بيان
تذكر السورة خلق الإنسان بعد ما لم يكن شيئا مذكورا ثم هدايته السبيل إما شاكرا و إما كفورا و أن الله اعتد للكافرين أنواع العذاب و للأبرار ألوان النعم - و قد فصل القول في وصف نعيمهم في ثمان عشرة آية و هو الدليل على أنه المقصود بالبيان -.
ثم تذكر مخاطبا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن القرآن تنزيل منه تعالى عليه و تذكرة فليصبر لحكم ربه و لا يتبع الناس في أهوائهم و ليذكر اسم ربه بكرة و عشيا و ليسجد له من الليل و ليسبحه ليلا طويلا.
و السورة مدنية بتمامها أو صدرها - و هي اثنتان و عشرون آية من أولها - مدني، و ذيلها - و هي تسع آيات من آخرها - مكي و قد أطبقت روايات أهل البيت (عليهم السلام) على كونها مدنية، و استفاضت بذلك روايات أهل السنة.
و قيل بكونها مكية بتمامها، و سيوافيك تفصيل القول في ذلك في البحث الروائي التالي إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى.
«هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا» الاستفهام للتقرير فيفيد ثبوت معنى الجملة و تحققه أي قد أتى على الإنسان «إلخ» و لعل هذا مراد من قال من قدماء المفسرين: إن «هل» في الآية بمعنى قد، لا على أن ذلك أحد معاني «هل» كما ذكره بعضهم.
و المراد بالإنسان الجنس.
و أما قول بعضهم: إن المراد به آدم (عليه السلام) فلا يلائمه قوله في الآية التالية: «إنا خلقنا الإنسان من نطفة».
و الحين قطعة من الزمان محدودة قصيرة كانت أو طويلة، و الدهر الزمان الممتد من دون تحديد ببداية أو نهاية.
و قوله: «شيئا مذكورا» أي شيئا يذكر باسمه في المذكورات أي كان يذكر مثلا الأرض و السماء و البر و البحر و غير ذلك و لا يذكر الإنسان لأنه لم يوجد بعد حتى وجد فقيل: الإنسان فكونه مذكورا كناية عن كونه موجودا بالفعل فالنفي في قوله: «لم يكن شيئا مذكورا» متوجه إلى كونه شيئا مذكورا لا إلى أصل كونه شيئا فقد كان شيئا و لم يكن شيئا مذكورا و يؤيده قوله: «إنا خلقنا الإنسان من نطفة» إلخ فقد كان موجودا بمادته و لم يتكون بعد إنسانا بالفعل و الآية و ما يتلوها من الآيات واقعة في سياق الاحتجاج يبين بها أن الإنسان حادث يحتاج في وجوده إلى صانع يصنعه و خالق يخلقه، و قد خلقه ربه و جهزه التدبير الربوبي بأدوات الشعور من السمع و البصر يهتدي بها إلى السبيل الحق الذي من الواجب أن يسلكه مدى حياته فإن كفر فمصيره إلى عذاب أليم و إن شكر فإلى نعيم مقيم.
و المعنى هل أتى - قد أتى - على الإنسان قطعة محدودة من هذا الزمان الممتد - غير المحدود و الحال أنه لم يكن موجودا بالفعل مذكورا في عداد المذكورات.
قوله تعالى: «إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا» النطفة في الأصل بمعنى الماء القليل غلب استعماله في ماء الذكور من الحيوان الذي يتكون منه مثله، و أمشاج جمع مشيج أو المشج بفتحتين أو بفتح فكسر بمعنى المختلط الممتزج، و وصفت بها النطفة باعتبار أجزائها المختلفة أو اختلاط ماء الذكور و الإناث.
و الابتلاء نقل الشيء من حال إلى حال و من طور إلى طور كابتلاء الذهب في البوتقة، و ابتلاؤه تعالى الإنسان في خلقه من النطفة هو ما ذكره في مواضع من كلامه أنه يخلق النطفة فيجعلها علقة و العلقة مضغة إلى آخر الأطوار التي تتعاقبها حتى ينشئه خلقا آخر.
و قيل: المراد بابتلائه امتحانه بالتكليف، و يدفعه تفريع قوله: «فجعلناه سميعا بصيرا» على الابتلاء و لو كان المراد به التكليف كان من الواجب تفريعه على جعله سميعا بصيرا لا بالعكس، و الجواب عنه بأن في الكلام تقديما و تأخيرا و التقدير إنا خلقناه من نطفة أمشاج فجعلناه سميعا بصيرا لنبتليه، لا يصغى إليه.
و قوله: «فجعلناه سميعا بصيرا» سياق الآيات و خاصة قوله: «إنا هديناه السبيل» إلخ يفيد أن ذكر جعله سميعا بصيرا للتوسل به في التدبير الربوبي إلى غايته و هي أن يرى آيات الله الدالة على المبدإ و المعاد و يسمع كلمة الحق التي تأتيه من جانب ربه بإرسال الرسل و إنزال الكتب فيدعوه البصر و السمع إلى سلوك سبيل الحق و السير في مسير الحياة بالإيمان و العمل الصالح فإن لزم السبيل الذي هدي إليه أداه إلى نعيم الأبد و إلا فإلى عذاب مخلد.
و ذكر الإنسان في الآية من وضع الظاهر موضع الضمير و النكتة فيه تسجيل أنه تعالى هو خالقه و مدبر أمره.
و المعنى: إنا خلقنا الإنسان من نطفة هي أجزاء مختلطة ممتزجة و الحال أنا ننقله من حال إلى حال و من طور إلى طور فجعلناه سميعا بصيرا ليسمع ما يأتيه من الدعوة الإلهية، و يبصر الآيات الإلهية الدالة على وحدانيته تعالى و النبوة و المعاد.
قوله تعالى: «إنا هديناه السبيل إما شاكرا و إما كفورا» الهداية بمعنى إراءة الطريق دون الإيصال إلى المطلوب و المراد بالسبيل السبيل بحقيقة معنى الكلمة و هو المؤدي إلى الغاية المطلوبة و هو سبيل الحق.
و الشكر استعمال النعمة بإظهار كونها من منعمها و قد تقدم في تفسير قوله تعالى: «و سيجزي الله الشاكرين»: آل عمران: 144 إن حقيقة كون العبد شاكرا لله كونه مخلصا لربه، و الكفران استعمالها مع ستر كونها من المنعم.
و قوله: «إما شاكرا و إما كفورا» حالان من ضمير «هديناه» لا من «السبيل» كما قاله بعضهم، و «إما» يفيد التقسيم و التنويع أي إنا هديناه السبيل حال كونه منقسما إلى الشاكر و الكفور أي أنه مهدي سواء كان كذا أو كذلك.
