بيان
الآيات متصلة بما قبلها مرتبطة بها فإن الآيات السابقة كانت تبين وبال الشرك بالله و التكذيب بآياته و أن ذلك يسوق الإنسان إلى هلاك مؤبد و شقاء مخلد، و هذه الآيات تعلل ذلك بأن رب الجميع واحد إليه تدبير الكل يجب عليهم أن يدعوه و يشكروا له و تؤكد توحيد رب العالمين من جهتين: إحداهما: أنه تعالى هو الذي خلق السماوات و الأرض جميعا ثم دبر أمرها بالنظام الأحسن الجاري فيها الرابط بينها جميعا فهو رب العالمين.
و الثانية: أنه تعالى هو الذي يهيىء لهم الأرزاق بإخراج أنواع الثمرات التي يرتزقون بها بخلق ذلك بأعجب الطرق المتخذة لذلك و ألطفها و هو الإمطار فهو ربهم لا رب سواه.
قوله تعالى: «إن ربكم الله الذي خلق السماوات و الأرض في ستة أيام» سيأتي البحث في معنى السماء و الأيام الستة التي خلقتا فيها في تفسير سورة حم السجدة إن شاء الله.
قوله تعالى: «ثم استوى على العرش - إلى قوله - بأمره» - الاستواء - الاعتدال على الشيء و الاستقرار عليه، و ربما استعمل بمعنى التساوي، يقال: استوى زيد و عمرو أي تساويا قال تعالى: «لا يستوون عند الله».
و - العرش - ما يجلس عليه الملك و ربما كني به عن مقام السلطنة، قال الراغب في المفردات،: العرش في الأصل شيء مسقف، و جمعه عروش قال: «و هي خاوية على عروشها» و منه قيل: عرشت الكرم و عرشتها إذا جعلت له كهيئة سقف.
قال: و العرش شبه هودج للمرأة تشبيها في الهيئة بعرش الكرم، و عرشت البئر جعلت له عريشا، و سمي مجلس السلطان عرشا اعتبارا بعلوه.
قال: و عرش الله ما لا يعلمه البشر على الحقيقة إلا بالاسم، و ليس كما يذهب إليه أوهام العامة فإنه لو كان كذلك لكان حاملا له - تعالى عن ذلك - لا محمولا و الله تعالى يقول: «إن الله يمسك السماوات و الأرض أن تزولا و لئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده»، و قال قوم: هو الفلك الأعلى و الكرسي فلك الكواكب، و استدل بما روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما السماوات السبع و الأرضون السبع في جنب الكرسي إلا كحلقة ملقاة في أرض فلاة و الكرسي عند العرش كذلك انتهى.
و قد استقرت العادة منذ القديم أن يختص العظماء من ولاة الناس و حكامهم و مصادر أمورهم من المجلس بما يختص بهم و يتميزون به عن غيرهم كالبساط و المتكإ حتى آل الأمر إلى إيجاد السرر و التخوت فاتخذ للملك ما يسمى عرشا و هو أعظم و أرفع و أخص بالملك، و الكرسي يعمه و غيره، و استدعى التداول و التلازم أن يعرف الملك بالعرش كما كان العرش يعرف بالملك في أول الأمر فصار العرش حاملا لمعنى الملك ممثلا لمقام السلطنة إليه يرجع و ينتهي، و فيه تتوحد أزمة المملكة في تدبير أمورها و إدارة شئونها.
و اعتبر لاستيضاح ذلك مملكة من الممالك قطنت فيها أمة من الأمم لعوامل طبيعية أو اقتصادية أو سياسية استقلوا بذلك في أمرهم و تميزوا من غيرهم فأوجدوا مجتمعا من المجتمعات الإنسانية و اختلطوا و امتزجوا بالأعمال و نتائجها ثم اقتسموا في التمتع بالنتائج فاختص كل بشيء منها على قدر زنته الاجتماعية.
كان من الواجب أن تحفظ هذه الوحدة و الاتصال المتكون بالاجتماع بمن يقوم عليها فإن التجربة القطعية أوضحت للإنسان أن العوامل المختلفة و الأعمال و الإرادات المتشتتة إذا وجهت نحو غرض واحد و سيرت في مسير واحد لم تدم على نعت الاتحاد و الملاءمة إلا أن تجمع أزمة الأمور المختلفة في زمام واحد و توضع في يد من يحفظه و يديم حياته بالتدبير الحسن فتحيا به الجميع و إلا فسرعان ما تتلاشى و تتشتت.
و لذلك ترى أن المجتمع المترقي ينوع الأعمال الجزئية نوعا نوعا ثم يقدم زمام كل نوع إلى كرسي من الكراسي كالدوائر و المصالح الجزئية المحلية، ثم ينوع أزمة الكراسي فيعطي كل نوع كرسيا فوق ذلك، و على هذا القياس حتى ينتهي الأمر إلى زمام واحد يقدم إلى العرش و يهدى لصاحب العرش.
و من عجيب أمر هذا الزمام و انبساطه و سعته في عين وحدته أن الأمر الواحد الصادر من هذا المقام يسير في منازل الكراسي التابعة له على كثرتها و اختلاف مراتبها فيتشكل في كل منزل بشكل يلائمه و يعرف فيه، و يتصور لصاحبه بصورة ينتفع بها و يأخذها ملاكا لعمله.
يقول مصدر الأمر «ليجر الأمر» فتأخذه المصالح المالية تكليفا ماليا و مصالح السياسية تكليفا سياسيا، و مصالح الجيش تكليفا دفاعيا و على هذا القياس كلما صعد أو نزل.
فجميع تفاصيل الأعمال و الإرادات و الأحكام المجراة فيها المنبسطة في المملكة و هي لا تحصى كثرة أو لا تتناهى لا تزال تتوحد و تجتمع في الكراسي حتى تنتهي إلى العرش فتتراكم عنده بعضها على بعض و تندمج و تتداخل و تتوحد حتى تصير واحدا هو في وحدته كل التفاصيل فيما دون العرش، و إذا سار هذا الواحد إلى ما دونه لم يزل يتكثر و يتفصل حتى ينتهي إلى أعمال أشخاص المجتمع و إراداتهم.
هذا في النظام الوضعي الاعتبار الذي عندنا، و هو لا محالة مأخوذ من نظام التكوين، و الباحث عن النظام الكوني يجد أن الأمر فيه على هذه الشاكلة، فالحوادث الجزئية تنتهي إلى علل و أسباب جزئية، و تنتهي هي إلى أسباب أخرى كلية حتى تنتهي الجميع إلى الله سبحانه غير أن الله سبحانه مع كل شيء و هو محيط بكل شيء، و ليس كذلك الملك من ملوكنا لحقيقية ملكه تعالى و اعتبارية ملك غيره.
ففي عالم الكون على اختلاف مراحل مرحلة تنتهي إليها جميع أزمة الحوادث الملقاة على كواهل الأسباب، و أزمة الأسباب على اختلاف أشخاصها و أنواعها، و ترتب مراتبها هو المسمى عرشا كما سيجيء، و فيه صور الأمور الكونية المدبرة بتدبير الله سبحانه كيفما شاء، و عنده مفاتح الغيب.
فقوله تعالى: «ثم استوى على العرش» كناية عن استيلائه على ملكه و قيامه بتدبير الأمر قياما ينبسط على كل ما دق و جل، و يترشح منه تفاصيل النظام الكوني ينال به كل ذي بغية بغيته، و تقضي لكل ذي حاجة حاجته، و لذلك عقب حديث الاستواء في سورة يونس في مثل الآية بقوله: «يدبر الأمر» إذ قال: «ثم استوى على العرش يدبر الأمر»: يونس: 3.
ثم فصل بقوله: «يغشي الليل النهار» و يستره به «يطلبه» أي يطلب الليل النهار ليغشيه و يستره «حثيثا» أي طلبا حثيثا سريعا، و فيه إشعار بأن الظلمة هي الأصل، و النهار الذي يحصل من إنارة الشمس ما يواجهها مما حولها، عارض لليل الذي هو الظلمة المخروطية اللازمة لأقل من نصف كرة الأرض المقابل للجانب المواجه للشمس كان الليل يعقبه و يهجم عليه.
و قوله: «و الشمس و القمر و النجوم مسخرات بأمره» أي خلقهن و الحال أنها مسخرات بأمره يجرين على ما يشاء و لما يشاء و قرىء الجميع بالرفع، و على ذلك فالشمس مبتدأ و القمر و النجوم معطوفة عليها، و مسخرات خبره، و الباء في قوله: «بأمره» للسببية.
و مجموع قوله: «يغشي الليل النهار» إلخ، يجري مجرى التفسير لقوله: «ثم استوى على العرش» على ما يعطيه السياق، و هو الذي تعطيه أغلب الآيات القرآنية التي يذكر فيها العرش فإنها تذكر معه شيئا من التدبير أو ما يئول إليه بحسب المعنى.
