بيان
السير الإجمالي في هذه الآيات يوجب التوقف في اتصال هذه الآيات بما قبلها، و كذا في اتصال ما بعدها كقوله تعالى: «إنما وليكم الله و رسوله» إلى آخر الآيتين ثم اتصال قوله بعدهما: «يا أيها الذين ءامنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا» إلى تمام عدة آيات ثم في اتصال قوله: «يا أيها الرسول بلغ» الآية.
أما هذه الآيات الأربع فإنها تذكر اليهود و النصارى، و القرآن لم يكن ليذكر أمرهم في آياته المكية لعدم مسيس الحاجة إليه يومئذ بل إنما يتعرض لحالهم في المدينة من الآيات، و لا فيما نزلت منها في أوائل الهجرة فإن المسلمين إنما كانوا مبتلين يومئذ بمخالطة اليهود و معاشرتهم أو موادعتهم أو دفع كيدهم و مكرهم خاصة دون النصارى إلا في النصف الأخير من زمن إقامة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالمدينة فلعل الآيات الأربع نزلت فيه، و لعل المراد بالفتح فيها فتح مكة.
لكن تقدم أن الاعتماد على نزول سورة المائدة في سنة حجة الوداع و قد فتحت مكة فهل المراد بالفتح فتح آخر غير فتح مكة؟ أو أن هذه الآيات نزلت قبل فتح مكة و قبل نزول السورة جميعا؟.
ثم إن الآية الأخيرة أعني قوله: «يا أيها الذين ءامنوا من يرتد منكم» الآية هل هي متصلة بالآيات الثلاث المتقدمة عليها؟ و من المراد بهؤلاء القوم الذين تتوقع ردتهم؟ و من هؤلاء الآخرون الذين وعد الله أنه سيأتي بهم؟ كل واحد منها أمر يزيد إبهاما على إبهام، و قد تشتت ما ورد من أسباب النزول و ليست إلا أنظار المفسرين من السلف كغالب أسباب النزول المنقولة في الآيات، و هذا الاختلاف الفاحش أيضا مما يشوش الذهن في تفهم المعنى، أضف إلى ذلك كله مخالطة التعصبات المذهبية الأنظار القاضية فيها كما سيمر بك شواهد تشهد على ذلك من الروايات و أقوال المفسرين من السلف و الخلف.
و الذي يعطيه التدبر في الآيات أن هذه الآيات الأربع على ما نقلناها متصلة الأجزاء منقطعة عما قبلها و ما بعدها، و أن الآية الرابعة من متممات الغرض المقصود بيانه فيها غير أنه يجب التحرز في فهم معناها عن المساهلات و المسامحات التي جوزتها أنظار الباحثين من المفسرين في الآيات و خاصة فيما ذكر فيها من الأوصاف و النعوت على ما سيجيء.
و إجمال ما يتحصل من الآيات أن الله سبحانه يحذر المؤمنين فيها اتخاذ اليهود و النصارى أولياء، و يهددهم في ذلك أشد التهديد، و يشير في ملحمة قرآنية إلى ما يئول إليه أمر هذه الموالاة من انهدام بنية السيرة الدينية، و أن الله سيبعث قوما يقومون بالأمر، و يعيدون بنية الدين إلى عمارتها الأصلية.
قوله تعالى: «يا أيها الذين ءامنوا لا تتخذوا اليهود و النصارى أولياء بعضهم أولياء بعض» قال في المجمع:، الاتخاذ هو الاعتماد على الشيء لإعداده لأمر، و هو افتعال من الأخذ، و أصله الائتخاذ فأبدلت الهمزة تاء، و أدغمتها في التاء التي بعدها و مثله الاتعاد من الوعد، و الأخذ يكون على وجوه تقول: أخذ الكتاب إذا تناوله، و أخذ القربان إذا تقبله، و أخذه الله من مأمنه إذا أهلكه، و أصله جواز الشيء من جهة إلى جهة من الجهات.
انتهى.
و قال الراغب في المفردات:، الولاء و التوالي أن يحصل شيئان فصاعدا حصولا ليس بينهما ما ليس منهما، و يستعار ذلك للقرب من حيث المكان، و من حيث النسبة و من حيث الدين، و من حيث الصداقة و النصرة و الاعتقاد انتهى موضع الحاجة و سيأتي استيفاء البحث في معنى الولاية.
و بالجملة الولاية نوع اقتراب من الشيء يوجب ارتفاع الموانع و الحجب بينهما من حيث ما اقترب منه لأجله فإن كان من جهة التقوى و الانتصار فالولي هو الناصر الذي لا يمنعه عن نصرة من اقترب منه شيء، و إن كان من جهة الالتيام في المعاشرة و المحبة التي هي الانجذاب الروحي فالولي هو المحبوب الذي لا يملك الإنسان نفسه دون أن ينفعل عن إرادته، و يعطيه فيما يهواه و إن كان من جهة النسب فالولي هو الذي يرثه مثلا من غير مانع يمنعه، و إن كان من جهة الطاعة فالولي هو الذي يحكم في أمره بما يشاء.
و لم يقيد الله سبحانه في قوله: «لا تتخذوا اليهود و النصارى أولياء» الولاية بشيء من الخصوصيات و القيود فهي مطلقة غير أن قوله تعالى في الآية التالية: «فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة»، يدل على أن المراد بالولاية نوع من القرب و الاتصال يناسب هذا الذي اعتذروا به بقولهم: «نخشى أن تصيبنا دائرة» و هي الدولة تدور عليهم، و كما أن الدائرة من الجائز أن تصيبهم من غير اليهود و النصارى فيتأيدوا بنصرة الطائفتين بأخذهما أولياء النصرة كذلك يجوز أن تصيبهم من نفس اليهود و النصارى فينجو منها باتخاذهما أولياء المحبة و الخلطة.
و الولاية بمعنى قرب المحبة و الخلطة تجمع الفائدتين جميعا أعني فائدة النصرة و الامتزاج الروحي فهو المراد بالآية، و سيجيء ما في القيود و الصفات المأخوذة في الآية الأخيرة: «يا أيها الذين ءامنوا من يرتد منكم عن دينه»، من الدلالة على أن المراد بالولاية هاهنا ولاية المحبة لا غير.
و قد أصر بعض المفسرين على أن المراد بالولاية ولاية النصرة و هي التي تجري بين إنسانين أو قومين من الحلف أو العهد على نصرة أحد الوليين الآخر عند الحاجة، و استدل على ذلك بما محصله أن الآيات - كما يلوح من ظاهرها - منزلة قبل حجة الوداع في أوائل الهجرة أيام كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و المسلمون لم يفرغوا من أمر يهود المدينة و من حولهم من يهود فدك و خيبر و غيرهم، و من ورائهم النصارى و كان بين طوائف من العرب و بينهم عقود من ولاية النصرة و الحلف، و ربما انطبق على ما ورد في أسباب النزول أن عبادة بن الصامت من بني عوف بن الخزرج تبرأ من بني قينقاع لما حاربت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و كان بينه و بينهم ولاية حلف، لكن عبد الله بن أبي رأس المنافقين لم يتبرأ منهم و سارع فيهم قائلا: نخشى أن تصيبنا دائرة.
أو ما ورد في قصة أبي لبابة لما أرسله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ليخرج بني قريظة من حصنهم و ينزلهم على حكمه، فأشار أبو لبابة بيده إلى حلقه: أنه الذبح.
أو ما ورد أن بعضهم كان يكاتب نصارى الشام بأخبار المدينة، و بعضهم كان يكاتب يهود المدينة لينتفعوا بمالهم و لو بالقرض.
أو ما ورد أن بعضهم قال: إنه يلحق بفلان اليهودي أو بفلان النصراني إثر ما نزل بهم يوم أحد من القتل و الهزيمة.
و هؤلاء الروايات كالمتفقة في أن القائلين: «نخشى أن تصيبنا دائرة» كانوا هم المنافقين، و بالجملة فالآيات إنما تنهى عن المحالفة و ولاية النصرة بين المسلمين و بين اليهود و النصارى.
و قد أكد ذلك بعضهم حتى ادعى أن كون الولاية في الآية بمعنى ولاية المحبة و الاعتماد مما تتبرأ منه لغة الآية في مفرداتها و سياقها كما يتبرأ منه سبب النزول و الحالة العامة التي كان عليها المسلمون و الكتابيون في عصر التنزيل.
و كيف يصح حمل الآية على النهي عن معاشرتهم و الاختلاط بهم و إن كانوا ذوي ذمة أو عهد، و قد كان اليهود يقيمون مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و مع الصحابة في المدينة، و كانوا يعاملونهم بالمساواة التامة انتهى ما ذكره ملخصا.
و هذا كله من التساهل في تحصيل معنى الآية أما ما ذكروه من كون الآيات نازلة قبل عام حجة الوداع و هي سنة نزول سورة المائدة فمما ليس فيه كثير إشكال لكنه لا يوجب كون الولاية بمعنى المحالفة دون ولاية المحبة.
و أما ما ذكروه من أسباب النزول و دلالتها على كون الآيات نازلة في خصوص المحالفة و ولاية النصرة التي كانت بين أقوام من العرب و بين اليهود و النصارى.
ففيه أولا أن أسباب النزول في نفسها متعارضة لا ترجع إلى معنى واحد يوثق و يعتمد عليه، و ثانيا أنها لا توجه ولاية النصارى و إن وجهت ولاية اليهود بوجه إذ لم يكن بين العرب من المسلمين و بين النصارى ولاية الحلف يومئذ، و ثالثا أنا نصدق أسباب النزول فيما تقتضيها إلا أنك قد عرفت فيما مر أن جل الروايات الواردة في أسباب النزول على ضعفها متضمنة لتطبيق الحوادث المنقولة تاريخا على الآيات القرآنية المناسبة لها، و هذا أيضا لا بأس به.
و أما الحكم بأن الوقائع المذكورة فيها تخصص عموم آية من الآيات القرآنية أو تقيد إطلاقها بحسب اللفظ فمما لا ينبغي التفوه به، و لا أن الظاهر المتفاهم يساعده.
و لو تخصص أو تقيد ظاهر الآيات بخصوصية في سبب النزول غير مأخوذة في لفظ الآية لمات القرآن بموت من نزل فيهم، و انقطع الحجاج به في واقعة من الوقائع التي بعد عصر التنزيل، و لا يوافقه كتاب و لا سنة و لا عقل سليم.
و أما ما ذكره بعضهم: «أن أخذ الولاية بمعنى المحبة و الاعتماد خطأ تتبرأ منه لغة الآية في مفرداتها و سياقها كما يتبرأ منه أسباب النزول و الحالة العامة التي كان عليها المسلمون و الكتابيون في عصر التنزيل» فمما لا يرجع إلى معنى محصل بعد التأمل فيه فإن ما ذكره من تبري أسباب النزول و ما ذكره من الحالة العامة أن تشمل الآيات ذلك و تصدق عليه إذا لم يأب ظهور الآية من الانطباق عليه، و أما قصر الدلالة على مورد النزول و الحالة العامة الموجودة وقتئذ فقد عرفت أنه لا دليل عليه بل الدليل - و هو حجية الآية في ظهورها المطلق - على خلافه فقد عرفت أن الآية مطلقة من غير دليل على تقييدها فتكون حجة في المعنى المطلق، و هو الولاية بمعنى المحبة.
و ما ذكره من تبري الآية بمفرداتها و سياقها من ذلك من عجيب الكلام، و ليت شعري ما الذي قصده من هذا التبري الذي وصفه و حمله على مفردات الآية و لم يقنع بذلك دون أن عطف عليها سياقها.
و كيف تتبرأ من ذلك مفردات الآية أو سياقها و قد وقع فيها بعد قوله: «لا تتخذوا اليهود و النصارى أولياء» قوله تعالى: «بعضهم أولياء بعض» و لا ريب في أن المراد بهذه الولاية ولاية المحبة و الاتحاد و المودة، دون ولاية الحلف إذ لا معنى لأن يقال: لا تحالفوا اليهود و النصارى بعضهم حلفاء بعض، و إنما كان ما يكون الوحدة بين اليهود و يرد بعضهم إلى بعض هو ولاية المحبة القومية، و كذا بين النصارى من دون تحالف بينهم أو عهد إلا مجرد المحبة و المودة من جهة الدين؟.