و التعبير بقوله: «إما شاكرا و إما كفورا» هو الدليل أولا: على أن المراد بالسبيل السنة و الطريقة التي يجب على الإنسان أن يسلكها في حياته الدنيا لتوصله إلى سعادته في الدنيا و الآخرة و تسوقه إلى كرامة القرب و الزلفى من ربه و محصله الدين الحق و هو عند الله الإسلام.
و به يظهر أن تفسير بعضهم السبيل بسبيل الخروج من الرحم غير سديد.
و ثانيا: أن السبيل المهدي إليه سبيل اختياري و أن الشكر و الكفر اللذين يترتبان على الهداية المذكورة واقعان في مستقر الاختيار للإنسان أن يتلبس بأيهما شاء من غير إكراه و إجبار كما قال تعالى: «ثم السبيل يسره»: عبس: 20، و ما في آخر السورة من قوله تعالى: «فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا و ما تشاءون إلا أن يشاء الله» إنما يفيد تعلق مشيته تعالى بمشية العبد لا بفعل العبد الذي تعلقت به مشية العبد حتى يفيد نفي تأثير مشية العبد المتعلقة بفعله، و قد تقدمت الإشارة إلى هذا المعنى في هذا الكتاب مرارا.
و الهداية التي هي نوع إيذان و إعلام منه تعالى للإنسان هداية فطرية هي تنبيه بسبب نوع خلقته و ما جهز به وجوده بإلهام من الله سبحانه على حق الاعتقاد و صالح العمل قال تعالى: «و نفس و ما سواها فألهمها فجورها و تقواها»: الشمس: 8 و أوسع مدلولا منه قوله تعالى: «فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم»: الروم: 30.
و هداية قولية من طريق الدعوة يبعث الأنبياء و إرسال الرسل و إنزال الكتب و تشريع الشرائع الإلهية، و لم يزل التدبير الربوبي تدعم الحياة الإنسانية بالدعوة الدينية القائم بها أنبياؤه و رسله، و يؤيد بذلك دعوة الفطرة كما قال: «إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح و النبيين من بعده - إلى أن قال - رسلا مبشرين و منذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل»: النساء: 165.
و من الفرق بين الهدايتين أن الهداية الفطرية عامة بالغة لا يستثنى منها إنسان لأنها لازم الخلقة الإنسانية و هي في الأفراد بالسوية غير أنها ربما تضعف أو يلغو أثرها لعوامل و أسباب تشغل الإنسان و تصرفه عن التوجه إلى ما يدعو إليه عقله و يهديه إليه فطرته أو ملكات و أحوال رديئة سيئة تمنعه عن إجابة نداء الفطرة كالعناد و اللجاج و ما يشبه ذلك قال تعالى: «أ فرأيت من اتخذ إلهه هواه و أضله الله على علم و ختم على سمعه و قلبه و جعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله»: الجاثية: 23، و الهداية المنفية في الآية بمعنى الإيصال إلى المطلوب دون إراءة الطريق بدليل قوله: «و أضله الله على علم».
و أما الهداية القولية و هي التي تتضمنها الدعوة الدينية فإن من شأنها أن تبلغ المجتمع فتكون في معرض من عقول الجماعة فيرجع إليها من آثر الحق على الباطل و أما بلوغها لكل واحد واحد منهم فإن العلل و الأسباب التي يتوسل بها إلى بيان أمثال هذه المقاصد ربما لا تساعد على ذلك على ما في الظروف و الأزمنة و البيئات من الاختلاف و كيف يمكن لإنسان أن يدعو كل إنسان إلى ما يريد بنفسه أو بوسائط من نوعه؟ فمن المتعذر ذلك جدا.
و إلى المعنى الأول أشار تعالى بقوله: «و إن من أمة إلا خلا فيها نذير»: فاطر: 24، و إلى الثاني بقوله: «لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون»: يس: 6.
فمن بلغته الدعوة و انكشف له الحق فقد تمت عليه الحجة و من لم تبلغه الدعوة بلوغا ينكشف به له الحق فقد أدركه الفضل الإلهي بعده مستضعفا أمره إلى الله إن يشأ يغفر له و إن يشأ يعذبه قال تعالى: «إلا المستضعفين من الرجال و النساء و الولدان لا يستطيعون حيلة و لا يهتدون سبيلا»: النساء: 98.
ثم من الدليل على أن الدعوة الإلهية و هي الهداية إلى السبيل حق يجب على الإنسان أن يتبعها فطرة الإنسان و خلقته المجهزة بما يهدي إليها من الاعتقاد و العمل، و وقوع الدعوة خارجا من طريق النبوة و الرسالة فإن سعادة كل موجود و كماله في الآثار و الأعمال التي تناسب ذاته و تلائمها بما جهزت به من القوى و الأدوات فسعادة الإنسان و كماله في اتباع الدين الإلهي الذي هو سنة الحياة الفطرية و قد حكم به العقل و جاءت به الأنبياء و الرسل عليهم السلام.
قوله تعالى: «إنا أعتدنا للكافرين سلاسل و أغلالا و سعيرا» الإعتاد التهيئة، و سلاسل جمع سلسلة و هي القيد الذي يقاد به المجرم، و أغلال جمع غل بالضم قيل هي القيد الذي يجمع اليدين على العنق، و قال الراغب: فالغل مختص بما يقيد به فيجعل الأعضاء وسطه.
انتهى.
و السعير النار المشتعلة، و المعنى ظاهر.
و الآية تشير إلى تبعة الإنسان الكفور المذكور في قوله: «إما شاكرا و إما كفورا» و قدم بيان تبعته على بيان جزاء الإنسان الشاكر لاختصار الكلام فيه.
قوله تعالى: «إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا» الكأس إناء الشراب إذا كان فيه شراب، و المزاج ما يمزج به كالحزام لما يحزم به، و الكافور معروف يضرب به المثل في البرودة و طيب الرائحة، و قيل: هو اسم عين في الجنة.
و الأبرار جمع بر بفتح الباء صفة مشبهة من البر و هو الإحسان و يتحصل معناه في أن يحسن الإنسان في عمله من غير أن يريد به نفعا يرجع إليه من جزاء أو شكور فهو يريد الخير لأنه خير لا لأن فيه نفعا يرجع إلى نفسه و إن كرهت نفسه ذلك فيصبر على مر مخالفة نفسه فيما يريده و يعمل العمل لأنه خير في نفسه كالوفاء بالنذر أو لأن فيه خيرا لغيره كإطعام الطعام للمستحقين من عباد الله.
