بيان
حجج دالة على توحد الربوبية تقضي بوجود يوم الفصل الذي فيه جزاء المكذبين به، و إشارة إلى ما فيه من الجزاء المعد لهم الذي كانوا يكذبون به، و إلى ما فيه من النعمة و الكرامة للمتقين، و تختتم بتوبيخهم و ذمهم على استكبارهم عن عبادته تعالى و الإيمان بكلامه.
قوله تعالى: «أ لم نهلك الأولين ثم نتبعهم الآخرين كذلك نفعل بالمجرمين» الاستفهام للإنكار، و المراد بالأولين أمثال قوم نوح و عاد و ثمود من الأمم القديمة عهدا، و بالآخرين الملحقون بهم من الأمم الغابرة، و الإتباع جعل الشيء أثر الشيء.
و قوله: «ثم نتبعهم» برفع نتبع على الاستيناف و ليس بمعطوف على «نهلك» و إلا لجزم.
و المعنى قد أهلكنا المكذبين من الأمم الأولين ثم إنا نهلك الأمم الآخرين على أثرهم.
و قوله: «كذلك نفعل بالمجرمين» في موضع التعليل لما تقدمه و لذا أورد بالفصل من غير عطف كان قائلا قال: لما ذا أهلكوا؟ فقيل: كذلك نفعل بالمجرمين.
و الآيات - كما ترى - إنذار و إرجاع للبيان إلى الأصل المضروب في السورة أعني قوله: «ويل يومئذ للمكذبين» و هي بعينها حجة على توحد الربوبية فإن إهلاك المجرمين من الإنسان تصرف في العالم الإنساني و تدبير، و إذ ليس المهلك إلا الله - و قد اعترف به المشركون - فهو الرب لا رب سواه و لا إله غيره.
على أنها تدل على وجود يوم الفصل لأن إهلاك قوم لإجرامهم لا يتم إلا بعد توجه تكليف إليهم يعصونه و لا معنى للتكليف إلا مع مجازاة المطيع بالثواب و العاصي بالعقاب فهناك يوم يفصل فيه القضاء فيثاب فيه المطيع و يعاقب فيه العاصي و ليس هو الثواب و العقاب الدنيويين لأنهما لا يستوعبان في هذه الدار فهناك يوم يجازى فيه كل بما عمل، و هو يوم الفصل ذلك يوم مجموع له الناس.
قوله تعالى: «أ لم نخلقكم من ماء مهين - إلى قوله - فنعم القادرون» الاستفهام للإنكار و الماء المهين الحقير قليل الغناء و المراد به النطفة، و المراد بالقرار المكين الرحم و بقوله: «قدر معلوم» مدة الحمل.
و قوله: «فقدرنا» من القدر بمعنى التقدير، و الفاء لتفريع القدر على الخلق أي خلقناكم فقدرنا ما سيجري عليكم من الحوادث و ما يستقبلكم من الأوصاف و الأحوال من طول العمر و قصره و هيئة و جمال و صحة و مرض و رزق إلى غير ذلك.
و احتمل أن يكون «قدرنا» من القدرة مقابل العجز و المراد فقدرنا على جميع ذلك، و ما تقدم أوجه.
و المعنى: قد خلقناكم من ماء حقير هو النطفة فجعلنا ذلك الماء في قرار مكين هي الرحم إلى مدة معلومة هي مدة الحمل فقدرنا جميع ما يتعلق بوجودكم من الحوادث و الصفات و الأحوال فنعم المقدرون نحن.
و يجري في كون مضمون هذه الآيات حجة على توحد الربوبية نظير البيان السابق في الآيات المتقدمة، و كذا في كونه حجة على تحقق يوم الفصل فإن الربوبية تستوجب خضوع المربوبين لساحتها و هو الدين المتضمن للتكليف، و لا يتم التكليف إلا بجعل جزاء على الطاعة و العصيان، و اليوم الذي يجازى فيه بالأعمال هو يوم الفصل.
