا - فآتهم عذابا ضعفا من النار» و قوله: «كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها يتبرأ بعضهم من بعض و يلعن بعضهم بعضا يريد أن بعضهم يحج بعضا رجاء الفلج فيفلتوا من عظيم ما نزل بهم، و ليس بأوان بلوى و لا اختبار و لا قبول معذرة و لا حين نجاة. أقول: و قوله (عليه السلام): قوله كلما دخلت أمة «إلخ» نقل للآية بالمعنى.
و في الدر المنثور، في قوله تعالى: «لا تفتح لهم أبواب السماء» أخرج ابن مردويه عن البراء بن عازب قال: قرأ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «لا يفتح لهم» بالياء. و فيه، أخرج الطيالسي و ابن شيبة و أحمد و هناد بن السري و عبد بن حميد و أبو داود في سننه و ابن جرير و ابن أبي حاتم و الحاكم و صححه و ابن مردويه و البيهقي في كتاب عذاب القبر عن البراء بن عازب قال: خرجنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر و لما يلحد فجلس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و جلسنا حوله و كأن على رءوسنا الطير، و في يده عود ينكت به الأرض فرفع رأسه فقال: استعيذوا من عذاب القبر مرتين أو ثلاثا. ثم قال: إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا و إقبال من الآخرة نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس، معهم أكفان من كفن الجنة و حنوط من حنوط الجنة حتى يجلسوا منه مد البصر ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الطيبة اخرجي إلى مغفرة من الله و رضوان فتخرج تسيل كما تسيل القطر من في السقاء و إن كنتم ترون غير ذلك فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن و في ذلك الحنوط فتخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض فيصعدون بها فلا يمرون على ملإ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الطيب؟ فيقولون: فلان بن فلان بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا فيستفتحون له فتفتح لهم فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها حتى ينتهي به إلى السماء السابعة فيقول الله: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، و أعيدوه إلى الأرض فإني منها خلقتهم و فيها أعيدهم و منها أخرجهم تارة أخرى فيعاد روحه في جسده. فيأتيه الملكان فيجلسان فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول هو رسول الله فيقولان له: و ما علمك؟ فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به و صدقت فينادي مناد من السماء إن صدق عبدي فافرشوه من الجنة و ألبسوه من الجنة و افتحوا له بابا إلى الجنة فيأتيه من روحها و طيبها، و يفسح له في قبره مد بصره، و يأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح فيقول: أبشر بالذي يسرك، هذا يومك الذي كنت توعد! فيقول له: من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالخير. فيقول: أنا عملك الصالح فيقول: رب أقم الساعة أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي و مالي. قال: و إن العبد الكافر إذا كان في إقبال من الآخرة و انقطاع من الدنيا نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه معهم المسوح فيجلسون منه مد البصر ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله و غضب فيفرق في جسده فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول فيأخذها. فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح، و يخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملإ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الخبيث؟ فيقولون: فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا حتى ينتهي بها إلى السماء الدنيا فيستفتح فلا تفتح له. ثم قرأ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا تفتح لهم أبواب السماء. فيقول الله عز و جل: اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى فيطرح روحه طرحا. ثم قرأ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «من يشرك بالله فكأنما خر من السماء - فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق. فتعاد روحه في جسده، و يأتيه ملكان فيجلسان فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه، هاه، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه، هاه، لا أدري! فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه، هاه، لا أدري! فينادي مناد من السماء أن كذب عبدي فافرشوا له من النار، و افتحوا له بابا إلى النار فيأتيه من حرها و سمومها، و يضيق عليه القبر حتى تختلف فيه أضلاعه. و يأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثياب منتن الريح فيقول: أبشر بالذي يسوؤك هذا يومك الذي كنت توعد فيقول: من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالشر فيقول: أنا عملك الخبيث، فيقول: رب لا تقم الساعة. أقول: و الرواية من المشهورات رواها جمع من المؤلفين في كتبهم كما رأيت، و في معناها روايات من طرق الشيعة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أودعنا بعضها في البحث الروائي الموضوع في ذيل قوله تعالى: «و لا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات» إلخ،: البقرة: 154، في الجزء الأول من الكتاب.