قوله تعالى: «ألا له الخلق و الأمر تبارك الله رب العالمين» - الخلق - هو التقدير بضم شيء إلى شيء و إن استقر ثانيا في عرف الدين و أهله في معنى الإيجاد أو الإبداع على غير مثال سابق، و أما - الأمر - فيستعمل في معنى الشأن و جمعه أمور، و مصدرا بمعنى يقرب من بعث الإنسان غيره نحو ما يريده يقال أمرته بكذا أمرا، و ليس من البعيد أن يكون هذا هو الأصل في معنى اللفظ ثم يستعمل الأمر اسم مصدر بمعنى نتيجة الأمر و هو النظم المستقر في جميع أفعال المأمور المنبسط على مظاهر حياته، فينطبق في الإنسان على شأنه في الحياة ثم يتوسع فيه فيستعمل بمعنى الشأن في كل شيء فأمر كل شيء هو الشأن الذي يصلح له وجوده، و ينظم له تفاريق حركاته و سكناته و شتى أعماله و إراداته، يقال: أمر العبد إلى مولاه، أي هو يدبر حياته و معاشه، و أمر المال إلى مالكه، و أمر الإنسان إلى ربه أي بيده تدبيره في مسير حياته.
و لا يرد عليه أن الأمر بمعنى الشأن يجمع على «أمور» و بمعنى يقابل النهي على «أوامر» و هو ينافي رجوع أحدهما إلى الآخر معنى!، فإن أمثال هذه التفننات كثيرة في اللغة يعثر عليها المتتبع الناقد فالأمر كالمتوسط بين من يملكه و بين من يملك منه كالمولى و العبد و يضاف إلى كل منهما يقال: أمر العبد و أمر المولى، قال تعالى: «و أمره إلى الله»: البقرة: 275، و قال: «أتى أمر الله»: النحل: 1.
و قد فسر سبحانه أمره الذي يملكه من الأشياء بقوله: «إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء»: يس: 83، فبين أن أمره الذي يملكه من كل شيء سواء كان ذاتا أو صفة أو فعلا و أثرا هو قول كن و كلمة الإيجاد و هو الوجود الذي يفيضه عليه فيوجد هو به، فإذا قال لشيء: كن فكان، فقد أفاض عليه ما وجد به من الوجود، و هذا الوجود الموهوب له نسبة إلى الله سبحانه و هو بذاك الاعتبار أمره تعالى و كلمة «كن» الإلهية، و له نسبة إلى الشيء الموجود، و هو بذاك الاعتبار أمره الراجع إلى ربه، و قد عبر عنه في الآية بقوله: «فيكون».
و قد ذكر تعالى لكل من النسبتين - و إن شئت فقل: للإيجاد المنسوب إليه تعالى و للوجود المنسوب إلى الشيء - نعوتا و أحكاما مختلفة سنبحث عنها إن شاء الله في محل يناسبه.
و الحاصل: أن الأمر هو الإيجاد سواء تعلق بذات الشيء أو بنظام صفاته و أفعاله فأمر ذوات الأشياء إلى الله و أمر نظام وجودها إلى الله لأنها لا تملك لنفسها شيئا البتة، و الخلق هو الإيجاد عن تقدير و تأليف سواء كان ذلك بنحو ضم شيء إلى شيء كضم أجزاء النطفة بعضها إلى بعض و ضم نطفة الذكور إلى نطفة الإناث ثم ضم الأجزاء الغذائية إليها في شرائط خاصة حتى يخلق بدن إنسان مثلا، أم من غير أجزاء مؤلفة كتقدير ذات الشيء البسيط و ضم ما له من درجة الوجود وحده و ما له من الآثار و الروابط التي له مع غيره، فالأصول الأولية مقدرة مخلوقة كما أن المركبات مقدرة مخلوقة.
قال الله تعالى: «و خلق كل شيء فقدره تقديرا»: الفرقان: 2، و قال: «الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى»: طه: 50، و قال: «الله خالق كل شيء»: الزمر: 62، فعمم خلقه كل شيء.
فقد اعتبر في معنى الخلق تقدير جهات وجود الشيء و تنظيمها سواء كانت متمايزة منفصلا بعضها عن بعض أم لا بخلاف الأمر.
و لذا كان الخلق يقبل التدريج كما قال: «خلق السماوات و الأرض في ستة أيام» بخلاف الأمر قال تعالى: «و ما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر»: القمر: 50، و لذلك أيضا نسب في كلامه إلى غيره الخلق كقوله: «و إذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيه»: المائدة: 110، و قال: «فتبارك الله أحسن الخالقين»: المؤمنون: 14.
و أما الأمر بهذا المعنى فلم ينسبه إلى غيره بل خصه بنفسه، و جعله بينه و بين ما يريد حدوثه و كينونته كالروح الذي يحيا به الجسد.
انظر إلى قوله تعالى: «و الشمس و القمر و النجوم مسخرات بأمره» و قوله: «و لتجري الفلك بأمره»: الروم: 46، و قوله: ينزل الملائكة بالروح من أمره»: النحل: 2، و قوله: «و هم بأمره يعملون»: الأنبياء: 27، إلى غير ذلك من الآيات تجد أنه تعالى يجعل ظهور هذه الأشياء بسببية أمره أو بمصاحبة أمره، فنلخص أن الخلق و الأمر يرجعان بالآخرة إلى معنى واحد و إن كانا مختلفين بحسب الاعتبار.
فإذا انفرد كل من الخلق و الأمر صح أن يتعلق بكل شيء، كل بالعناية الخاصة به، و إذا اجتمعا كان الخلق أحرى بأن يتعلق بالذوات لما أنها أوجدت بعد تقدير ذواتها و آثارها، و يتعلق الأمر بآثارها و النظام الجاري فيها بالتفاعل العام بينها لما أن الآثار هي التي قدرت للذوات و لا وجه لتقدير المقدر فافهم ذلك.
و لذلك قال تعالى: «ألا له الخلق و الأمر» فأتى بالعطف المشعر بالمغايرة بوجه و كان المراد بالخلق ما يتعلق من الإيجاد بذوات الأشياء، و بالأمر ما يتعلق بآثارها و الأوضاع الحاصلة فيها و النظام الجاري بينها كما ميز بين الجهتين في أول الآية حيث قال: «خلق السماوات و الأرض في ستة أيام» و هذا هو إيجاد الذوات «ثم استوى على العرش يدبر الأمر» و هو إيجاد النظام الأحسن بينها بإيقاع الأمر تلو الأمر و الإتيان بالواحد منه بعد الواحد.
و ما ربما يقال: إن العطف لا يقتضي المغايرة، و لو اقتضى ذلك لدل في قوله: «من كان عدوا لله و ملائكته و رسله و جبريل»: البقرة: 98 على كون جبريل من غير جنس الملائكة! مدفوع بأن المراد مغايرة ما و لو اعتبارا لقبح قولنا جاءني زيد و زيد و رأيت عمرا و عمرا فلا محيص عن مغايرة ما و لو بحسب الاعتبار، و جبريل مع كونه من جنس الملائكة يغايره غيره بما له من المقام المعلوم و القوة و المكانة عند ذي العرش.
و قوله تعالى: «تبارك الله رب العالمين» أي كان ذا بركات ينزلها على مربوبيه من جميع من في العالمين فهو ربهم.
كلام في معنى العرش
للناس في معنى العرش بل في معنى قوله: «ثم استوى على العرش» و الآيات التي في هذا المساق مسالك مختلفة، فأكثر السلف على أنها و ما يشاكلها من الآيات من المتشابهات التي يجب أن يرجع علمها إلى الله سبحانه، و هؤلاء يرون البحث عن الحقائق الدينية و التطلع إلى ما وراء ظواهر الكتاب و السنة بدعة، و العقل يخطئهم في ذلك و الكتاب و السنة لا يصدقانهم فآيات الكتاب تحرض كل التحريض على التدبر في آيات الله و بذل الجهد في تكميل معرفة الله و معرفة آياته بالتذكر و التفكر و النظر فيها و الاحتجاج بالحجج العقلية، و متفرقات السنة المتواترة معنى توافقها، و لا معنى للأمر بالمقدمة و النهي عن النتيجة، و هؤلاء هم الذين كانوا يحرمون البحث عن حقائق الكتاب و السنة - حتى البحث الكلامي الذي بناؤه على تسليم الظواهر الدينية و وضعها على ما تفيده بحسب الفهم العامي ثم الدفاع عنها بما تيسر من المقدمات المشهورة و المسلمة عند أهل الدين - و يعدونها بدعة فلنتركهم و شأنهم.
