بيان
الآيتان غير ظاهرتي الارتباط بما قبلهما، و مضمونهما غني عن الاتصال بشيء من الكلام يبين منهما ما لا تستقلان بإفادته فلا حاجة إلى ما تجشمه جمع من المفسرين في توجيه اتصالهما تارة بما قبلهما، و أخرى بأول السورة، و ثالثة بالغرض من السورة فالصفح عن ذلك كله أولى.
قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا لا تسئلوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم» الآية الإبداء الإظهار، و ساءه كذا خلاف سره.
و الآية تنهى المؤمنين عن أن يسألوا عن أشياء إن تبد لهم تسؤهم، و قد سكتت أولا عن المسئول من هو؟ غير أن قوله بعد: «و إن تسئلوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم»، و كذا قوله في الآية التالية: «قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين» يدل على أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مقصود بالسؤال مسئول بمعنى أن الآية سيقت للنهي عن سؤال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن أشياء من شأنها كيت و كيت، و إن كانت العلة المستفادة من الآية الموجبة للنهي تفيد شمول النهي لغير مورد الغرض و هو أن يسأل الإنسان و يفحص عن كل ما عفاه العفو الإلهي، و ضرب دون الاطلاع عليه بالأسباب العادية و الطرق المألوفة سترا فإن في الاطلاع على حقيقة مثل هذه الأمور مظنة الهلاك و الشقاء كمن تفحص عن يوم وفاته أو سبب هلاكه أو عمر أحبته و أعزته أو زوال ملكه و عزته، و ربما كان ما يطلع عليه هو السبب الذي يخترمه بالفناء أو يهدده بالشقاء.
فنظام الحياة الذي نظمه الله سبحانه و وضعه جاريا في الكون فأبدا أشياء و حجب أشياء لم يظهر ما أظهره إلا لحكمة، و لم يخف ما أخفاه إلا لحكمة أي إن التسبب إلى خفاء ما ظهر منها و التوسل إلى ظهور ما خفي منها يورث اختلال النظام المبسوط على الكون كالحياة الإنسانية المبنية على نظام بدني مؤلف من قوى و أعضاء و أركان لو نقص واحد منها أو زيد شيء عليها أوجب ذلك فقدان أجزاء هامة من الحياة ثم يعتبر ذلك مجرى القوى و الأعضاء الباقية، و ربما أدى ذلك إلى بطلان الحياة بحقيقتها أو معناها.
ثم إن الآية أبهمت ثانيا أمر هذه الأشياء التي نهت عن السؤال عنها، و لم توضح من أمرها إلا أنها بحيث إن تبد لهم تسؤهم «إلخ»، و مما لا يرتاب فيه أن قوله: «إن تبد لكم تسؤكم» نعت للأشياء، و هي جملة شرطية تدل على تحقق وقوع الجزاء على تقدير وقوع الشرط، و لازمه أن تكون هذه أشياء تسؤهم إن أبدئت لهم فطلب إبدائها و إظهارها بالمسألة طلب للمساءة.
فيستشكل بأن الإنسان العاقل لا يطلب ما يسؤه، و لو قيل: لا تسألوا عن أشياء فيها ما إن تبد لكم تسؤكم، أو لا تسألوا عن أشياء لا تأمنون أن تسوءكم إن تبد لكم لم يلزم محذور.
و من عجيب ما أجيب به عن الإشكال أن من المقرر في قوانين العربية أن شرط «إن» مما لا يقطع بوقوعه، و الجزاء تابع للشرط في الوقوع و عدمه فكان التعبير بقوله «إن تبد لكم تسؤكم» دون «إذا أبديت لكم تسؤكم» دالا على أن احتمال إبدائها و كونها تسوء كاف في وجوب الانتهاء عن السؤال عنها، انتهى موضع الحاجة.