قوله تعالى: «أ لم نجعل الأرض كفاتا أحياء و أمواتا - إلى قوله - فراتا» الكفت و الكفات بمعنى الضم و الجمع أي أ لم نجعل الأرض كفاتا يجمع العباد أحياء و أمواتا، و قيل: الكفات جمع كفت بمعنى الوعاء، و المعنى أ لم نجعل الأرض أوعية تجمع الأحياء و الأموات.
و قوله: «و جعلنا فيها رواسي شامخات» الرواسي الثابتات من الجبال، و الشامخات العاليات، و كان في ذكر الرواسي توطئة لقوله: «و أسقيناكم ماء فراتا» لأن الأنهار و العيون الطبيعية تنفجر من الجبال فتجري على السهول، و الفرات الماء العذب.
و يجري في حجية الآيات نظير البيان السابق في الآيات المتقدمة.
قوله تعالى: «انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون» حكاية لما يقال لهم يوم الفصل و القائل هو الله سبحانه بقرينة قوله في آخر الآيات: «إن كان لكم كيد فكيدون» و المراد بما كانوا به يكذبون: جهنم، و الانطلاق الانتقال من مكان إلى مكان من غير مكث، و المعنى يقال لهم: انتقلوا من المحشر من غير مكث إلى النار التي كنتم تكذبون به.
قوله تعالى: «انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب» ذكروا أن المراد بهذا الظل ظل دخان نار جهنم قال تعالى: «و ظل من يحموم»: الواقعة: 43.
و ذكروا أن في ذكر انشعابه إلى ثلاث شعب إشارة إلى عظم الدخان فإن الدخان العظيم يتفرق تفرق الذوائب.
قوله تعالى: «لا ظليل و لا يغني من اللهب» الظل الظليل هو المانع من الحر و الأذى بستره على المستظل فكون الظل غير ظليل كونه لا يمنع ذلك، و اللهب ما يعلو على النار من أحمر و أصفر و أخضر.
قوله تعالى: «إنها ترمي بشرر كالقصر كأنه جمالة صفر» ضمير أنها للنار المعلومة من السياق، و الشرر ما يتطاير من النار، و القصر معروف، و الجمالة جمع جمل و هو البعير.
و المعنى ظاهر.
قوله تعالى: «هذا يوم لا ينطقون و لا يؤذن لهم فيعتذرون» الإشارة إلى يوم الفصل، و المراد بالإذن الإذن في النطق أو في الاعتذار.
و قوله: «فيعتذرون» معطوف على «يؤذن» منتظم معه في سلك النفي، و المعنى هذا اليوم يوم لا ينطقون فيه أي أهل المحشر من الناس و لا يؤذن لهم في النطق أو في الاعتذار فلا يعتذرون، و لا ينافي نفي النطق هاهنا إثباته في آيات أخر لأن اليوم ذو مواقف كثيرة مختلفة يسألون في بعضها فينطقون و يختم على أفواههم في آخر فلا ينطقون.
و قد تقدم في تفسير قوله تعالى: «يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه»: هود: 105 فليراجع.
قوله تعالى: «هذا يوم الفصل جمعناكم و الأولين فإن كان لكم كيد فكيدون» سمي يوم الفصل لما أن الله تعالى يفصل و يميز فيه بين أهل الحق و أهل الباطل بالقضاء بينهم قال تعالى: «إن ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون»: السجدة: 25، و قال: «إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون»: يونس: 93.
و الخطاب في قوله: «جمعناكم و الأولين» لمكذبي هذه الأمة بما أنهم من الآخرين و لذا قوبلوا بالأولين قال تعالى: «ذلك يوم مجموع له الناس»: هود: 103 و قال «و حشرناهم فلم نغادر منهم أحدا»: الكهف: 67.