و أما طبقات الباحثين فقد اختلفوا في معناه على أقوال: 1 - حمل الكلمة على ظاهر معناها فالعرش عندهم مخلوق كهيئة السرير له قوائم و هو موضوع على السماء السابعة و الله - تعالى عما يقول الظالمون - مستو عليه كاستواء الملوك منا على عروشهم، و أكثر هؤلاء على أن العرش و الكرسي شيء واحد، و هو الذي وصفناه.
و هؤلاء هم المشبهة من المسلمين، و الكتاب و السنة و العقل تخاصمهم في ذلك و تنزه رب العالمين أن يماثل شيئا من خلقه و يشبهه في ذات، أو صفة، أو فعل تعالى و تقدس.
2 - أن العرش هو الفلك التاسع المحيط بالعالم الجسماني و المحدد للجهات و الأطلس الخالي من الكواكب، و الراسم بحركته اليومية للزمان، و في جوفه مماسا به الكرسي و هو الفلك الثامن الذي فيه الثوابت، و في جوفه الأفلاك السبعة الكلية التي هي أفلاك السيارات السبع: زحل و المشتري و المريخ و الشمس و الزهرة و عطارد و القمر بالترتيب محيطا بعضها ببعض.
و هذه هي التي يفرضها علم الهيئة على مسلك بطليموس لتنظيم الحركات العلوية الظاهرة للحس طبقوا عليها ما يذكره القرآن من السماوات السبع و الكرسي و العرش فما وجدوا من أحكامها المذكورة في الهيئة و الطبيعيات لا يخالف الظواهر قبلوه، و ما وجدوه يخالف الظواهر الموجودة في الكتاب ردوه كقولهم: ليس للفلك المحدد وراء لا خلأ و لا ملأ، و قولهم بدوام الحركات الفلكية، و استحالة الخرق و الالتيام عليها، و كون كل فلك يماس بسطحه سطح غيره من غير وجود بعد بينها و لا سكنة فيها، و كون أجسامها بسيطة متشابهة لا ثقب فيها و لا باب.
و الظواهر من القرآن و الحديث تثبت أن وراء العرش حجبا و سرادقات، و أن له قوائم، و أن له حملة، و أن الله سيطوي السماء كطي السجل للكتب، و أن في السماء سكنة من الملائكة ليس فيها موضع إهاب إلا و فيه ملك راكع أو ساجد يلجونه و ينزلون منه و يصعدون إليه، و أن للسماء أبوابا، و أن الجنة فيها عند سدرة المنتهى التي ينتهي إليها أعمال العباد إلى غير ذلك مما ينافي بظاهره ما افترضه علماء الهيئة و الطبيعيات سابقا، و القائلون منا إن السماوات و الكرسي و العرش هي ما افترضوه من الأفلاك التسعة الكلية يدفعون ذلك كله بمخالفة الظواهر.
و لم ينبههم هذا الاختلاف في الوصف على أن ما يصفه القرآن غير ما يفترضه أولئك لتوجيه الحركات العلوية حتى أوضحت الأبحاث الأخيرة العميقة في الهيئة و الطبيعيات المؤيدة بالحس و التجربة بطلان الفرضيات السابقة من أصلها فاضطر هؤلاء إلى فسخ تطبيقهم و رفع اليد عنه.
3 - أن لا مصداق للعرش خارجا و إنما قوله تعالى: «ثم استوى على العرش» و «الرحمن على العرش استوى» كناية عن استيلائه تعالى على عالم الخلق، و كثيرا ما يطلق الاستواء على الشيء على الاستيلاء عليه كما قيل: قد استوى بشر على العراق.
من غير سيف و دم مهراق.
أو أن الاستواء على العرش معناه الشروع في تدبير الأمور كما أن الملوك إذا أرادوا الشروع في إدارة أمور مملكتهم استووا على عروشهم و جلسوا عليه و الشروع و الأخذ في أمر و جميع ما ينبىء عن تغير الأحوال و تبدلها و إن كانت ممتنعة في حقه تعالى لتنزهه تعالى عن التغير و التبدل لكن شأنه تعالى يسمى شروعا و أخذا بالنظر إلى حدوث الأشياء بذواتها و أعيانها يومئذ فيسمى شأنه تعالى و هو الشمول بالرحمة إذا تعلق بها شروعا و أخذا بالتدبير نظير سائر الأفعال الحادثة المقيدة بالزمان المنسوبة إليه تعالى كقولنا خلق الله فلانا، و أحيا فلانا، و أمات فلانا، و رزق فلانا، و نحو ذلك.
و فيه: أن كون قوله: «ثم استوى على العرش» جاريا مجرى الكناية بحسب اللفظ و إن كان حقا لكنه لا ينافي أن يكون هناك حقيقة موجودة تعتمد عليها هذه العناية اللفظية، و السلطة و الاستيلاء و الملك و الإمارة و السلطنة و الرئاسة و الولاية و السيادة و جميع ما يجري هذا المجرى فينا أمور وضعية اعتبارية ليس في الخارج منها إلا آثارها على ما سمعته منا كرارا في الأبحاث الاعتبارية السابقة، و الظواهر الدينية تشابه من حيث البيان ما عندنا من بيانات أمورنا و شئوننا الاعتبارية لكن الله سبحانه يبين لنا أن هذه البيانات وراءها حقائق واقعية، و جهات خارجية ليست بوهمية اعتبارية.
فمعنى الملك و السلطنة و الإحاطة و الولاية و غيرها فيه سبحانه هو المعنى الذي نفهمه من كل هذه الألفاظ عندنا لكن المصاديق غير المصاديق فلها هناك مصاديق حقيقية خارجية على ما يليق بساحة قدسه تعالى و أما ما عندنا من مصاديق هذه المفاهيم فهي أوصاف ذهنية ادعائية و جهات وضعية اعتبارية لا تتعدى الوهم، و إنما وضعناها و أخذنا بها للحصول على آثار حقيقية هي آثارها بحسب الدعوى فلا يسمى الرئيس رئيسا إلا لأن يتبع الذين نسميهم مرءوسين إراداته و عزائمه لا لأن الجماعة بدون حقيقة و هو رأسهم حقيقة، و لا نسمي جزء الهيئة المؤتلفة عضوا لأنه يد أو رجل أو كبد أو رئة حقيقة بل لأن يتصدى من الأمور المقصودة في هذا التشكيل و الاجتماع ما يتصداه عضو من الأعضاء الموجودة في بدن الإنسان مثلا.
و هذا هو الذي يسميه الله تعالى لعبا و لهوا إذ يقول: «و ما هذه الحياة الدنيا إلا لهو و لعب»: العنكبوت: 64، فالمقاصد الدنيوية من زينة و مال و أولاد و تقدم و رئاسة و حكومة و أمثالها ليست إلا عناوين وهمية لا تحقق لها إلا في الأوهام، و ليس الاشتغال بها لغير المقاصد الأخروية إلا اشتغالا بأمور وهمية و صور خيالية، و لا المسابقة في تحصيلها إلا كمسابقة الأطفال في تحصيل التقدم في الملاعب التي يشتغلون بها، و ليس إلا تحصيل حالة خيالية ليس منها في خارجة عين و لا أثر.
و حاشا لله سبحانه أن يذم هذه الحياة الفانية الغارة، و يسميها لعبا لما تشتمل عليه من الشئون الوهمية ثم يكون تعالى و تقدس أول اللاعبين!.
و بالجملة قوله تعالى: «ثم استوى على العرش» في عين أنه تمثيل يبين به أن له إحاطة تدبيرية لملكه يدل على أن هناك مرحلة حقيقية هي المقام الذي يجتمع فيه جميع أزمة الأمور على كثرتها و اختلافها، و يدل عليه آيات أخر تذكر العرش وحده و ينسبه إليه تعالى كقوله تعالى: «و هو رب العرش العظيم»: التوبة: 129، و قوله: «الذين يحملون العرش و من حوله»: المؤمن: 7، و قوله: «و يحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية»: الحاقة: 17، و قوله: «حافين من حول العرش»: الزمر: 75.
فالآيات - كما ترى - تدل بظاهرها على أن العرش حقيقة من الحقائق العينية و أمر من الأمور الخارجية، و لذلك نقول: إن للعرش في قوله: «ثم استوى على العرش» مصداقا خارجيا، و لم يوضع في الكلام لمجرد تتميم المثل كما نقوله في أمثال كثيرة مضروبة في القرآن فلا نقول في مثل آية النور مثلا: أن في الوجود زجاجة إلهية أو شجرة زيتونة إلهية أو زيتا إلهيا، و نقول: إن في الوجود عرشا إلهيا أو لوحا و قلما إلهيين و كتابا مكتوبا فافهم ذلك.