و قد أخطأ في ذلك، و ليت شعري أي قانون من قوانين العربية يقرر أن يكون الشرط غير مقطوع الوقوع؟ ثم الجزاء بما هو جزاء متعلق الوجود بالشرط غير مقطوع الوقوع؟ و هل يفيد قولنا: إن جئتني أكرمتك إلا القطع بوقوع الإكرام على تقدير وقوع المجيء؟ فقوله: إن التعبير بالشرط يدل على أن احتمال إبدائها و كونه يسوء كاف في وجوب الانتهاء، انتهى.
إنما يصح لو كان مفاد الشرط في الآية هو النهي عن السؤال عن أشياء يمكن أن تسوء إن أبدئت و ليس كذلك كما عرفت بل المفاد النهي عن السؤال أشياء يقطع بمساءتها إن أبدئت، فالإشكال على حاله.
و يتلو هذا الجواب في الضعف قول بعضهم - على ما في بعض الروايات: أن المراد بقوله: «أشياء إن تبد لكم تسؤكم» ما ربما يهواه بعض النفوس من الاطلاع على بعض المغيبات كالآجال و عواقب الأمور و جريان الخير و الشر و الكشف عن كل مستور مما لا يخلو العلم به طبعا من أن يتضمن ما يسوء الإنسان و يحزنه كسؤال الرجل عن باقي عمره، و سبب موته، و حسن عاقبته، و عن أبيه من هو؟ و قد كان دائرا بينهم في الجاهلية.
فالمراد بقوله: «لا تسئلوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم» هو النهي عن السؤال عن هذه الأمور التي لا يخلو انكشاف الحال فيها غالبا أن يشتمل على ما يسوء الإنسان و يحزنه كظهور أن الأجل قريب، أو أن العاقبة وخيمة، أو أن أباه في الواقع غير من يدعى إليه.
فهذه أمور يتضمن غالبا مساءة الإنسان و حزنه، و لا يؤمن من أن يجاب إذا سئل عنه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بما لا يرتضيه السائل فيدعوه الاستكبار النفساني و أنفة العصبية أن يكذب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما يجيب به فيكفر بذلك كما يشير إليه قوله تعالى في الآية التالية: «قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين».
و هذا الوجه و إن كان سليما في بادىء النظر لكنه لا يلائم قوله تعالى: «و إن تسئلوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم» سواء قلنا: إن مفاده تجويز السؤال عن هذه الأشياء حين نزول القرآن، أو تشديد النهي عنه حين نزول القرآن بالدلالة على أن المجيب - و هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) - في غير حال نزول القرآن في سعة من أن لا يجيب عن هذه الأسئلة رعاية لمصلحة السائلين لكنها أعني الأشياء المسئول عنها مكشوفة الحقيقة مرفوع عنها الحجاب لا محالة فلا تسألوا عنها حين ينزل القرآن البتة.
أما عدم ملاءمته على المعنى الأول فلأن السؤال عن هذه الأشياء لما اشتمل على المفسدة بحسب طبعه فلا معنى لتجويزه حال نزول القرآن، و المفسدة هي المفسدة.
و أما على المعنى الثاني فلأن حال نزول القرآن و إن كان حال البيان و الكشف عن ما يحتاج إلى الكشف و الإبداء غير أن هذه الخصيصة مرتبطة بحقائق المعارف و شرائع الأحكام و ما يجري مجراها، و أما تعيين أجل زيد و كيفية وفاة عمرو، و تشخيص من هو أبو فلان؟ و نحو ذلك فهي مما لا يرتبط به البيان القرآني، فلا وجه لتذييل النهي عن السؤال عن أشياء كذا و كذا بنحو قوله: «و إن تسئلوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم» و هو ظاهر.
فالأوجه في الجواب ما يستفاد من كلام آخرين أن الآية الثانية: «قد سألها قوم من قبلكم، إلخ» و كذا قوله: «و إن تسئلوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم» تدل على أن المسئول عنها أشياء مرتبطة بالأحكام المشرعة كالخصوصيات الراجعة إلى متعلقات الأحكام مما ربما يستقصى في البحث عنه و الإصرار في المداقة عليه، و نتيجة ذلك ظهور التشديد و نزول التحريج كلما أمعن في السؤال و ألح على البحث كما قصه الله سبحانه في قصة البقرة عن بني إسرائيل حيث شدد الله سبحانه بالتضييق عليهم كلما بالغوا في السؤال عن نعوت البقرة التي أمروا بذبحها.