و إذ لا خير في عمل و لا صلاح إلا بالإيمان بالله و رسوله و اليوم الآخر كما قال تعالى: «أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم»: الأحزاب: 19 إلى غير ذلك من الآيات.
فالأبرار مؤمنون بالله و رسوله و اليوم الآخر، و إذ كان إيمانهم إيمان رشد و بصيرة فهم يرون أنفسهم عبيدا مملوكين لربهم، له خلقهم و أمرهم، لا يملكون لأنفسهم نفعا و لا ضرا عليهم أن لا يريدوا إلا ما أراده ربهم و لا يفعلوا إلا ما يرتضيه فقدموا إرادته على إرادة أنفسهم و عملوا له فصبروا على مخالفة أنفسهم فيما تهواه و تحبه و كلفة الطاعة، و عملوا ما عملوه لوجه الله، فأخلصوا العبودية في مرحلة العمل لله سبحانه.
و هذه الصفات هي التي عرف سبحانه الأبرار بها كما يستفاد من قوله: «يشرب بها عباد الله» و قوله: «إنما نطعمكم لوجه الله» و قوله: «و جزاهم بما صبروا» و هي المستفادة من قوله في صفتهم: «ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق و المغرب و لكن البر من آمن بالله» إلخ: البقرة: 177 و قد مر بعض الكلام في معنى البر في تفسير الآية و سيأتي بعضه في قوله: «كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين»: المطففين: 18.
و الآية أعني قوله: «إن الأبرار يشربون» إلخ بما يتبادر من معناها من حيث مقابلتها لقوله: «إنا أعتدنا للكافرين» إلخ المبين لحال الكافرين في الآخرة، تبين حال الأبرار في الآخرة في الجنة، و أنهم يشربون من شراب ممزوج بالكافور باردا طيب الرائحة.
قوله تعالى.
«عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا» «عينا» منصوب بنزع الخافض و التقدير من عين أو بالاختصاص و التقدير أخص عينا، و الشرب - على ما قيل - يتعدى بنفسه و بالباء فشرب بها و شربها واحد، و التعبير عنهم بعباد الله للإشارة إلى تحليهم بحلية العبودية و قيامهم بلوازمها على ما يفيده سياق المدح.
و تفجير العين شق الأرض لإجرائها، و ينبغي أن يحمل تفجيرهم العين على إرادتهم جريانها لأن نعم الجنة لا تحتاج في تحققها و التنعم بها إلى أزيد من مشية أهلها قال تعالى: «لهم ما يشاءون فيها»: ق: 35.
و الآيتان - كما تقدمت الإشارة إليه - تصفان تنعم الأبرار بشراب الجنة في الآخرة، و بذلك فسرت الآيتان.
و لا يبعد أن تكون الآيتان مسوقتين على مسلك تجسم الأعمال تصفان حقيقة عملهم الصالح من الإيفاء بالنذر و إطعام الطعام لوجه الله، و أن أعمالهم المذكورة بحسب باطنها شرب من كأس مزاجها كافور من عين لا يزالون يفجرونها بأعمالهم الصالحة و ستظهر لهم بحقيقتها في جنة الخلد و إن كانت في الدنيا في صورة الأعمال فتكون الآيتان في مجرى أمثال قوله تعالى: «إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون»: يس: 8.
و يؤيد ذلك ظاهر قوله «يشربون» و «يشرب بها» و لم يقل: سيشربون و سيشرب بها، و وقوع قوله: يشربون و يوفون و يخافون و يطعمون متعاقبة في سياق واحد، و ذكر التفجير في قوله: «يفجرونها تفجيرا» الظاهر في استخراج العين و إجرائها بالتوسل بالأسباب.
و لهم في مفردات الآيتين و إعرابها أقاويل كثيرة مختلفة مذكورة في المطولات فليراجعها من أراد الوقوف عليها.
قوله تعالى: «يوفون بالنذر و يخافون يوما كان شره مستطيرا» المستطير اسم فاعل من استطار إذا فشا و انتشر في الأقطار غاية الانتشار و هو أبلغ من طار كما قيل: يقال: استطار الحريق و استطار الفجر إذا اتسعا غايته، و المراد باستطارة شر اليوم و هو يوم القيامة بلوغ شدائده و أهواله و ما فيه من العذاب غايته.
و المراد بالإيفاء بالنذر ما هو ظاهره المعروف من معناه، و قول القائل: إن المراد به ما عقدوا عليه قلوبهم من العمل بالواجبات أو ما عقدوا عليه القلوب من اتباع الشارع في جميع ما شرعه خلاف ظاهر اللفظ من غير دليل يدل عليه.
قوله تعالى: «و يطعمون الطعام على حبه مسكينا و يتيما و أسيرا» ضمير «على حبه» للطعام على ما هو الظاهر، و المراد بحبه توقان النفس إليه لشدة الحاجة، و يؤيد هذا المعنى قوله تعالى: «لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون»: آل عمران: 92.
و قيل: الضمير لله سبحانه أي يطعمون الطعام حبا لله لا طمعا في الثواب، و يدفعه أن قوله تعالى حكاية منهم: «إنما نطعمكم لوجه الله» يغني عنه.
و يليه في الضعف ما قيل: إن الضمير للإطعام المفهوم من قوله: «و يطعمون» وجه الضعف أنه إن أريد بحب الإطعام حقيقة معناه فليس في حب الإطعام في نفسه فضل حتى يمدحوا به، و إن أريد به كون الإطعام بطيب النفس و عدم التكلف فهو خلاف الظاهر، و رجوع الضمير إلى الطعام هو الظاهر.
و المراد بالمسكين و اليتيم معلوم، و المراد بالأسير ما هو الظاهر منه و هو المأخوذ من أهل دار الحرب.
و قول بعضهم: إن المراد به أسارى بدر أو الأسير من أهل القبلة في دار الحرب بأيدي الكفار أو المحبوس أو المملوك من العبيد أو الزوجة كل ذلك تكلف من غير دليل يدل عليه.
و الذي يجب أن يتنبه له أن سياق هذه الآيات سياق الاقتصاص تذكر قوما من المؤمنين تسميهم الأبرار و تكشف عن بعض أعمالهم و هو الإيفاء بالنذر و إطعام مسكين و يتيم و أسير و تمدحهم و تعدهم الوعد الجميل.
