بيان
تكرار الإيمان ثانيا و هو الاتصاف بحقيقته كما يعطيه السياق يفيد أن المراد بالذين آمنوا في صدر الآية هم المتصفون بالإيمان ظاهرا المتسمون بهذا الاسم فيكون محصل المعنى أن الأسماء و التسمي بها مثل المؤمنين و اليهود و النصارى و الصابئين لا يوجب عند الله تعالى أجرا و لا أمنا من العذاب كقولهم: لا يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى، و إنما ملاك الأمر و سبب الكرامة و السعادة حقيقة الإيمان بالله و اليوم الآخر و العمل الصالح، و لذلك لم يقل من آمن منهم بإرجاع الضمير إلى الموصول اللازم في الصلة لئلا يكون تقريرا للفائدة في التسمي على ما يعطيه النظم كما لا يخفى و هذا مما تكررت فيه آيات القرآن أن السعادة و الكرامة تدور مدار العبودية، فلا اسم من هذه الأسماء ينفع لمتسميه شيئا، و لا وصف من أوصاف الكمال يبقى لصاحبه و ينجيه إلا مع لزوم العبودية، الأنبياء و من دونهم فيه سواء، فقد قال تعالى في أنبيائه بعد ما وصفهم بكل وصف جميل: «و لو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون»: الأنعام - 88، و قال تعالى في أصحاب نبيه و من آمن معه مع ما ذكر من عظم شأنهم و علو قدرهم: «وعد الله الذين آمنوا و عملوا الصالحات منهم مغفرة و أجرا عظيما»: الفتح - 29، فأتى بكلمة منهم و قال في غيرهم ممن أوتي آيات الله تعالى: «و لو شئنا لرفعناه بها و لكنه أخلد إلى الأرض و اتبع هواه»: الأعراف - 176، إلى غير ذلك من الآيات الناصة على أن الكرامة بالحقيقة دون الظاهر.
بحث روائي
في الدر المنثور،: عن سلمان الفارسي قال: سألت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن أهل دين كنت معهم، فذكر من صلاتهم و عبادتهم فنزلت: «إن الذين آمنوا و الذين هادوا» الآية: أقول: و روي أيضا نزول الآية في أصحاب سلمان بعدة طرق أخرى.
و في المعاني، عن ابن فضال قال: قلت للرضا (عليه السلام) لم سمي النصارى نصارى قال: لأنهم كانوا من قرية اسمها ناصرة من بلاد الشام نزلتها مريم و عيسى بعد رجوعهما من مصر أقول و في الرواية بحث سنتعرض له في قصص عيسى (عليه السلام) من سورة آل عمران إن شاء الله.
و في الرواية: أن اليهود سموا باليهود لأنهم من ولد يهودا بن يعقوب.
و في تفسير القمي،: قال: قال (عليه السلام): الصابئون قوم لا مجوس و لا يهود و لا نصارى و لا مسلمون و هم يعبدون النجوم و الكواكب.
أقول: و هي الوثنية، غير أن عبادة الأصنام غير مقصورة عليهم بل الذي يخصهم عبادة أصنام الكواكب.
بحث تاريخي
ذكر أبو ريحان البيروني في الآثار الباقية، ما لفظه: و أول المذكورين منهم يعني المتنبئين يوذاسف و قد ظهر عند مضي سنة من ملك طهمورث بأرض الهند و أتى بالكتابة الفارسية، و دعا إلى ملة الصابئين فاتبعه خلق كثير، و كانت الملوك البيشدادية و بعض الكيانية ممن كان يستوطن بلخ يعظمون النيرين و الكواكب و كليات العناصر و يقدسونها إلى وقت ظهور زرادشت عند مضي ثلاثين سنة من ملك بشتاسف، و بقايا أولئك الصابئين بحران ينسبون إلى موضعهم، فيقال لهم: الحرانية و قد قيل: إنها نسبة إلى هادان بن ترخ أخي إبراهيم (عليه السلام) و إنه كان من بين رؤسائهم أوغلهم في الدين و أشدهم تمسكا به، و حكى عنه ابن سنكلا النصراني في كتابه الذي قصد فيه نقض نحلتهم، فحشاه بالكذب و الأباطيل، أنهم يقولون إن إبراهيم (عليه السلام) إنما خرج عن جملتهم لأنه خرج في قلفته برص و إن من كان به ذلك فهو نجس لا يخالطونه فقطع قلفته بذلك السبب يعني اختتن، و دخل إلى بيت من بيوت الأصنام فسمع صوتا من صنم يقول له: يا إبراهيم خرجت من عندنا بعيب واحد، و جئتنا بعيبين، اخرج و لا تعاود المجيء إلينا فحمله الغيظ على أن جعلها جذاذا، و خرج من جملتهم ثم إنه ندم بعد ما فعله، و أراد ذبح ابنه لكوكب المشتري على عادتهم في ذبح أولادهم، زعم فلما علم كوكب المشتري صدق توبته فداه بكبش.