و كذا قوله تعالى بعد ذلك: «و من يتولهم منكم فإنه منهم» فإن الاعتبار الذي يوجب كون موالي جماعة من تلك الجماعة هو أن المحبة و المودة تجمع المتفرقات و توحد الأرواح المختلفة و تتوحد بذلك الإدراكات، و ترتبط به الأخلاق، و تتشابه الأفعال، و ترى المتحابين بعد استقرار ولاية المحبة كأنهما شخص واحد ذو نفسية واحدة، و إرادة واحدة، و فعل واحد لا يخطىء أحدهما الآخر في مسير الحياة، و مستوى العشرة.
فهذا هو الذي يوجب كون من تولى قوما منهم و لحوقه بهم، و قد قيل: من أحب قوما فهو منهم، و المرء مع من أحب، و قد قال تعالى في نظيره نهيا عن موالاة المشركين: «يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي و عدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة و قد كفروا بما جاءكم من الحق - إلى أن قال بعد عدة آيات - و من يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون»: الممتحنة: 9 و قال تعالى: «لا تجد قوما يؤمنون بالله و اليوم الآخر يوادون من حاد الله و رسوله و لو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم»: المجادلة: 22، و قال تعالى في تولي الكافرين - و اللفظ عام يشمل اليهود و النصارى و المشركين جميعا -: «لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين و من يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة و يحذركم الله نفسه»: آل عمران: 28 و الآية صريحة في ولاية المودة و المحبة دون الحلف و العهد، و قد كان بين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و بين اليهود، و كذا بينه و بين المشركين يومئذ أعني زمان نزول سورة آل عمران معاهدات و موادعات.
و بالجملة الولاية التي تقتضي بحسب الاعتبار لحوق قوم بقوم هي ولاية المحبة و المودة دون الحلف و النصرة و هو ظاهر، و لو كان المراد بقوله: «و من يتولهم منكم فإنه منهم» أن من حالفهم على النصرة بعد هذا النهي فإنه لمعصيته النهي ظالم ملحق بأولئك الظالمين في الظلم كان معنى - على ابتذاله - بعيدا من اللفظ يحتاج إلى قيود زائدة في الكلام.
و من دأب القرآن في كل ما ينهى عن أمر كان جائزا سائغا قبل النهي أن يشير إليه رعاية لجانب الحكم المشروع سابقا، و احتراما للسيرة النبوية الجارية قبله كقوله: «إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا»: التوبة: 28 و قوله: فالآن باشروهن و ابتغوا ما كتب الله لكم و كلوا و اشربوا» الآية: البقرة: 178 و قوله: «لا يحل لك النساء من بعد و لا أن تبدل بهن من أزواج»: الأحزاب: 52 إلى غير ذلك.
فقد تبين أن لغة الآية في مفرداتها و سياقها لا تتبرأ من كون المراد بالولاية ولاية المحبة و المودة، بل إن تبرأت فإنما تتبرأ من غيرها.
و أما قولهم: إن المراد بالذين في قلوبهم مرض المنافقون فسيجيء أن السياق لا يساعده فالمراد بقوله: «لا تتخذوا اليهود و النصارى أولياء» النهي عن موادتهم الموجب لتجاذب الأرواح و النفوس الذي يفضي إلى التأثير و التأثر الأخلاقيين فإن ذلك يقلب حال مجتمعهم من السيرة الدينية المبنية على سعادة اتباع الحق إلى سيرة الكفر المبنية على اتباع الهوى و عبادة الشيطان و الخروج عن صراط الحياة الفطرية.
و إنما عبر عنهم باليهود و النصارى، و لم يعبر بأهل الكتاب كما عبر بمثله في الآية الآتية لما في التعبير بأهل الكتاب من الإشعار بقربهم من المسلمين نوعا من القرب يوجب إثارة المحبة فلا يناسب النهي عن اتخاذهم أولياء، و أما ما في الآية الآتية: «يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا و لعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم و الكفار أولياء» من وصفهم بإيتائهم الكتاب مع النهي عن اتخاذهم أولياء فتوصيفهم باتخاذ دين الله هزوا و لعبا يقلب حال ذلك الوصف - أعني كونهم ذوي كتاب - من المدح إلى الذم فإن من أوتي الكتاب الداعي إلى الحق و المبين له ثم جعل يستهزء بدين الحق و يلعب به أحق و أحرى به أن لا يتخذ وليا، و تجتنب معاشرته و مخالطته و موادته.
و أما قوله تعالى: «بعضهم أولياء بعض» فالمراد بالولاية - كما تقدم - ولاية المحبة المستلزمة لتقارب نفوسهم، و تجاذب أرواحهم المستوجب لاجتماع آرائهم على اتباع الهوى، و الاستكبار عن الحق و قبوله، و اتحادهم على إطفاء نور الله سبحانه، و تناصرهم على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و المسلمين كأنهم نفس واحدة ذات ملة واحدة، و ليسوا على وحدة من الملية لكن يبعث القوم على الاتفاق، و يجعلهم يدا واحدة على المسلمين أن الإسلام يدعوهم إلى الحق، و يخالف أعز المقاصد عندهم و هو اتباع الهوى، و الاسترسال في مشتهيات النفس و ملاذ الدنيا.
فهذا هو الذي جعل الطائفتين: اليهود و النصارى - على ما بينهما من الشقاق و العداوة الشديدة - مجتمعا واحدا يقترب بعضه من بعض، و يرتد بعضه إلى بعض، يتولى اليهود النصارى و بالعكس، و يتولى بعض اليهود بعضا، و بعض النصارى بعضا، و هذا معنى إبهام الجملة: «بعضهم أولياء بعض» في مفرداتها، و الجملة في موضع التعليل لقوله: «لا تتخذوا اليهود و النصارى أولياء» و المعنى لا تتخذوهم أولياء لأنهم على تفرقهم و شقاقهم فيما بينهم يد واحدة عليكم لا نفع لكم في الاقتراب منهم بالمودة و المحبة.
و ربما أمكن أن يستفاد من قوله: «بعضهم أولياء بعض» معنى آخر، و هو أن لا تتخذوهم أولياء لأنكم إنما تتخذونهم أولياء لتنتصروا ببعضهم الذي هم أولياؤكم على البعض الآخر، و لا ينفعكم ذلك فإن بعضهم أولياء بعض فليسوا ينصرونكم على أنفسهم.
قوله تعالى: «و من يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين» التولي اتخاذ الولي، و «من» تبعيضية و المعنى أن من يتخذهم منكم أولياء فإنه بعضهم، و هذا إلحاق تنزيلي يصير به بعض المؤمنين بعضا من اليهود و النصارى، و يئول الأمر إلى أن الإيمان حقيقة ذات مراتب مختلفة من حيث الشوب و الخلوص، و الكدورة و الصفاء كما يستفاد ذلك من الآيات القرآنية قال تعالى: «و ما يؤمن أكثرهم بالله إلا و هم مشركون»: يوسف: 160 و هذا الشوب و الكدر هو الذي يعبر تعالى عنه بمرض القلوب فيما سيأتي من قوله: «فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم».
فهؤلاء الموالون لأولئك أقوام عدهم الله تعالى من اليهود و النصارى و إن كانوا من المؤمنين ظاهرا، و أقل ما في ذلك أنهم غير سالكين سبيل الهداية الذي هو الإيمان بل سالكو سبيل اتخذه أولئك سبيلا يسوقه إلى حيث يسوقهم و ينتهي به إلى حيث ينتهي بهم.
و لذلك علل الله سبحانه لحوقه بهم بقوله: «إن الله لا يهدي القوم الظالمين» فالكلام في معنى: أن هذا الذي يتولاهم منكم هو منهم غير سالك سبيلكم لأن سبيل الإيمان هو سبيل الهداية الإلهية، و هذا المتولي لهم ظالم مثلهم، و الله لا يهدي القوم الظالمين.
و الآية - كما ترى - تشتمل على أصل التنزيل أعني تنزيل من تولاهم من المؤمنين منزلتهم من غير تعرض لشيء من آثاره الفرعية، و اللفظ و إن لم يتقيد بقيد لكنه لما كان من قبيل بيان الملاك - نظير قوله: «و أن تصوموا خير لكم»: البقرة: 148 و قوله: «إن الصلاة تنهى عن الفحشاء و المنكر و لذكر الله أكبر»: العنكبوت: 45 إلى غير ذلك - لم يكن إلا مهملا يحتاج التمسك به في إثبات حكم فرعي إلى بيان السنة، و المرجع في البحث عن ذلك فن الفقه.
قوله تعالى: «فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم» تفريع على قوله في الآية السابقة: «إن الله لا يهدي القوم الظالمين» فمن عدم شمول الهداية الإلهية لحالهم - و هو الضلال - مسارعتهم فيهم و اعتذارهم في ذلك بما لا يسمع من القول، و قد قال تعالى: «يسارعون فيهم» و لم يقل يسارعون إليهم، فهم منهم و حالون في الضلال محلهم، فهؤلاء يسارعون فيهم لا لخشية إصابة دائرة عليهم فليسوا يخافون ذلك، و إنما هي معذرة يختلقونها لأنفسهم لدفع ما يتوجه إليهم من ناحية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و المؤمنين من اللوم و التوبيخ بل إنما يحملهم على تلك المسارعة توليهم أولئك اليهود و النصارى.
و لما كان من شأن كل ظلم و باطل أن يزهق يوما و يظهر للملأ فضيحته، و ينقطع رجاء من توسل إلى أغراض باطلة بوسائل صورتها صورة الحق كما قال تعالى: «إن الله لا يهدي القوم الظالمين» كان من المرجو قطعا أن يأتي الله بفتح أو أمر من عنده فيندموا على فعالهم، و يظهر للمؤمنين كذبهم فيما كانوا يظهرونه.
و بهذا البيان يظهر وجه تفرع قوله: «فترى الذين» إلخ على قوله: «إن الله لا يهدي القوم الظالمين» و قد تقدم كلام في معنى عدم اهتداء الظالمين في ظلمهم.
فهؤلاء القوم منافقون من جهة إظهارهم للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و المؤمنين ما ليس في قلوبهم حيث يعنونون مسارعتهم في اليهود و النصارى بعنوان الخشية من إصابة الدائرة، و عنوانه الحقيقي الموافق لما في قلوبهم هو تولي أعداء الله فهذا هو وجه نفاقهم، و أما كونهم منافقين بمعنى الكافرين المظهرين للإيمان فسياق الآيات لا يوافقه.
و قد ذكر جماعة من المفسرين أنهم المنافقون كعبد الله بن أبي و أصحابه على ما يؤيده أسباب النزول الواردة فإن هؤلاء المنافقين كانوا يشاركون المؤمنين في مجتمعهم و يجاملونهم من جانب، و من الجانب الآخر كانوا يتولون اليهود و النصارى بالحلف و العهد على النصرة استدرارا للفئتين، و أخذا بالاحتياط في رعاية مصالح أنفسهم ليغتبطوا على أي حال، و يكونوا في مأمن من إصابة الدائرة على أي واحدة من الفئتين المتخاصمتين دارت.
و ما ذكروه لا يلائم سياق الآيات فإنها تتضمن رجاء أن يندموا بفتح أو أمر من عنده، و الفتح فتح مكة أو فتح قلاع اليهود و بلاد النصارى أو نحو ذلك على ما قالوا و لا وجه لندمهم على هذا التقدير فإنهم احتاطوا في أمرهم بحفظ الجانبين، و لا ندامة في الاحتياط، و إنما كان يصح الندم لو انقطعوا من المؤمنين بالمرة و اتصلوا باليهود و النصارى ثم دارت الدائرة عليهم، و كذا ما ذكره الله تعالى من حبط أعمالهم و صيرورتهم خاسرين بقوله: «حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين» لا يلائم كونهم هم المنافقين الآخذين بالحائطة لمنافعهم و مطالبهم إذ لا معنى لخسران من احتاط بحائطة اتقاء من مكروه يخافه على نفسه ثم صادف إن لم يقع ما كان يخاف وقوعه، و الاحتياط في العمل من الطرق العقلائية التي لا تستتبع لوما و لا ذما.
إلا أن يقال: إن الذم إنما لحقهم لأنهم عصوا النهي الإلهي و لم تطمئن قلوبهم بما وعده الله من الفتح، و هذا و إن كان لا بأس به في نفسه لكن لا دليل عليه من جهة لفظ الآية.