فما تشير إليه من القصة سبب النزول، و ليس سياقها سياق فرض موضوع و ذكر آثارها الجميلة، ثم الوعد الجميل عليها، ثم إن عد الأسير فيمن أطعمه هؤلاء الأبرار نعم الشاهد على كون الآيات مدنية فإن الأسر إنما كان بعد هجرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و ظهور الإسلام على الكفر و الشرك لا قبلها.
قوله تعالى: «إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء و لا شكورا» وجه الشيء هو ما يستقبل به غيره، و وجهه تعالى صفاته الفعلية الكريمة التي يفيض بها الخير على خلقه من الخلق و التدبير و الرزق و بالجملة الرحمة العامة التي بها قيام كل شيء، و معنى كون العمل لوجه الله على هذا كون الغاية في العمل هي الاستفاضة من رحمة الله و طلب مرضاته بالاقتصار على ذلك و الإعراض عما عند غيره من الجزاء المطلوب، و لذا ذيلوا قولهم: «إنما نطعمكم لوجه الله» بقولهم «لا نريد منكم جزاء و لا شكورا».
و وراء ذلك صفاته الذاتية الكريمة التي هي المبدأ لصفاته الفعلية و لما يترتب عليها من الخير في العالم، و مرجع كون العمل لوجه الله على هذا هو الإتيان بالعمل حبا لله لأنه الجميل على الإطلاق، و إن شئت فقل: عبادته تعالى لأنه أهل للعبادة.
و ابتغاء وجه الله بجعله غاية داعية في الأعمال مذكور في مواضع من كلامه تعالى كقوله: «و اصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة و العشي يريدون وجهه»: الكهف: 28، و قوله: «و ما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله»: البقرة: 272، و في هذا المعنى قوله: «و ما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين»: البينة: 5، و قوله: «فادعوه مخلصين له الدين»: المؤمن: 65، و قوله: «ألا لله الدين الخالص»: الزمر: 3.
و قوله: «لا نريد منكم جزاء و لا شكورا» الجزاء مقابلة العمل بما يعادله إن خيرا فخيرا و إن شرا فشرا، و يعم الفعل و القول لكن المراد به في الآية بقرينة مقابلته الشكور مقابلة إطعامهم عملا لا لسانا.
و الشكر و الشكور ذكر النعمة و إظهارها قلبا أو لسانا أو عملا، و المراد به في الآية و قد قوبل بالجزاء الثناء الجميل لسانا.
و الآية أعني قوله: «إنما نطعمكم لوجه الله» إلخ خطاب منهم لمن أطعموه من المسكين و اليتيم و الأسير إما بلسان المقال فهي حكاية قولهم أو بتقدير القول و كيف كان فقد أرادوا به تطييب قلوبهم أن يأمنوا المن و الأذى، و إما بلسان الحال و هو ثناء من الله عليهم لما يعلم من الإخلاص في قلوبهم.
قوله تعالى: «إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا» عد اليوم و هو يوم القيامة عبوسا من الاستعارة، و المراد بعبوسه ظهوره على المجرمين بكمال شدته، و القمطرير الصعب الشديد على ما قيل.
و الآية في مقام التعليل لقولهم المحكي: «إنما نطعمكم لوجه الله» إلخ ينبهون بقولهم هذا أن قصرهم العمل في ابتغاء وجه الله تعالى إخلاصا للعبودية لمخافتهم ذاك اليوم الشديد، و لم يكتفوا بنسبة المخافة إلى اليوم حتى نسبوه نحوا من النسبة إلى ربهم فقالوا: «نخاف من ربنا يوما» إلخ لأنهم لما لم يريدوا إلا وجه ربهم فهم لا يخافون غيره كما لا يرجون غيره و إنما يخافون و يرجون ربهم فلا يخافون يوم القيامة إلا لأنه من ربهم يحاسب فيه عباده على أعمالهم فيجزيهم بها.
و أما قوله قبلا: «و يخافون يوما كان شره مستطيرا» حيث نسب خوفهم إلى اليوم فإن الواصف فيه هو الله سبحانه و قد نسب اليوم بشدائده إلى نفسه قبلا حيث قال: «إنا أعتدنا للكافرين سلاسل» إلخ.
و بالجملة ما ذكروه من الخوف مخافة في مقام العمل لما يحاسب العبد على عمله فالعبودية لازمة للإنسان لا تفارقه و إن بلغ ما بلغ قال تعالى: «إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم»: الغاشية: 26.
قوله تعالى: «فوقاهم الله شر ذلك اليوم و لقاهم نضرة و سرورا» الوقاية الحفظ و المنع من الأذى و لقي بكذا يلقيه أي استقبله به و النضرة البهجة و حسن اللون و السرور مقابل المساءة و الحزن.
و المعنى: فحفظهم الله و منع عنهم شر ذلك اليوم و استقبلهم بالنضرة و السرور، فهم ناضرة الوجوه مسرورون يومئذ كما قال: «وجوه يومئذ ناضرة»: القيامة: 22.
قوله تعالى: «و جزاهم بما صبروا جنة و حريرا» المراد بالصبر صبرهم عند المصيبة و على الطاعة و عن المعصية فإنهم ابتغوا في الدنيا وجه ربهم و قدموا إرادته على إرادتهم فصبروا على ما قضى به فيهم و أراده من المحن و مصائب الدنيا في حقهم، و صبروا على امتثال ما أمرهم به و صبروا على ترك ما نهاهم عنه و إن كان مخالفا لأهواء أنفسهم فبدل الله ما لقوه من المشقة و الكلفة نعمة و راحة.
قوله تعالى: «متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمسا و لا زمهريرا» الأرائك جمع أريكة و هو ما يتكأ عليه، و الزمهرير البرد الشديد، و المعنى حال كونهم متكئين في الجنة على الأرائك لا يرون فيها شمسا حتى يتأذوا بحرها و لا زمهريرا حتى يتأذوا ببرده.
قوله تعالى: «و دانية عليهم ظلالها و ذللت قطوفها تذليلا» الظلال جمع ظل، و دنو الظلال عليهم قربها منهم بحيث تنبسط عليهم فكان الدنو مضمن معنى الانبساط و قطوف جمع قطف بالكسر فالسكون و هو الثمرة المقطوفة المجتناة، و تذليل القطوف لهم جعلها مسخرة لهم يقطفونها كيف شاءوا من غير مانع أو كلفة.
قوله تعالى: «و يطاف عليهم بآنية من فضة و أكواب كانت قواريرا» الآنية جمع إناء كأكسية جمع كساء و هو الوعاء، و أكواب جمع كوب و هو إناء الشراب الذي لا عروة له و لا خرطوم و المراد طواف الولدان المخلدين عليهم بالآنية و أكواب الشراب كما سيأتي في قوله: «و يطوف عليهم ولدان» الآية.
