بيان
قوله تعالى: «و إلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله» إلى آخر الآية.
الأخ و أصله أخو هو المشارك غيره في الولادة تكوينا لمن ولده و غيره أب أو أم أو هما معا أو بحسب شرع إلهي كالأخ الرضاعي أو سنة اجتماعية كالأخ بالدعاء على ما كان يراه أقوام فهذا أصله، ثم استعير لكل من ينتسب إلى قوم أو بلدة أو صنعة أو سجية و نحو ذلك يقال: أخو بني تميم و أخو يثرب و أخو الحياكة و أخو الكرم، و من هذا الباب قوله «و إلى عاد أخاهم هودا».
و الكلام في قوله: «قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره» كالكلام في نظير الخطاب من القصة السابقة.
فإن قلت: لم حذف العاطف من قوله «قال يا قوم» و لم يقل: فقال كما في قصة نوح؟ قلت: هو على تقدير سؤال كأنه لما قال: «و إلى عاد أخاهم هودا» قيل: فما قال هود؟ فأجيب و قيل: قال يا قوم اعبدوا الله الآية.
كذا قاله الزمخشري في الكشاف،.
و لا يجري هذا الكلام في قصة نوح لأنه أول قصة أوردت، و هذه القصة قصة بعد قصة يهيأ فيها ذهن المخاطب للسؤال بعد ما وعى إجمال القصة و علم أن قصة الإرسال تتضمن دعوة و ردا و قبولا فكان بالحري إذا سمع المخاطب قوله «و إلى عاد أخاهم هودا» أن يسأل فيقول: ما قال هود لقومه؟ و جوابه قال لهم إلخ.
قوله تعالى: «قال الملأ الذين كفروا من قومه» إلى آخر الآية.
لما كان في هذا الملإ من يؤمن بالله و يستر إيمانه كما سيأتي في القصة بخلاف الملإ من قوم نوح قال هاهنا في قصة هود: «قال الملأ الذين كفروا من قومه» و قال في قصة نوح: «قال الملأ من قومه» كذا ذكره الزمخشري.
و قوله تعالى حكاية عن قولهم: «إنا لنريك في سفاهة و إنا لنظنك من الكاذبين» أكدوا كلامهم مرة بعد مرة لأنهم سمعوا منه مقالا ما كانوا ليتوقعوا صدوره من أحد، و قد أخذت آلهتهم موضعها من قلوبهم، و استقرت سنة الوثنية بينهم استقرارا لا يجترىء معه أحد على أن يعترض عليها فتعجبوا من مقاله فردوه ردا عن تعجب، فجبهوه أولا بأن فيه سفاهة و هو خفة العقل التي تؤدي إلى الخطإ في الآراء، و ثانيا بأنهم يظنون بظن قوي جدا أنه من الكاذبين، و كأنهم يشيرون بالكاذبين إلى أنبيائهم لأن الوثنيين ما كانوا ليذعنوا بالنبوة و قد جاءهم أنبياء قبل هود كما يذكره تعالى بقوله: «و تلك عاد جحدوا بآيات ربهم و عصوا رسله»: هود: 59.
قوله تعالى: «قال يا قوم ليس بي سفاهة» الكلام في الآية نظير الكلام في نظيره من قصة نوح غير أن عادا زادوا وقاحة على قوم نوح حيث إن أولئك رموا نوحا بالضلال في الرأي و هؤلاء رموا هودا بالسفاهة لكن هودا لم يترك ما به من وقار النبوة، و لم ينس ما هو الواجب من أدب الدعوة الإلهية فأجابهم بقوله: «يا قوم» فأظهر عطوفته عليهم و حرصه على إنجائهم «ليس بي سفاهة و لكني رسول من رب العالمين» فجرى على تجريد الكلام من كل تأكيد و اكتفى بمجرد رد تهمتهم و إثبات ما كان يدعيه من الرسالة للدلالة على ظهوره.
قوله تعالى: «أبلغكم رسالات ربي و أنا لكم ناصح أمين» أي لا شأن لي بما أني رسول إلا تبليغ رسالات ربي خالصا من شوب ما تظنون بي من كوني كاذبا فلست بغاش لكم فيما أريد أن أحملكم عليه، و لا خائن لما عندي من الحق بالتغيير و لا لما عندي من حقوقكم بالإضاعة، فما أريده منكم من التدين بدين التوحيد هو الذي أراه حقا، و هو الذي فيه نفعكم و خيركم، فإنما وصف نفسه بالأمين محاذاة لقولهم: «و إنا لنظنك من الكاذبين».
قوله تعالى: «أ و عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم» إلى آخر الآية.
البصطة هي البسطة قلبت السين صادا لمجاورتها الطاء و هو من حروف الإطباق كالصراط و السراط و الآلاء جمع إلى بفتح الهمزة و كسرها بمعنى النعمة كآناء جمع أنى و إنى.