قوله تعالى: «فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين» لفظة «عسى» و إن كان في كلامه تعالى للترجي كسائر الكلام - على ما قدمنا أنه للترجي العائد إلى السامع أو إلى المقام - لكن القرينة قائمة على أنه مما سيقع قطعا فإن الكلام مسوق لتقرير ما ذكره بقوله: «إن الله لا يهدي القوم الظالمين» و تثبيت صدقه، فما يشتمل عليه واقع لا محالة.
و الذي ذكره الله تعالى من الفتح - و قد ردد بينه و بين أمر من عنده غير بين المصداق بل الترديد بينه و بين أمر مجهول لنا - لعله يؤيد كون اللام في «الفتح» للجنس لا للعهد حتى يكون المراد به فتح مكة المعهود بوعد وقوعه في مثل قوله تعالى: «إن الذي فرض عليك القرءان لرادك إلى معاد»: القصص: 85 و قوله: «لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله»: الفتح: 27 و غير ذلك.
و الفتح الواقع في القرآن و إن كان المراد به في أكثر موارده هو فتح مكة لكن بعض الموارد لا يقبل الحمل على ذلك كقوله تعالى: «و يقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم و لا هم ينظرون فأعرض عنهم و انتظر إنهم منتظرون»: السجدة: 30 فإنه تعالى وصف هذا الفتح بأنه لا ينفع عنده الإيمان لمن كان كافرا قبله، و أن الكفار ينتظرونه، و أنت تعلم أنه لا ينطبق على فتح مكة و لا على سائر الفتوحات التي نالها المسلمون حتى اليوم فإن عد نفع الإيمان و هو التوبة إنما يتصور لأحد أمرين - كما تقدم بيانه في الكلام على التوبة -: إما بتبدل نشأة الحياة و ارتفاع الاختيار لتبدل الدنيا بالآخرة، و إما بتكون أخلاق و ملكات في الإنسان يقسو بها القلب قسوة لا رجاء معها للتوبة و الرجوع إلى الله سبحانه قال تعالى: «يوم يأتي بعض ءايات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن ءامنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا»: الأنعام: 185 و قال تعالى: «و ليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن و لا الذين يموتون و هم كفار»: النساء: 18.
و كيف كان فإن كان المراد بالفتح أحد فتوحات المسلمين كفتح مكة أو فتح قلاع اليهود أو فتح بلاد النصارى فهو، إلا أن في انطباق ما ذكره الله تعالى بقوله: «فيصبحوا على ما أسروا» إلخ و قوله: «و يقول الذين» إلخ عليه خفاء تقدم وجهه.
و إن كان المراد به الفتح بمعنى القضاء للإسلام على الكفر و الحكم الفصل بين الرسول و قومه فهو من الملاحم القرآنية التي ينبىء تعالى فيها عما سيستقبل هذه الأمة من الحوادث، و ينطبق على ما ذكره الله في سورة يونس من قوله: «و لكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم» إلى آخر الآيات: يونس: 47 - 56.
و أما قوله: «فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين» فإن الندامة إنما تحصل عند فعل ما لم يكن ينبغي أن يفعل أو ترك ما لم يكن ينبغي أن يترك، و قد فعلوا شيئا، و الله سبحانه يذكر في الآية التالية حبط أعمالهم و خسرانهم في صفقتهم فإنما أسروا في أنفسهم تولي اليهود و النصارى لينالوا به و بالمسارعة فيهم ما كانت اليهود و النصارى يريدونه من انطفاء نور الله و التسلط على شهوات الدنيا من غير مانع من الدين.
فهذا - لعله - هو الذي أسروه في أنفسهم، و سارعوا لأجله فيهم، و سوف يندمون على بطلان سعيهم إذا فتح الله للحق.
قوله تعالى: «و يقول الذين ءامنوا» إلى آخر الآية و قرىء «يقول» بالنصب عطفا على قوله: «يصبحوا» و هي أرجح لكونها أوفق بالسياق فإن ندامتهم على ما أسروه في أنفسهم و قول المؤمنين: «أ هؤلاء» إلخ جميعا تقريع لهم بعاقبة توليهم و مسارعتهم في اليهود و النصارى، و قوله: «هؤلاء» إشارة إلى اليهود و النصارى، و قوله: «معكم» خطاب للذين في قلوبهم مرض و يمكن العكس، و كذا الضمير في قوله: «حبطت أعمالهم فأصبحوا»، يمكن رجوعه إلى اليهود و النصارى، و إلى الذين في قلوبهم مرض.
لكن الظاهر من السياق أن الخطاب للذين في قلوبهم مرض، و الإشارة إلى اليهود و النصارى، و قوله: «حبطت أعمالهم»، كالجواب لسؤال مقدر، و المعنى: و عسى أن يأتي الله بالفتح أو أمر من عنده فيقول الذين آمنوا لهؤلاء الضعفاء الإيمان عند حلول السخط الإلهي بهم: أ هؤلاء اليهود و النصارى هم الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم أي أيمانهم التي بالغوا و جهدوا فيها جهدا إنهم لمعكم فلما ذا لا ينفعونكم؟! ثم كأنه سئل فقيل: فإلى م انتهى أمر هؤلاء الموالين؟ فقيل في جوابه: حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين.
كلام في معنى مرض القلب
و في قوله تعالى: «في قلوبهم مرض» دلالة على أن للقلوب مرضا فلها لا محالة صحة إذ الصحة و المرض متقابلان لا يتحقق أحدهما في محل إلا بعد إمكان تلبسه بالآخر كالبصر و العمى أ لا ترى أن الجدار مثلا لا يتصف بأنه مريض لعدم جواز اتصافه بالصحة و السلامة.
و جميع الموارد التي أثبت الله سبحانه فيها للقلوب مرضا في كلامه يذكر فيها من أحوال تلك القلوب و آثارها أمورا تدل على خروجها من استقامة الفطرة، و انحرافها عن مستوى الطريقة كقوله تعالى: «و إذ يقول المنافقون و الذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله و رسوله إلا غرورا»: الأحزاب: 12 و قوله تعالى: «إذ يقول المنافقون و الذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم»: الأنفال: 49 و قوله تعالى: «ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض و القاسية قلوبهم»: الحج: 53 إلى غير ذلك.
و جملة الأمر أن مرض القلب تلبسه بنوع من الارتياب و الشك يكدر أمر الإيمان بالله و الطمأنينة إلى آياته، و هو اختلاط من الإيمان بالشرك، و لذلك يرد على مثل هذا القلب من الأحوال، و يصدر عن صاحب هذا القلب في مرحلة الأعمال و الأفعال ما يناسب الكفر بالله و بآياته.
و بالمقابلة تكون سلامة القلب و صحته هي استقراره في استقامة الفطرة و لزومه مستوى الطريقة، و يئول إلى خلوصه في توحيد الله سبحانه و ركونه إليه عن كل شيء يتعلق به هوى الإنسان، قال تعالى: «يوم لا ينفع مال و لا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم»: الشعراء: 89.
و من هنا يظهر أن الذين في قلوبهم مرض غير المنافقين كما لا يخلو تعبير القرآن عنهما بمثل قوله: «المنافقون و الذين في قلوبهم مرض» في غالب الموارد عن إشعار ما بذلك، و ذلك أن المنافقين هم الذين آمنوا بأفواههم و لم تؤمن قلوبهم، و الكفر الخاص موت للقلب لا مرض فيه قال تعالى: «أ و من كان ميتا فأحييناه و جعلنا له نورا يمشي به في الناس»: الأنعام: 122 و قال: «إنما يستجيب الذين يسمعون و الموتى يبعثهم الله»: الأنعام: 36.
فالظاهر أن مرض القلب في عرف القرآن هو الشك و الريب المستولي على إدراك الإنسان فيما يتعلق بالله و آياته، و عدم تمكن القلب من العقد على عقيدة دينية.
فالذين في قلوبهم مرض بحسب طبع المعنى هم ضعفاء الإيمان، الذين يصغون إلى كل ناعق، و يميلون مع كل ريح، دون المنافقين الذين أظهروا الإيمان و استبطنوا الكفر رعاية لمصالحهم الدنيوية ليستدروا المؤمنين بظاهر إيمانهم و الكفار بباطن كفرهم.
نعم ربما أطلق عليهم المنافقون في القرآن تحليلا لكونهم يشاركونهم في عدم اشتمال باطنهم على لطيفة الإيمان، و هذا غير إطلاق الذين في قلوبهم مرض على من هو كافر لم يؤمن إلا ظاهرا قال تعالى: «بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أ يبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا و قد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم ءايات الله يكفر بها و يستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره أنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين و الكافرين في جهنم جميعا»: النساء: 104.
و أما قوله تعالى في سورة البقرة: «و من الناس من يقول ءامنا بالله و باليوم الآخر و ما هم بمؤمنين - إلى أن قال -: في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا - إلى أن قال - و إذا قيل لهم ءامنوا كما ءامن الناس قالوا أ نؤمن كما ءامن السفهاء» الآيات: البقرة: 7 - 20 فإنما هو بيان لسلوك قلوبهم من الشك في الحق إلى إنكاره، و أنهم كانوا في بادىء حالهم مرضى بسبب كذبهم في الإخبار عن إيمانهم و كانوا مرتابين لم يؤمنوا بعد، فزادهم الله مرضا حتى هلكوا بإنكارهم الحق و استهزائهم له.
و قد ذكر الله سبحانه أن مرض القلب على حد الأمراض الجسمانية ربما أخذ في الزيادة حتى أزمن و انجر الأمر إلى الهلاك و ذلك بإمداده بما يضر طبع المريض في مرضه، و ليس إلا المعصية قال تعالى: «في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا»: البقرة: 10 و قال تعالى «و إذا ما أنزلت سورة - إلى أن قال -: و أما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم و ماتوا و هم كافرون أ و لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون و لا هم يذكرون»: التوبة: 162 و قال تعالى - و هو بيان عام -: «ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوأى أن كذبوا بآيات الله و كانوا بها يستهزءون»: الروم: 10.
ثم ذكر تعالى في علاجه الإيمان به قال تعالى - و هو بيان عام -: «يهديهم ربهم بإيمانهم»: يونس: 9 و قال تعالى: «إليه يصعد الكلم الطيب و العمل الصالح يرفعه»: فاطر: 10 فعلى مريض القلب - إن أراد مداواة مرضه - أن يتوب إلى الله، و هو الإيمان به و أن يتذكر بصالح الفكر و صالح العمل كما يشير إليه الآية السابقة الذكر: «ثم لا يتوبون و لا هم يذكرون»: التوبة: 162.
و قال سبحانه و هو قول جامع في هذا الباب: «يا أيها الذين ءامنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أ تريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار و لن تجد لهم نصيرا إلا الذين تابوا و أصلحوا و اعتصموا بالله و أخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين و سوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما»: النساء: 164 و قد تقدم أن المراد بذلك الرجوع إلى الله بالإيمان و الاستقامة عليه و الأخذ بالكتاب و السنة ثم الإخلاص.
قوله تعالى: «يا أيها الذين ءامنوا من يرتد منكم عن دينه» ارتد عن دينه رجع عنه، و هو في اصطلاح أهل الدين الرجوع من الإيمان إلى الكفر سواء كان إيمانه مسبوقا بكفر آخر كالكافر يؤمن ثم يرتد أو لم يكن، و هما المسميان بالارتداد الملي و الفطري حقيقة شرعية أو متشرعية.
ربما يسبق إلى الذهن أن المراد بالارتداد في الآية هو ما اصطلح عليه أهل الدين، و يكون الآية على هذا غير متصلة بما قبلها، و إنما هي آية مستقلة تحكي عن نحو استغناء من الله سبحانه عن إيمان طائفة من المؤمنين بإيمان آخرين.
لكن التدبر في الآية و ما تقدم عليها من الآيات يدفع هذا الاحتمال فإن الآية على هذا تذكر المؤمنين بقدرة الله سبحانه على أن يعبد في أرضه، و أنه سوف يأتي بأقوام لا يرتدون عن دينه بل يلازمونه كقوله تعالى: «فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين»: الأنعام: 89 أو كقوله تعالى: «و من كفر فإن الله غني عن العالمين»: آل عمران: 97 و قوله تعالى: «إن تكفروا أنتم و من في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد»: إبراهيم: 8.
و المقام الذي هذه صفته لا يقتضي أزيد من التعرض لأصل الغرض، و هو الإخبار بالإتيان بقوم مؤمنين لا يرتدون عن دين الله، و أما أنهم يحبون الله و يحبهم، و أنهم أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين إلى آخر ما ذكر في الآية من الأوصاف فهي أمور زائدة يحتاج التعرض لها إلى اقتضاء زائد من المقام و الحال.