قوله تعالى: «قوارير من فضة قدروها تقديرا» بدل من قوارير في الآية السابقة، و كون القوارير من فضة مبني على التشبيه البليغ أي إنها في صفاء الفضة و إن لم تكن منها حقيقة، كذا قيل.
و احتمل أن يكون بحذف مضاف و التقدير من صفاء الفضة.
و ضمير الفاعل في «قدروها» للأبرار و المراد بتقديرهم الآنية و الأكواب كونها على ما شاءوا من القدر ترويهم بحيث لا تزيد و لا تنقص كما قال تعالى: «لهم ما يشاءون فيها»: ق: 35 و قد قال تعالى قبل: «يفجرونها تفجيرا».
و يحتمل رجوع الضمير إلى الطائفين المفهوم من قوله: «يطاف عليهم» و المراد بتقديرهم الآنية و الأكواب إتيانهم بها على قدر ما أرادوا محتوية على ما اشتهوا قدر ما اشتهوا.
قوله تعالى: «و يسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا» قيل: إنهم كانوا يستطيبون الزنجبيل في الشراب فوعد الأبرار بذلك و زنجبيل الجنة أطيب و ألذ.
قوله تعالى: «عينا فيها تسمى سلسبيلا» أي من عين أو التقدير أعني أو أخص عينا.
قال الراغب: و قوله: «سلسبيلا» أي سهلا لذيذا سلسا حديد الجرية.
قوله تعالى: «و يطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا» أي ولدان دائمون على ما هم عليه من الطراوة و البهاء و صباحة المنظر، و قيل: أي مقرطون بخلدة و هي ضرب من القرط.
و المراد بحسبانهم لؤلؤا منثورا أنهم في صفاء ألوانهم و إشراق وجوههم و انعكاس أشعة بعضهم على بعض و انبثاثهم في مجالسهم كاللؤلؤ المنثور.
قوله تعالى: «و إذا رأيت ثم رأيت نعيما و ملكا كبيرا» «ثم» ظرف مكان ممحض في الظرفية، و لذا قيل: إن معنى «رأيت» الأول: رميت ببصرك، و المعنى و إذا رميت ببصرك ثم يعني الجنة رأيت نعيما لا يوصف و ملكا كبيرا لا يقدر قدره.
و قيل: «ثم» صلة محذوفة الموصول و التقدير و إذا رأيت ما ثم من النعيم و الملك، و هو كقوله: «لقد تقطع بينكم»: الأنعام: 94 و الكوفيون من النحاة يجوزون حذف الموصول و إبقاء الصلة و إن منعه البصريون منهم.
قوله تعالى: «عاليهم ثياب سندس خضر و إستبرق» إلخ الظاهر أن «عاليهم» حال من الأبرار الراجعة إليه الضمائر و «ثياب» فاعله، و السندس - كما قيل - ما رق نسجه من الحرير، و الخضر صفة ثياب و الإستبرق ما غلظ نسجه من ثياب الحرير، و هو معرب كالسندس.
و قوله: «و حلوا أساور من فضة» التحلية التزيين، و أساور جمع سوار و هو معروف، و قال الراغب: هو معرب دستواره.
و قوله: «و سقاهم ربهم شرابا طهورا» أي بالغا في التطهير لا تدع قذارة إلا أزالها و من القذارة قذارة الغفلة عن الله سبحانه و الاحتجاب عن التوجه إليه فهم غير محجوبين عن ربهم و لذا كان لهم أن يحمدوا ربهم كما قال: «و آخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين»: يونس: 10 و قد تقدم في تفسير سورة الحمد إن الحمد وصف لا يصلح له إلا المخلصون من عباد الله تعالى لقوله: «سبحان الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصين»: الصافات: 160.
و قد أسقط تعالى في قوله: «و سقاهم ربهم» الوسائط كلها و نسب سقيهم إلى نفسه، و هذا أفضل ما ذكره الله تعالى من النعيم الموهوب لهم في الجنة، و لعله من المزيد المذكور في قوله: «لهم ما يشاءون فيها و لدينا مزيد»: ق: 35.
قوله تعالى: «إن هذا كان لكم جزاء و كان سعيكم مشكورا» حكاية ما يخاطبون به من عنده تعالى عند توفيته أجرهم أو بحذف القول و التقدير و يقال لهم: إن هذا كان لكم جزاء «إلخ».
و قوله: «و كان سعيكم مشكورا» إنشاء شكر لمساعيهم المرضية و أعمالهم المقبولة، و يا لها من كلمة طيبة تطيب بها نفوسهم.
و اعلم أنه تعالى لم يذكر فيما ذكر من نعيم الجنة في هذه الآيات نساء الجنة من الحور العين و هي من أهم ما يذكره عند وصف نعم الجنة في سائر كلامه و يمكن أن يستظهر منه أنه كانت بين هؤلاء الأبرار الذين نزلت فيهم الآيات من هي من النساء.
و قال في روح المعاني،: و من اللطائف على القول بنزول السورة فيهم يعني في أهل البيت إنه سبحانه لم يذكر فيها الحور العين و إنما صرح عز و جل بولدان مخلدين رعاية لحرمة البتول و قرة عين الرسول، انتهى.
بحث روائي
في إتقان السيوطي، عن البيهقي في دلائل النبوة بإسناده عن عكرمة و الحسن بن أبي الحسن قالا: أنزل الله من القرآن بمكة اقرأ باسم ربك و ن و المزمل إلى أن قالا و ما نزل بالمدينة ويل للمطففين، و البقرة، و آل عمران، و الأنفال، و الأحزاب، و المائدة، و الممتحنة، و النساء، و إذا زلزلت، و الحديد، و محمد، و الرعد، و الرحمن، و هل أتى على الإنسان.
الحديث.
و فيه، عن ابن الضريس في فضائل القرآن بإسناده عن عثمان بن عطاء الخراساني عن أبيه عن ابن عباس قال: كان إذا نزلت فاتحة سورة بمكة كتبت بمكة ثم يزيد الله فيها ما شاء. و كان أول ما أنزل من القرآن اقرأ باسم ربك، ثم ن، ثم يا أيها المزمل إلى أن قال ثم أنزل بالمدينة سورة البقرة ثم الأنفال ثم آل عمران ثم الأحزاب ثم الممتحنة ثم النساء ثم إذا زلزلت ثم الحديد ثم القتال ثم الرعد ثم الرحمن ثم الإنسان.
الحديث.
