بيان
تشير الآيات إلى السبب الأولي الذي يدعو الإنسان إلى رذيلة الإدبار و التولي و الجمع و الإيعاء التي تؤديه إلى دخول النار الخالدة التي هي لظى نزاعة للشوى على ما تذكره الآيات.
و ذلك السبب صفة الهلع التي اقتضت الحكمة الإلهية أن يخلق الإنسان عليها ليهتدي بها إلى ما فيه خيره و سعادته غير أن الإنسان يفسدها على نفسه و يسيء استعمالها في سبيل سعادته فتسلك به إلى هلكة دائمة إلا الذين آمنوا و عملوا الصالحات فهم في جنات مكرمون.
قوله تعالى: «إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا و إذا مسه الخير منوعا» الهلوع صفة مشتقة من الهلع بفتحتين و هو شدة الحرص، و ذكروا أيضا أن الهلوع تفسره الآيتان بعده فهو الجزوع عند الشر و المنوع عند الخير و هو تفسير سديد و السياق يناسبه.
و ذلك أن الحرص الشديد الذي جبل عليه الإنسان ليس حرصا منه على كل شيء خيرا كان أو شرا أو نافعا أو ضارا بل حرصا على الخير و النافع و لا حرصا على كل خير أو نافع سواء ارتبط به أو لم يرتبط و كان له أو لغيره بل حرصا منه على ما يراه خيرا لنفسه أو نافعا في سبيل الخير، و لازم هذا الحرص أن يظهر منه التزعزع و الاضطراب عند مس الشر و هو خلاف الخير و أن يمتنع عن ترك الخير عند مسه و يؤثر نفسه على غيره إلا أن يرى الترك أكثر خيرا و أنفع بحاله فالجزع عند مس الشر و المنع عند مس الخير من لوازم الهلع و شدة الحرص.
و ليس الهلع و شدة الحرص المجبول عليه الإنسان - و هو من فروع حب الذات - في حد نفسه من الرذائل المذمومة كيف؟ و هي الوسيلة الوحيدة التي تدعو الإنسان إلى بلوغ سعادته و كمال وجوده، و إنما تكون رذيلة مذمومة إذا أساء الإنسان في تدبيرها فاستعملها فيما ينبغي و فيما لا ينبغي و بالحق و بغير حق كسائر الصفات النفسانية التي هي كريمة ما لزمت حد الاعتدال و إذا انحرفت إلى جانب الإفراط أو التفريط عادت رذيلة ذميمة.
فالإنسان في بدء نشأته و هو طفل يرى ما يراه خيرا لنفسه أو شرا لنفسه بما جهز به من الغرائز العاطفة و هي التي تهواه نفسه و تشتهيه قواه من غير أن يحده بحد أو يقدره بقدر فيجزع إذا مسه ألم أو أي مكروه، و يمنع من يزاحمه فيما أمسك به بكل ما يقدر عليه من بكاء و نحوه.
و هو على هذه الحال حتى إذا رزق العقل و الرشد أدرك الحق و الباطل و الخير و الشر و اعترفت نفسه بما أدرك و حينئذ يتبدل عنده كثير من مصاديق الحق و الباطل و الخير و الشر فعاد كثير مما كان يراه خيرا لنفسه شرا عنده و بالعكس.
فإن أقام على ما كان عليه من اتباع أهواء النفس و العكوف على المشتهيات و اشتغل بها عن اتباع الحق و غفل عنه، طبع على قلبه فلم يواجه حقا إلا دحضه و لا ذا حق إلا اضطهده و إن أدركته العناية الإلهية عاد ما كان عنده من الحرص على ما تهواه النفس حرصا على الحق فلم يستكبر على حق واجهه و لا منع ذا حق حقه.
فالإنسان في بادىء أمره و هو عهد الصبي قبل البلوغ و الرشد مجهز بالحرص الشديد على الخير و هو صفة كمالية له بحسب حاله بها ينبعث إلى جلب الخير و اتقاء الشر قال تعالى: «و إنه لحب الخير لشديد»: العاديات: 8.
