بيان
لما ذكر سبحانه في الفصل الأول من آيات السورة في ذيل ما حكى من سؤالهم العذاب أن لهم عذابا واقعا ليس له دافع و هو النار المتلظية النزاعة للشوى التي تدعو من أدبر و تولى و جمع فأوعى.
ثم بين في الفصل الثاني منها الملاك في ابتلائهم بهذه الشقوة و هو أن الإنسان مجهز بغريزة الهلع و حب خير نفسه و يؤديه اتباع الهوى في استعمالها إلى الاستكبار على كل حق يواجهه فيورده ذلك النار الخالدة، و لا ينجو من ذلك إلا الصالحون عملا المصدقون ليوم الدين المشفقون من عذاب ربهم.
انعطف في هذا الفصل من الآيات - و هو الفصل الثالث - على أولئك الكفار كالمتعجب من أمرهم حيث يجتمعون على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): مهطعين عن اليمين و عن الشمال عزين مقبلين عليه بأبصارهم لا يفارقونه فخاطبه (صلى الله عليه وآله وسلم): ما بالهم يحيطون بك مهطعين عليك يلازمونك؟ هل يريد كل امرىء منهم أن يدخل جنة نعيم و هو كافر و قد قدر الله سبحانه أن لا يكرم بجنته إلا من استثناه من المؤمنين فهل يريدون أن يسبقوا الله و يعجزوه بنقض ما حكم به و إبطال ما قدره كلا إن الله الذي خلقهم من نطفة مهينة قادر أن يبدلهم خيرا منهم و يخلق مما خلقهم منه، غيرهم ممن يعبده و يدخل جنته.
ثم أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقطع خصامهم و يذرهم يخوضوا و يلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون.
قوله تعالى: «فما للذين كفروا قبلك مهطعين عن اليمين و عن الشمال عزين» قال في المجمع،: قال الزجاج: المهطع المقبل ببصره على الشيء لا يزايله و ذلك من نظر العدو، و قال أبو عبيدة الإهطاع الإسراع، و عزين جماعات في تفرقة، واحدتهم عزة.
انتهى، و قبل الشيء بالكسر فالفتح الجهة التي تليه و الفاء في «فما» فصيحة.
و المعنى: إذا كان الإنسان بكفره و استكباره على الحق مصيره إلى النار إلا من استثني من المؤمنين فما للذين كفروا عندك مقبلين عليك لا يرفعون عنك أبصارهم و هم جماعات متفرقة عن يمينك و شمالك أ يطمعون أن يدخلوا الجنة فيعجزوا الله و يسبقوه فيما قضى به أن لا يدخل الجنة إلا الصلحاء من المؤمنين.
قوله تعالى: «أ يطمع كل امرىء منهم أن يدخل جنة نعيم»، الاستفهام للإنكار أي - ما هو الذي يحملهم على أن يحتفوا بك و يهطعوا عليك؟ - هل يحملهم على ذلك طمع كل منهم أن يدخل جنة نعيم و هو كافر فلا مطمع للكافر في دخول الجنة.
و نسب الطمع إلى كل امرىء منهم و لم ينسب إلى جماعتهم بأن يقال: أ يطمعون أن يدخلوا «إلخ» كما نسب الإهطاع إلى جماعتهم فقيل: مهطعين لأن النافع من الطمع في السعادة و الفلاح هو الطمع القائم بنفس الفرد الباعث له إلى الإيمان و العمل الصالح دون القائم بالجماعة بما أنها جماعة فطمع المجموع من حيث إنه مجموع لا يكفي في سعادة كل واحد واحد.
و في قوله: «أن يدخل» مجهولا من باب الإفعال إشارة إلى أن دخولهم في الجنة ليس منوطا باختيارهم و مشيتهم بل لو كان فإنما هو إلى الله سبحانه فهو الذي يدخلهم الجنة إن شاء و لن يدخل بما قدر أن لا يدخلها كافر.
قيل: إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يصلي عند الكعبة و يقرأ القرآن فكان المشركون يجتمعون حوله حلقا حلقا و فرقا يستمعون و يستهزءون بكلامه، و يقولون إن دخل هؤلاء الجنة كما يقول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فلندخلها قبلهم فنزلت الآيات.
و هذا القول لا يلائمه سياق الآيات الظاهر في تفرع صنعهم ذلك على ما مر من حرمان الناس من دخول الجنة إلا من استثني من المؤمنين إذ من الضروري على هذا أن اجتماعهم حوله (صلى الله عليه وآله وسلم) و إهطاعهم عليه إنما حملهم عليه إفراطهم في عداوته و مبالغتهم في إيذائه و إهانته، و أن قولهم: سندخل الجنة قبل المؤمنين - و هم مشركون مصرون على إنكار المعاد غير معترفين بنار و لا جنة - إنما كان استهزاء و تهكما.
فلا مساغ لتفريع عملهم ذاك على ما تقدم من حديث النار و الجنة و السؤال - في سياق التعجيب - عن السبب الحامل لهم عليه ثم استفهام طمعهم في دخول الجنة و إنكاره عليهم.