و في تفسير العياشي، عن سعيد بن جناح قال: حدثني عوف بن عبد الله الأزدي عن جابر بن يزيد الجعفي عن أبي جعفر (عليه السلام): في حديث قبض روح الكافر: فإذا أوتي بروحه إلى السماء الدنيا أغلقت منه أبواب السماء، و ذلك قوله: «لا تفتح لهم أبواب» إلى آخر الآية. يقول الله: ردوها عليه فمنها خلقناكم و فيها نعيدكم و منها نخرجكم تارة أخرى. أقول: و روي ما في معناه في المجمع، عنه (عليه السلام).
و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن عائشة: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تلا هذه الآية: «لهم من جهنم مهاد و من فوقهم غواش» قال: هي طبقات من فوقه، و طبقات من تحته لا يدري ما فوقه أكبر أو ما تحته؟ غير أنه ترفعه الطبقات السفلى و تضعه الطبقات العليا، و يضيق عليهما حتى يكون بمنزلة الزج في القدح.
و فيه، أخرج عبد الرزاق و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ عن علي بن طالب قال: فينا و الله أهل بدر نزلت هذه الآية: «و نزعنا ما في صدورهم من غل». أقول: وقوع الجملة في سياق هذه الآيات و هي مكية يأبى نزولها يوم بدر أو في أهل بدر، و قد وقعت الجملة أيضا في قوله تعالى: «و نزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين»: الحجر: 47، و هي أيضا في سياق آيات أهل الجنة، و هي مكية.
و فيه، أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال: بلغني أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: يحبس أهل الجنة بعد ما يجوزون الصراط حتى يؤخذ لبعضهم من بعض ظلاماتهم في الدنيا فيدخلون الجنة و ليس في قلوب بعضهم على بعض غل. و فيه، أخرج النسائي و ابن أبي الدنيا و ابن جرير في ذكر الموت و ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): كل أهل النار يرى منزله من الجنة يقول: لو هدانا الله، فيكون حسرة عليهم، و كل أهل الجنة يرى منزله من النار فيقول لو لا أن هدانا الله، فهذا شكرهم. و فيه، أخرج ابن أبي شيبة و أحمد و عبد بن حميد و الدارمي و مسلم و الترمذي و النسائي و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن أبي هريرة و أبي سعيد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «و نودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون» قال: نودوا أن صحوا فلا تسقموا، و أنعموا فلا تيأسوا، و شبوا فلا تهرموا، و اخلدوا فلا تموتوا. أقول: و في معنى وراثة الجنة أخبار أخر سيأتي إن شاء الله.
و في الكافي، و تفسير القمي، بإسنادهما عن محمد بن الفضيل عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) في قوله تعالى: «فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين» قال المؤذن أمير المؤمنين (عليه السلام). أقول: و رواه العياشي، عنه (عليه السلام) و رواه في روضة الواعظين، عن الباقر (عليه السلام) قال: المؤذن علي (عليه السلام). و في المعاني، بإسناده عن جابر الجعفي عن أبي جعفر محمد بن علي (عليهما السلام) قال: خطب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) بالكوفة منصرفه من النهروان و بلغه أن معاوية يسبه و يعيبه و يقتل أصحابه فقام خطيبا، و ذكر الخطبة إلى أن قال فيها: و أنا المؤذن في الدنيا و الآخرة قال الله عز و جل: «فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين» أنا ذلك المؤذن، و قال: «و أذان من الله و رسوله» أنا ذلك الأذان. أقول: أي أنا المؤذن بذلك الأذان بقرينة صدر الكلام و يشير (عليه السلام) به إلى قصة آيات البراءة.
و في المجمع، روى الحاكم أبو القاسم الحسكاني بإسناده عن محمد بن الحنفية عن علي أنه قال: أنا ذلك المؤذن. و بإسناده عن أبي صالح عن ابن عباس أنه قال: لعلي في كتاب الله أسماء لا يعرفها الناس قوله: فأذن مؤذن بينهم يقول: ألا لعنة الله على الذين كذبوا بولايتي و استخفوا بحقي. أقول: قال الآلوسي في روح المعاني، في قوله تعالى: «فأذن مؤذن» الآية.
هو على ما روي عن ابن عباس صاحب الصور، و قيل: مالك خازن النار، و قيل: ملك من الملائكة غيرهما يأمره الله تعالى بذلك، و رواية الإمامية عن الرضا و ابن عباس: أنه علي كرم الله وجهه مما لم يثبت من طريق أهل السنة و بعيد عن هذا الإمام أن يكون مؤذنا و هو إذ ذاك في حظائر القدس انتهى.