ثم إذا رزق البلوغ و الرشد زاد تجهيزا آخر و هو العقل الذي بها يدرك حقائق الأمور على ما هي عليها فيدرك ما هو الاعتقاد الحق و ما هو الخير في العمل، و يتبدل حرصه الشديد على الخير و كونه جزوعا عند مس الشر و منوعا عند مس الخير من الحرص الشديد على الخير الواقعي من الفزع و الخوف إذا مسه شر أخروي و هو المعصية و المسابقة إلى مغفرة ربه إذا مسه خير أخروي و هو مواجهة الحسنة، و أما الشر و الخير الدنيويان فإنه لا يتعدى فيهما ما حده الله له من الصبر عند المصيبة و الصبر على الطاعة و الصبر عن المعصية و هذه الصفة صفة كمالية لهذا الإنسان.
و أما إذا أعرض الإنسان عما يدركه عقله و يعترف به فطرته و عكف على اتباع الهوى و اعتنق الباطل و تعدى إلى حق كل ذي حق و لم يقف في حرصه على الخير على حد فقد بدل نعمة الله نقمة و أخذ صفة غريزية خلقها الله وسيلة له يتوسل بها إلى سعادة الدنيا و الآخرة وسيلة إلى الشقوة و الهلكة تسوقه إلى الإدبار و التولي و الجمع و الإيعاء كما في الآيات.
و قد بان مما تقدم أنه لا ضير في نسبة هلع الإنسان في الآيات إلى الخلقة و الكلام مسوق للذم و قد قال تعالى: «الذي أحسن كل شيء خلقه»: السجدة 7، و ذلك أن ما يلحقه من الذم إنما هو من قبل الإنسان و سوء تدبيره لا من قبله تعالى فهو كسائر نعمه تعالى على الإنسان التي يصيرها نقما بسوء اختياره.
و ذكر الزمخشري فرارا من الإشكال أن في الكلام استعارة، و المعنى أن الإنسان لإيثاره الجزع و المنع و تمكنهما منه كأنه مجبول مطبوع عليهما، و كأنه أمر مخلوق فيه ضروري غير اختياري فالكلام موضوع على التشبيه لا لإفادة كونه مخلوقا لله حقيقة لأن الكلام مسوق للذم و الله سبحانه لا يذم فعل نفسه، و من الدليل عليه استثناء المؤمنين الذين جاهدوا أنفسهم فنجوا عن الجزع و المنع جميعا.
و فيه أن الصفة مخلوقة نعمة و فضيلة و الإنسان هو الذي يخرجها من الفضيلة إلى الرذيلة و من النعمة إلى النقمة و الذم راجع إلى الصفة من جهة سوء تدبيره لا من حيث إنها فعله تعالى.
و استثناء المؤمنين ليس لأجل أن الصفة غير مخلوقة فيهم بل لأجل أنهم أبقوها على كمالها و لم يبدلوها رذيلة و نقمة.
و أجيب أيضا عن الاستثناء بأنه منقطع و هو كما ترى.
قوله تعالى: «إلا المصلين» استثناء من الإنسان الموصوف بالهلع، و في تقديم الصلاة على سائر الأعمال الصالحة المعدودة في الآيات التالية دلالة على شرفها و أنها خير الأعمال.
على أن لها الأثر البارز في دفع رذيلة الهلع المذموم و قد قال تعالى: «إن الصلاة تنهى عن الفحشاء و المنكر»: العنكبوت 45.
قوله تعالى: «الذين هم على صلاتهم دائمون» في إضافة الصلاة إلى الضمير دلالة على أنهم مداومون على ما يأتون به من الصلاة كائنة ما كانت لا أنهم دائما في الصلاة، و فيه إشارة إلى أن العمل إنما يكمل أثره بالمداومة.