و هذا العرش الذي يستفاد من مثل قوله: «ثم استوى على العرش» أنه مقام في الوجود يجتمع فيه أزمة الحوادث و الأمور كما يجتمع أزمة المملكة في عرش الملك على التفصيل الذي تقدم في بيان الآية يدل على تحقق هذه الصفة له قوله تعالى: «ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه»: يونس: 3، ففسر الاستواء على العرش بتدبير الأمر منه، و عقبه بقوله: «ما من شفيع إلا من بعد إذنه» و الآية لما كانت في مقام وصف الربوبية و التدبير التكويني كان المراد بالشفاعة الشفاعة في أمر التكوين، و هو السببية التي توجد في الأسباب التكوينية التي هي وسائط متخللة بين الحوادث و الكائنات و بينه تعالى كالنار المتخللة بينه و بين الحرارة التي يخلقها، و الحرارة المتخللة بينه و بين التخلخل أو ذوبان الأجسام فنفي السببية عن كل شيء إلا من بعد إذنه لإفادة توحيد الربوبية التي يفيده صدر الآية: «إن ربكم الله الذي خلق السماوات و الأرض».
و في قوله: «ما من شفيع إلا من بعد إذنه» بيان حقيقة أخرى و هي رجوع التخلف في التدبير إلى التدبير بعينه بواسطة الإذن، فإن الشفيع إنما يتوسط بين المشفوع له المحكوم بحكم، المشفوع عنده، ليغير بالشفاعة مجرى حكم سيجري لو لا الشفاعة فالشمس المضيئة بالمواجهة مثلا شفيعة متوسطة بين الله سبحانه و بين الأرض لاستنارتها بالنور و لو لا ذلك لكان مقتضى تقدير الأسباب العامة و نظمها أن تحيط بها الظلمة ثم الحائل من سقف أو أي حجاب آخر شفيع آخر يسأله تعالى أن لا يقع نور الشمس على الأرض باستقامة و هكذا.
فإذا كانت شفاعة الشفيع - و هو سبب مغير لما سبقه من الحكم - مستندة إلى إذنه تعالى كان معناه أن التدبير العام الجاري إنما هو من الله سبحانه، و أن كل ما يتخذ من الوسائل لإبطال تدبيره و تغيير مجرى حكمه أعم مما يتخذه الأسباب التكوينية و ما يتخذه الإنسان من التدابير للفرار عن حكم الأسباب الجارية الإلهية كل ذلك من التدبير الإلهي.
و لذلك نرى الأشياء الردية تعصي فلا تقبل الصور الشريفة و المواهب السامية، لقصور استعدادها عن قبولها، و هذا الرد منها بعينه قبول، و الامتناع من قبول التربية بعينه تربية أخرى إلهية و الإنسان على ما به من الجهل يستعلي على ربه و يستنكف عن الخضوع لعظمته و هو بعينه انقياد لحكمه، و يمكر به و هو بعينه ممكور به قال تعالى: «و ما يمكرون إلا بأنفسهم و ما يشعرون»: الأنعام: 123، و قال تعالى: «و ما يضلون إلا أنفسهم و ما يشعرون»: آل عمران: 69، و قال تعالى: «و ما أنتم بمعجزين في الأرض و ما لكم من دون الله من ولي و لا نصير»: الشورى: 31.
فقوله: «ما من شفيع إلا من بعد إذنه» يدل على أن شفاعة الشفاعة أو الأسباب المخالفة التي تحول بين التدبير الإلهي و بين مقتضياته داخلة من جهة أخرى و هي جهة الإذن في التدبير الإلهي فافهم ذلك.
فما مثل الأسباب و العوامل المتخالفة المتزاحمة في الوجود إلا كمثل كفتي الميزان تتعاركان بالارتفاع و الانخفاض، و الثقل و الخفة لكن اختلافهما بعينه اتفاق منهما في إعانة صاحب الميزان في تشخيص ما يريد تشخيصه من الوزن.
و يقرب من آية سورة يونس في الدلالة على شمول التدبير و نفي مدبر غيره تعالى قوله: «ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي و لا شفيع أ فلا تتذكرون»: السجدة: 4، و يقرب من قوله: «ثم استوى على العرش يدبر الأمر» في الإشارة إلى كون العرش مقاما تنتشىء فيه التدابير العامة و تصدر عنه الأوامر التكوينية قوله تعالى: «ذو العرش المجيد فعال لما يريد»: البروج: 16، و هو ظاهر.
و إلى هذا المعنى يشير قوله تعالى: «و ترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم و قضي بينهم بالحق»: الزمر: 75، فإن الملائكة هم الوسائط الحاملون لحكمه و المجرون لأمره العاملون بتدبيره فليكونوا حافين حول عرشه.
و كذا قوله تعالى: «الذين يحملون العرش و من حوله يسبحون بحمد ربهم و يؤمنون به و يستغفرون للذين آمنوا»: المؤمن: 7، و في الآية مضافا إلى ذكر احتفافهم بالعرش شيء آخر و هو أن هناك حملة يحملون العرش، و هم لا محالة أشخاص يقوم بهم هذا المقام الرفيع و الخلق العظيم الذي هو مركز التدابير الإلهية و مصدرها، و يؤيد ذلك ما في آية أخرى و هي قوله: «و يحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية»: الحاقة: 17.
و إذ كان العرش هو المقام الذي يرجع إليه جميع أزمة التدابير الإلهية و الأحكام الربوبية الجارية في العالم كما سمعت، كان فيه صور جميع الوقائع بنحو الإجمال حاضرة عند الله معلومة له، و إلى ذلك يشير قوله تعالى: «ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض و ما يخرج منها و ما ينزل من السماء و ما يعرج فيها و هو معكم أينما كنتم و الله بما تعملون بصير»: الحديد: 4، فقوله: «يعلم ما يلج» إلخ، يجري مجرى التفسير للاستواء على العرش فالعرش مقام العلم كما أنه مقام التدبير العام الذي يسع كل شيء، و كل شيء في جوفه.
و لذلك هو محفوظ بعد رجوع الخلق إليه تعالى لفصل القضاء كما في قوله: «و ترى الملائكة حافين من حول العرش» و موجود مع هذا العالم المشهود كما يدل عليه آيات خلق السماوات و الأرض، و موجود قبل هذه الخلقة كما يدل عليه قوله: «و هو الذي خلق السماوات و الأرض في ستة أيام و كان عرشه على الماء»: هود: 7.
قوله تعالى: «ادعوا ربكم تضرعا و خفية» إلى آخر الآيتين.
التضرع هو التذلل من الضراعة و هي الضعف و الذلة.
و الخفية هي الاستتار و ليس من البعيد أن يكون كناية عن التذلل جيء به لتأكيد التضرع فإن المتذلل يكاد يختفي من الصغار و الهوان.
الآية السابقة: «إن ربكم الله الذي خلق» الآية تذكر بربوبيته وحده لا شريك له من جهة أنه هو الخالق وحده، و إليه تدبير خلقه وحده، فتعقيبها بهاتين الآيتين بمنزلة أخذ النتيجة من البيان، و هي الدعوة إلى دعائه و عبوديته، و الحكم بأخذ دين يوافق ربوبيته تعالى و هي الربوبية من غير شريك في الخلق و لا في التدبير.
و لذلك دعا أولا إلى دين العبودية فقال: «ادعوا ربكم تضرعا و خفية إنه لا يحب المعتدين و لا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها» فأمر أن يدعوه بالتضرع و التذلل و أن يكون ذلك خفته من غير المجاهرة البعيدة عن أدب العبودية الخارجة عن زيها - بناء على أن تكون الواو في «تضرعا و خفية» للجمع - أو أن يدعوه بالتضرع و الابتهال الملازم عادة للجهر بوجه أو بالخفية إخفاتا فإن ذلك هو لازم العبودية و من عدا ذلك فقد اعتدى عن طور العبودية و إن الله لا يحب المعتدين.
و من الممكن أن يكون المراد بالتضرع و الخفية: الجهر و السر و إنما وضع التضرع موضع الجهر لكون الجهر في الدعاء منافيا لأدب العبودية إلا أن يصاحب التضرع.
هذا فيما بينهم و بين الله، و أما فيما بينهم و بين الناس فأن لا يفسدوا في الأرض بعد إصلاحها فليس حقيقة الدين فيما يرجع إلى حقوق الناس إلا أن يصلح شأنهم بارتفاع المظالم من بينهم و معاملتهم بما يعينهم على التقوى، و يقربهم من سعادة الحياة في الدنيا و الآخرة ثم كرر الدعوة إليه و أعاد البعث إلى دعائه بالجمع بين الطريقين الذين لم يزل البشر يعبد الرب أو الأرباب من أحدهما و هما طريق الخوف و طريق الرجاء فإن قوما كانوا يتخذون الأرباب خوفا فيعبدونهم ليسلموا من شرورهم، و كان قوما يتخذون الأرباب طمعا فيعبدونهم لينالوا خيرهم و بركتهم لكن العبادة عن محض الخوف ربما ساق الإنسان إلى اليأس و القنوط فدعاه إلى ترك العبادة، و قد شوهد ذلك كثيرا، و العبادة عن محض الطمع ربما قاد إلى استرسال الوقاحة و زوال زي العبودية فدعاه إلى ترك العبادة، و قد شوهد أيضا كثيرا فجمع سبحانه بينهما و دعا إلى الدعاء باستعمالهما معا فقال: «و ادعوه خوفا و طمعا» ليصلح كل من الصفتين ما يمكن أن تفسده الأخرى، و في ذلك وقوع في مجرى الناموس العام الجاري في العالم أعني ناموس الجذب و الدفع.