و قال صاحب المنار، في تفسيره بعد نقله عنه: و أقول: إن واضعي كتب الجرح و التعديل لرواة الآثار لم يضعوها على قواعد المذاهب، و قد كان في أئمتهم من يعد في شيعة علي و آله كعبد الرزاق و الحاكم، و ما منهم أحد إلا و قد عدل كثيرا من الشيعة في روايتهم، فإذا ثبت هذه الرواية بسند صحيح قبلنا و لا نرى كونه في حظائر القدس مانعا منها، و لو كنا نعقل لإسناد هذا التأذين إليه كرم الله وجهه معنى يعد به فضيلة أو مثوبة عند الله تعالى لقبلنا الرواية بما دون السند الصحيح ما لم يكن موضوعا أو معارضا برواية أقوى سندا أو أصح متنا انتهى.
و لقد أجاد فيما أفاد غير أن الآحاد من الروايات لا تكون حجة عندنا إلا إذا كانت محفوفة بالقرائن المفيدة للعلم أعني الوثوق التام الشخصي سواء كانت في أصول الدين أو التاريخ أو الفضائل أو غيرها إلا في الفقه فإن الوثوق النوعي كاف في حجية الرواية كل ذلك بعد عدم مخالفة الكتاب و التفصيل موكول إلى فن أصول الفقه.
و أما كون هذا التأذين فضيلة فلا ينبغي الارتياب فيه و ليعتبر التأذين الأخروي بالتأذين الدنيوي فالتأذين هو إعلام الحكم من قبل صاحبه ليستقر على المحكومين فالمؤذن هو الرابطة يربط صاحب الحكم بالمحكومين بتقرير حكمه عليهم و الرابطة في شرفها و خستها يتبع الطرفين، و من الواضح أن الطرف إذا كان هو الله عز اسمه كان في ذلك من الشرف و الكرامة ما لا يعادله شيء كما في وساطة إبراهيم عن الله سبحانه في قوله: «و أذن في الناس بالحج»: الحج: 27، و وساطة علي (عليه السلام) في إبلاغ آيات البراءة: «و أذان من الله و رسوله إلى الناس» إلخ،: براءة: 3، هذا في الأذان و الإعلام التشريعي الذي يستقر به حكم الحاكم على المحكومين به، و أما الأذان غير التشريعي كما في أذان يوم القيامة أن لعنة الله على الظالمين ففيه استقرار البعد التام و اللعن المطلق الدائم على الظالمين بعد إشهادهم حقية الوعد الإلهي الذي بلغهم منه تعالى من طريق أنبيائه و رسله، و فيه تثبيت ما في ظهور حقائق الوعد و الوعيد للظالمين من النتيجة العائدة إليهم فافهم ذلك و لا يهونن عليك أمر الحقائق، و لا تساهل في البحث عنها إن كنت ذا قدم فيه.
و هذا هو الذي يشير إليه علي (عليه السلام) نفسه فيما مر من خطبته إذ قال: و أنا المؤذن في الدنيا و الآخرة.
و الرواية - كما تقدم - مروية بطرق متعددة من الشيعة عن علي و الباقر و الرضا (عليهما السلام) من طرق أهل السنة ما رواه الحاكم بإسناده عن ابن الحنفية عن علي و بإسناده عن أبي صالح عن ابن عباس و الرجل جيد الرواية ضابط في الحديث ينقل في التفاسير الروائية و غيرها رواياته في التفسير لكنهم لم يذكروا روايته هذه حتى مثل السيوطي الذي يستوفي في الدر المنثور، ما رواه في التفسير ترك ذكر الحديث، و ما أدري ما هو السبب فيه؟.
و في الدر المنثور، أخرج أبو الشيخ و ابن مردويه و ابن عساكر عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يوضع الميزان يوم القيامة فيوزن الحسنات و السيئات فمن رجحت حسناته على سيئاته مثقال صؤابة دخل الجنة، و من رجحت سيئاته على حسناته مثقال صؤابة دخل النار. قيل: يا رسول الله فمن استوى حسناته و سيئاته؟ قال: أولئك أصحاب الأعراف لم يدخلوها و هم يطمعون.