و من جهة أخرى نجد أن ما ذكر في الآية من الأوصاف أمور لا تخلو من الارتباط بما ذكر في الآيات السابقة من تولي اليهود و النصارى فإن اتخاذهم أولياء من دون المؤمنين لا يخلو من تعلق القلب بهم تعلق المحبة و المودة، و كيف يحتوي قلب هذا شأنه على محبة الله سبحانه و قد قال تعالى: «ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه»: الأحزاب: 4 و من لوازم هذا التولي أن يتذلل المؤمن لهؤلاء الكفار، و أن يتعزز على المؤمنين و يترفع عنهم كما قال تعالى: «أ يبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا»: النساء: 193.
و من لوازم هذا التولي المساهلة في الجهاد عليهم و الانقباض عن مقاتلتهم، و التحرج من الصبر على كل حرمان، و التحمل لكل لائمة في قطع الروابط الاجتماعية معهم كما قال تعالى: «يا أيها الذين ءامنوا لا تتخذوا عدوي و عدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة و قد كفروا بما جاءكم من الحق - إلى أن قال - إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي و ابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة»: الممتحنة: 1 و قال تعالى: «قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم و الذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءاؤا منكم و مما تعبدون من دون الله كفرنا بكم و بدا بيننا و بينكم العداوة و البغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده»: الممتحنة: 4.
و كذلك الارتداد بمعناه اللغوي أو بالعناية التحليلية صادق على تولي الكفار كما قال تعالى في الآية السابقة آية: 51: «و من يتولهم منكم فإنه منهم» و قال أيضا: «و من يفعل ذلك فليس من الله في شيء»: آل عمران: 28 و قال تعالى: «إنكم إذا مثلهم»: النساء: 104.
فقد تبين بهذا البيان أن للآية اتصالا بما قبلها من الآيات و أن الآية مسوقة لإظهار أن دين الله في غنى عن أولئك الذين يخاف عليهم الوقوع في ورطة المخالفة و تولي اليهود و النصارى لدبيب النفاق في جماعتهم، و اشتمالها على عدة مرضى القلوب لا يبالون باشتراء الدنيا بالدين، و إيثار ما عند أعداء الدين من العزة الكاذبة و المكانة الحيوية الفانية على حقيقة العزة التي هي لله و لرسوله و للمؤمنين، و السعادة الواقعية الشاملة على حياة الدنيا و الآخرة.
و إنما أظهرت الآية ذلك بالإنباء عن ملحمة غيبية أن الله سبحانه في قبال ما يلقاه الدين من تلون هؤلاء الضعفاء الإيمان، و اختيارهم محبة غير الله على محبته، و ابتغاء العزة عند أعدائه و مساهلتهم في الجهاد في سبيله، و الخوف من كل لومة و توبيخ سيأتي بقوم يحبهم و يحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله لا يخافون لومة لائم.
و كثير من المفسرين و إن تنبهوا على اشتمال الآية على الملحمة و أطالوا في البحث عمن تنطبق عليه الآية مصداقا غير أنهم تساهلوا في تفسير مفرداتها فلم يعطوا ما ذكر فيها من الأوصاف حق معناها فآل الأمر إلى معاملتهم كلام الله سبحانه معاملة كلام غيره و تجويز وقوع المسامحات و المساهلات العرفية فيه كما في غيره.
فالقرآن و إن لم يسلك في بلاغته مسلكا بدعا، و لم يتخذ نهجا مخترعا جديدا في استعمال الألفاظ و تركيب الجمل و وضع الكلمات بحذاء معانيها بل جرى في ذلك مجرى غيره من الكلام.
و لكنه يفارق سائر الكلام في أمر آخر، و هو أنا معاشر المتكلمين من البليغ و غيره إنما نبني الكلام على أساس ما نعقله من المعاني، و المدرك لنا من المعاني إنما يدرك بفهم مكتسب من الحياة الاجتماعية التي اختلقناها بفطرتنا الإنسانية الاجتماعية، و من شأنها الحكم بالقياس، و عند ذلك ينفتح باب المسامحة و المساهلة على أذهاننا فنأخذ الكثير مكان الجميع، و الغالب موضع الدائم، و نفرض كل أمر قياسي أمرا مطلقا، و نلحق كل نادر بالمعدوم، و نجري كل أمر يسير مجرى ما ليس بموجود يقول قائلنا: كذا حسن أو قبيح، و كذا محبوب أو مبغوض، و كذا محمود أو مذموم، و كذا نافع أو ضار، و فلان خير أو شرير، إلى غير ذلك فنطلق القوم في ذلك، و إنما هو كذلك في بعض حالاته و على بعض التقادير، و عند بعض الناس، و بالقياس إلى بعض الأشياء لا مطلقا، لكن القائل إنما يلحق بعض التقادير المخالفة بالعدم تسامحا في إدراكه و حكمه، هذا فيما أدركه من جهات الواقع الخارج، و أما ما يغفل عنه لمحدودية إدراكه من جهات الكون المربوطة فهو أكثر، فما يخبر به الإنسان و يحدثه عن الخارج و خيلت له الإحاطة بالواقع إدراكا و كشفا فإنما هو مبني على التسامح في بعض الجهات، و الجهل في بعض آخر، و هو من الهزل إن قدرنا على أن نحيط بالواقع ثم نطبق كلامه عليه، فافهم ذلك.
فهذا حال كلام الإنسان المبني على ما يحصل عنده من العلم، و أما كلام الله سبحانه فمن الواجب أن نجله عن هذه النقيصة، و هو المحيط بكل شيء علما و قد قال تعالى في صفة كلامه: «إنه لقول فصل و ما هو بالهزل».
و هذا من وجوه الأخذ بإطلاق كلامه تعالى فيما كان بظاهره مطلقا لم يعقب بقيد متصل أو منفصل، و من وجوه إشعار الوصف في كلامه بالعلية فإذا قال: «يحبهم» فليس يبغضهم في شيء و إلا لاستثنى، و إذا وصف قوما بأنهم أذلة على المؤمنين كان من الواجب أن يكونوا أذلاء لهم بما هم مؤمنون أي لصفة إيمانهم بالله سبحانه، و أن يكونوا أذلاء في جميع أحوالهم و على جميع التقادير، و إلا لم يكن القول فصلا.
نعم هناك معان تنسب إلى غير صاحبها إذا جمعها جامع يصحح ذلك كما في قوله: «و لقد ءاتينا بني إسرائيل الكتاب و الحكم و النبوة و رزقناهم من الطيبات و فضلناهم على العالمين»: الجاثية: 16، و قوله: «هو اجتباكم و ما جعل عليكم في الدين من حرج»: الحج: 78، و قوله: «كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف و تنهون عن المنكر»: آل عمران: 101، و قوله: «لتكونوا شهداء على الناس و يكون الرسول عليكم شهيدا»: البقرة: 134، و قوله: «و قال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرءان مهجورا»: الفرقان: 30 إلى غير ذلك من الآيات المشتملة على أوصاف اجتماعية يتصف بها الفرد و المجتمع و ليس شيء من ذلك جاريا مجرى التسامح و التساهل بل هي أوصاف يتصف بها الجزء و الكل، و الفرد و المجتمع لعناية متعلقه بذلك كمثل حفنة من تراب مشتملة على جوهرة يقبض عليها لأجل الجوهرة فالتراب مقبوض و الجوهرة مقبوضة و الأصل في ذلك الجوهرة، و لنرجع إلى ما كنا فيه: أما قوله: «يا أيها الذين ءامنوا من يرتد منكم عن دينه» فالمراد بالارتداد و الرجوع عن الدين بناء على ما مر هو موالاة اليهود و النصارى، و خص الخطاب فيه بالمؤمنين لكون الخطاب السابق أيضا متوجها إليهم، و المقام مقام بيان أن الدين الحق في غنى عن إيمانهم المشوب بموالاة أعداء الله، و قد عده الله سبحانه كفرا و شركا حيث قال: «و من يتولهم منكم فإنه منهم» لما أن الله سبحانه هو ولي دينه و ناصره، و من نصرته لدينه أنه سوف يأتي بقوم براء من أعدائه يتولون أولياءه و لا يحبون إلا إياه.
و أما قوله: «فسوف يأتي الله بقوم» نسب الإتيان إلى نفسه ليقرر معنى نصره لدينه المفهوم من السياق المشعر بأن لهذا الدين ناصرا لا يحتاج معه إلى نصرة غيره، و هو الله عز اسمه.
و كون الكلام مسوقا لبيان انتصار الدين بهؤلاء القوم تجاه من يقصده هؤلاء الموالون لأعدائه من الانتصار القومي، و كذا التعبير بالقوم و الإتيان بالأوصاف و الأفعال بصيغة الجمع كل ذلك مشعر بأن القوم الموعود إيتاؤهم إنما يبعثون جماعة مجتمعين لا فرادى و لا مثنى كان يأتي الله سبحانه في كل زمان برجل يحب الله و يحبه الله ذليل على المؤمنين عزيز على الكافرين يجاهد في سبيل الله لا يخاف لومة لائم.
و إتيان هذه القوم في عين أنه منسوب إليهم منسوب إليه تعالى و هو الآتي بهم لا بمعنى أنه خالقهم إذ لا خالق إلا الله سبحانه قال: «الله خالق كل شيء»: الزمر: 62 بل بمعنى أنه الباعث لهم فيما ينتهزون إليه من نصرة الدين، و المكرم لهم بحبه لهم و حبهم له، و الموفق لهم بالتذلل لأوليائه، و التعزز لأعدائه، و الجهاد في سبيله، و الإعراض عن كل لائمة، فنصرتهم للدين هي نصرته تعالى له بسببهم و من طريقهم، و قريب الزمان و بعيده عند الله واحد، و إن كانت أنظارنا لقصورها تفرق في ذلك.
و أما قوله تعالى: «يحبهم و يحبونه» فالحب مطلق معلق على الذات من غير تقييده بوصف أو غير ذلك، أما حبهم لله فلازمه إيثارهم ربهم على كل شيء سواه مما يتعلق به نفس الإنسان من مال أو جاه أو عشيرة أو غيرها، فهؤلاء لا يوالون أحدا من أعداء الله سبحانه، و إن والوا أحدا فإنما يوالون أولياء الله بولاية الله تعالى.
و أما حبه تعالى لهم فلازمه براءتهم من كل ظلم، و طهارتهم من كل قذارة معنوية من الكفر و الفسق بعصمة أو مغفرة إلهية عن توبة، و ذلك أن جمل المظالم و المعاصي غير محبوبة لله كما قال تعالى: «فإن الله لا يحب الكافرين»: آل عمران: 32 و قال: «و الله لا يحب الظالمين»: آل عمران: 57 و قال: «إنه لا يحب المسرفين»: الأنعام: 41 و قال: «و الله لا يحب المفسدين»: المائدة: 64 و قال: «إن الله لا يحب المعتدين»: البقرة: 109 و قال: «إنه لا يحب المستكبرين»: النحل: 23 و قال: «إن الله لا يحب الخائنين»: الأنفال: 58 إلى غير ذلك من الآيات.
و في هذه الآيات جماع الرذائل الإنسانية، و إذا ارتفعت عن إنسان بشهادة محبة الله له اتصف بما يقابلها من الفضائل لأن الإنسان لا مخلص له عن أحد طرفي الفضيلة و الرذيلة إذا تخلق بخلق.
فهؤلاء هم المؤمنون بالله حقا غير مشوب إيمانهم بظلم و قد قال تعالى: «الذين ءامنوا و لم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن و هم مهتدون»: الأنعام: 82 فهم مأمونون من الضلال و قد قال تعالى: «فإن الله لا يهدي من يضل»: النحل: 37 فهم في أمن إلهي من كل ضلالة، و على اهتداء إلهي إلى صراطه المستقيم، و هم بإيمانهم الذي صدقهم الله فيه مهديون إلى اتباع الرسول و التسليم التام له كتسليمهم لله سبحانه قال تعالى: «فلا و ربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت و يسلموا تسليما»: النساء: 65.
و عند ذلك يتم أنهم من مصاديق قوله تعالى: «قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله»: آل عمران: 31 و به يظهر أن اتباع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و محبة الله متلازمان فمن اتبع النبي أحبه الله و لا يحب الله عبدا إلا إذا كان متبعا لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم).