فبما تقدم يتأيد أن يكون المراد بالذين كفروا في قوله: «فما للذين كفروا» قوما من المنافقين آمنوا به (صلى الله عليه وآله وسلم) ظاهرا و لازموه ثم كفروا برد بعض ما نزل عليه كما يشير إليه أمثال قوله تعالى: «ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم»: المنافقون 3، و قوله: «لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم»: التوبة 66، و قوله: «فأعقبهم نفاقا في قلوبهم»: التوبة 77.
فهؤلاء قوم كانوا قد آمنوا و دخلوا في جماعة المؤمنين و لازموا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مهطعين عليه عن اليمين و عن الشمال عزين ثم كفروا ببعض ما نزل إليه لا يبالون به فقرعهم الله سبحانه في هذه الآيات أنهم لا ينتفعون بملازمته و لا لهم أن يطمعوا في دخول الجنة فليسوا ممن يدخلها و ليسوا بسابقين و لا معجزين.
و يؤيده قوله الآتي: «إنا لقادرون على أن نبدل خيرا منهم» إلخ على ما سنشير إليه.
قوله تعالى: «كلا إنا خلقناهم مما يعلمون» ردع لهم عن الطمع في دخول الجنة مع كفرهم.
و قوله: «إنا خلقناهم مما يعلمون» المراد بما يعلمون النطفة فإن الإنسان مخلوق منها.
و الكلام مرتبط بما بعده و المجموع تعليل للردع، و محصل التعليل أنا خلقناهم من النطفة - و هم يعلمون به - فلنا أن نذهب بهم و نخلق مكانهم قوما آخرين يكونون خيرا منهم مؤمنين غير رادين لشيء من دين الله، و لسنا بمسبوقين حتى يعجزنا هؤلاء الكفار و يسبقونا فندخلهم الجنة و ينتقض به ما قدرنا أن لا يدخل الجنة كافر.
و قيل: «من» في قوله: «مما يعلمون» تفيد معنى لام التعليل، و المعنى أنا خلقناهم لأجل ما يعلمون و هو الاستكمال بالإيمان و الطاعة فمن الواجب أن يتلبسوا بذلك حتى ندخلهم الجنة فكيف يطمعون في دخولها و هم كفار؟ و إنما علموا بذلك من طريق إخبار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
و قيل: «من» لابتداء الغاية، و المعنى: أنا خلقناهم من نطفة قذرة لا تناسب عالم القدس و الطهارة حتى تتطهر بالإيمان و الطاعة و تتخلق بأخلاق الملائكة فتدخل و أنى لهم ذلك و هم كفار.
و قيل: المراد بما في «ما يعلمون» الجنس، و المعنى أنا خلقناهم من جنس الآدميين الذين يعلمون أو من الخلق الذين يعلمون لا من جنس الحيوانات التي لا تعقل و لا تفقه فالحجة لازمة لهم تامة عليهم، و الوجوه الثلاثة سخيفة.
قوله تعالى: «فلا أقسم برب المشارق و المغارب إنا لقادرون على أن نبدل خيرا منهم و ما نحن بمسبوقين» المراد بالمشارق و المغارب مشارق الشمس و مغاربها فإن لها في كل يوم من أيام السنة الشمسية مشرقا و مغربا لا يعود إليهما إلى مثل اليوم من السنة القابلة، و من المحتمل أن يكون المراد بها مشارق جميع النجوم و مغاربها.
و في الآية على قصرها وجوه من الالتفات ففي قوله: «فلا أقسم» التفات من التكلم مع الغير في «إنا خلقناهم» إلى التكلم وحده، و الوجه فيه تأكيد القسم بإسناده إلى الله تعالى نفسه.
و في قوله: «برب المشارق و المغارب» التفات من التكلم وحده إلى الغيبة، و الوجه فيه الإشارة إلى صفة من صفاته تعالى هي المبدأ في خلق الناس جيلا بعد جيل و هي ربوبيته للمشارق و المغارب فإن الشروق بعد الشروق و الغروب بعد الغروب الملازم لمرور الزمان دخلا تاما في تكون الإنسان جيلا بعد جيل و سائر الحوادث الأرضية المقارنة له.
و في قوله: «إنا لقادرون» التفات من الغيبة إلى التكلم مع الغير، و الوجه فيه الإشارة إلى العظمة المناسبة لذكر القدرة، و في ذكر ربوبيته للمشارق و المغارب إشارة إلى تعليل القدرة فإن الذي ينتهي إليه تدبير الحوادث في تكونها لا يعجزه شيء من الحوادث التي هي أفعاله عن شيء منها و لا يمنعه شيء من خلقه من أن يبدله خيرا منه و إلا شاركه المانع في أمر التدبير و الله سبحانه واحد لا شريك له في ربوبيته فافهم ذلك.