و قد سمى الله سبحانه هذا الاعتدال في العبادة و التجنب عن إفساد الأرض بعد إصلاحها إحسانا و بشر المجيبين لدعوته بأنهم يكونون حينئذ محسنين فتقرب منهم رحمته إن رحمة الله قريب من المحسنين.
و لم يقل: رحمة الله قريبة، قيل: لأن الرحمة مصدر يستوي فيه الوجهان، و قيل: لأن المراد بالرحمة الإحسان، و قيل: لأن قريب فعيل بمعنى المفعول فيستوي فيه المذكر و المؤنث و نظيره قوله تعالى: «لعل الساعة قريب»: الشورى: 17.
قوله تعالى: «و هو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته» إلى آخر الآية و في الآية بيان لربوبيته تعالى من جهة العود كما أن في قوله: «إن ربكم الله» الآية بيانا لها من جهة البدء.
و قوله: «بشرا» و أصله البشر بضمتين جمع بشير كالنذر جمع نذير، و المراد بالرحمة المطر، و قوله: «بين يدي رحمته» أي قدام المطر، و فيه استعارة تخييلية بتشبيه المطر بالإنسان الغائب الذي ينتظره أهله فيقدم و بين يديه بشير يبشر بقدومه.
و الإقلال الحمل، و السحاب و السحابة الغمام و الغمامة كتمر و تمرة و كون السحاب ثقالا باعتبار حمله ثقل الماء، و قوله «لبلد ميت» أي لأجل بلد ميت أو إلى بلد ميت و الباقي ظاهر.
و الآية تحتج بإحياء الأرض على جواز إحياء الموتى لأنهما من نوع واحد، و حكم الأمثال فيما يجوز و فيما لا يجوز واحد و ليس الأحياء الذين عرض لهم عارض الموت بمنعدمين من أصلهم فإن أنفسهم و أرواحهم باقية محفوظة و إن تغيرت أبدانهم، كما أن النبات يتغير ما على وجه الأرض منها و يبقى ما في أصله من الروح الحية على انعزال من النشوء و النماء ثم تعود إليه حياته الفعالة كذلك يخرج الله الموتى فما إحياء الموتى في الحشر الكلي يوم البعث إلا كإحياء الأرض الميتة في بعثه الجزئي العائد كل سنة، و للكلام ذيل سيوافيك في محل آخر إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: «و البلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه» إلى آخر الآية.
النكد القليل.
و الآية بالنظر إلى نفسها كالمثل العام المضروب لترتب الأعمال الصالحة و الآثار الحسنة على الذوات الطيبة الكريمة كخلافها على خلافها كما تقدم في قوله: «كما بدأكم تعودون» لكنها بانضمامها إلى الآية السابقة تفيد أن الناس و إن اختلفوا في قبول الرحمة فالاختلاف من قبلهم و الرحمة الإلهية عامة مطلقة.
بحث روائي
لم ينقل عن طبقة الصحابة بحث حقيقي عن مثل العرش و الكرسي و سائر الحقائق القرآنية و حتى أصول المعارف كمسائل التوحيد و ما يلحق بها بل كانوا لا يتعدون الظواهر الدينية و يقفون عليها، و على ذلك جرى التابعون و قدماء المفسرين حتى نقل عن سفيان بن عيينة أنه قال: كلما وصف الله من نفسه في كتابه فتفسيره تلاوته و السكوت عليه، و عن الإمام مالك أن رجلا قال له: يا أبا عبد الله استوى على العرش، كيف استوى؟ قال الراوي: فما رأيت مالكا وجد من شيء كموجدته من مقالته و علاه الرحضاء يعني العرق و أطرق القوم. قال: فسري عن مالك فقال: الكيف غير معقول: و الاستواء منه غير مجهول، و الإيمان به واجب، و السؤال عنه بدعة، و إني أخاف أن تكون ضالا، و أمر به فأخرج. و كأن قوله: الكيف غير معقول إلخ، مأخوذ عما روي عن أم سلمة أم المؤمنين في قوله تعالى: «الرحمن على العرش استوى» قالت: الكيف غير معقول، و الاستواء غير مجهول، و الإقرار به إيمان، و الجحود به كفر.
فهذا نحو سلوكهم في ذلك لم يورث منهم شيء إلا ما يوجد في كلام الإمام علي بن أبي طالب و الأئمة من ولده بعده (عليه السلام) و نحن نورد بعض ما عثرنا عليه في كلامهم.
ففي التوحيد، بإسناده عن سلمان الفارسي فيما أجاب به علي (عليه السلام) الجاثليق: فقال علي (عليه السلام): إن الملائكة تحمل العرش، و ليس العرش كما تظن كهيئة السرير و لكنه شيء محدود مخلوق مدبر و ربك مالكه لا أنه عليه ككون الشيء على الشيء.
الخبر.
و في الكافي، عن البرقي رفعه قال: سأل الجاثليق عليا (عليه السلام) فقال: أخبرني عن الله عز و جل يحمل العرش أو العرش يحمله؟ فقال (عليه السلام): الله عز و جل حامل العرش و السماوات و الأرض و ما فيهما و ما بينهما، و ذلك قول الله عز و جل: «إن الله يمسك السماوات و الأرض أن تزولا - و لئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده - إنه كان حليما غفورا». قال: فأخبرني عن قوله: «و يحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية» فكيف ذاك و قلت: إنه يحمل العرش و السماوات و الأرض؟ فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): إن العرش خلقه الله تبارك و تعالى من أنوار أربعة: نور أحمر منه احمرت الحمرة، و نور أخضر منه اخضرت الخضرة، و نور أصفر منه اصفرت الصفرة و نور أبيض منه ابيض البياض. و هو العلم الذي حمله الله الحملة، و ذلك نور من نور عظمته فبعظمته و نوره أبصر قلوب المؤمنين، و بعظمته و نوره عاداه الجاهلون، و بعظمته و نوره ابتغى من في السماوات و الأرض من جميع خلائقه إليه الوسيلة بالأعمال المختلفة و الأديان المتشتتة فكل شيء محمول يحمله الله بنوره و عظمته و قدرته لا يستطيع لنفسه ضرا و لا نفعا و لا موتا و لا حياة و لا نشورا فكل شيء محمول، و الله تبارك و تعالى الممسك لهما أن تزولا، و المحيط بهما من شيء، و هو حياة كل شيء و نور كل شيء سبحانه و تعالى عما يقولون علوا كبيرا. قال له: فأخبرني عن الله أين هو؟ فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): هو هاهنا و هاهنا و فوق و تحت و محيط بنا و معنا، و هو قوله: «ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم - و لا خمسة إلا هو سادسهم و لا أدنى من ذلك و لا أكثر - إلا هو معهم أينما كانوا» فالكرسي محيط بالسماوات و الأرض و ما بينهما و ما تحت الثرى، و إن تجهر بالقول فإنه يعلم السر و أخفى، و ذلك قوله: «وسع كرسيه السماوات و الأرض - و لا يئوده حفظهما و هو العلي العظيم». فالذين يحملون العرش هم العلماء الذين حملهم الله علمه، و ليس يخرج من هذه الأربعة شيء خلقه الله في ملكوته، و هو الملكوت الذي أراه الله أصفياءه و أراه خليله فقال: «و كذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات و الأرض - و ليكون من الموقنين» و كيف يحمل حملة العرش الله و بحياته حييت قلوبهم، و بنوره اهتدوا إلى معرفته، الخبر.
أقول: قوله أخبرني عن الله عز و جل يحمل العرش أو العرش يحمله إلخ، ظاهر في أن الجاثليق أخذ الحمل بمعنى حمل الجسم للجسم، و قوله (عليه السلام): الله حامل العرش و السماوات و الأرض إلخ، أخذ للحمل بمعناه التحليلي و تفسير له بمعنى حمل وجود الشيء و هو قيام وجود الأشياء به تعالى قياما تبعيا محضا لا استقلاليا، و من المعلوم أن لازم هذا المعنى أن يكون الأشياء محمولة له تعالى لا حاملة.
و لذلك لما سمع الجاثليق ذلك سأله (عليه السلام) عن قوله تعالى: «و يحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية» فإن حمل وجود الشيء بالمعنى المتقدم يختص به تعالى لا يشاركه فيه غيره مع أن الآية تنسبه إلى غيره! ففسر (عليه السلام) الحمل ثانيا بحمل العلم و فسر العرش بالعلم.