و إذا اتبعوا الرسول اتصفوا بكل حسنة يحبها الله و يرضاها كالتقوى و العدل و الإحسان و الصبر و الثبات و التوكل و التوبة و التطهر و غير ذلك قال تعالى: «فإن الله يحب المتقين»: آل عمران: 76 و قال: «إن الله يحب المحسنين»: البقرة: 159 و قال: «و الله يحب الصابرين»: آل عمران: 164 و قال: «إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص»: الصف: 4 و قال: «إن الله يحب المتوكلين»: آل عمران: 195 و قال: «إن الله يحب التوابين و يحب المتطهرين»: البقرة: 222 إلى غير ذلك من الآيات.
و إذا تتبعت الآيات الشارحة لآثار هذه الأوصاف و فضائل تتعقبها عثرت على أمور جمة من الخصال الحسنة، و وجدت أن جميعها تنتهي إلى أن أصحابها هم الوارثون الذين يرثون الأرض، و أن لهم عاقبة الدار كما يومىء إليه الآية المبحوث عنها: «يا أيها الذين ءامنوا من يرتد منكم عن دينه» و قد قال تعالى - و هي كلمة جامعة -: «و العاقبة للتقوى»: طه: 123 و سنشرع معنى كون العاقبة للتقوى فيما يناسبه من المورد إن شاء الله العزيز.
قوله تعالى: «أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين» الأذلة و الأعزة جمعا الذليل و العزيز، و هما كنايتان عن خفضهم الجناح للمؤمنين تعظيما لله الذي هو وليهم و هم أولياؤه، و عن ترفعهم من الاعتناء بما عند الكافرين من العزة الكاذبة التي لا يعبأ بأمرها الدين كما أدب بذلك نبيه في قوله: «لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم و لا تحزن عليهم و اخفض جناحك للمؤمنين»: الحجر: 88. و لعل تعدية «أذلة» بعلى لتضمينه معنى الحنان أو الحنو كما قيل.
قوله تعالى: «يجاهدون في سبيل الله و لا يخافون لومة لائم» أما قوله: «يجاهدون في سبيل الله» فقد اختص بالذكر من بين مناقبهم الجمة لكون الحاجة تمس إليه في المقام لبيان أن الله ينتصر لدينه بهم، و أما قوله: «و لا يخافون لومة لائم» فالظاهر أنه حال متعلق بالجمل المتقدمة لا بالجملة الأخيرة فقط - و إن كانت هي المتيقنة في أمثال هذه التركيبات - و ذلك لأن نصرة الدين بالجهاد في سبيل الله كما يزاحمها لومة اللائمين الذين يحذرونهم تضييع الأموال و إتلاف النفوس و تحمل الشدائد و المكاره كذلك التذلل للمؤمنين و التعزز على الكافرين و عندهم من زخارف الدنيا و مبتغيات الشهوة، و أمتعة الحياة ما ليس عند المؤمنين هما مما يمانعه لومة اللائم، و في الآية ملحمة غيبية سنبحث عنها في كلام مختلط من القرآن و الحديث إن شاء الله تعالى.
بحث روائي
و في الدر المنثور،: في قوله تعالى: «يا أيها الذين ءامنوا لا تتخذوا اليهود» الآية: أخرج ابن إسحاق و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و ابن مردويه و البيهقي في الدلائل و ابن عساكر عن عبادة بن الوليد أن عبادة بن الصامت قال: لما حاربت بنو قينقاع. رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تشبث بأمرهم عبد الله بن أبي بن سلول و قام دونهم، و مشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و تبرأ إلى الله و إلى رسوله من حلفهم، و كان أحد بني عوف بن الخزرج، و له من حلفهم مثل الذي كان لهم من عبد الله بن أبي فخلعهم إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، و قال: أتولى الله و رسوله و المؤمنين، و أبرأ إلى الله و رسوله من حلف هؤلاء الكفار و ولايتهم.
و فيه،: و في عبد الله بن أبي نزلت الآيات في المائدة: «يا أيها الذين ءامنوا لا تتخذوا اليهود و النصارى أولياء - بعضهم أولياء بعض إلى قوله فإن حزب الله هم الغالبون» و فيه، أخرج ابن أبي شيبة و ابن جرير عن عطية بن سعد قال: جاء عبادة بن الصامت من بني الحارث بن الخزرج إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا رسول الله إن لي موالي من يهود كثير عددهم، و إني أبرأ إلى الله و رسوله من ولاية يهود، و أتولى الله و رسوله. فقال عبد الله بن أبي: إني رجل أخاف الدوائر لا أبرأ من ولاية موالي، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعبد الله بن أبي: يا أبا الحباب أ رأيت الذي نفست به من ولاء يهود على عبادة فهو لك دونه؟ قال: إذن أقبل فأنزل الله: «يا أيها الذين ءامنوا لا تتخذوا اليهود و النصارى أولياء - بعضهم أولياء بعض إلى أن بلغ إلى قوله و الله يعصمك من الناس».
و فيه، أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: آمن عبد الله بن أبي بن سلول قال: إن بيني و بين بني قريظة و النضير حلفا، و إني أخاف الدوائر فارتد كافرا، و قال عبادة بن الصامت: أبرأ إلى الله من حلف قريظة و النضير و أتولى الله و رسوله و المؤمنين. فأنزل الله: «يا أيها الذين ءامنوا لا تتخذوا اليهود و النصارى أولياء إلى قوله فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم» يعني عبد الله بن أبي و قوله: «إنما وليكم الله و رسوله و الذين ءامنوا - الذين يقيمون الصلاة - و يؤتون الزكاة و هم راكعون» يعني عبادة بن الصامت و أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). قال: «و لو كانوا يؤمنون بالله و النبي - و ما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء - و لكن كثيرا منهم فاسقون».
أقول: و رويت القصة بغير هذه الطرق، و قد تقدم أن هذه الأسباب أسباب تطبيقة اجتهادية، و فيها أمارات تدل على ذلك، كيف و الآيات تذكر النصارى مع اليهود، و لم يكن في قصة بني قينقاع و ما جرى بين المسلمين و بين بني قريظة و النضير للنصارى إصبع، و لا للمسلمين معهم شأن؟ و مجرد ذكرهم تطفلا و اطرادا مما لا وجه له، و في القرآن آيات متعرضة لحال اليهود في الوقائع التي جرت بينهم و بين المسلمين و ما داخل فيه المنافقون من أعمالهم خص فيه اليهود بالذكر و لم يذكر فيه النصارى كما في سورة الحشر و غيرها، فما بال الاطراد و التطفل يجري حكمهما هاهنا و لا يجري هناك.
على أن الرواية تذكر الآيات النازلة في عبادة بن الصامت و عبد الله بن أبي سبع عشرة آية آية: 51 - 67 و لا اتصال بينها حتى تنزل دفعة أولا، و فيها آية: «إنما وليكم الله و رسوله» و قد تواترت روايات الخاصة و العامة على أنها نزلت في علي (عليه السلام) ثانيا، و فيها آية: «يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك» و لا ارتباط لها مع القصة البتة ثالثا.
فليس إلا أن الراوي أخذ قصة عبادة و عبد الله ثم وجد الآيات تناسبها بعض المناسبة فطبقها عليها ثم لم يحسن التطبيق فوضع سبع عشرة آية مكان ثلاث آيات بمناسبة تعرضها لحال أهل الكتاب.
و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير و ابن المنذر عن عكرمة: في قوله: «يا أيها الذين ءامنوا - لا تتخذوا اليهود و النصارى أولياء - بعضهم أولياء بعض» في بني قريظة إذ غدروا و نقضوا العهد بينهم و بين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في كتابهم إلى أبي سفيان بن حرب يدعونهم و قريشا ليدخلوهم حصونهم فبعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أبا لبابة بن عبد المنذر إليهم أن يستنزلهم من حصونهم فلما أطاعوا له بالنزول أشار إلى حلقه بالذبح. و كان طلحة و الزبير يكاتبان النصارى و أهل الشام، و بلغني أن رجالا من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كانوا يخافون العوز و الفاقة فيكاتبون اليهود من بني قريظة و النضير فيدسون إليهم الخبر من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يلتمسون عندهم القرض و النفع فنهوا عن ذلك.
أقول: و الرواية لا بأس بها و هي تفسر الولاية في الآيات بولاية المحبة و المودة و قد تقدم تأييد ذلك، و هي إن كانت سببا للنزول حقيقيا فالآيات مطلقة تجري في غير القصة كما نزلت و جرت فيها، و إن كانت من الجري و التطبيق فالأمر أوضح.
و في المجمع،: في قوله تعالى: «يا أيها الذين ءامنوا من يرتد منكم عن دينه - فسوف يأتي الله بقوم» الآية قال: و قيل: هم أمير المؤمنين علي (عليه السلام) و أصحابه حين قاتل من قاتله من الناكثين و القاسطين و المارقين،: و روي ذلك عن عمار و حذيفة و ابن عباس، و هو المروي عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام).
أقول: قال في المجمع، بعد ذكر الرواية: و يؤيد هذا القول أن النبي وصفه بهذه الصفات المذكورة في الآية فقال فيه و قد ندبه لفتح خيبر بعد أن رد عنها حامل الراية إليه مرة بعد أخرى و هو يجبن الناس و يجبنونه -: «لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله و رسوله و يحبه الله و رسوله كرارا غير فرار لا يرجع حتى يفتح الله على يده» ثم أعطاها إياه.
فأما الوصف باللين على أهل الإيمان، و الشدة على الكفار و الجهاد في سبيل الله مع أنه لا يخاف فيه لومة لائم فمما لا يمكن أحدا دفع علي (عليه السلام) عن استحقاق ذلك لما ظهر من شدته على أهل الشرك و الكفر و نكايته فيهم، و مقاماته المشهورة في تشييد الملة و نصرة الدين، و الرأفة بالمؤمنين.
و يؤيد ذلك أيضا إنذار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قريشا بقتال علي (عليه السلام) لهم من بعده حيث جاء سهيل بن عمرو في جماعة منهم فقالوا: يا محمد إن أرقائنا لحقوا بك فارددهم إلينا فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لتنتهن يا معاشر قريش أو ليبعثن الله عليكم رجلا يضربكم على تأويل القرآن كما ضربتكم على تنزيله، فقال له بعض أصحابه: من هو يا رسول الله؟ أبو بكر؟ قال: لا، و لكنه خاصف النعل في الحجرة، و كان علي (عليه السلام) يخصف نعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
و روي عن علي (عليه السلام) أنه قال يوم البصرة: و الله ما قوتل أهل هذه الآية حتى اليوم، و تلا هذه الآية.
و روى أبو إسحاق الثعلبي في تفسيره بالإسناد عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: يرد إلى قوم من أصحابي يوم القيامة فيحلون عن الحوض فأقول: يا رب أصحابي، أصحابي فيقال: إنك لا تدري بما أحدثوا من بعدك إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى، انتهى.
و هذا الذي ذكره إنما يتم فيه (عليه السلام) و لا ريب في أنه أفضل مصداق لما سرد في الآية من الأوصاف لكن الشأن في انطباق الآية على عامة من معه من أهل الجمل و صفين و قد غير كثير منهم بعد ذلك، و قد وقع قوله تعالى: «يحبهم و يحبونه» إلخ في الآية بغير استثناء، و قد عرفت معناه.
و فيه، أيضا. و روي: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سئل عن هذه الآية فضرب بيده على عاتق سلمان فقال: هذا و ذووه، ثم قال: لو كان الدين معلقا بالثريا لتناوله رجال من أبناء فارس.
أقول: و الكلام فيه كالكلام في سابقه إلا أن يراد أنهم سوف يبعثون من قومه.
و فيه، و قيل: هم أهل اليمن هم ألين قلوبا، و أرق أفئدة، الإيمان يماني، و الحكمة يمانية، و قال عياض بن غنم الأشعري: لما نزلت هذه الآية أومأ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أبي موسى الأشعري فقال: هم قوم هذا.
أقول: و روي هذا المعنى في الدر المنثور، بعدة طرق، و الكلام فيه كالكلام في سابقه.