و حكى عبد المسيح بن إسحاق الكندي عنهم في جوابه عن كتاب عبد الله بن إسماعيل الهاشمي، أنهم يعرفون بذبح الناس و لكن ذلك لا يمكنهم اليوم جهرا و نحن لا نعلم منهم إلا أنهم أناس يوحدون الله، و ينزهونه عن القبائح، و يصفونه بالسلب لا الإيجاب كقولهم: لا يحد، و لا يرى، و لا يظلم، و لا يجور و يسمونه بالأسماء الحسنى مجازا، إذ ليس عندهم صفة بالحقيقة، و ينسبون التدبير إلى الفلك و أجرامه، و يقولون بحياتها و نطقها و سمعها و بصرها، و يعظمون الأنوار، و من آثارهم القبة التي فوق محراب عند المقصورة من جامع دمشق، و كان مصلاهم، كان اليونانيون و الروم على دينهم، ثم صارت في أيدي اليهود، فعملوها كنيستهم، ثم تغلب عليها النصارى، فصيروها بيعة إلى أن جاء الإسلام و أهله فاتخذوها مسجدا و كانت لهم هياكل و أصنام بأسماء الشمس معلومة الأشكال كما ذكرها أبو معشر البلخي في كتابه في بيوت العبادات، مثل هيكل بعلبك كان لصنم الشمس، و قران فإنها منسوبة إلى القمر، و بناؤها على صورته كالطيلسان و بقربها قرية تسمى سلمسين، و اسمها القديم صنمسين، أي صنم القمر، و قرية أخرى تسمى ترععوز أي باب الزهرة و يذكرون أن الكعبة و أصنامها كانت لهم، و عبدتها كانوا من جملتهم، و أن اللات كان باسم زحل، و العزى باسم الزهرة و لهم أنبياء كثيرة أكثرهم فلاسفة يونان كهرمس المصري و أغاذيمون و واليس و فيثاغورث و باباسوار جد أفلاطون من جهة أمه و أمثالهم، و منهم من حرم عليه السمك خوفا أن يكون رغاوة و الفرخ لأنه أبدا محموم، و الثوم لأنه مصدع محرق للدم أو المني الذي منه قوام العالم، و الباقلاء لأنه يغلظ الذهن و يفسده، و أنه في أول الأمر إنما نبت في جمجمة إنسان، و لهم ثلاث صلوات مكتوبات.
أولها: عند طلوع الشمس ثماني ركعات.
و الثانية: عند زوال الشمس عن وسط السماء خمس ركعات، و في كل ركعة من صلاتهم ثلاث سجدات، و يتنفلون بصلاة في الساعة الثانية من النهار، و أخرى في التاسعة من النهار.
و الثالثة: في الساعة الثالثة من الليل، و يصلون على طهر و وضوء، و يغتسلون من الجنابة و لا يختتنون إذ لم يؤمروا بذلك زعموا و أكثر أحكامهم في المناكح و الحدود مثل أحكام المسلمين، و في التنجس عند مس الموتى، و أمثال ذلك شبيهة بالتوراة، و لهم قرابين متعلقة بالكواكب و أصنامها و هياكلها و ذبائح يتولاها كهنتهم و فاتنوهم، و يستخرجون من ذلك علم ما عسى يكون المقرب و جواب ما يسأل عنه، و قد يسمى هرمس بإدريس الذي ذكر في التوراة أخنوخ، و بعضهم زعم أن يوذاسف هو هرمس.
و قد قيل: إن هؤلاء الحرانية ليسوا هم الصابئة بالحقيقة، بل هم المسمون في الكتب بالحنفاء و الوثنية، فإن الصابئة هم الذين تخلفوا ببابل من جملة الأسباط الناهضة في أيام كورش و أيام أرطحشست إلى بيت المقدس، و مالوا إلى شرائع المجوس فصبوا إلى دين بخت نصر، فذهبوا مذهبا ممتزجا من المجوسية و اليهودية، كالسامرة بالشام، و قد توجد أكثرهم بواسط و سواد العراق بناحية جعفر و الجامدة و نهري الصلة منتمين إلى أنوش بن شيث، و مخالفين للحرانية، عائبين مذاهبهم، لا يوافقونهم إلا في أشياء قليلة، حتى أنهم يتوجهون في الصلاة إلى جهة القطب الشمالي و الحرانية إلى الجنوبي، و زعم بعض أهل الكتاب أنه كان لمتوشلخ ابن غير ملك يسمى صابي، و أن الصابئة سموا به، و كان الناس قبل ظهور الشرائع و خروج يوذاسف شمينين سكان الجانب الشرقي من الأرض و كانوا عبدة أوثان، و بقاياهم الآن بالهند و الصين و التغزغز و يسميهم أهل خراسان شمنان، و آثارهم و بهاراتهم و أصنامهم و فرخاراتهم ظاهرة في ثغور خراسان المتصلة بالهند، و يقولون: بقدم الدهر، و تناسخ الأرواح، و هوي الفلك في خلإ غير متناه، و لذلك يتحرك على استدارة فإن الشيء المستدير إذا أزيل ينزل مع دوران، زعموا و منهم من أقر بحدوث العالم، و زعم أن مدته ألف ألف سنة انتهى موضع الحاجة.
أقول: و ما نسبه إلى بعض من تفسير الصائبة بالمذهب الممتزج من المجوسية و اليهودية مع أشياء من الحرانية هو الأوفق بما في الآية فإن ظاهر السياق أن التعداد لأهل الملة
|