بيان
لما وصف جزاء الأبرار و ما قدر لهم من النعيم المقيم و الملك العظيم بما صبروا في جنب الله وجه الخطاب إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أمره بالصبر لحكم ربه و أن لا يطيع هؤلاء الآثمين و الكفار المحبين للعاجلة المتعلقين بها المعرضين عن الآخرة من المشركين و سائر الكفار و المنافقين و أهل الأهواء، و أن يذكر اسم ربه و يسجد له و يسبحه مستمرا عليه ثم عمم الحكم لأمته بقوله: «إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا».
فهذا وجه اتصال الآيات بما قبلها و سياقها مع ذلك لا يخلو من شبه بالسياقات المكية و على تقدير مكيتها فصدر السورة مدني و ذيلها مكي.
قوله تعالى: «إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا» تصدير الكلام بأن و تكرار ضمير المتكلم مع الغير و الإتيان بالمفعول المطلق كل ذلك للتأكيد، و لتسجيل أن الذي نزل من القرآن نجوما متفرقة هو من الله سبحانه لم يداخله نفث شيطاني و لا هو نفساني.
قوله تعالى: «فاصبر لحكم ربك و لا تطع منهم آثما أو كفورا» تفريع على ما هو لازم مضمون الآية السابقة فإن لازم كون الله سبحانه هو الذي نزل القرآن عليه أن يكون ما في القرآن من الحكم حكم ربه يجب أن يطاع فالمعنى إذا كان تنزيله منا فما فيه من الحكم حكم ربك فيجب عليك أن تصبر له فاصبر لحكم ربك.
و قوله «و لا تطع منهم آثما أو كفورا» ورود الترديد في سياق النهي يفيد عموم الحكم فالنهي عن طاعتهما سواء اجتمعا أو افترقا، و الظاهر أن المراد بالإثم المتلبس بالمعصية و بالكفور المبالغ في الكفر فتشمل الآية الكفار و الفساق جميعا.
و سبق النهي عن طاعة الإثم و الكفور بالأمر بالصبر لحكم ربه يفيد كون النهي مفسرا للأمر فمفاد النهي أن لا تطع منهم آثما إذا دعاك إلى إثمه و لا كفورا إذا دعاك إلى كفره لأن إثم الآثم منهم و كفر الكافر مخالفان لحكم ربك و أما تعليق الحكم بالوصف المشعر بالعلية فإنما يفيد علية الإثم و الكفر للنهي عن الطاعة مطلقا لا عليتهما للنهي إذا دعا الآثم إلى خصوص إثمه و الكافر إلى خصوص كفره.
قوله تعالى: «و اذكر اسم ربك بكرة و أصيلا» أي داوم على ذكر ربك و هو الصلاة في كل بكرة و أصيل و هما الغدو و العشي.
قوله تعالى: «و من الليل فاسجد له و سبحه ليلا طويلا» من للتبعيض و المراد بالسجود له الصلاة، و يقبل ما في الآيتين من ذكر اسمه بكرة و أصيلا و السجود له بعض الليل الانطباق على صلاة الصبح و العصر و المغرب و العشاء و هذا يؤيد نزول الآيات بمكة قبل فرض الفرائض الخمس بقوله في آية الإسراء: «أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل و قرآن الفجر»: إسراء: 78.
فالآيتان كقوله تعالى: «و أقم الصلاة طرفي النهار و زلفا من الليل»: هود: 114، و قوله «و سبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس و قبل غروبها و من آناء الليل فسبح و أطراف النهار»: طه: 130.
نعم قيل: على أن الأصيل يطلق على ما بعد الزوال فيشمل قوله «و أصيلا» وقتي صلاتي الظهر و العصر جميعا، و لا يخلو من وجه.
و قوله: «و سبحه ليلا طويلا» أي في ليل طويل و وصف الليل بالطويل توضيحي لا احترازي، و المراد بالتسبيح صلاة الليل، و احتمل أن يكون طويلا صفة لمفعول مطلق محذوف، و التقدير سبحه في الليل تسبيحا طويلا.
قوله تعالى: «إن هؤلاء يحبون العاجلة و يذرون وراءهم يوما ثقيلا» تعليل لما تقدم من الأمر و النهي و الإشارة بهؤلاء إلى جمع الإثم و الكفور المدلول عليه بوقوع النكرة في سياق النهي، و المراد بالعاجلة الحياة الدنيا، و عد اليوم ثقيلا من الاستعارة، و المراد بثقله شدته كأنه محمول ثقيل يشق حمله، و اليوم يوم القيامة.
و كون اليوم وراءهم تقرره أمامهم لأن وراء تفيد معنى الإحاطة، أو جعلهم إياه خلفهم و وراء ظهورهم بناء على إفادة «يذرون» معنى الإعراض.
و المعنى: فاصبر لحكم ربك و أقم الصلاة و لا تطع الآثمين و الكفار منهم لأن هؤلاء الآثمين و الكفار يحبون الحياة الدنيا فلا يعملون إلا لها و يتركون أمامهم يوما شديدا أو يعرضون فيجعلون خلفهم يوما شديدا سيلقونه.