و فيه، عن البيهقي في الدلائل بإسناده عن مجاهد عن ابن عباس أنه قال: إن أول ما أنزل الله على نبيه من القرآن اقرأ باسم ربك، و ذكر مثل حديث عكرمة و الحسين و فيه ذكر ثلاث من السور المكية التي سقطت من روايتهما و هي الفاتحة و الأعراف و كهيعص.
و في الدر المنثور، أخرج ابن الضريس و ابن مردويه و البيهقي عن ابن عباس قال: نزلت سورة الإنسان بالمدينة.
و فيه، أخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله تعالى: «و يطعمون الطعام على حبه» الآية قال: نزلت هذه الآية في علي بن أبي طالب و فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
أقول: الآية تشارك سائر آيات صدر السورة مما تقدم عليها أو تأخر عنها في سياق واحد متصل فنزولها فيهما (عليه السلام) لا ينفك نزولها جميعا بالمدينة.
و في الكشاف،: و عن ابن عباس: أن الحسن و الحسين مرضا فعادهما رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في ناس معه فقالوا: يا أبا الحسن لو نذرت على ولدك ولديك ظ فنذر علي و فاطمة و فضة جارية لهما إن برءا مما بهما أن يصوموا ثلاثة أيام فشفيا و ما معهم شيء. فاستقرض علي من شمعون الخيبري اليهودي ثلاث أصوع من شعير فطحنت فاطمة صاعا و اختبزت خمسة أقراص على عددهم فوضعوها بين أيديهم ليفطروا فوقف عليهم سائل و قال: السلام عليكم أهل بيت محمد مسكين من مساكين المسلمين أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة فآثروه و باتوا لم يذوقوا إلا الماء و أصبحوا صياما. فلما أمسوا و وضعوا الطعام بين أيديهم وقف عليهم يتيم فآثروه، و وقف عليهم أسير في الثالثة ففعلوا مثل ذلك. فلما أصبحوا أخذ علي بيد الحسن و الحسين و أقبلوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فلما أبصرهم و هم يرتعشون كالفراخ من شدة الجوع قال: ما أشد ما يسوءني ما أرى بكم فانطلق معهم فرآى فاطمة في محرابها قد التصق ظهرها ببطنها و غارت عيناها فساءه ذلك فنزل جبريل و قال: خذها يا محمد هنأك الله في أهل بيتك فأقرأه السورة: أقول: الرواية مروية بغير واحد من الطرق عن عطاء عن ابن عباس و نقلها البحراني في غاية المرام، عن أبي المؤيد الموفق بن أحمد في كتاب فضائل أمير المؤمنين بإسناده عن مجاهد عن ابن عباس، و عنه بإسناد آخر عن الضحاك عن ابن عباس و عن الحمويني في كتاب فرائد السمطين بإسناده عن مجاهد عن ابن عباس، و عن الثعلبي بإسناده عن أبي صالح عن ابن عباس، و رواه في المجمع، عن الواحدي في تفسيره.
و في المجمع، بإسناده عن الحاكم بإسناده عن سعيد بن المسيب عن علي بن أبي طالب أنه قال سألت النبي عن ثواب القرآن: فأخبرني بثواب سورة سورة على نحو ما نزلت من السماء. فأول ما نزل عليه بمكة فاتحة الكتاب ثم اقرأ باسم ربك، ثم ن إلى أن قال و أول ما نزل بالمدينة سورة البقرة ثم الأنفال ثم آل عمران ثم الأحزاب ثم الممتحنة ثم النساء ثم إذا زلزلت ثم الحديد ثم سورة محمد ثم الرعد ثم سورة الرحمن ثم هل أتى.
الحديث.
و فيه، عن أبي حمزة الثمالي في تفسيره قال: حدثني الحسن بن الحسن أبو عبد الله بن الحسن: أنها مدنية نزلت في علي و فاطمة السورة كلها.
و في تفسير القمي، عن أبيه عن عبد الله بن ميمون عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان عند فاطمة (عليها السلام) شعير فجعلوه عصيدة فلما أنضجوها و وضعوها بين أيديهم جاء مسكين فقال: مسكين رحمكم الله فقام علي (عليه السلام) فأعطاه ثلثا فلم يلبث أن جاء يتيم فقال: اليتيم رحمكم الله فقام علي (عليه السلام) فأعطاه الثلث ثم جاء أسير فقال: الأسير رحمكم الله فأعطاه علي (عليه السلام) الثلث و ما ذاقوها فأنزل الله سبحانه الآيات فيهم و هي جارية في كل مؤمن فعل ذلك لله عز و جل.
أقول: القصة كما ترى ملخصة في الرواية و روى ذلك البحراني في غاية المرام، عن المفيد في الاختصاص، مسندا و عن ابن بابويه في الأمالي، بإسناده عن مجاهد عن ابن عباس، و بإسناده عن سلمة بن خالد عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليه السلام)، و عن محمد بن العباس بن ماهيار في تفسيره بإسناده عن أبي كثير الزبيري عن عبد الله بن عباس، و في المناقب، أنه مروي عن الأصبغ بن نباتة.
و في الاحتجاج، عن علي (عليه السلام): في حديث يقول فيه للقوم بعد موت عمر بن الخطاب: نشدتكم بالله هل فيكم أحد نزل فيه و في ولده «إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا» إلى آخر السورة غيري؟ قالوا: لا.
و في كتاب الخصال، في احتجاج علي على أبي بكر قال: أنشدك بالله أنا صاحب الآية «يوفون بالنذر و يخافون يوما كان شره مستطيرا» أم أنت؟ قال: بل أنت.
و في الدر المنثور، أخرج الطبراني و ابن مردويه و ابن عساكر عن ابن عمر قال: جاء رجل من الحبشة إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): سل و استفهم فقال: يا رسول الله فضلتم علينا بالألوان و الصور و النبوة أ فرأيت إن آمنت بما آمنت به و عملت بمثل ما عملت به إني لكائن معك في الجنة؟ قال: نعم والذي نفسي بيده إنه ليرى بياض الأسود في الجنة من مسيرة ألف عام. ثم قال: من قال لا إله إلا الله كان له عهد عند الله و من قال: سبحان الله و بحمده كتبت له مائة ألف حسنة و أربعة و عشرون ألف حسنة و نزلت عليه السورة هل أتى على الإنسان حين من الدهر إلى قوله: ملكا كبيرا. فقال الحبشي: و إن عيني لترى ما ترى عيناك في الجنة؟ قال: نعم فاشتكى حتى فاضت نفسه. قال عمر: فلقد رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يدليه في حفرته بيده.