و فيه، أخرج ابن جرير و ابن المنذر عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير قال: سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن أصحاب الأعراف فقال: هم آخر من يفصل بينهم من العباد فإذا فرغ رب العالمين من الفصل بين العباد قال: أنتم قوم أخرجتكم حسناتكم من النار و لم تدخلوا الجنة فأنتم عتقائي فارعوا في الجنة حيث شئتم.
أقول: و روي القول بكون أهل الأعراف هم الذين استوت حسناتهم و سيئاتهم عن ابن مسعود و حذيفة و ابن عباس من الصحابة.
و في الكافي، بإسناده عن حمزة الطيار قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): الناس على ستة أصناف إلى أن قال قلت: و ما أصحاب الأعراف؟ قال: قوم استوت حسناتهم و سيئاتهم فإن أدخلهم النار فبذنوبهم، و إن أدخلهم الجنة فبرحمته، الحديث.
و فيه، بإسناده عن زرارة قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): ما تقول في أصحاب الأعراف؟ فقلت: ما هم إلا مؤمنون أو كافرون إن دخلوا الجنة فهم مؤمنون، و إن دخلوا النار فهم كافرون. فقال: و الله ما هم بمؤمنين و لا كافرين و لو كانوا مؤمنين لدخلوا الجنة كما دخلها المؤمنون، و لو كانوا كافرين لدخلوا النار كما دخلها الكافرون، و لكنهم قوم استوت حسناتهم و سيئاتهم فقصرت بهم الأعمال، و أنهم كما قال الله عز و جل. فقلت: أ من أهل الجنة هم أم من أهل النار؟ فقال: اتركهم كما تركهم الله. قلت: أ فأرجئهم؟ قال: نعم أرجئهم كما أرجأهم الله إن شاء أدخلهم الجنة برحمته، و إن شاء ساقهم إلى النار بذنوبهم و لم يظلمهم. فقلت: هل يدخل الجنة كافر؟ قال: لا. قلت: فهل يدخل النار إلا كافر؟ فقال: لا إلا أن يشاء الله. يا زرارة إني أقول: ما شاء الله أما إن كبرت رجعت و تحللت عنك عقدك.
أقول: قوله (عليه السلام): أما إن كبرت إلخ، أي إن استعظمت قولي و لم تقبله خرجت عما كنت عليه من الحق و انحل ما عقدت عليه قلبك من التصديق.
و الروايات - كما ترى - يفسر أصحاب الأعراف بمن استوت حسناتهم و سيئاتهم في الميزان، و في بعضها أن قوله تعالى: «لم يدخلوها و هم يطمعون» إلخ، من كلامهم و هذا لا ينطبق على آيات الأعراف البتة كما مر بيانه.
على أنك عرفت فيما تقدم من تفسير قوله تعالى: «و الوزن يومئذ الحق» إلخ: الأعراف: 8، أن الميزان الذي يذكره إما أن يثقل و هو رجحان الحسنات أو يخف و هو رجحان السيئات، و لا معنى حينئذ لاستواء الحسنات و السيئات الذي هو ثقل الميزان و خفته معا! فلو فرض أن هناك من لا يشخص الميزان رجحان بعض أعماله على بعض مثلا كان ممن لا يقام له وزن يوم القيامة كالكافر الذي أحبطت أعماله، و المستضعف الذي لم تتم عليه الحجة و لم يتعلق به التكليف.
نعم ربما يستفاد من الرواية الأخيرة أن المراد بالذين استوت حسناتهم و سيئاتهم هم المستضعفون المرجون لأمر الله إن يشأ يغفر لهم و إن يشأ يعذبهم.
فالاستواء كناية عن عدم الرجحان، و يندفع حينئذ إشكال الوزن لكن يبقى الإشكال من جهة الانطباق على ظاهر الآيات و فيها من صفات رجال الأعراف و أصحابه ما لا يتصف به إلا السابقون المقربون المتصدرون في حظيرة الكرامة و السعادة، و هؤلاء المستضعفون إن صح عدهم من أهل السعادة فهم نازلون في أنزل منازلها.