قوله تعالى: «و الذين في أموالهم حق معلوم للسائل و المحروم» فسره بعضهم بالزكاة المفروضة، و في الحديث عن الصادق (عليه السلام): أن الحق المعلوم ليس من الزكاة و إنما هو مقدار معلوم ينفقونه للفقراء، و السائل هو الفقير الذي يسأل، و المحروم الفقير الذي يتعفف و لا يسأل و السياق لا يخلو من تأييده فإن للزكاة موارد مسماة في قوله: «إنما الصدقات للفقراء و المساكين و العاملين عليها و المؤلفة قلوبهم و في الرقاب و الغارمين و في سبيل الله و ابن السبيل فريضة من الله»: التوبة 60 و ليست مختصة بالسائل و المحروم على ما هو ظاهر الآية.
قوله تعالى: «و الذين يصدقون بيوم الدين» الذي يفيده سياق عد الأعمال الصالحة أن المراد بتصديقهم يوم الدين التصديق العملي دون التصديق الاعتقادي و ذلك بأن تكون سيرتهم في الحياة سيرة من يرى أن ما يأتي به من عمل سيحاسب عليه فيجازي به إن خيرا فخيرا و إن شرا فشرا.
و في التعبير بقوله: «يصدقون» دلالة على الاستمرار فهو المراقبة الدائمة بذكره تعالى عند كل عمل يواجهونه فيأتون بما يريده و يتركون ما يكرهه.
قوله تعالى: «و الذين هم من عذاب ربهم مشفقون» أي خائفون، و الكلام في إشفاقهم من عذاب ربهم نظير الكلام في تصديقهم بيوم الدين فهو الإشفاق العملي الظاهر من حالهم.
و لازم إشفاقهم من عذاب ربهم مع لزومهم الأعمال الصالحة و مجاهدتهم في الله أن لا يثقوا بما يأتون به من الأعمال الصالحة و لا يأمنوا عذاب الله فإن الأمن لا يجامع الخوف.
و الملاك في الإشفاق من العذاب أن العذاب على المخالفة فلا منجى منه إلا بالطاعة من النفس و لا ثقة بالنفس إذ لا قدرة لها في ذاتها إلا ما أقدرها الله عليه و الله سبحانه مالك غير مملوك، قال تعالى: «قل فمن يملك من الله شيئا»: المائدة 17.
على أن الله سبحانه و إن وعد أهل الطاعة النجاة و ذكر أنه لا يخلف الميعاد لكن الوعد لا يقيد إطلاق قدرته فهو مع ذلك قادر على ما يريد و مشيته نافذة فلا أمن بمعنى انتفاء القدرة على ما يخالف الوعد فالخوف على حاله و لذلك نرى أنه تعالى يقول في ملائكته: «يخافون ربهم من فوقهم و يفعلون ما يؤمرون» فيصفهم بالخوف و هو يصرح بعصمتهم، و يقول في أنبيائه: «و يخشونه و لا يخشون أحدا إلا الله»: الأحزاب: 39، و يصف المؤمنين في هذه الآية بالإشفاق و هو يعدهم في آخر الآيات بقول جازم فيقول: «أولئك في جنات مكرمون».
قوله تعالى: «إن عذاب ربهم غير مأمون» تعليل لإشفاقهم من عذاب ربهم فيتبين به أنهم مصيبون في إشفاقهم من العذاب و قد تقدم وجهه.
قوله تعالى: «و الذين هم لفروجهم حافظون - إلى قوله - هم العادون» تقدم تفسير الآيات الثلاث في أول سورة المؤمنون.
قوله تعالى: «و الذين هم لأماناتهم و عهدهم راعون» المتبادر من الأمانات أنواع الأمانة التي يؤتمنون عليها من المال و سائر ما يوصى به من نفس أو عرض و رعايتهم لها أن يحفظوها و لا يخونوها قيل: و لكثرة أنواعها جيء بلفظ الجمع بخلاف العهد.