و فيه، أخرج أحمد في الزهد عن محمد بن مطرف قال: حدثني الثقة: أن رجلا أسود كان يسأل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن التسبيح و التهليل فقال له عمر بن الخطاب: مه أكثرت على رسول الله فقال: مه يا عمر و أنزلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) «هل أتى على الإنسان حين من الدهر» حتى إذا أتى على ذكر الجنة زفر الأسود زفرة خرجت نفسه فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): مات شوقا إلى الجنة.
و فيه، أخرج ابن وهب عن ابن زيد أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قرأ هذه السورة هل أتى على الإنسان حين من الدهر و قد أنزلت عليه و عنده رجل أسود فلما بلغ صفة الجنان زفر زفرة فخرجت نفسه فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أخرج نفس صاحبكم الشوق إلى الجنة.
أقول: و هذه الروايات الثلاث على تقدير صحتها لا تدل على أزيد من كون نزول السورة مقارنا لقصة الرجل و أما كونها سببا للنزول فلا، و هذا المعنى في الرواية الأخيرة أظهر و بالجملة لا تنافي الروايات الثلاث نزول السورة في أهل البيت (عليهم السلام).
على أن رواية ابن عمر للقصة الظاهرة في حضوره القصة و قد هاجر إلى المدينة و هو ابن إحدى عشرة سنة من شواهد وقوع القصة بالمدينة.
و في الدر المنثور، أيضا أخرج النحاس عن ابن عباس قال: نزلت سورة الإنسان بمكة.
أقول: هو تلخيص حديث طويل أورده النحاس في كتاب الناسخ و المنسوخ، و قد نقله في الإتقان و هو معارض لما تقدم نقله مستفيضا عن ابن عباس من نزول السورة بالمدينة و أنها نزلت في أهل البيت (عليهم السلام).
على أن سياق آياتها و خاصة قوله يوفون بالنذر و يطعمون الطعام» إلخ سياق قصة واقعة و ذكر الأسير فيمن أطعموهم نعم الشاهد على نزول الآيات بالمدينة إذ لم يكن للمسلمين أسير بمكة كما تقدمت الإشارة إلى ذلك.
قال بعضهم ما ملخصه: أن الروايات مختلفة في مكية هذه السورة و مدنيتها و الأرجح أنها مكية بل الظاهر من سياقها أنها من عتائق السور القرآنية النازلة بمكة في أوائل البعثة يؤيد ذلك ما ورد فيها من صور النعم الحسية المفصلة الطويلة و صور العذاب الغليظ كما يؤيده ما ورد فيها من أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالصبر لحكم ربه و أن لا يطيع منهم آثما أو كفورا و يثبت على ما نزل عليه من الحق و لا يداهن المشركين من الأوامر التي كانت تنزل بمكة عند اشتداد الأذى على الدعوة و أصحابها بمكة كما في سورة القلم و المزمل و المدثر فلا عبرة باحتمال مدنية السورة.
و هو فاسد أما ما ذكره من اشتمال السورة على صور النعم الحسية المفصلة الطويلة و صور العذاب الغليظ فليس ذلك مما يختص بالسور المكية حتى يقضى بها على كون السورة مكية فهذه سورة الرحمن و سورة الحج مدنيتان على ما تقدمت في الروايات المشتملة على ترتيب نزول السور القرآنية و قد اشتملتا من صور النعم الحسية المفصلة الطويلة و صور العذاب الغليظ على ما يربو و يزيد على هذه السورة بكثير.
و أما ما ذكره من اشتمال السورة على أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالصبر و أن لا يطيع منهم آثما أو كفورا و لا يداهنهم و يثبت على ما نزل عليه من الحق ففيه أن هذه الأوامر واقعة في الفصل الثاني من آيات السورة و هو قوله: «إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا» إلى آخر السورة و من المحتمل جدا أن يكون هذا الفصل من الآيات - و هو ذو سياق تام مستقل - نازلا بمكة، و يؤيده ما في كثير من الروايات المتقدمة أن الذي نزل في أهل البيت بالمدينة هو الفصل الأول من الآيات، و على هذا أول السورة مدني و آخرها مكي.
و لو سلم نزولها دفعة واحدة فأمره (صلى الله عليه وآله وسلم) بالصبر لا اختصاص له بالسور المكية فقد ورد في قوله: «و اصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة و العشي يريدون وجهه و لا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا و لا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا و اتبع هواه و كان أمره فرطا»: الكهف: 28 و الآية - على ما روي - مدنية و الآية - كما ترى - متحدة المعنى مع قوله: «فاصبر لحكم ربك» إلخ و هي في سياق شبيه جدا بسياق هذه الآيات فراجع و تأمل.
ثم الذي كان يلقاه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من أذى المنافقين و الذين في قلوبهم مرض و الجفاة من ضعفاء الإيمان لم يكن بأهون من أذى المشركين بمكة يشهد بذلك أخبار سيرته.
و لا دليل أيضا على انحصار الإثم و الكفور في مشركي مكة فهناك غيرهم من الكفار و قد أثبت القرآن الإثم لجمع من المسلمين في موارد كقوله: «لكل امرىء منهم ما اكتسب من الإثم»: النور: 11، و قوله: «و من يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا و إثما مبينا»: النساء: 112.
و في المجمع، و روى العياشي بإسناده عن عبد الله بن بكير عن زرارة قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قوله: «لم يكن شيئا مذكورا» قال: كان شيئا و لم يكن مذكورا.
أقول: و روي فيه، أيضا عن عبد الأعلى مولى آل سام عن أبي عبد الله (عليه السلام): مثله.
و فيه، أيضا عن العياشي بإسناده عن سعيد الحذاء عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كان مذكورا في العلم و لم يكن مذكورا في الخلق.
أقول: يعني أنه كان له ثبوت في علم الله ثم خلق بالفعل فصار مذكورا فيمن خلق.
و في الكافي، بإسناده عن مالك الجهني عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الآية قال: كان مقدرا غير مذكور.
أقول: هو في معنى الحديث السابق.
و في تفسير القمي،: في الآية قال: لم يكن في العلم و لا في الذكر، و في حديث آخر: كان في العلم و لم يكن في الذكر.
أقول: معنى الحديث الأول أنه لم يكن في علم الناس و لا فيمن يذكرونه فيما بينهم، و معنى الثاني أنه كان في علم الله و لم يكن مذكورا عند الناس.
و في تفسير القمي، أيضا في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى «أمشاج نبتليه» قال: ماء الرجل و المرأة اختلطا جميعا.