و في المجمع، قال أبو عبد الله (عليه السلام): الأعراف كثبان بين الجنة و النار يوقف عليها كل نبي و كل خليفة مع المذنبين من أهل زمانه كما يقف صاحب الجيش مع الضعفاء من جنده و قد سبق المحسنون إلى الجنة فيقول ذلك الخليفة للمذنبين الواقفين معه: انظروا إلى إخوانكم المحسنين قد سبقوا فيسلم عليهم المذنبون: و ذلك قوله: «و نادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم» ثم أخبر سبحانه و تعالى: أنهم لم يدخلوها و هم يطمعون يعني هؤلاء المذنبين لم يدخلوا الجنة و هم يطمعون أن يدخلهم الله بشفاعة النبي و الإمام، و ينظر هؤلاء المذنبون إلى أهل النار فيقولون ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين. ثم ينادي أصحاب الأعراف و هم الأنبياء و الخلفاء رجالا من أهل النار مقرعين لهم ما أغنى عنكم جمعكم و ما كنتم تستكبرون أ هؤلاء الذين أقسمتم يعني أ هؤلاء المستضعفين الذين كنتم تستضعفونهم و تحتقرونهم بفقرهم و تستطيلون بدنياكم عليهم ثم يقولون لهؤلاء المستضعفين عن أمر من الله بذلك لهم: ادخلوا الجنة لا خوف عليكم و لا أنتم تحزنون. أقول: و روى القمي في تفسيره، عن أبيه عن الحسن بن محبوب عن أبي أيوب عن مرثد عن أبي عبد الله (عليه السلام) ما يقرب منه.
و هذه الرواية - كما ترى - تذكر المستضعفين مكان من استوت حسناتهم و سيئاتهم صريحا ثم تذكر أن هناك جماعة من المستضعفين يطمعون في دخول الجنة و يتعوذون من دخول النار من غير أن تفسر بهم الرجال الذين ذكر الله تعالى أنهم على الأعراف يعرفون كلا بسيماهم، و يسميهم أصحاب الأعراف.
و يسهل حينئذ انطباق مضمونها على الآيات، و لا يبقى من الإشكال إلا ظهور الآيات في أن المسلم على أهل الجنة هم أصحاب الأعراف و الرجال الذين على الأعراف.
و الظاهر أن في الروايات اختلالا و هو ناشىء عن سوء فهم بعض النقلة ثم النقل و لعل الذي بينه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو بعض الأئمة أن هناك جماعة من المستضعفين يدخلهم الله الجنة بشفاعة أو مشية ثم غيره النقل بالمعنى و أخرجه إلى الصورة التي تراها، و هذا ظاهر كسائر الروايات الواردة عن ابن عباس و ابن مسعود و حذيفة و غيرهم القائلة إن الرجال على الأعراف هم الذين استوت حسناتهم و سيئاتهم مع ما فيها من الاختلاف في المتون و كذا رواية القمي عن الصادق (عليه السلام) فراجعها تعرف صدق ما ادعيناه.
و في البصائر، بإسناده عن جابر بن يزيد قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الأعراف ما هم؟ قال: هم أكرم الخلق على الله تبارك و تعالى. أقول: السائل يأخذ الأعراف و الرجال الذين عليه واحدا و على ذلك ورد الجواب منه (عليه السلام) فكأنه أخذ جمعا لعرف بمعنى العريف و العارف و في هذا المعنى روايات كثيرة يأتي بعضها.
و فيه، بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام): «و على الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم» قال: نحن أصحاب الأعراف من عرفنا فمآله إلى الجنة و من أنكرنا فمآله إلى النار. أقول: قوله من عرفنا و من أنكرنا إن كان فعلا و فاعلا فهو، و إن كان فعلا و مفعولا كان على وزان سائر الروايات من عرفهم و عرفوه، و من أنكرهم و أنكروه.
و فيه، بإسناده عن الأصبغ بن نباتة قال: كنت عند أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال له رجل: «و على الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم» فقال له علي (عليه السلام): نحن الأعراف نعرف أنصارنا بسيماهم، و نحن الأعراف الذين لا يعرف الله إلا بسبيل معرفتنا و نحن الأعراف نوقف يوم القيامة بين الجنة و النار فلا يدخل الجنة إلا من عرفنا و عرفناه، و لا يدخل النار إلا من أنكرنا و أنكرناه و ذلك قول الله عز و جل. لو شاء لعرف الناس نفسه حتى يعرفوا حده و يأتونه من بابه، جعلنا أبوابه و صراطه و سبيله و بابه الذي يؤتى منه:. أقول: و رواه أيضا بإسناده عن مقرن عن أبي عبد الله (عليه السلام) و الرجل السائل هو ابن الكواء، و روى هذه القصة أيضا الكليني في الكافي، عن مقرن قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: جاء ابن الكواء، إلخ.