ثم أنكر (عليه السلام) تعجبهم من رسالته إليهم نظير ما تقدم من نوح (عليه السلام) و ذكرهم نعم الله عليهم، و خص من بينها نعمتين ظاهرتين هما أن الله جعلهم خلفاء في الأرض بعد نوح، و أن الله خصهم من بين الأقوام ببسطة الخلق و عظم الهيكل البدني المستلزم لزيادة الشدة و القوة، و من هنا يظهر أنهم كانوا ذوي حضارة و تقدم، و صيت في البأس و القوة و القدرة.
ثم أتبعهما بالإشارة إلى سائر النعم بقوله تعالى: «فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون».
قوله تعالى: «قالوا أ جئتنا لنعبد الله وحده و نذر ما كان يعبد آباؤنا» الآية.
فيه تعلق منهم بتقليد الآباء، و تعجيز هود مشوبا بنوع من الاستهزاء بما أنذرهم به من العذاب.
قوله تعالى: «قال قد وقع عليكم من ربكم رجس و غضب» إلى آخر الآية.
الرجس و الرجز هو الأمر الذي إذا وقع على الشيء أوجب ابتعاده أو الابتعاد عنه، و لذا يطلق على القاذورة لأن الإنسان يتنفر و يبتعد عنه، و على العذاب لأن المعذب - اسم مفعول - يبتعد عمن يعذبه أو من الناس الآمنين من العذاب.
أجابهم بأن إصرارهم على عبادة الأوثان بتقليد آبائهم أوجب أن يحق عليهم البعد عن الله بالرجس و الغضب، ثم فرع عليه أن هددهم بما يستعجلون من العذاب، و أخبرهم بنزوله عليهم لا محالة، و كنى عن ذلك بأمرهم بالانتظار و إخبارهم بأنه مثلهم في انتظار نزول العذاب فقال: «فانتظروا إني معكم من المنتظرين».
و أما قوله: «أ تجادلونني في أسماء سميتموها أنتم و آباؤكم ما نزل الله بها من سلطان» فهو رد لما استندوا إليه في ألوهية آلهتهم و هو أنهم وجدوا آباءهم على عبادتها - و هم أكمل منهم و ممن في طبقتهم كهود و أعقل - فيجب عليهم أن يقلدوهم.
و محصله أنكم و آباءكم سواء في أنكم جميعا أتيتم بأشياء ليس لكم على ما ادعيتم من صفتها و هي الألوهية من سلطان و هو البرهان و الحجة القاطعة فلا يبقى لها من الألوهية إلا الأسماء التي سميتموها بها إذ قلتم: إله الخصب و إله الحرب و إله البحر و إله البر، و ليس لهذه الأسماء مصاديق إلا في أوهامكم، فهل تجادلونني في الأسماء، و للإنسان أن يسمي كل ما شاء بما شاء إذا لم يعتبر تحقق المعنى في الخارج.
و قد تكرر في القرآن الاستدلال على بطلان الوثنية بهذا البيان: «أسماء سميتموها أنتم و آباؤكم ما نزل الله بها من سلطان» و هو من ألطف البيان و أرقه، و أبلغ الحجة و أقطعها إذ لو لم يأت الإنسان لما يدعيه من دعوى بحجة برهانية لم يبق لما يدعيه من النعت إلا التسمية و التعبير، و من أبده الجهل أن يعتمد الإنسان على مثل هذا النعت الموهوم.
و هذا البيان يطرد و يجري بالتحليل في جميع الموارد التي يثق فيها الإنسان على غير الله سبحانه من الأسباب، و يعطيها من الاستقلال ما يوجب تعلق قلبه بها و طاعته لها و تقربه منها فإن الله سبحانه عد في موارد من كلامه طاعة غيره و الركون إلى من سواه عبادة له قال: «أ لم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين و أن اعبدوني»: يس: 61.
قوله تعالى: «فأنجيناه و الذين معه برحمة منا» إلى آخر الآية، تنكير الرحمة للدلالة على النوع أي بنوع من الرحمة و هي الرحمة التي تختص بالمؤمنين من النصرة الموعودة لهم قال تعالى: «إنا لننصر رسلنا و الذين آمنوا في الحياة الدنيا و يوم يقوم الأشهاد»: المؤمن: 51، و قال: «و كان حقا علينا نصر المؤمنين»: الروم: 47.
و قوله: «و قطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا» الآية كناية عن إهلاكهم و قطع نسلهم فإن الدابر هو الذي يلي الشيء من خلفه فربما وصف به الأمر السابق على الشيء كأمس الدابر، و ربما وصف به اللاحق كدابر القوم و هو الذي في آخرهم فنسبه القطع إلى الدابر بعناية أن النسل اللاحق دابر متصل بالإنسان في سبب ممتد، و إهلاك الإنسان كذلك كأنه قطع هذا السبب الموصول فيما بينه و بين نسله.
و سيأتي تفصيل البحث عن قصة هود (عليه السلام) في تفسير سورة هود إن شاء الله.
|