و في الكافي، بإسناده عن حمران بن أعين قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قوله عز و جل، «إنا هديناه السبيل إما شاكرا و إما كفورا» قال: إما آخذ فهو شاكر و إما تارك فهو كافر.
أقول: و رواه القمي في تفسيره، بإسناده عن ابن أبي عمير عن أبي جعفر (عليه السلام) مثله.
و في التوحيد، بإسناده إلى حمزة بن الطيار عن أبي عبد الله (عليه السلام) ما يقرب منه و لفظه: عرفناه إما آخذا و إما تاركا.
و في الدر المنثور، أخرج أحمد و ابن المنذر عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): كل مولود يولد على الفطرة حتى يعبر عنه لسانه فإذا عبر عنه لسانه إما شاكرا و إما كفورا و الله تعالى أعلم.
و في أمالي الصدوق، بإسناده عن الصادق عن أبيه (عليه السلام) في حديث: «عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا» قال: هي عين في دار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يفجر إلى دور الأنبياء و المؤمنين «يوفون بالنذر» يعني عليا و فاطمة و الحسن و الحسين (عليهما السلام) و جاريتهم «و يخافون يوما كان شره مستطيرا» يقول عابسا كلوحا «و يطعمون الطعام على حبه» يقول: على شهوتهم للطعام و إيثارهم له «مسكينا» من مساكين المسلمين «و يتيما» من يتامى المسلمين «و أسيرا» من أسارى المشركين. و يقولون إذا أطعموهم: «إنما نطعمكم لوجه الله - لا نريد منكم جزاء و لا شكورا» قال: و الله ما قالوا هذا لهم و لكنهم أضمروه في أنفسهم فأخبر الله بإضمارهم يقولون: لا نريد جزاء تكافئوننا به و لا شكورا تثنون علينا به، و لكنا إنما أطعمناكم لوجه الله و طلب ثوابه.
و في الدر المنثور، أخرج سعيد بن منصور و ابن أبي شيبة و ابن المنذر و ابن مردويه عن الحسن قال: كان الأسارى مشركين يوم نزلت هذه الآية «و يطعمون الطعام على حبه مسكينا و يتيما و أسيرا.
أقول: مدلول الرواية نزول الآية بالمدينة، و نظيرها ما رواه فيه عن عبد بن حميد عن قتادة، و ما رواه عن ابن المنذر عن ابن جريح، و ما رواه عن عبد الرزاق و ابن المنذر عن ابن عباس.
و فيه، أخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في قوله: «يوما عبوسا قمطريرا» قال: يقبض ما بين الأبصار.
و في روضة الكافي، بإسناده عن محمد بن إسحاق المدني عن أبي جعفر (عليه السلام) في صفة الجنة قال: و الثمار دانية منهم و هو قوله عز و جل: «و دانية عليهم ظلالها - و ذللت قطوفها تذليلا» من قربها منهم يتناول المؤمن من النوع الذي يشتهيه من الثمار بفيه و هو متكىء و إن الأنواع من الفاكهة ليقلن لولي الله: يا ولي الله كلمني قبل أن تأكل هذه قبلي.
و في تفسير القمي،: في قوله: «ولدان مخلدون «قال: مسورون.
و في المعاني، بإسناده عن عباس بن يزيد قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) و كنت عنده ذات يوم: أخبرني عن قول الله عز و جل: «و إذا رأيت ثم رأيت نعيما و ملكا كبيرا» ما هذا الملك الذي كبر الله عز و جل حتى سماه كبيرا؟ قال: إذا أدخل الله أهل الجنة الجنة أرسل رسولا إلى ولي من أوليائه فيجد الحجبة على بابه فتقول له: قف حتى نستأذن لك، فما يصل إليه رسول ربه إلا بإذن فهو قوله عز و جل: «و إذا رأيت ثم رأيت نعيما و ملكا كبيرا».
و في المجمع،: «و إذا رأيت ثم رأيت نعيما و ملكا كبيرا» لا يزول و لا يفنى: عن الصادق (عليه السلام).
و فيه،: «عاليهم ثياب سندس خضر» و روي عن الصادق (عليه السلام) في معناه: تعلوهم الثياب فيلبسونها.
كلام في هوية الإنسان على ما يفيده القرآن
لا ريب أن في هذا الهيكل المحسوس الذي نسميه إنسانا مبدأ للحياة ينتسب إليه الشعور و الإرادة، و قد عبر تعالى عنه في الكلام في خلق الإنسان - آدم - بالروح و في سائر المواضع من كلامه بالنفس قال تعالى: «فإذا سويته و نفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين»: الحجر: 29 ص: 72، و قال: «ثم سواه و نفخ فيه من روحه»: الم السجدة: 9.
و الذي يسبق من الآيتين إلى النظر البادىء أن الروح و البدن حقيقتان اثنتان متفارقتان نظير العجين المركب من الماء و الدقيق و الإنسان مجموع الحقيقتين فإذا قارنت الروح الجسد كان إنسانا حيا و إذا فارقت فهو الموت.
لكن يفسرها قوله تعالى: «قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم»: الم السجدة: 11 حيث يفيد أن الروح التي يتوفاها و يأخذها قابض الأرواح هي التي يعبر عنها بلفظة «كم» و هو الإنسان بتمام حقيقته لا جزء من مجموع فالمراد بنفخ الروح في الجسد جعل الجسد بعينه إنسانا لا ضم واحد إلى واحد آخر يغايره في ذاته و آثار ذاته فالإنسان حقيقة واحدة حين تعلق روحه ببدنه و بعد مفارقة روحه البدن.
و يفيد هذا المعنى قوله تعالى: «و لقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر»: المؤمنون: 14 فالذي أنشأه الله خلقا آخر هو النطفة التي تكونت علقة ثم مضغة ثم عظاما بعينها.
و في معناها قوله تعالى: «هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا» فتقييد الشيء المنفي بالمذكور يعطي أنه كان شيئا لكن لم يكن مذكورا فقد كان أرضا أو نطفة مثلا لكن لم يكن مذكورا أنه الإنسان الفلاني ثم صار هو هو.
فمفاد كلامه تعالى أن الإنسان واحد حقيقي هو المبدأ الوحيد لجميع آثار البدن الطبيعية و الآثار الروحية كما أنه مجرد في نفسه عن المادة كما يفيده أمثال قوله تعالى: «قل يتوفاكم ملك الموت» و قوله: «الله يتوفى الأنفس حين موتها»: الزمر: 42 و قوله: «ثم أنشأناه خلقا آخر» و قد تقدم بيانه.
|