و في تفسير الطبري، بإسناده عن قتادة قال: أنزل الله هذه الآية و قد علم أنه سيرتد مرتدون من الناس فلما قبض الله نبيه محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) ارتد عامة العرب عن الإسلام إلا ثلاثة مساجد أهل المدينة و أهل مكة و أهل البحرين قالوا: نصلي و لا نزكي و الله لا تغصب أموالنا، فكلم أبو بكر في ذلك فقيل لهم: إنهم لو قد فقهوا لهذا أعطوها و زادوها فقال: لا و الله لا أفرق بين شيء جمع الله بينه، و لو منعوا عقالا مما فرض الله و رسوله لقاتلناهم عليه، فبعث الله عصابة مع أبي بكر فقاتل على ما قاتل عليه نبي الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى سبى و قتل و حرق بالنيران أناسا ارتدوا عن الإسلام و منعوا الزكاة فقاتلهم حتى أقروا بالماعون و هي الزكاة صغرة أقمياء، الحديث:. أقول: و رواه في الدر المنثور، عن عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و أبي الشيخ و البيهقي و ابن عساكر عن قتادة، و رواه أيضا عن الضحاك و الحسن.
و لفظ الحديث أوضح شاهد على أنه من قبيل التطبيق النظري، و حينئذ يتوجه إليه ما توجه إلى ما تقدمه من الروايات فإن هذه الوقائع و الغزوات تشتمل على حوادث و أمور و قد قاتل فيها رجال كخالد و مغيرة بن شعبة و بسر بن الأرطاة و سمرة بن جندب يذكر التاريخ عنهم فيها و بعد ذلك مظالم و آثاما لا تدع الآية: يحبهم و يحبونه، إلخ أن تصدق فيهم و تنطبق عليهم، فعليك بالرجوع إلى التاريخ ثم التأمل فيما قدمناه من معنى الآية.
و قد بلغ من إفراط بعض المفسرين أن استغرب قول بعضهم: «إن الآية أوضح انطباقا على الأشعريين من أهل اليمن منها على هؤلاء الذين قاتلوا أهل الردة» قائلا: إن الآية عامة تشمل كل من نصر الدين ممن اتصف بمضمونها من خيار المسلمين من مؤمني عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و من جاء بعد ذلك من المؤمنين، و تنطبق على جميع ما تقدم من الأخبار كالخبر الدال على أنهم سلمان و قومه - على ضعفه - و الخبر الدال على أنه أبو موسى الأشعري و قومه، و الخبر الدال على أنه أبو بكر و أصحابه إلا ما دل على أنه علي - (عليه السلام) - فإن لفظ الآية لا ينطبق عليه لأن لفظ القوم - المأخوذ في الآية - لا يجري على الواحد لأنه نص في الجماعة.
هذا محصل كلامه، و ليس إلا أنه عامل كلامه تعالى فيما ذكره من الثناء على القوم و مدحهم معاملة الشعر الذي يبني المدح على التخيل، فما قدر عليه خيال الشاعر حمله على ممدوحه من غير أن يعتني بأمر الصدق و الكذب، و قد قال تعالى: «و من أصدق من الله قيلا»: النساء: 122 أو على المتعارف من الكلام الدائر بيننا الذي لا يعتمد في إلقائه إلا على الأفهام البانية على التسامح و التساهل في التلقي و الإلقاء، و الاعتذار بالمسامحة في كل ما أشكل عليها في شيء و قد قال تعالى: «إنه لقول فصل و ما هو بالهزل»: الطارق: 14 و قد عرفت فيما تقدم أن الآية لو أعطيت حق معناها فيما تتضمنه من الصفات تبين أن مصداقها لم يتحقق بعد إلى هذا الحين فراجع و تأمل ثم اقض ما أنت قاض.
و من العجيب ما ذكره في آخر كلامه فإن من ذكر نزول الآية في علي (عليه السلام) إنما ذكر عليا و أصحابه كما ذكر آخرون: سلمان و ذويه، و آخرون: أبا موسى و قومه، و آخرون: أبا بكر و أصحابه، و كذا ما ورد من الروايات - و قد تقدم بعضها - إنما ورد في علي و أصحابه، و لم يذكر نزول الآية في علي (عليه السلام) وحده حتى يرد بأن لفظ الآية نص في الجماعة لا ينطبق على المفرد.
نعم ورد في تفسير الثعلبي أنها نزلت في علي و أيضا في نهج البيان للشيباني عن الباقر و الصادق (عليهما السلام) أنها نزلت في علي (عليه السلام)، و المراد به بقرينة الروايات الآخر نزوله فيه و في أصحابه من جهة قيامهم بنصرة الدين في غزوة الجمل و صفين و الخوارج.
مع أنه سيأتي أن الروايات من طرق الجمهور متكاثرة في نزول آية: «إنما وليكم الله و رسوله» في علي (عليه السلام) و لفظ الآية جمع.
على أن في الرواية - رواية قتادة و الضحاك و الحسن - إشكالا آخر و هو أن قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم و يحبونه» إلخ ظاهر ظهورا لا مرية فيه في معنى التبديل و الاستغناء سواء كان الخطاب للموجودين في يوم النزول أو لمجموع الموجودين و المعدومين، و المقصود خطاب الجماعة من المؤمنين بأنهم كلهم أو بعضهم إن ارتدوا عن دينهم فسوف يبدلهم الله من قوم يحبهم و يحبونه - و هو لا يحب المرتدين و لا يحبونه - و لهم كذا و كذا من الصفات ينصرون دينه.
و هذا صريح في أن القوم المأتي بهم جماعة من المؤمنين غير الجماعة الموجودين في أوان النزول، و المقاتلون أهل الردة بعيد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كانوا موجودين حين النزول مخاطبين بقوله: «يا أيها الذين آمنوا» إلخ فهم غير مقصودين بقوله: «فسوف يأتي الله بقوم» إلخ.
و الآية جارية مجرى قوله تعالى: «و إن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم»: محمد: 38.
و في تفسير النعماني، بإسناده عن سليمان بن هارون العجلي قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن صاحب هذا الأمر محفوظ له، لو ذهب الناس جميعا أتى الله بأصحابه، و هم الذين قال الله عز و جل: «فإن يكفر بها هؤلاء - فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين» و هم الذين قال الله: «فسوف يأتي الله بقوم يحبهم و يحبونه - أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين» أقول: و روى هذا المعنى العياشي و القمي في تفسيريهما.
كلام و بحث مختلط من القرآن و الحديث
مما تقدم في الأبحاث السابقة مرارا التلويح إلى أن الخطابات القرآنية التي يهتم القرآن بأمرها، و يبالغ في تأكيدها و تشديد القول فيها لا يخلو لحن القول فيها من دلالة على أن العوامل و الأسباب الموجودة متعاضدة على أن تسوقهم إلى مهابط السقوط و دركات الردى، و الابتلاء بسخط الله كما في آيات الربا و آية مودة القربى و غيرهما.
و من طبع الخطاب ذلك فإن المتكلم الحكيم إذا أمر بأمر حقير يسير ثم بالغ في تأكيده و الإلحاح عليه بما ليس شأنه ذلك، أو خاطب أحدا بخطاب ليس من شأن ذلك المخاطب أن يوجه إلى مثله ذلك الخطاب كنهي عالم رباني ذي قدم صدق في الزهد و العبادة عن ارتكاب أفضح الفجور على رءوس الأشهاد دل ذلك على أن المورد لا يخلو عن شيء و أن هناك خطبا جليلا و مهلكة خطيرة مشرفة.
و الخطابات القرآنية التي هذا شأنها تعقبت حوادث صدقتها في ما كانت تلوح إليه بل تدل عليه، و إن كان السامعون لعلهم ما كانوا يتنبهون في أول ما سمعوها يوم النزول على ما تتضمنه من الإشارات و الدلالات.
فقد أمر القرآن بمودة قربى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و بالغ فيها حتى عدها أجر الرسالة و السبيل إلى الله سبحانه ثم وقع أن استباحت الأمة في أهل بيته من فجائع المظالم ما لو أمروا به لم يكونوا ليزيدوا على ما أتوا به فيهم.
و نهى القرآن عن الاختلاف و بالغ فيه بما لا مزيد عليه ثم وقع إن تفرقت الأمة تفرقا و انشعبت انشعابات زادت على ما عند اليهود و النصارى، و كانت اليهود إحدى و سبعين فرقة، و النصارى اثنتين و سبعين فرقة فأتى المسلمون بثلاث و سبعين فرقة هذا في مذاهبهم في معارف الدين العلمية، و أما مذاهبهم في السنن الاجتماعية و تأسيس الحكومات و غيرها فلا تقف على حد حاصر.
و نهى القرآن عن الحكم بغير ما أنزل الله، و نهى عن إلقاء الاختلاف بين الطبقات و نهى عن الطغيان و اتباع الهوى إلى غير ذلك و شدد فيها ثم وقع ما وقع.
و الأمر في النهي عن ولاية الكفار و أهل الكتاب نظير غيره من النواهي المؤكدة الواردة في القرآن الكريم بل ليس من البعيد أن يدعى أن التشديد الواقع في النهي عن ولاية الكفار و أهل الكتاب لا يعدله أي تشديد واقع في سائر النواهي الفرعية.
فقد بلغ الأمر فيه إلى أن عد الله سبحانه الموالين لأهل الكتاب و الكفار منهم: «و من يتولهم منكم فإنه منهم» و نفاهم من نفسه إذ قال: «و من يفعل ذلك فليس من الله في شيء: آل عمران: 28 و حذرهم منتهى التحذير فقال مرة بعد أخرى: «و يحذركم الله نفسه»: آل عمران: 28 - 30 و قد مر في الكلام على الآية أن مدلولها وقوع المحذور لا محالة قضاء حتما لا مبدل له و لا محول.
و إن شئت مزيد وضوح لذلك فتدبر في قوله تعالى: «و إن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم - و قد ذكر قبل الآية قصص أمم نوح و هود و صالح و غيرهم ثم اختلاف اليهود في كتابهم - إنه بما تعملون خبير فاستقم كما أمرت و من تاب معك و لا تطغوا - و الخطاب كما ترى خطاب اجتماعي - إنه بما تعملون بصير»: هود: 121 ثم تدبر في قوله تعالى بعده: «و لا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار و ما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون»: هود: 131.
و قد بين الله سبحانه معنى مسيس هذه النار في الدنيا قبل الآخرة - و الآية مطلقة - و هو الذي توعد به في قوله: «و يحذركم الله نفسه» بقوله تعالى: «اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم و اخشون»: المائدة: 3 فبين فيه أن الذي كان يخشاه المؤمنون على دينهم من الذين كفروا و هم المشركون و أهل الكتاب - كما تبين سابقا - إلى يوم نزول الآية فهم اليوم في أمن منه فلا ينبغي لهم أن يخشوهم فيه بل يجب عليهم أن يخشوا فيه ربهم، و الذي كانوا يخشونهم فيه على دينهم هو أن الكفار لم يكن لهم هم فيهم إلا إطفاء نور الدين، و سلب هذه السلعة النفيسة من أيديهم بأي وسيلة قدروا عليها.
فهذا هو الذي كانوا يخشونه قبل اليوم، و بنزول سورة المائدة أمنوا ذلك و اطمأنت أنفسهم غير أنه يجب عليهم أن يخشوا في ذلك ربهم أن لا يذهب بنورهم و لا يسلبهم دينه.
و من المعلوم أن الله سبحانه لا يفاجىء قوما بنقمة أو عذاب من غير أن يستحقوه قال تعالى: «ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم»: الأنفال: 53 فبين أن تغييره النعمة لا يكون إلا عن استحقاق، و أنه يتبع تغيير الناس ما بأنفسهم، و قد سمى الدين أو الولاية الدينية كما تقدم نعمة حيث قال بعده: «اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم الإسلام دينا»: المائدة: 3.
فتغيير هذه النعمة من قبلهم، و التخطي عن ولاية الله بقطع الرابطة منه، و الركون إلى الظالمين، و ولاية الكفار و أهل الكتاب هو المتوقع منهم، و الواجب عليهم أن يخشوه على أنفسهم فيخشوا الله في سخط لا راد له، و قد أوعدهم فيه بقوله: «و من يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين»: المائدة: 51 فأخبر أنه لا يهديهم إلى سعادتهم فهي التي تتعلق بها الهداية، و سعادتهم في الدنيا إنما هي أن يعيشوا على سنة الدين و السيرة العامة الإسلامية في مجتمعهم.
