بيان
يطوف بيان السورة حول القيامة الكبرى فتنبىء بوقوع يوم القيامة أولا ثم تصفه ببعض أشراطه تارة، و بإجمال ما يجري على الإنسان أخرى، و ينبىء أن المساق إليه يبدأ من يوم الموت، و تختتم بالاحتجاج على القدرة على الإعادة بالقدرة على الابتداء.
و السورة مكية بشهادة سياق آياتها.
قوله تعالى: «لا أقسم بيوم القيامة» إقسام بيوم القيامة سواء قيل بكون «لا أقسم» كلمة قسم أو بكون لا زائدة أو نافية على اختلاف الأقوال.
قوله تعالى: «و لا أقسم بالنفس اللوامة» إقسام ثان على ما يقتضيه السياق و مشاكلة اللفظ فلا يعبأ بما قيل: إنه نفي الأقسام و ليس بقسم، و المراد أقسم بيوم القيامة و لا أقسم بالنفس اللوامة.
و المراد بالنفس اللوامة نفس المؤمن التي تلومه في الدنيا على المعصية و التثاقل في الطاعة و تنفعه يوم القيامة.
و قيل: المراد به النفس الإنسانية أعم من المؤمنة الصالحة و الكافرة الفاجرة فإنها تلوم الإنسان يوم القيامة أما الكافرة فإنها تلومه على كفره و فجوره، و أما المؤمنة فإنها تلومه على قلة الطاعة و عدم الاستكثار من الخير.
و قيل.
المراد نفس الكافر الذي تلومه يوم القيامة على ما قدمت من كفر و معصية قال تعالى: «و أسروا الندامة لما رأوا العذاب»: يونس 54.
و لكل من الأقوال وجه.
و جواب القسم محذوف يدل عليه الآيات التالية، و التقدير ليبعثن، و إنما حذف للدلالة على تفخيم اليوم و عظمة أمره قال تعالى: «ثقلت في السماوات و الأرض لا تأتيكم إلا بغتة»: الأعراف 187 و قال: «إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزي كل نفس بما تسعى»: طه 15 و قال: «عم يتساءلون عن النبإ العظيم»: النبأ: 1.
قوله تعالى: «أ يحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه» الحسبان الظن، و جمع العظام كناية عن الإحياء بعد الموت، و الاستفهام للتوبيخ، و المعنى ظاهر.
قوله تعالى: «بلى قادرين على أن نسوي بنانه» أي بلى نجمعها و قادرين» حال من فاعل مدخول بلى المقدر، و البنان أطراف الأصابع و قيل: الأصابع و تسوية البنان تصويرها على ما هي عليها من الصور، و المعنى بلى نجمعها و الحال أنا قادرون على أن نصور بنانه على صورها التي هي عليها بحسب خلقنا الأول.
و تخصيص البنان بالذكر - لعله - للإشارة إلى عجيب خلقها بما لها من الصور و خصوصيات التركيب و العدد تترتب عليها فوائد جمة لا تكاد تحصى من أنواع القبض و البسط و الأخذ و الرد و سائر الحركات اللطيفة و الأعمال الدقيقة و الصنائع الظريفة التي يمتاز بها الإنسان من سائر الحيوان مضافا إلى ما عليها من الهيئات و الخطوط التي لا يزال ينكشف للإنسان منها سر بعد سر.
و قيل: المراد بتسوية البنان جعل أصابع اليدين و الرجلين مستوية شيئا واحدا من غير تفريق كخف البعير و حافر الحمار، و المعنى قادرين على أن نجعلها شيئا واحدا فلا يقدر الإنسان حينئذ على ما يقدر عليه مع تعدد الأصابع من فنون الأعمال، و الوجه المتقدم أرجح.
قوله تعالى: «بل يريد الإنسان ليفجر أمامه» قال الراغب: الفجر شق الشيء شقا واسعا.
قال: و الفجور شق ستر الديانة يقال: فجر فجورا فهو فاجر و جمعه فجار و فجرة.
انتهى، و أمام ظرف مكان استعير لمستقبل الزمان، و المراد من فجوره أمامه فجوره مدى عمره و ما دام حيا، و ضمير «أمامه» للإنسان.