و قوله: «فإن كان لكم كيد فكيدون» أي إن كانت لكم حيلة تحتالون بي في دفع عذابي عن أنفسكم فاحتالوا، و هذا خطاب تعجيزي منبىء عن انسلاب القوة و القدرة عنهم يومئذ بالكلية بظهور أن لا قوة إلا لله عز اسمه قال تعالى: «و لو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا و أن الله شديد العذاب إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا و رأوا العذاب و تقطعت بهم الأسباب»: البقرة: 166.
و الآية أعني قوله: «إن كان لكم كيد فكيدون» أوسع مدلولا من قوله: «يا معشر الجن و الإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات و الأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان»: الرحمن: 33 لاختصاصه بنفي القدرة على الفرار بخلاف الآية التي نحن فيها و في قوله: «فكيدون» التفات من التكلم مع الغير إلى التكلم وحده و النكتة فيه أن متعلق هذا الأمر التعجيزي إنما هو الكيد لمن له القوة و القدرة فحسب و هو الله وحده و لو قيل: فكيدونا فأت الإشعار بالتوحد.
قوله تعالى: «إن المتقين في ظلال و عيون و فواكه مما يشتهون - إلى قوله - المحسنين» الظلال و العيون ظلال الجنة و عيونها التي يتنعمون بالاستظلال بها و شربها، و الفواكه جمع فاكهة و هي الثمرة.
و قوله: «كلوا و اشربوا هنيئا بما كنتم تعملون» مفاده الإذن و الإباحة، و كان الأكل و الشرب كناية عن مطلق التنعم بنعم الجنة و التصرف فيها و إن لم يكن بالأكل و الشرب، و هو شائع كما يطلق أكل المال على مطلق التصرف فيه.
و قوله: «إنا كذلك نجزي المحسنين» تسجيل لسعادتهم.
قوله تعالى: «كلوا و تمتعوا قليلا إنكم مجرمون» الخطاب من قبيل قولهم: افعل ما شئت فإنه لا ينفعك، و هذا النوع من الأمر إياس للمخاطب أن ينتفع بما يأتي به من الفعل للحصول على ما يريده، و منه قوله: «فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا»: طه: 72، و قوله: «اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير»: حم السجدة: 40.
فقوله: «كلوا و تمتعوا قليلا» أي تمتعا قليلا أو زمانا قليلا إياس لهم من أن ينتفعوا بمثل الأكل و التمتع في دفع العذاب عن أنفسهم فليأكلوا و ليتمتعوا قليلا فليس يدفع عنهم شيئا.
و إنما ذكر الأكل و التمتع لأن منكري المعاد لا يرون من السعادة إلا سعادة الحياة الدنيا و لا يرون لها من السعادة إلا الفوز بالأكل و التمتع كالحيوان العجم قال تعالى: «و الذين كفروا يتمتعون و يأكلون كما تأكل الأنعام و النار مثوى لهم»: سورة محمد: 12.
و قوله: «إنكم مجرمون» تعليل لما يستفاد من الجملة السابقة المشتملة على الأمر أي لا ينفعكم الأكل و التمتع قليلا لأنكم مجرمون بتكذيبكم بيوم الفصل و جزاء المكذبين به النار لا محالة.
قوله تعالى: «و إذا قيل لهم اركعوا لا يركعون» المراد بالركوع الصلاة كما قيل و لعل ذلك باعتبار اشتمالها على الركوع.
و قيل: المراد بالركوع المأمور به الخشوع و الخضوع و التواضع له تعالى باستجابة دعوته و قبول كلامه و اتباع دينه، و عبادته.
و قيل: المراد بالركوع ما يؤمرون بالسجود يوم القيامة كما يشير إليه قوله تعالى «و يدعون إلى السجود فلا يستطيعون»: القلم: 42 و الوجهان لا يخلوان من بعد.