و قيل: المراد بها جميع ما كلفهم الله من اعتقاد و عمل فتعم حقوق الله و حقوق الناس فلو ضيعوا شيئا منها فقد خانوه.
و قيل: كل نعمة أعطاها الله عبده من الأعضاء و غيرها أمانة فمن استعمل شيئا منها في غير ما أعطاه الله لأجله و أذن له في استعماله فقد خانه.
و ظاهر العهد عقد الإنسان مع غيره قولا أو فعلا على أمر و رعايته أن يحفظه و لا ينقضه من غير مجوز.
و قيل: العهد كل ما التزم به الإنسان لغيره فإيمان العبد لربه عهد منه عاهد به ربه أن يطيعه في كل ما كلفه به فلو عصاه في شيء مما أمره به أو نهاه عنه فقد نقض عهده.
قوله تعالى: «و الذين هم بشهاداتهم قائمون» الشهادة معروفة، و القيام بالشهادة عدم الاستنكاف عن تحملها و أداء ما تحمل منها كما تحمل من غير كتمان و لا تغيير، و الآيات في هذا المعنى كثيرة.
قوله تعالى: «و الذين هم على صلاتهم يحافظون» المراد بالمحافظة على الصلاة رعاية صفات كمالها على ما ندب إليه الشرع.
قيل: و المحافظة على الصلاة غير الدوام عليها فإن الدوام متعلق بنفس الصلاة و المحافظة بكيفيتها فلا تكرار في ذكر المحافظة عليها بعد ذكر الدوام عليها.
قوله تعالى: «أولئك في جنات مكرمون» الإشارة إلى المصلين في قوله: «إلا المصلين» و تنكير جنات للتفخيم، و «في جنات» خبر و «مكرمون» خبر بعد خبر أو ظرف لقوله: «مكرمون».
بحث روائي
في تفسير القمي،: «إذا مسه الشر جزوعا» قال: الشر هو الفقر و الفاقة «و إذا مسه الخير منوعا» قال: الغنى و السعة.
و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: ثم استثنى فقال «إلا المصلين» فوصفهم بأحسن أعمالهم «الذين هم على صلاتهم دائمون» يقول: إذا فرض على نفسه شيئا من النوافل دام عليه.
أقول: قوله: إذا فرض على نفسه «إلخ» استفاد (عليه السلام) هذا المعنى من إضافة الصلاة إلى ضمير «هم» و قد أشرنا إليه فيما مر.
و في الكافي، بإسناده إلى الفضيل بن يسار قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: «و الذين هم على صلاتهم يحافظون» قال: هي الفريضة. قلت: «الذين هم على صلاتهم دائمون» قال: هي النافلة.
و في المجمع،: في قوله تعالى: «و الذين في أموالهم حق معلوم»: و روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: الحق المعلوم ليس من الزكاة و هو الشيء الذي تخرجه من مالك إن شئت كل جمعة و إن شئت كل يوم، و لكل ذي فضل فضله.
قال: و روي عنه أيضا أنه قال: هو أن تصل القرابة و تعطي من حرمك و تصدق على من عاداك.
أقول: و روي هذا المعنى في الكافي، عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام) بعدة طرق و رواه في المحاسن عن أبي جعفر (عليه السلام).
و في الكافي، بإسناده عن صفوان الجمال عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز و جل «للسائل و المحروم» قال: المحروم المحارف الذي قد حرم كد يمينه في الشراء و البيع.
قال: و في رواية أخرى عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام) أنهما قالا: المحروم الرجل الذي ليس بعقله بأس و لم يبسط له في الرزق و هو محارف.
و في المجمع،: في قوله تعالى: «و الذين هم على صلاتهم يحافظون»: روى محمد بن الفضيل عن أبي الحسن (عليه السلام) أنه قال: أولئك أصحاب الخمسين صلاة من شيعتنا.
أقول: و لعله مبني على ما ورد عنهم (عليهم السلام) أن تشريع النوافل اليومية لتتميم الفرائض.
|