و قوله: «ليفجر أمامه» تعليل ساد مسد معلله و هو التكذيب بالبعث و الإحياء بعد الموت، و «بل» إضراب عن حسبانه عدم البعث و الإحياء بعد الموت.
و المعنى: أنه لا يحسب أن لن نجمع عظامه بل يريد أن يكذب بالبعث ليفجر مدى عمره إذ لا موجب للإيمان و التقوى لو لم يكن هناك بعث للحساب و الجزاء.
هذا ما يعطيه السياق في معنى الآية، و لهم وجوه أخر ذكروها في معنى الآية بعيدة لا تلائم السياق أغمضنا عن ذكرها.
و ذكر الإنسان في الآية من وضع الظاهر موضع الضمير و النكتة فيه زيادة التوبيخ و المبالغة في التقريع، و قد كرر ذلك في الآية و ما يتلوها من الآيات أربع مرات.
قوله تعالى: «يسأل أيان يوم القيامة» الظاهر أنه بيان لقوله: «بل يريد الإنسان ليفجر أمامه» فيفيد التعليل و أن السائل في مقام التكذيب و السؤال سؤال تكذيب إذ من الواجب على من دعي إلى الإيمان و التقوى، و أنذر بهذا النبإ العظيم مع دلالة الآيات البينة و قيام الحجج القاطعة أن يتخذ حذره و يتجهز بالإيمان و التقوى و يتهيأ للقاء اليوم قريبا كان أو بعيدا فكل ما هو آت قريب لا أن يسأل متى تقوم الساعة؟ و أيان يوم القيامة؟ فليس إلا سؤال مكذب مستهزىء.
قوله تعالى: «فإذا برق البصر و خسف القمر و جمع الشمس و القمر» ذكر جملة من أشراط الساعة، و بريق البصر تحيره في إبصاره و دهشته، و خسوف القمر زوال نوره.
قوله تعالى: «يقول الإنسان يومئذ أين المفر» أي أين موضع الفرار، و قوله: «أين المفر» مع ظهور السلطنة الإلهية له و علمه بأن لا مفر و لا فرار يومئذ من باب ظهور ملكاته يومئذ فقد كان في الدنيا يسأل عن المفر إذا وقع في شدة أو هددته مهلكة و ذلك كإنكارهم الشرك يومئذ و حلفهم كذبا قال تعالى: «ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا و الله ربنا ما كنا مشركين»: الأنعام: 23، و قال: «يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم»: المجادلة: 18.
قوله تعالى: «كلا لا وزر» ردع عن طلبهم المفر، و الوزر الملجأ من جبل أو حصن أو غيرهما، و هو من كلامه تعالى لا من تمام كلام الإنسان.
قوله تعالى: «إلى ربك يومئذ المستقر» الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و تقديم «إلى ربك» و هو متعلق بقوله: «المستقر» يفيد الحصر فلا مستقر إلى غيره فلا وزر و لا ملجأ يلتجأ إليه فيمنع عنه.
و ذلك أن الإنسان سائر إليه تعالى كما قال: «يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه»: الانشقاق: 6 و قال: «إن إلى ربك الرجعى»: العلق: 8 و قال: «و أن إلى ربك المنتهى»: النجم: 42، فهو ملاقي ربه راجع و منته إليه لا حاجب يحجبه عنه و لا مانع يمنعه منه و أما الحجاب الذي يشير إليه قوله: «كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون»: المطففين: 15 فسياق الآيتين يعطي أن المراد به حجاب الحرمان من الكرامة لا حجاب الجهل أو الغيبة.
و يمكن أن يكون المراد بكون مستقره إليه رجوع أمر ما يستقر فيه من سعادة أو شقاوة و جنة أو نار إلى مشيته تعالى فمن شاء جعله في الجنة و هم المتقون و من شاء جعله في النار و هم المجرمون قال تعالى: «يعذب من يشاء و يغفر لمن يشاء»: المائدة: 40.
و يمكن أن يراد به أن استقرارهم يومئذ إلى حكمه تعالى فهو النافذ فيهم لا غير قال تعالى: «كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم و إليه ترجعون»: القصص: 88.