غير أن ذلك حيث كان يوهم المناقضة بين التفسيرين زاد (عليه السلام) في توضيح ما ذكره من كون العرش هو العلم إن هذا العلم غير ما هو المتبادر إلى الأفهام العامية من العلم و هو العلم الحصولي الذي هو الصورة النفسانية بل هو نور عظمته و قدرته حضرت لهؤلاء الحملة بإذن الله و شوهدت لهم فسمي ذلك حملا، و هو مع ذلك محمول له تعالى و لا منافاة كما أن وجود أفعالنا حاضرة عندنا محمولة لنا و هي مع ذلك حاضرة عند الله سبحانه محمولة له و هو المالك الذي ملكنا إياها.
فنور العظمة الإلهية و قدرته الذي ظهر به جميع الأشياء هو العرش الذي يحيط بما دونه و هو ملكه تعالى لكل شيء دون العرش و هو تعالى الحامل لهذا النور ثم الذين كشف الله لهم عن هذا النور يحملونه بإذن الله، و الله سبحانه هو الحامل للحامل و المحمول جميعا.
فالعرش في قوله: «ثم استوى على العرش» - و إن شئت قلت: الاستواء على العرش هو الملك، و في قوله: «و يحمل عرش ربك» الآية هو العلم، و هما جميعا واحد و هو المقام الذي يظهر به جميع الأشياء و يتمركز فيه إجمال جميع التدابير التفصيلية الجارية في نظام الوجود فهو مقام الملك الذي يصدر منه التدابير، و مقام العلم الذي يظهر به الأشياء.
و قوله (عليه السلام): فبعظمته و نوره أبصر قلوب المؤمنين «إلخ» يريد أن هذا المقام هو المقام الذي ينشأ منه تدبير نظام السعادة الذي وقع فيه مجتمع المؤمنين و تسير عليه قافلتهم في مسيرهم إلى الله سبحانه، و ينشأ منه نظام الشقاء الذي ينبسط على جميع المعاندين أعداء الله الجاهلين بمقام ربهم بل المقام الذي ينشأ منه النظام العالمي العام الذي يعيش تحته كل ذي وجود، و يسير به سائرهم للتقرب إليه بأعمالهم و سننهم سواء علموا بما هم فيه من ابتغاء الوسيلة إليه تعالى أو جهلوا.
و قوله (عليه السلام): «و هو حياة كل شيء و نور كل شيء» كالتعليل المبين لقوله قبله فكل شيء محمول يحمله الله إلى آخر ما قال.
و محصله أنه تعالى هو الذي به يوجد كل شيء، و هو الذي يدرك كل شيء فيظهر به طريقه الخاص به في مسير وجوده ظهور الطريق المظلم لسائره بواسطة النور فهي لا تملك لأنفسها شيئا بل الله سبحانه هو المالك لها الحامل لوجودها.
و قوله (عليه السلام): هو هاهنا و هاهنا و فوق و تحت «إلخ» يريد أن الله سبحانه لما كان مقوما لوجود كل شيء حافظا و حاملا له لم يكن محل من المحال خاليا عنه، و لا هو مختصا بمكان دون مكان، و كان معنى كونه في مكان أو مع شيء ذي مكان أنه تعالى حافظ له و حامل لوجوده و محيط به، و هو و كذا غيره محفوظ بحفظه تعالى و محمول و محاط له.
و هذا يئول إلى علمه الفعلي بالأشياء، و نعني به أن كل شيء حاضر عنده تعالى غير محجوب عنه، و لذلك قال (عليه السلام) أولا: «فالكرسي محيط بالسماوات و الأرض و ما بينهما و ما تحت الثرى» فأشار إلى الإحاطة ثم عقبه بقوله: «و إن تجهر بالقول فإنه يعلم السر و أخفى» فأشار إلى العلم فأنتج ذلك أن الكرسي و يعني به العرش مقام الإحاطة و التدبير و الحفظ، و أنه مقام العلم و الحضور بعينه، ثم طبقه على قوله تعالى: «وسع كرسيه السماوات و الأرض» الآية.
و قوله (عليه السلام): «و ليس يخرج عن هذه الأربعة شيء خلق الله في ملكوته» كأنه إشارة إلى الألوان الأربعة المذكورة في أول كلامه (عليه السلام) و سيجيء كلام فيها في أحاديث المعراج إن شاء الله.
و قوله (عليه السلام) «و هو الملكوت الذي أراه الله أصفياءه» فالعرش هو الملكوت غير أن الملكوت اثنان ملكوت أعلى و ملكوت أسفل، و العرش لكونه مقام الإجمال و باطن البابين من الغيب كما سيأتي ما يدل على ذلك من الرواية كان الأحرى به أن يكون الملكوت الأعلى.
و قوله (عليه السلام): و كيف يحمل حملة العرش الله «إلخ» تأكيد و تثبيت لأول الكلام: أن العرش هو مقام حمل وجود الأشياء و تقويمه، فحملة العرش محمولون له سبحانه لا حاملون كيف؟ و وجودهم و سير وجودهم يقوم به تعالى لا بأنفسهم، و لاعتباره (عليه السلام) هذا المقام الوجودي علما عبر عن وجودهم و عن كمال وجودهم بالقلوب، و نور الاهتداء إلى معرفة الله إذ قال: و بحياته حييت قلوبهم و بنوره اهتدوا إلى معرفته.
و في التوحيد، بإسناده عن حنان بن سدير قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن العرش و الكرسي فقال: إن للعرش صفات كثيرة مختلفة، له في كل سبب وضع في القرآن صفة على حدة فقوله: «رب العرش العظيم» يقول: رب الملك العظيم، و قوله: «الرحمن على العرش استوى» يقول: على الملك احتوى، و هذا علم الكيفوفية في الأشياء. ثم العرش في الوصل مفرد عن الكرسي لأنهما بابان من أكبر أبواب الغيوب و هما جميعا غيبان، و هما في الغيب مقرونان لأن الكرسي هو الباب الظاهر من الغيب الذي منه مطلع البدع و منها الأشياء كلها، و العرش هو الباطن الذي يوجد فيه علم الكيف و الكون و القدر و الحد و الأين و المشية و صفة الإرادة و علم الألفاظ و الحركات و الترك و علم العود و البدء. فهما في العلم بابان مقرونان لأن ملك العرش سوى ملك الكرسي، و علمه أغيب من علم الكرسي فمن ذلك قال: «رب العرش العظيم» أي صفته أعظم من صفة الكرسي، و هما في ذلك مقرونان. قلت: جعلت فداك فلم صار في الفضل جار الكرسي؟ قال (عليه السلام): إنه صار جاره لأن علم الكيفوفية فيه و فيه الظاهر من أبواب البداء و إنيتها و حد رتقها و فتقها فهذان جاران أحدهما حمل صاحبه في الصرف، و بمثل صرف العلماء، و ليستدلوا على صدق دعواهما لأنه يختص برحمته من يشاء و هو القوي العزيز. أقول: قوله (عليه السلام): إن للعرش صفات كثيرة إلخ، يؤيد ما ذكرناه سابقا أن الاستواء على العرش لبيان اجتماع أزمة التدابير العالمية عند الله، و يؤيده ما في آخر الحديث من قوله: و بمثل صرف العلماء.
و قوله (عليه السلام): «و هذا علم الكيفوفية في الأشياء» المراد به العلم بالعلل العالية و الأسباب القصوى للموجودات فإن لفظ «كيف» عرفا كما يسأل به عن العرض المسمى اصطلاحا بالكيف كذلك يسأل به عن سبب الشيء و لمه، يقال: كيف وجد كذا؟ و كيف فعل زيد كذا و هو لا يستطيع.
و قوله (عليه السلام): ثم العرش في الوصل مفرد عن الكرسي «إلخ» مراده أن العرش و الكرسي واحد من حيث إنهما مقام الغيب الذي يظهر منه الأشياء و ينزل منه إلى هذا العالم لكن العرش في الصلة الكلامية متميز من الكرسي لأن هذا المقام في نفسه ينقسم إلى مقامين و ينشعب إلى بابين لكنهما مقرونان غير متباينين: أحدهما الباب الظاهر الذي يلي هذا العالم، و الآخر الباب الباطن الذي يليه ثم بينه بقوله: لأن الكرسي هو الباب الظاهر «إلخ».
قوله (عليه السلام): «لأن الكرسي هو الباب الظاهر الذي منه مطلع البدع و منها الأشياء كلها» أي طلوع الأمور البديعة على غير مثال سابق، و منها يتحقق الأشياء كلها لأن جميعها بديعة على غير مثال سابق، و هي إنما تكون بديعة إذا كانت مما لا يتوقع تحققها من الوضع السابق الذي كان أنتج الأمور السابقة على هذا الحادث التي تذهب هي و يقوم هذا مقامها فيئول الأمر إلى البداء بإمحاء حكم سبب و إثبات حكم الآخر موضعه فجميع الوقائع الحادثة في هذا العالم المستندة إلى عمل الأسباب المتزاحمة و القوى المتضادة بدع حادثة و بداءات في الإرادة.