و قوله: «إنا لقادرون على أن نبدل خيرا منهم» «على» متعلق بقوله: «لقادرون» و المفعول الأول لنبدل ضمير محذوف راجع إليهم و إنما حذف للإشارة إلى هوان أمرهم و عدم الاهتمام بهم، و «خيرا» مفعوله الثاني و هو صفة أقيمت مقام موصوفها، و التقدير إنا لقادرون على أن نبدلهم قوما خيرا منهم، و خيريتهم منهم أن يؤمنوا بالله و لا يكفروا به و يتبعوا الحق و لا يردوه.
و قوله: «و ما نحن بمسبوقين» المراد بالسبق الغلبة على سبيل الاستعارة، و كونه تعالى مسبوقا هو أن يمنعه خلقهم أن يذهب بهم و يأتي بدلهم بقوم خير منهم.
و سياق الآية لا يخلو من تأييد ما لما تقدم من كون المراد بالذين كفروا قوما من المنافقين دون المشركين المعاندين للدين النافين لأصل المعاد فإن ظاهر قوله: «خيرا منهم» لا يخلو من دلالة أو إشعار بأن فيهم شائبة خيرية و لله أن يبدل خيرا منهم، و المشركون لا خير فيهم لكن هذه الطائفة من المنافقين لا يخلو تحفظهم على ظواهر الدين مما آمنوا به و لم يردوه من خير للإسلام.
فقد بان بما تقدم أن قوله: «إنا خلقناهم مما يعلمون» إلى آخر الآيات الثلاث تعليل للردع بقوله: «كلا»، و أن محصل مضمون الآيات الثلاث أنهم مخلوقون من نطفة - و هم يعلمون ذلك - و هي خلقة جارية و الله الذي هو رب الحوادث الجارية التي منها خلق الإنسان جيلا بعد جيل و المدبر لها قادر أن يذهب بهم و يبدلهم خيرا منهم يعتنون بأمر الدين و يستأهلون لدخول الجنة، و لا يمنعه خلق هؤلاء أن يبدلهم خيرا منهم و يدخلهم الجنة بكمال إيمانهم من غير أن يضطر إلى إدخال هؤلاء الجنة فلا ينتقض تقديره أن الجنة للصالحين من أهل الإيمان.
قوله تعالى: «فذرهم يخوضوا و يلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون» أمر للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يتركهم و ما هم فيه، و لا يلح عليهم بحجاج و لا يتعب نفسه فيهم بعظة، و قد سمي ما هم عليه بالخوض و اللعب دلالة على أنهم لا ينتفعون به انتفاعا حقيقيا على ما لهم فيه من الإمعان و الإصرار كاللعب الذي لا نفع فيه وراء الخيال فليتركوا حتى يلاقوا اليوم الذي يوعدون و هو يوم القيامة.
و في إضافة اليوم إليهم إشارة إلى نوع اختصاص له بهم و هو الاختصاص بعذابهم.
قوله تعالى: «يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون» بيان ليومهم الذي يوعدون و هو يوم القيامة.
و الأجداث جمع جدث و هو القبر، و سراعا جمع سريع، و النصب ما ينصب علامة في الطريق يقصده السائرون للاهتداء به، و قيل: هو الصنم المنصوب للعبادة و هو بعيد من كلامه تعالى، و الإيفاض الإسراع و المعنى ظاهر.
قوله تعالى: «خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون» الخشوع تأثر خاص في القلب عن مشاهدة العظمة و الكبرياء، و يناظره الخضوع في الجوارح، و نسبة الخشوع إلى الأبصار لظهور آثاره فيها، و الرهق غشيان الشيء بقهر.
و قوله: «ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون» الإشارة إلى ما مر من أوصافه من الخروج من الأجداث سراعا و خشوع الأبصار و رهق الذلة.
بحث روائي
في الدر المنثور، أخرج عبد بن حميد عن عبادة بن أنس قال: دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المسجد فقال: ما لي أراكم عزين حلقا حلق الجاهلية قعد رجل خلف أخيه.
أقول: و رواه عن ابن مردويه عن أبي هريرة و لفظه: خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و أصحابه جلوس حلقا حلقا فقال: ما لي أراكم عزين، و روي هذا المعنى أيضا عن جابر بن سمرة.
و في تفسير القمي،: و قوله: «كلا إنا خلقناهم مما يعلمون» قال: من نطفة ثم علقة، و قوله: «فلا أقسم» أي أقسم «برب المشارق و المغارب» قال: مشارق الشتاء و مشارق الصيف و مغارب الشتاء و مغارب الصيف.
و في المعاني، بإسناده إلى عبد الله بن أبي حماد رفعه إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: لها ثلاثمائة و ستون مشرقا و ثلاثمائة و ستون مغربا فيومها الذي تشرق فيه لا تعود فيه إلا من قابل.
و في تفسير القمي،: و قوله: «يوم يخرجون من الأجداث سراعا» قال: من القبر «كأنهم إلى نصب يوفضون» قال: إلى الداعي ينادون، و قوله: «ترهقهم ذلة» قال: تصيبهم ذلة.
|