قوله تعالى: «ينبؤا الإنسان يومئذ بما قدم و أخر» المراد بما قدم و أخر ما عمله من حسنة أو سيئة في أول عمره و آخره أو ما قدمه على موته من حسنة أو سيئة و ما أخر من سنة حسنة سنها أو سنة سيئة فيثاب بالحسنات و يعاقب على السيئات.
و قيل: المراد بما قدم ما عمله من حسنة أو سيئة فيثاب على الأول و يعاقب على الثاني، و بما أخر ما تركه من حسنة أو سيئة فيعاقب على الأول و يثاب على الثاني، و قيل، المراد ما قدم من المعاصي و ما أخر من الطاعات، و قيل، ما قدم من طاعة الله و أخر من حقه فضيعه، و قيل: ما قدم من ماله لنفسه و ما ترك لورثته و هي وجوه ضعيفة بعيدة عن الفهم.
قوله تعالى: «بل الإنسان على نفسه بصيرة و لو ألقى معاذيره» إضراب عن قوله، «ينبؤا الإنسان» إلخ، و البصيرة رؤية القلب و الإدراك الباطني و إطلاقها على الإنسان من باب زيد عدل أو التقدير الإنسان ذو بصيرة على نفسه.
و قيل: المراد بالبصيرة الحجة كما في قوله تعالى، «ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات و الأرض بصائر»: إسراء، 102 و الإنسان نفسه حجة على نفسه يومئذ حيث يسأل عن سمعه و بصره و فؤاده و يشهد عليه سمعه و بصره و جلده و يتكلم يداه و رجلاه، قال تعالى: «إن السمع و البصر و الفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا»: إسراء 36، و قال «شهد عليهم سمعهم و أبصارهم و جلودهم»: حم السجدة، 20.
و قال، «و تكلمنا أيديهم و تشهد أرجلهم»: يس: 65.
و قوله: «و لو ألقى معاذيره» المعاذير جمع معذرة و هي ذكر موانع تقطع عن الفعل المطلوب، و المعنى هو ذو بصيرة على نفسه و لو جادل عن نفسه و اعتذر بالمعاذير لصرف العذاب عنها.
و قيل: المعاذير جمع معذار و هو الستر، و المعنى و إن أرخى الستور ليخفي ما عمل فإن نفسه شاهدة عليه و مآل الوجهين واحد.
بحث روائي
في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «و لا أقسم بالنفس اللوامة» قال: نفس آدم التي عصت فلامها الله عز و جل.
أقول: و في انطباقها على الآية خفاء.
و فيه،: في قوله: «بل يريد الإنسان ليفجر أمامه» قال: يقدم الذنب و يؤخر التوبة و يقول: سوف أتوب.
و فيه،: في قوله: «فإذا برق البصر» قال: يبرق البصر فلا يقدر أن يطرف.
و فيه،: في قوله تعالى: «بل الإنسان على نفسه بصيرة - و لو ألقى معاذيره» قال: يعلم ما صنع و إن اعتذر.
و في الكافي، بإسناده عن عمر بن يزيد قال: إني لأتعشى مع أبي عبد الله (عليه السلام) و تلا هذه الآية «بل الإنسان على نفسه بصيرة و لو ألقى معاذيره، ثم قال: يا أبا حفص ما يصنع الإنسان أن يعتذر إلى الناس بخلاف ما يعلم الله منه؟ إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يقول: من أسر سريرة ألبسه الله رداها إن خيرا فخير و إن شرا فشر.
و في المجمع، و روى العياشي بإسناده عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما يصنع أحدكم أن يظهر حسنا و يستر سيئا؟ أ ليس إذا رجع إلى نفسه يعلم أنه ليس كذلك؟ و الله سبحانه يقول: «بل الإنسان على نفسه بصيرة» إن السريرة إذا صلحت قويت العلانية:. أقول: و رواه في أصول الكافي، بإسناده عن فضل أبي العباس عنه (عليه السلام).
و فيه، عن العياشي عن زرارة قال، سألت أبا عبد الله (عليه السلام) ما حد المرض الذي يفطر صاحبه؟ قال، «بل الإنسان على نفسه بصيرة» هو أعلم بما يطيق:. أقول: و رواه في الفقيه، أيضا.
|