و فوق هذه الأسباب المتزاحمة و الإرادات المتغايرة التي لا تزال تتنازع في الوجود سبب واحد و إرادة واحدة حاكمة لا يقع إلا ما يريده فهو الذي يحجب هذا السبب بذاك السبب و يغير حكم هذه الإرادة و يقيد إطلاق تأثير كل شيء بغيره كمثل الذي يريد قطع طريق لغاية كذا فيأخذ في طيه، و بينما هو يطوي الطريق يقف أحيانا ليستريح زمانا، فعله الوقوف ربما تنازع علة الطي و الحركة و توقفها عن العمل، و الإرادة تغير الإرادة لكن هناك إرادة أخرى هي التي تحكم على الإرادتين جميعا و تنظم العمل على ما تميل إليه بتقديم هذه تارة و تلك أخرى و الإرادتان أعني سببي الحركة و السكون و إن كانت كل منهما تعمل لنفسها و على حدتها و تنازع صاحبتها لكنهما جميعا متفقتان في طاعة الإرادة التي هي فوقهما، و متعاضدتان في إجراء ما يوجبه السبب الذي هو أعلى منهما و أسمى.
فالمقام الذي ينفصل به السببان المتنافيان و ينشأ منه تنازعهما بمنزلة الكرسي، و المقام الذي يظهر أن فيه متلائمين متآلفين بمنزلة العرش، و ظاهر أن الثاني أقدم من الأول، و أنهما يختلفان بنوع من الإجمال و التفصيل، و البطون و الظهور.
و أحرى بالمقامين أن يسميا عرشا و كرسيا لأن فيهما خواص عرش الملك و كرسيه فإن الكرسي: الذي يظهر فيه أحكام الملك من جهة عماله و أيديه العمالة، و كل منهم يعمل بحيال نفسه في نوع من أمور المملكة و شئونها و ربما تنازعت الكراسي فيقدم حكم البعض على البعض و نسخ البعض حكم البعض، لكنها جميعا تتوافق و تتحد في طاعة أحكام العرش و هو المختص بالملك نفسه فعنده الحكم المحفوظ عن تنازع الأسباب غير المنسوخ بنسخ العمال و الأيدي، و في عرشه إجمال جميع التفاصيل و باطن ما يظهر من ناحية العمال و الأيدي.
و بهذا البيان يتضح معنى قوله (عليه السلام): لأن الكرسي هو الباب الظاهر «إلخ» فقوله «منه مطلع البدع» أي طلوع الأمور الكونية غير المسبوقة بمثل، و قوله «و منها الأشياء كلها» أي تفاصيل الخلقة و مفرداتها المختلفة المتشتتة.
و قوله: «و العرش هو الباب الباطن» قبال كون الكرسي هو الباب الظاهر، و البطون و الظهور فيهما باعتبار وقوع التفرق في الأحكام الصادرة و عدم وقوعه، و قوله يوجد فيه «إلخ» أي جميع العلوم و الصور التي تنتهي إلى إجمالها تفاصيل الأشياء.
و قوله: «علم الكيف» كأن المراد بالكيف خصوصية صدور الشيء عن أسبابه، و قوله: «و الكون» المراد به تمام وجوده كما أن المراد بالعود و البدء أول وجودات الأشياء و نهايتها و قوله: «و القدر و الحد» المراد بهما واحد غير أن القدر حال مقدار الشيء بحسب نفسه، و الحد حال الشيء بحسب إضافته إلى غيره و منعه أن يدخل حومة نفسه و يمازجه، و قوله: «و الأين» هو النسبة المكانية، و قوله: «و المشية و صفة الإرادة» هما واحد و يمكن أن يكون المراد بالمشية أصلها و بصفة الإرادة خصوصيتها.
و قوله: «و علم الألفاظ و الحركات و الترك» علم الألفاظ هو العلم بكيفية انتشاء دلالة الألفاظ بارتباطها إلى الخارج بحسب الطبع فإن الدلالة الوضعية تنتهي بالآخرة إلى الطبع، و علم الحركات و الترك، العلم بالأعمال و التروك من حيث ارتباطها إلى الذوات و يمكن أن يكون المراد بمجموع قوله: «علم الألفاظ و علم الحركات و الترك» العلم بكيفية انتشاء اعتبارات الأوامر و النواهي من الأفعال و التروك، و انتشاء اللغات من حقائقها المنتهية إلى منشإ واحد، و الترك هو السكون النسبي في مقابل الحركات.
و قوله: «لأن علم الكيفوفية فيه» الضمير للعرش، و قوله: «و فيه الظاهر من أبواب البداء» الضمير للكرسي، و البداء ظهور سبب على سبب آخر و إبطاله أثره، و ينطبق على جميع الأسباب المتغايرة الكونية من حيث تأثيرها.
و قوله (عليه السلام): «فهذان جاران أحدهما حمل صاحبه في الصرف» المراد به على ما يؤيده البيان السابق أن العرش و الكرسي جاران متناسبان بل حقيقة واحدة مختلفة بحسب مرتبتي الإجمال و التفصيل: و إنما نسب إلى أحدهما أنه حمل الآخر بحسب صرف الكلام و ضرب المثل، و بالأمثال تبين المعارف الدقيقة الغامضة للعلماء.
و قوله: «و ليستدلوا على صدق دعواهما» أي دعوى العرش و الكرسي أي و جعل هذا المثل ذريعة لأن يستدل العلماء بذلك على صدق المعارف الحقة الملقاة إليهم في كيفية انتشاء التدبير الجاري في العالم من مقامي الإجمال و التفصيل و الباطن و الظاهر، فافهم ذلك.
و في التوحيد، بإسناده عن الصادق (عليه السلام) أنه سئل عن قوله تعالى: «و كان عرشه على الماء» الآية، فقال: ما يقولون؟ قيل: إن العرش كان على الماء و الرب فوقه! فقال: كذبوا، من زعم هذا فقد صير الله محمولا و وصفه بصفة المخلوقين، و لزمه أن الشيء الذي يحمله هو أقوى منه. قال: إن الله حمل دينه و علمه الماء قبل أن تكون سماء أو أرض أو جن أو إنس أو شمس أو قمر.
أقول: و هو كسابقه في الدلالة على أن العرش هو العلم، و الماء أصل الخلقة و كان العلم الفعلي متعلقا به قبل ظهور التفاصيل.
و في الاحتجاج، عن علي (عليه السلام) أنه سئل عن بعد ما بين الأرض و العرش. فقال: قول العبد مخلصا: لا إله إلا الله.
أقول: و هو من لطائف كلامه (عليه السلام) أخذه من قوله تعالى: «إليه يصعد الكلم الطيب و العمل الصالح يرفعه».
و وجهه أن العبد إذا نفى عن غيره تعالى الألوهية بإخلاص الألوهية و الاستقلال له تعالى أوجب ذلك نسيان غيره، و التوجه إلى مقام استناد كل شيء إليه تعالى، و هذا هو مقام العرش على ما مر بيانه.
و نظيره في اللطافة قوله (عليه السلام): قد سئل عن بعد ما بين الأرض و السماء: مد البصر و دعوة المظلوم.
و في الفقيه، و المجالس، و العلل، للصدوق: روي عن الصادق (عليه السلام) أنه سئل لم سمي الكعبة كعبة؟ قال: لأنها مربعة فقيل له: و لم صارت مربعة؟ قال: لأنها بحذاء البيت المعمور و هو مربع. فقيل له: و لم صار البيت المعمور مربعا؟ قال: لأنه بحذاء العرش و هو مربع، فقيل له: و لم صار العرش مربعا؟ قال: لأن الكلمات التي بني عليها الإسلام أربع: سبحان الله، و الحمد لله، و لا إله إلا الله، و الله أكبر.
الحديث.
أقول: و هذه الكلمات الأربع أولاها: تتضمن التنزيه و التقديس و الثانية التشبيه و الثناء، و الثالثة التوحيد الجامع بين التنزيه و التشبيه، و الرابعة: التوحيد الأعظم المختص بالإسلام، و هو أن الله سبحانه أكبر من أن يوصف فإن الوصف تقييد و تحديد و هو تعالى أجل من أن يحده حد و يقيده قيد، و قد تقدم نبذة من الكلام فيه في تفسير قوله تعالى: «لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة» الآية.
و بالجملة يرجع المعنى إلى تفسيره بالعلم على ما مر، و الروايات المختلفة في هذا المعنى كثيرة كما ورد أن آية الكرسي و آخر البقرة و سورة محمد من كنوز العرش و ما ورد أن (صلى الله عليه وآله وسلم) نهر يخرج من ساق العرش، و ما ورد أن الأفق المبين قاع بين يدي العرش فيه أنهار تطرد فيه من القدحان عدد النجوم.