و الظاهر أن المراد بالمعرفة و الإنكار في الرواية المعرفة بالحب و البغض أي لا يدخل الجنة إلا من عرفنا بالولاية و عرفناه بالطاعة، و لا يدخل النار إلا من أنكر ولايتنا و أنكرنا طاعته، و هذا غير معرفتهم الجميع بأعيانهم، و إلا أشكل انطباقه على قوله تعالى: «رجال يعرفون كلا بسيماهم» و قوله تعالى: «و نادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم» إلخ، و لعل ذلك إنما نشأ من نقل بعض الرواة الرواية بالمعنى، و يؤيد ما استظهرناه ما يأتي في الرواية التالية.
و في المجمع، روى الحاكم أبو القاسم الحسكاني بإسناده رفعه إلى الأصبغ بن نباتة قال: كنت جالسا عند علي (عليه السلام) فأتاه ابن الكواء فسأله عن هذه الآية فقال ويحك يا ابن الكواء نحن نوقف يوم القيامة بين الجنة و النار فمن نصرنا عرفناه بسيماه فأدخلناه الجنة و من أبغضنا عرفناه بسيماه فأدخلناه النار.
و في تفسير العياشي، عن هلقام عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله: «و على الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم» ما يعني بقوله: «على الأعراف رجال؟» قال: أ لستم تعرفون عليكم عرفاء على قبائلكم ليعرفوا من فيها من صالح أو طالح؟ قلت: بلى. قال: فنحن أولئك الرجال الذين يعرفون كلا بسيماهم. أقول: و هو مبني على أخذ الأعراف جمعا للعرف كأقطاب جمع قطب و العرف هو المعروف من الأمر و لعله مصدر بمعنى المفعول فمعنى «و على الأعراف رجال»: وكل على أمورهم و أحوالهم المعروفة منهم رجال، و لا ينافي ذلك ما تقدم أن الأعراف أعالي الحجاب و كذا ما تقدم في بعض الروايات أن الأعراف كثبان بين الجنة و النار فإن المعرفة التي هي مادة اللفظ حافظة لمعناه في مشتقاته و موارد استعمالها على أي حال.
و اعلم أن الأخبار من طرق أئمة أهل البيت عليهم السلام في ما يقرب من هذه المعاني في الأعراف كثيرة جدا، و فيما أوردناه للإشارة إلى أنواع مضامينها في تفسير الأعراف و أصحاب الأعراف كفاية.
و في تفسير البرهان، عن الثعلبي في تفسيره عن ابن عباس أنه قال: الأعراف موضع عال من الصراط عليه العباس و حمزة و علي بن أبي طالب و جعفر ذو الجناحين يعرفون شيعتهم ببياض الوجوه و مبغضيهم بسواد الوجوه:. أقول: و قد تقدم في البيان السابق نقل الرواية عن مجمع البيان، عن تفسير الثعلبي عن الضحاك عن ابن عباس. و في الدر المنثور، أخرج الحارث بن أبي أسامة في مسنده و ابن جرير و ابن مردويه عن عبد الله بن مالك الهلالي عن أبيه: قال قائل: يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما أصحاب الأعراف قال: هم قوم خرجوا في سبيل الله بغير إذن آبائهم فاستشهدوا فمنعتهم الشهادة أن يدخلوا النار، و منعتهم معصية آبائهم أن يدخلوا الجنة فهم آخر من يدخل الجنة. أقول: و هذا المعنى مروي بطرق أخرى عن أبي سعيد الخدري و أبي هريرة و ابن عباس و قد تقدم الإشكال عليه بعدم الانطباق على ظاهر الآيات، و الأصول المسلمة تعطي أنه إن تعين الخروج وجوبا عينيا لم يؤثر فيه عدم إذن الوالدين، و إن لم يتعين و بقي على الكفاية كان الخروج محرما و لم ينفعه القتل في المعركة إلا أن يكون مستضعفا من جهة الجهل بالحكم فيعود إلى القول بكون أصحاب الأعراف هم المستضعفين و يجري فيه البحث السابق.
|