و إذا انهدمت بنية هذه السيرة اختلت مظاهرها الحافظة لمعناها من الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و سقطت شعائره العامة، و حلت محلها سيرة الكفار و لم يزل تستحكم أركانها و تستثبت قواعدها، و هذا هو الذي عليه مجتمع المسلمين اليوم.
و لو تدبرت في السيرة الإسلامية العامة التي ينظمها الكتاب و السنة و يقررانها بين المسلمين ثم في هذه السيرة الفاسدة التي حملت اليوم على المسلمين ثم تدبرت في ما يشير إليه بقوله: «فسوف يأتي الله بقوم يحبهم و يحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله لا يخافون لومة لائم»: المائدة: 54 وجدت أن جميع الرذائل التي تحيط بمجتمعنا معاشر المسلمين و تحكم فينا اليوم - مما اقتبسناها من الكفار ثم نمت و نسلت فينا - إنما هي أضداد ما ذكره الله في وصف من وعد بالإتيان به في الآية أعني أن جميع رذائلنا الفعلية تتلخص في أن المجتمع اليوم لا يحبون الله و لا يحبهم الله، أذلة على الكافرين، أعزة على المؤمنين، لا يجاهدون في سبيل الله، يخافون كل لومة.
و هذا هو الذي تفرسه القرآن في وجه القوم، و إن شئت فقل: هو النبأ الغيبي الذي نبأ به العليم الخبير أن المجتمع الإسلامي سيرتد عن دينه، و ليست ردة مصطلحة و إنما هي ردة تنزيلية يبينها قوله تعالى: «و من يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين»: المائدة: 51 و قوله: «و لو كانوا يؤمنون بالله و النبي و ما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء و لكن كثيرا منهم فاسقون»: المائدة: 81.
و قد وعدهم الله النصر إن نصروه، و تضعيف أعدائهم إن لم يقووهم و يؤيدوهم فقال: «إن تنصروا الله ينصركم»: محمد: 7 و قال: «و لو ءامن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون و أكثرهم الفاسقون لن يضروكم إلا أذى و إن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون ضربت عليهم الذلة و المسكنة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله و حبل من الناس»: آل عمران: 121 و ليس من البعيد أن يستفاد من قوله: «إلا بحبل من الله و حبل من الناس» أن لهم أن يخرجوا من الذلة و المسكنة بموالاة الناس لهم و تسليط الله تعالى إياهم على الناس.
ثم وعد الله سبحانه المجتمع الإسلامي - و شأنهم هذا الشأن - بالإتيان بقوم يحبهم و يحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله لا يخافون لومة لائم، و الأوصاف المعدودة لهم - كما عرفت - جماع الأوصاف التي يفقدها المجتمع الإسلامي اليوم، و يستفاد بالإمعان في التدبر فيها تفاصيل الرذائل التي تنبىء الآية أن المجتمع الإسلامي سيبتلى بها.
و قد اشتملت على تعدادها عدة من أخبار ملاحم آخر الزمان المروية عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و الأئمة من أهل بيته (عليهم السلام)، و هي على كثرتها و من حيث المجموع و إن كانت لا تسلم من آفة الدس و التحريف إلا أن بينها أخبارا يصدقها جريان الحوادث و توالي الوقائع الخارجية، و هي أخبار مأخوذة من كتب القدماء المؤلفة قبل ما يزيد على ألف سنة من هذا التاريخ أو قريبا منه، و قد صحت نسبتها إلى مؤلفيها و تظافر النقل عنها.
على أنها تنطق عن حوادث و وقائع لم تحدث و لم تقع في تلك الأونة و لا كانت مترقبة تتوقعها النفوس التي كانت تعيش في تلك الأزمنة فلا يسعنا إلا الاعتراف بصحتها و صدورها عن منبع الوحي.
كما رواه القمي في تفسيره عن أبيه، عن سليمان بن مسلم الخشاب، عن عبد الله بن جريح المكي، عن عطاء بن أبي رياح، عن عبد الله بن عباس قال: حججنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حجة الوداع فأخذ باب الكعبة ثم أقبل علينا بوجهه فقال: أ لا أخبركم بأشراط الساعة؟ و كان أدنى الناس منه يومئذ سلمان رضي الله عنه فقال: بلى يا رسول الله. فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): إن من أشراط القيامة إضاعة الصلاة، و اتباع الشهوات، و الميل مع الأهواء، و تعظيم المال، و بيع الدين بالدنيا فعندها يذاب قلب المؤمن و جوفه كما يذوب الملح في الماء مما يرى من المنكر فلا يستطيع أن يغيره. قال سلمان: و إن هذا لكائن يا رسول الله؟ قال (صلى الله عليه وآله وسلم): إي و الذي نفسي بيده يا سلمان إن عندها يليهم أمراء جورة، و وزراء فسقة، و عرفاء ظلمة، و أمناء خونة. فقال سلمان: و إن هذا لكائن يا رسول الله؟ قال (صلى الله عليه وآله وسلم): إي و الذي نفسي بيده يا سلمان إن عندها يكون المنكر معروفا و المعروف منكرا، و اؤتمن الخائن، و يخون الأمين، و يصدق الكاذب، و يكذب الصادق. قال سلمان، و إن هذا لكائن يا رسول الله؟ قال (صلى الله عليه وآله وسلم): إي و الذي نفسي بيده يا سلمان فعندها إمارة النساء، و مشاورة الإماء، و قعود الصبيان على المنابر، و يكون الكذب طرفا و الزكاة مغرما، و الفيء مغنما، و يجفو الرجل والديه، و يبر صديقه، و يطلع الكوكب المذنب. قال سلمان: و إن هذا لكائن يا رسول الله؟ قال (صلى الله عليه وآله وسلم): إي و الذي نفسي بيده يا سلمان و عندها تشارك المرأة زوجها في التجارة، و يكون المطر قيظا، و يغيظ الكرام غيظا، و يحتقر الرجل المعسر، فعندها يقارب الأسواق إذا قال هذا: لم أبع شيئا و قال هذا: لم أربح شيئا فلا ترى إلا ذاما لله. قال سلمان: و إن هذا لكائن يا رسول الله؟ قال (صلى الله عليه وآله وسلم): إي و الذي نفسي بيده يا سلمان فعندها يليهم أقوام إن تكلموا قتلوهم، و إن سكتوا استباحوهم ليستأثروا بفيئهم و ليطؤن حرمتهم، و ليسفكن دماءهم و ليملؤن قلوبهم رعبا فلا تراهم إلا وجلين خائفين مرعوبين مرهوبين. قال سلمان: و إن هذا لكائن يا رسول الله؟ قال (صلى الله عليه وآله وسلم): إي و الذي نفسي بيده يا سلمان إن عندها يؤتى بشيء من المشرق و شيء من المغرب يلون أمتي، فالويل لضعفاء أمتي منهم، و الويل لهم من الله، لا يرحمون صغيرا، و لا يوقرون كبيرا، و لا يتجاوزون عن مسيء أخبارهم خناء، جثتهم جثة الآدميين، و قلوبهم قلوب الشياطين. قال سلمان: و إن هذا لكائن يا رسول الله؟ قال (صلى الله عليه وآله وسلم): إي و الذي نفسي بيده يا سلمان و عندها يكتفي الرجال بالرجال و النساء بالنساء، و يغار على الغلمان كما يغار على الجارية في بيت أهلها و تشبه الرجال بالنساء و النساء بالرجال، و يركبن ذوات الفروج السروج فعليهن من أمتي لعنة الله. قال سلمان: و إن هذا لكائن يا رسول الله؟ فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): إي و الذي نفسي بيده يا سلمان إن عندها تزخرف المساجد كما تزخرف البيع و الكنائس، و تحلى المصاحف و تطول المنارات، و تكثر الصفوف بقلوب متباغضة و ألسن مختلفة. قال سلمان: و إن هذا لكائن يا رسول الله؟ قال (صلى الله عليه وآله وسلم) إي و الذي نفسي بيده و عندها تحلى ذكور أمتي بالذهب، و يلبسون الحرير و الديباج و يتخذون جلود النمور صفاقا. قال سلمان: و إن هذا لكائن يا رسول الله؟ قال (صلى الله عليه وآله وسلم): إي و الذي نفسي بيده يا سلمان و عندها يظهر الربا، و يتعاملون بالغيبة و الرشى، و يوضع الدين و يرفع الدنيا. قال سلمان: و إن هذا لكائن يا رسول الله؟ فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): إي و الذي نفسي بيده يا سلمان و عندها يكثر الطلاق فلا يقام لله حد، و لن يضر الله شيئا. قال سلمان: و إن هذا لكائن يا رسول الله؟ قال (صلى الله عليه وآله وسلم): إي و الذي نفسي بيده يا سلمان و عندها تظهر القينات و المعازف و يليهم أشرار أمتي. قال سلمان: و إن هذا لكائن يا رسول الله؟ قال (صلى الله عليه وآله وسلم): إي و الذي نفسي بيده يا سلمان و عندها يحج أغنياء أمتي للنزهة، و يحج أوساطها للتجارة، و يحج فقراؤهم للرئاء و السمعة فعندها يكون أقوام يتعلمون القرآن لغير الله و يتخذونه مزامير، و يكون أقوام يتفقهون لغير الله، و يكثر أولاد الزنا، و يتغنون بالقرآن، و يتهافتون بالدنيا. قال سلمان: و إن هذا لكائن يا رسول الله؟ قال (صلى الله عليه وآله وسلم): إي و الذي نفسي بيده يا سلمان ذاك إذا انتهك المحارم، و اكتسبت المآثم و سلط الأشرار على الأخيار، و يفشو الكذب، و تظهر اللجاجة، و تفشو الفاقة و يتباهون في اللباس، و يمطرون في غير أوان المطر، و يستحسنون الكوبة و المعازف، و ينكرون الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر حتى يكون المؤمن في ذلك الزمان أذل من في الأمة، و يظهر قراؤهم و عبادهم فيما بينهم التلاؤم، فأولئك يدعون في ملكوت السماوات: الأرجاس و الأنجاس. قال سلمان: و إن هذه لكائن يا رسول الله؟ فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): إي و الذي نفسي بيده يا سلمان فعندها لا يخشى الغني إلا الفقر حتى أن السائل ليسأل فيما بين الجمعتين لا يصيب أحدا يضع في يده شيئا. قال سلمان: و إن هذا لكائن يا رسول الله؟ قال (صلى الله عليه وآله وسلم): إي و الذي نفسي بيده يا سلمان عندها يتكلم الرويبضة، فقال: و ما الرويبضة يا رسول الله فداك أبي و أمي؟ قال (صلى الله عليه وآله وسلم): يتكلم في أمر العامة من لم يكن يتكلم فلم يلبثوا إلا قليلا حتى تخور الأرض خورة فلا يظن كل قوم إلا أنها خارت في ناحيتهم فيمكثون ما شاء الله ثم ينكتون في مكثهم فتلقي لهم الأرض أفلاذ كبدها، قال: ذهب و فضة ثم أومأ بيده إلى الأساطين فقال: مثل هذا فيومئذ لا ينفع ذهب و لا فضة فهذا معنى قوله: «فقد جاء أشراطها».