و في تفسير القمي، عن عبد الرحيم الأقصر عن الصادق (عليه السلام) قال: سألته عن «ن و القلم» قال: إن الله خلق القلم من شجرة في الجنة يقال لها: الخلد، ثم قال لنهر في الجنة: كن مدادا فجمد النهر، و كان أشد بياضا من الثلج و أحلى من الشهد. ثم قال للقلم: اكتب. قال: يا رب ما أكتب؟ قال: اكتب ما كان و ما هو كائن إلى يوم القيامة فكتب القلم في رق أشد بياضا من الفضة و أصفى من الياقوت ثم طواه فجعله في ركن العرش ثم ختم على فم القلم فلم ينطق بعد، و لا ينطق أبدا فهو الكتاب المكنون الذي منه النسخ كلها الحديث.
و سيجيء تمامه في سورة ن إن شاء الله تعالى.
أقول: و في معناها روايات أخر، و في بعضها لما استزاد الراوي بيانا و أصر عليه قال (عليه السلام): القلم ملك و اللوح ملك، فبين بذلك أن ما وصفه تمثيل من قبيل تشبيه المعقول بالمحسوس لتفهيم الغرض.
و في كتاب روضة الواعظين، عن الصادق عن أبيه عن جده (عليهم السلام) قال: في العرش تمثال ما خلق الله في البر و البحر. قال: و هذا تأويل قوله: «و إن من شيء إلا عندنا خزائنه - و ما ننزله إلا بقدر معلوم». أقول: أي وجود صور الأشياء و تماثيلها في العرش، هو الحقيقة التي يبتنى عليها بيان الآية، و قد تقدم توضيح معنى وجود صور الأشياء في العرش، و في معنى هذه الرواية ما ورد في تفسير دعاء «يا من أظهر الجميل».
و فيه، أيضا عن الصادق عن أبيه عن جده (عليهم السلام) في حديث: و إن بين القائمة من قوائم العرش و القائمة الثانية خفقان الطير المسرع مسير ألف عام، و العرش يكسى كل يوم سبعين ألف لون من النور لا يستطيع أن ينظر إليه خلق من خلق الله، و الأشياء كلها في العرش كحلقة في فلاة. أقول: و الجملة الأخيرة مما نقل عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من طرق الشيعة و أهل السنة، و الذي ذكره (عليه السلام) بناء على ما تقدم تمثيل، و نظائره كثيرة في رواياتهم (عليهم السلام).
و من الدليل عليه أن ما وصف في الرواية من عظم العرش بأي حساب فرض يوجد من الدوائر التي ترسمها الأشعة النورية ما هي أعظم منه بكثير فليس التوصيف إلا لتقريب المعقول من الحس.
و في العلل، عن علل محمد بن سنان عن الرضا (عليه السلام)،: علة الطواف بالبيت أن الله تبارك و تعالى قال للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة - قالوا أ تجعل فيها من يفسد فيها و يسفك الدماء، فردوا على الله تبارك و تعالى هذا الجواب فعلموا أنهم أذنبوا فندموا فلاذوا بالعرش و استغفروا فأحب الله عز و جل أن يتعبد بمثل ذلك العباد فوضع في السماء الرابعة بيتا بحذاء العرش يسمى «الضراح» ثم وضع في السماء الدنيا بيتا يسمى «البيت المعمور» بحذاء الضراح ثم وضع البيت بحذاء البيت المعمور ثم أمر آدم فطاف به فجرى في ولده إلى يوم القيامة. الحديث.
أقول: الحديث لا يخلو عن الغرابة من جهات، و كيف كان فبناء على تفسير العرش بالعلم يكون معنى لواذ الملائكة بالعرش هو اعترافهم بالجهل و إرجاع العلم إليه سبحانه حيث قالوا: «سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم» و قد مر الكلام في هذه القصة في أوائل سورة البقرة.
و في الرواية ذكر الضراح و البيت المعمور في السماء و معظم الروايات تذكر في السماء بيتا واحدا و هو البيت المعمور في السماء الرابعة، و فيها إثبات الذنب للملائكة و هم معصومون بنص القرآن، و لعل المراد من العلم بالذنب العلم بنوع من القصور.
و أما كون الكعبة بحذاء البيت المعمور فالظاهر أنه محاذاة معنوية لا حسية جسمانية، و من الشاهد عليه قوله «فوضع في السماء الرابعة بيتا بحذاء العرش» إذ المحصل من القرآن و الحديث أن العرش و الكرسي محيطان بالسماوات و الأرض، و لا يتحقق معنى المحاذاة بين المحيط و المحاط إذا كانت الإحاطة جسمانية.
و في الخصال، عن الصادق (عليه السلام): أن حملة العرش أحدهم على صورة ابن آدم يسترزق الله لولد آدم. و الثاني على صورة الديك يسترزق الله للطير، و الثالث على صورة الأسد يسترزق الله للسباع، و الرابع على صورة الثور يسترزق الله للبهائم، و نكس الثور رأسه منذ عبد بنو إسرائيل العجل فإذا كان يوم القيامة صاروا ثمانية. الخبر.
أقول: و الأخبار فيما يقرب من هذا المعنى كثيرة متظافرة، و في بعضها عد الأربع حملة للكرسي، و هو الخبر الوحيد الذي يذكر للكرسي حملة - فيما عثرنا عليه - و قد أوردناها في تفسير آية الكرسي في سورة البقرة.
و في حديث آخر: حملة العرش ثمانية: أربعة من الأولين و أربعة من الآخرين: فأما الأربعة من الأولين فنوح و إبراهيم و موسى و عيسى، و أما الأربعة من الآخرين: فمحمد و علي و الحسن و الحسين (عليهما السلام). أقول: بناء على تفسير العرش بالعلم لا ضير في أن تعد أربعة من الملائكة حملة له ثم تعد عدة من غيرهم حملة له.
و الروايات في العرش كثيرة متفرقة في الأبواب، و هي تؤيد ما مر من تفسيره بالعلم، و ما له ظهور ما في الجسمية منها، مفسرة بما تقدم و أما كون العرش جسما في هيئة السرير موضوعا على السماء السابعة فمما لا يدل عليه حديث يعبأ بأمره بل من الروايات ما يكذبه كالرواية الأولى المتقدمة.
و في تفسير القمي، في قوله تعالى: «خلق السماوات و الأرض في ستة أيام» الآية قال: قال (عليه السلام): في ستة أوقات. و في تفسير البرهان،: صاحب ثاقب المناقب أسنده إلى أبي هاشم الجعفري عن محمد بن صالح الأرمني قال: قلت لأبي محمد العسكري (عليه السلام) عرفني عن قول الله: «لله الأمر من قبل و من بعد» فقال: لله الأمر من قبل أن يأمر و من بعد أن يأمر ما يشاء، فقلت في نفسي هذا تأويل قول الله: «ألا له الخلق و الأمر تبارك الله رب العالمين» فأقبل علي و قال: هو كما أسررت في نفسك: ألا له الخلق و الأمر تبارك الله رب العالمين. أقول: معناه أن قوله: «ألا له الخلق و الأمر» يفيد إطلاق الملك قبل الصدور و بعده لا كمثلنا حيث نملك الأمر - فيما نملك - قبل الصدور فإذا صدر خرج عن ملكنا و اختيارنا.
و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير عن عبد العزيز الشامي عن أبيه و كانت له صحبة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من لم يحمد الله على ما عمل من عمل صالح و حمد نفسه فقد كفر و حبط ما عمل، و من زعم أن الله جعل للعباد من الأمر شيئا فقد كفر بما أنزل الله على أنبيائه لقوله: ألا له الخلق و الأمر تبارك الله رب العالمين. أقول: المراد من الكفر بالعجب هو الكفر بالنعمة أو بكون الحسنات لله على ما يدل عليه القرآن، و المراد بنفي كون شيء من الأمر للعباد نفي الجعل بنحو الاستقلال دون التبعي من الملك و الأمر.
و في الكافي، بإسناده عن ميسر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت قول الله عز و جل «و لا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها» قال: فقال: يا ميسر إن الأرض كانت فاسدة فأحياها الله عز و جل بنبيه، و لا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها: أقول: و رواه العياشي في تفسيره، عن ميسر عن أبي عبد الله (عليه السلام) مرسلا. و في الدر المنثور، أخرج أحمد و البخاري و مسلم و النسائي عن أبي موسى قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): مثل ما بعثني الله به من الهدى و العلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكانت منها بقية فبلت الماء فأنبتت الكلأ و العشب الكثير، و كانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا و سقوا و زرعوا، و أصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء و لا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله و نفعه ما بعثني الله به فعلم و علم، و مثل من لم يرفع بذلك رأسا و لم يقبل هدى الله الذي أرسلت به.
|