قوله تعالى: «نحن خلقناهم و شددنا أسرهم و إذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا» الشد خلاف الفك، و الأسر في الأصل الشد و الربط و يطلق على ما يشد و يربط به فمعنى شددنا أسرهم أحكمنا ربط مفاصلهم بالرباطات و الأعصاب و العضلات أو الأسر بمعنى المأسور و المعنى أحكمنا ربط أعضائهم المختلفة المشدودة بعضها ببعض حتى صار الواحد منهم بذلك إنسانا واحدا.
و قوله: «و إذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا» أي إذا شئنا بدلناهم أمثالهم فذهبنا بهم و جئنا بأمثالهم مكانهم و هو أماته قرن و إحياء آخرين، و قيل المراد به تبديل نشأتهم الدنيا من نشأة القيامة و هو بعيد من السياق.
و الآية في معنى دفع الدخل كان متوهما يتوهم أنهم بحبهم للدنيا و إعراضهم عن الآخرة يعجزونه تعالى و يفسدون عليه إرادته منهم أن يؤمنوا و يطيعوا فأجيب بأنهم مخلوقون لله خلقهم و شد أسرهم و إذا شاء أذهبهم و جاء بآخرين فكيف يعجزونه و خلقهم و أمرهم و حياتهم و موتهم بيده؟.
قوله تعالى: «إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا» تقدم تفسيره في سورة المزمل و الإشارة بهذه إلى ما ذكر في السورة.
قوله تعالى: «و ما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما» الاستثناء من النفي يفيد أن مشية العبد متوقفة في وجودها على مشيته تعالى فلمشيته تعالى تأثير في فعل العبد من طريق تعلقها بمشية العبد، و ليست متعلقة بفعل العبد مستقلا و بلا واسطة حتى تستلزم بطلان تأثير إرادة العبد و كون الفعل جبريا و لا أن العبد مستقل في إرادة يفعل ما يشاؤه شاء الله أو لم يشأ، فالفعل اختياري لاستناده إلى اختيار العبد، و أما اختيار العبد فليس مستندا إلى اختيار آخر، و قد تكرر توضيح هذا البحث في مواضع مما تقدم.
و الآية مسوقة لدفع توهم أنهم مستقلون في مشيتهم منقطعون من مشية ربهم، و لعل تسجيل هذا التنبيه عليهم هو الوجه في الالتفات إلى الخطاب في قوله «و ما تشاءون إلا أن يشاء الله» كما أن الوجه في الالتفات من التكلم بالغير إلى الغيبة في قوله: «يشاء الله إن الله» هو الإشارة إلى علة الحكم فإن مسمى هذا الاسم الجليل يبتدىء منه كل شيء و ينتهي إليه كل شيء فلا تكون مشية إلا بمشيته و لا تؤثر مشية إلا بإذنه.
و قوله: «إن الله كان عليما حكيما» توطئة لبيان مضمون الآية التالية.
قوله تعالى: «يدخل من يشاء في رحمته و الظالمين أعد لهم عذابا أليما» مفعول «يشاء» محذوف يدل عليه الكلام، و التقدير يدخل في رحمته من يشاء دخوله في رحمته، و لا يشاء إلا دخول من آمن و اتقى، و أما غيرهم و هم أهل الإثم و الكفر فبين حالهم بقوله: «و الظالمين أعد لهم عذابا أليما».
و الآية تبين سنته تعالى الجارية في عباده من حيث السعادة و الشقاء، و قد علل ذلك بما في ذيل الآية السابقة من قوله «إن الله كان عليما حكيما» فأفاد به أن سنته تعالى ليست سنة جزافية مبنية على الجهالة بل هو يعامل كلا من الطائفتين بما هو أهل له و سينبئهم حقيقة ما كانوا يعملون.
بحث روائي
و في الدر المنثور، أخرج عبد بن حميد و ابن جرير و ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: «و لا تطع منهم آثما أو كفورا» قال: حدثنا أنها نزلت في عدو الله أبي جهل.
أقول: و هو أشبه بالتطبيق.
و في المجمع،: في قوله تعالى «و سبحه ليلا طويلا»: روي عن الرضا (عليه السلام): أنه سأله أحمد بن محمد عن هذه الآية و قال: ما ذلك التسبيح؟ قال: صلاة الليل.
و في الخرائج و الجرائح، عن القائم (عليه السلام): في حديث يقول لكامل بن إبراهيم المدني: و جئت تسأل عن مقالة المفوضة كذبوا بل قلوبنا أوعية لمشية الله عز و جل فإذا شاء شئنا، و الله يقول «و ما تشاءون إلا أن يشاء الله».
و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه من طريق ابن شهاب عن سالم عن أبي هريرة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يقول إذا خطب: كل ما هو آت قريب، لا بعد لما يأتي، و لا يعجل الله لعجلة أحد، ما شاء الله لا ما شاء الناس، يريد الناس أمرا و يريد الله أمرا، ما شاء الله كان و لو كره الناس، لا مباعد لما قرب الله، و لا مقرب لما باعد الله، لا يكون شيء إلا بإذن الله.
أقول: و في بعض الروايات من طرق أهل البيت (عليهم السلام) تطبيق الحكم في قوله: «فاصبر لحكم ربك» و الرحمة في قوله: «يدخل من يشاء في رحمته» على الولاية و هو من الجري أو البطن و ليس من التفسير في شيء.
|