و وجه اتصال الآية بما قبلها أن الكلام كان مسوقا لتهديد المكذبين بيوم الفصل و بيان تبعة تكذيبهم به و تمم ذلك في هذه الآية بأنهم لا يعبدون الله إذا دعوا إلى عبادته كما ينكرون ذلك اليوم فلا معنى للعبادة مع نفي الجزاء، و ليكون كالتوطئة لقوله الآتي: «فبأي حديث بعده يؤمنون».
و نسب إلى الزمخشري أن الآية متصلة بقوله في الآية السابقة: «للمكذبين» كأنه قيل: ويل يومئذ للذين كذبوا و الذين إذا قيل لهم اركعوا لا يركعون.
و في الآية التفات من الخطاب إلى الغيبة في قوله: «و إذا قيل لهم» إلخ وجهه الإعراض عن مخاطبتهم بعد تركهم و أنفسهم يفعلون ما يشاءون بقوله: «كلوا و تمتعوا».
قوله تعالى: «فبأي حديث بعده يؤمنون» أي إذا لم يؤمنوا بالقرآن و هو آية معجزة إلهية، و قد بين لهم أن الله لا إله إلا هو وحده لا شريك له و أن أمامهم يوم الفصل بأوضح البيان و ساطع البرهان فبأي كلام بعد القرآن يؤمنون.
و هذا إيئاس من إيمانهم بالله و رسوله و اليوم الآخر و كالتنبيه على أن رفع اليد عن دعوتهم إلى الإيمان بإلقاء قوله: «كلوا و تمتعوا» إليهم في محله فليسوا بمؤمنين و لا فائدة في دعوتهم غير أن فيها إتماما للحجة.
بحث روائي
في تفسير القمي،: و قوله: «أ لم نخلقكم من ماء مهين» قال: منتن «فجعلناه في قرار مكين» قال: في الرحم و أما قوله: «إلى قدر معلوم» يقول: منتهى الأجل.
أقول: و في أصول الكافي، في رواية عن أبي الحسن الماضي (عليه السلام): تطبيق قوله: «أ لم نهلك الأولين» على مكذبي الرسل في طاعة الأوصياء، و قوله: «ثم نتبعهم الآخرين» على من أجرم إلى آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).
على اضطراب في متن الخبر، و هو من الجري دون التفسير.
و فيه: و قوله «أ لم نجعل الأرض كفاتا أحياء و أمواتا» قال الكفات المساكن و قال: نظر أمير المؤمنين (عليه السلام) في رجوعه من صفين إلى المقابر فقال: هذه كفات الأموات أي مساكنهم ثم نظر إلى بيوت الكوفة فقال: هذه كفات الأحياء. ثم تلا قوله: «أ لم نجعل الأرض كفاتا أحياء و أمواتا».
أقول: و روي في المعاني، بإسناده عن حماد عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه نظر إلى المقابر. و ذكر مثل الحديث السابق.
و فيه،: و قوله «و جعلنا فيها رواسي شامخات» قال: جبال مرتفعة.
و فيه،: و قوله «انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب» قال فيه ثلاث شعب من النار و قوله: «إنها ترمي بشرر كالقصر» قال: شر النار مثل القصور و الجبال.
و فيه،: و قوله «إن المتقين في ظلال و عيون» قال: في ظلال من نور أنور من الشمس.
و في المجمع،: في قوله: «و إذا قيل لهم اركعوا لا يركعون» قال مقاتل: نزلت في ثقيف حين أمرهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالصلاة فقالوا: لا ننحني. و الرواية لا نحني فإن ذلك سبة علينا. فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): لا خير في دين ليس فيه ركوع و سجود.
أقول: و في انطباق القصة - و قد وقعت بعد الهجرة - على الآية خفاء.
و في تفسير القمي،: في الآية السابقة قال: و إذا قيل لهم «تولوا الإمام لم يتولوه».
أقول: و هو من الجري دون التفسير.
|