و في روضة الكافي، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن بعض أصحابه، و علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير جميعا عن محمد بن أبي حمزة، عن حمران قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): و ذكر هؤلاء عنده و سوء حال الشيعة عندهم فقال: إني سرت مع أبي جعفر المنصور و هو في موكبه، و هو على فرس و بين يديه خيل، و من خلفه خيل، و أنا على حمار إلى جانبه فقال لي: يا أبا عبد الله قد كان ينبغي لك أن تفرح بما أعطانا الله من القوة، و فتح لنا من العز، و لا تخبر الناس أنك أحق بهذا الأمر منا و أهل بيتك فتغرينا بك و بهم. قال: فقلت: و من رفع هذا إليك عني فقد كذب فقال لي: أ تحلف على ما تقول؟. قال: فقلت: إن الناس سحرة يعني يحبون أن يفسدوا قلبك علي فلا تمكنهم من سمعك فإنا إليك أحوج منك إلينا، فقال لي: تذكر يوم سألتك: هل لنا ملك؟ فقلت: نعم طويل عريض شديد فلا تزالون في مهلة من أمركم، و فسحة من دنياكم حتى تصيبوا منا دما حراما في شهر حرام في بلد حرام؟ فعرفت أنه قد حفظ الحديث فقلت: لعل الله عز و جل أن يكفيك فإني لم أخصك بهذا و إنما هو حديث رويته، ثم لعل غيرك من أهل بيتك أن يتولى ذلك، فسكت عني. فلما رجعت إلى منزلي أتاني بعض موالينا فقال، جعلت فداك و الله لقد رأيتك في موكب أبي جعفر، و أنت على حمار و هو على فرس، و قد أشرف عليك يكلمك كأنك تحته فقلت بيني و بين نفسي: هذا حجة الله على الخلق، و صاحب هذا الأمر الذي يقتدى به، و هذا الآخر يعمل بالجور، و يقتل أولاد الأنبياء و يسفك الدماء في الأرض بما لا يحب الله، و هو في موكبه و أنت على حمار! فدخلني من ذلك شك حتى خفت على ديني و نفسي. قال (عليه السلام): فقلت: لو رأيت من كان حولي و بين يدي و من خلفي و عن يميني و عن شمالي من الملائكة لاحتقرته و احتقرت ما هو فيه فقال: الآن سكن قلبي. ثم قال: إلى متى هؤلاء يملكون أو متى الراحة منهم؟ فقلت: أ ليس تعلم أن لكل شيء مدة؟ قال: بلى، فقلت: هل ينفعك علمك إن هذا الأمر إذا جاء كان أسرع من طرفة العين؟ إنك لو تعلم حالهم عند الله عز و جل، و كيف هي كنت لهم أشد بغضا و لو جهدت و جهد أهل الأرض أن يدخلوهم في أشد ما هم فيه من الإثم لم يقدروا، فلا يستفزنك الشيطان فإن العزة لله و لرسوله و للمؤمنين و لكن المنافقين لا يعلمون، أ لا تعلم أن من انتظر أمرنا، و صبر على ما يرى من الأذى و الخوف هو غدا في زمرتنا؟ فإذا رأيت الحق قد مات و ذهب أهله، و رأيت الجور قد شمل البلاد، و رأيت القرآن قد خلق و أحدث فيه ما ليس فيه و وجه على الأهواء، و رأيت الدين قد انكفأ كما ينكفىء الإناء و رأيت أهل الباطل قد استعلوا على أهل الحق، و رأيت الشر ظاهرا لا ينهى عنه و يعذر أصحابه، و رأيت الفسق قد ظهر و اكتفى الرجال بالرجال و النساء بالنساء، و رأيت المؤمن صامتا لا يقبل قوله، و رأيت الفاسق يكذب و لا يرد عليه كذبه و فريته، و رأيت الصغير يستحقر بالكبير، و رأيت الأرحام قد تقطعت، و رأيت من يمتدح بالفسق يضحك منه و لا يرد عليه قوله، و رأيت الغلام يعطي ما تعطي المرأة و رأيت النساء يتزوجن بالنساء، و رأيت الثناء قد كثر، و رأيت الرجل ينفق المال في غير طاعة الله فلا ينهى و لا يؤخذ على يديه، و رأيت الناظر يتعوذ بالله مما يرى المؤمن فيه من الاجتهاد، و رأيت الجار يؤذي جاره و ليس له مانع، و رأيت الكافر فرحا لما يرى في المؤمن، مرحا لما يرى في الأرض من الفساد، و رأيت الخمور تشرب علانية و يجتمع عليها من لا يخاف الله عز و جل، و رأيت الأمر بالمعروف ذليلا، و رأيت الفاسق فيما لا يحب الله قويا محمودا، و رأيت أصحاب الآيات يحقرون و يحقر من يحبهم، و رأيت سبيل الخير منقطعا و سبيل الشر مسلوكا، و رأيت بيت الله قد عطل و يؤمر بتركه و رأيت الرجل يقول ما لا يفعله، و رأيت الرجال يتمنون للرجال و النساء للنساء، و رأيت الرجل معيشته من دبره و معيشة المرأة من فرجها، و رأيت النساء يتخذن المجالس كما يتخذها الرجال، و رأيت التأنيث في ولد العباس قد ظهر و أظهروا الخضاب و امتشطوا كما تمشط المرأة لزوجها، و أعطوا الرجال الأموال على فروجهم، و تنوفس في الرجل، و تغاير عليه الرجال، و كان صاحب المال أعز من المؤمن، و كان الربا ظاهرا لا يعير، و كان الزنا تمتدح به النساء، و رأيت المرأة تصانع زوجها على نكاح الرجال، و رأيت أكثر الناس و خير بيت من يساعد النساء على فسقهن، و رأيت المؤمن محزونا محتقرا ذليلا و رأيت البدع و الزنا قد ظهر، و رأيت الناس يعتدون بشاهد الزور، و رأيت الحرام يحلل، و الحلال يحرم، و رأيت الدين بالرأي و عطل الكتاب و أحكامه، و رأيت الليل لا يستخفى به من الجرأة على الله، و رأيت المؤمن لا يستطيع أن ينكر إلا بقلبه و رأيت العظيم من المال ينفق في سخط الله عز و جل، و رأيت الولاة يقربون أهل الكفر و يباعدون أهل الخير، و رأيت الولاة يرتشون في الحكم، و رأيت الولاية قبالة لمن زاد، و رأيت ذوات الأرحام ينكحن و يكتفى بهن، و رأيت الرجل يقتل على التهمة و على الظنة و يتغاير على الرجل الذكر فيبذل له نفسه و ماله، و رأيت الرجل يعير على إتيان النساء، و رأيت الرجل يأكل من كسب امرأته من الفجور يعلم ذلك و يقيم عليه، و رأيت المرأة تقهر زوجها و تعمل ما لا يشتهي و تنفق على زوجها، و رأيت الرجل يكري امرأته و جاريته و يرضى بالدني من الطعام و الشراب، و رأيت الإيمان بالله عز و جل كثيرة على الزور، و رأيت القمار قد ظهر، و رأيت الشراب يباع ظاهرا ليس له مانع، و رأيت النساء يبذلن أنفسهن لأهل الكفر، و رأيت الملاهي قد ظهرت يمر بها لا يمنعها أحد أحدا و لا يجترىء أحد على منعها، و رأيت الشريف يستذله الذي يخاف سلطانه، و رأيت أقرب الناس من الولاة من يمتدح بشتمنا أهل البيت، و رأيت من يحبنا يزور و لا تقبل شهادته، و رأيت الزور من القول يتنافس فيه، و رأيت القرآن قد ثقل على الناس استماعه و خف على الناس استماع الباطل، و رأيت الجار يكرم الجار خوفا من لسانه، و رأيت الحدود قد عطلت و عمل فيها بالأهواء، و رأيت المساجد قد زخرفت، و رأيت أصدق الناس عند الناس المفتري الكذب، و رأيت الشر قد ظهر و السعي بالنميمة، و رأيت البغي قد فشا، و رأيت الغيبة تستملح و يبشر بها الناس بعضهم بعضا، و رأيت طلب الحج و الجهاد لغير الله و رأيت السلطان يذل للكافر المؤمن، و رأيت الخراب قد أديل من العمران، و رأيت الرجل معيشته من بخس المكيال و الميزان، و رأيت سفك الدماء يستخف بها، و رأيت الرجل يطلب الرئاسة لغرض الدنيا و يشهر نفسه بخبث اللسان ليتقى و تستند إليه الأمور، و رأيت الصلاة قد استخف بها، و رأيت الرجل عنده المال الكثير لم يزكه منذ ملكه، و رأيت الميت ينشر من قبره و يؤذى و تباع أكفانه، و رأيت الهرج قد كثر، و رأيت الرجل يمسي نشوان و يصبح سكران لا يهتم بما الناس فيه، و رأيت البهائم تنكح، و رأيت البهائم تفرس بعضها بعضا، و رأيت الرجل يخرج إلى مصلاه و يرجع و ليس عليه شيء من ثيابه، و رأيت قلوب الناس قد قست و جمدت أعينهم و ثقل الذكر عليهم، و رأيت السحت قد ظهر يتنافس فيه، و رأيت المصلي إنما يصلي ليراه الناس، و رأيت الفقيه يتفقه لغير الدين يطلب الدنيا و الرئاسة، و رأيت الناس مع من غلب، و رأيت طالب الحلال يذم و يعير و طالب الحرام يمدح و يعظم، و رأيت الحرمين يعمل فيها بما لا يحب الله لا يمنعهم مانع و لا يحول بينهم و بين العمل القبيح أحد، و رأيت المعازف ظاهرة في الحرمين، و رأيت الرجل يتكلم بشيء من الحق و يأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر فيقوم إليه من ينصحه في نفسه فيقول: هذا عنك موضوع، و رأيت الناس ينظر بعضهم إلى بعض و يقتدون بأهل الشر، و رأيت مسلك الخير و طريقه خاليا لا يسلكه أحد، و رأيت الميت يهز به فلا يفزع له أحد، و رأيت كل عام يحدث فيه من البدعة و الشر أكثر مما كان، و رأيت الخلق و المجالس لا يتابعون إلا الأغنياء، و رأيت المحتاج يعطى على الضحك به و يرحم لغير وجه الله، و رأيت الآيات في السماء لا يفزع لها أحد و رأيت الناس يتسافدون كما تسافد البهائم لا ينكر أحد منكرا تخوفا من الناس، و رأيت الرجل ينفق الكثير في غير طاعة الله و يمنع اليسير في طاعة الله، و رأيت العقوق قد ظهر و استخف بالوالدين و كانا من أسوإ الناس حالا عند الولد و يفرح بأن يفترى عليهما، و رأيت النساء و قد غلبن على الملك و غلبن على كل أمر لا يؤتى إلا ما لهن فيه هوى، و رأيت ابن الرجل يفتري على أبيه و يدعو على والديه و يفرح بموتهما، و رأيت الرجل إذا مر به يوم و لم يكسب فيه الذنب العظيم من فجور أو بخس مكيال أو ميزان أو غشيان حرام أو شرب مسكر كئيبا حزينا يحسب أن ذلك اليوم عليه وضيعة من عمره، و رأيت السلطان يحتكر الطعام، و رأيت أموال ذوي القربى تقسم في الزور و يتقامر بها و تشرب بها الخمور، و رأيت الخمر يتداوى بها و يوصف للمريض و يستشفى بها، و رأيت الناس قد استووا في ترك الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و ترك التدين به، و رأيت رياح المنافقين و أهل النفاق قائمة و رياح أهل الحق لا تحرك، و رأيت الأذان بالأجر و الصلاة بالأجر، و رأيت المساجد محتشية ممن لا يخاف الله مجتمعون فيها للغيبة و أكل لحوم أهل الحق و يتواصفون فيها شراب المسكر، و رأيت السكران يصلي بالناس و هو لا يعقل و لا يشان بالسكر و إذا سكر أكرم و اتقى و خيف و ترك لا يعاقب و يعذر بسكره، و رأيت من أكل أموال اليتامى يحمد بصلاحه، و رأيت القضاة يقضون بخلاف ما أمر الله، و رأيت الولاة يأتمنون الخونة للطمع، و رأيت الميراث قد وضعته الولاة لأهل الفسوق و الجرأة على الله يأخذون منهم و يخلونهم و ما يشتهون، و رأيت المنابر يؤمر عليها بالتقوى و لا يعمل القائل بما يأمر، و رأيت الصلاة قد استخف بأوقاتها، و رأيت الصدقة بالشفاعة و لا يراد بها وجه الله و يعطي لطلب الناس، و رأيت الناس همهم بطونهم و فروجهم لا يبالون بما أكلوا و ما نكحوا، و رأيت الدنيا مقبلة عليهم، و رأيت أعلام الحق قد درست فكن على حذر و اطلب إلى الله عز و جل النجاة، و اعلم أن الناس في سخط الله عز و جل و إنما يمهلهم لأمر يراد بهم فكن مترقبا و اجتهد ليراك الله عز و جل في خلاف ما هم عليه فإن نزل بهم العذاب و كنت فيهم عجلت إلى رحمة الله، و إن أخرت ابتلوا و كنت قد خرجت مما هم فيه من الجرأة على الله عز و جل و اعلم أن الله لا يضيع أجر المحسنين، و أن رحمة الله قريب من المحسنين.
أقول: و هناك أخبار مأثورة عن النبي و الأئمة من أهل بيته (عليهم السلام) كثيرة في هذه المعاني، و ما نقلناه من الحديثين من أجمعها معنى، و الأحاديث أخبار آخر الزمان كالتفصيل لما يدل عليه الآية الكريمة أعني قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم و يحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله لا يخافون لومة لائم» الآية و الله أعلم.
تم و الحمد لله.
|