ثم إن قوله تعالى: «عفا الله عنها» الظاهر أنه جملة مستقلة مسوقة لتعليل النهي في قوله: «لا تسئلوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم» لا كما ذكروه: أنه وصف لأشياء، و أن في الكلام تقديما و تأخيرا، و التقدير: لا تسألوا عن أشياء عفا الله عنها إن تبد لكم تسؤكم، «إلخ».
و هذا التعبير - أعني تعدية العفو بعن - أحسن شاهد على أن المراد بالأشياء المذكورة هي الأمور الراجعة إلى الشرائع و الأحكام، و لو كانت من قبيل الأمور الكونية كان كالمتعين أن يقال: عفاها الله.
و كيف كان فالتعليل بالعفو يفيد أن المراد بالأشياء هي الخصوصيات الراجعة إلى الأحكام و الشرائع و القيود و الشرائط العائدة إلى متعلقاتها، و أن السكوت عنها ليس لأنها مغفول عنها أو مما أهمل أمرها بل لم يكن ذلك إلا تخفيفا من الله سبحانه لعباده و تسهيلا كما قال: «و الله غفور حليم» فما يقترحونه من السؤال عن خصوصياته تعرض منهم للتضييق و التحريج و هو مما يسوؤهم و يحزنهم البتة فإن في ذلك ردا للعفو الإلهي الذي لم يكن البتة إلا للتسهيل و التخفيف، و تحكيم صفتي المغفرة و الحلم الإلهيين.
فيرجع مفاد قوله: «لا تسئلوا عن أشياء، إلخ» إلى نحو قولنا: يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن أشياء مسكوت عنها في الشريعة عفا الله عنها و لم يتعرض لبيانها تخفيفا و تسهيلا فإنها بحيث تبين لكم أن تسألوا عنها حين نزول القرآن، و تسوؤكم إن أبدئت لكم و بينت.
و قد تبين مما مر أولا: أن قوله تعالى: «و إن تسئلوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم» من تتمة النهي كما عرفت، لا لرفع النهي عن السؤال حين نزول القرآن كما ربما قيل.
و ثانيا: أن قوله تعالى: «عفا الله عنها» جملة مستقلة مسوقة لتعليل النهي عن السؤال فتفيد فائدة الوصف من غير أن يكون وصفا بحسب التركيب الكلامي.
و ثالثا: وجه تذييل الكلام بقوله: «و الله غفور حليم» مع كون الكلام مشتملا على النهي غير الملائم لصفتي المغفرة و الحلم فالاسمان يعودان إلى مفاد العفو المذكور في قوله: «عفا الله عنها» دون النهي الموضوع في الآية.
قوله تعالى: «قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين» يقال: سأله و سأل عنه بمعنى، و «ثم» يفيد التراخي بحسب الرتبة الكلامية دونه بحسب الزمان.
و الباء في قوله: «بها» متعلقة بقوله: «كافرين» على ما هو ظاهر الآية من كونها مسوقة للنهي عن السؤال عما يتعلق بقيود الأحكام و الشرائع المسكوت عنها عند التشريع فالكفر كفر بالأحكام من جهة استلزامها تحرج النفوس عنها و تضيق القلوب من قبولها، و يمكن أن تكون الباء للسببية و لا يخلو عن بعد.
و الآية و إن أبهمت القوم المذكورين و لم يعرفهم لكن في القرآن الكريم ما يمكن أن تنطبق عليه الآية من القصص كقصة المائدة من قصص النصارى و قصص أخرى من قوم موسى و غيرهم.
بحث روائي
في الدر المنثور،: أخرج ابن جرير و أبو الشيخ و ابن مردويه عن أبي هريرة قال: خطبنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا أيها الناس كتب الله عليكم الحج فقام عكاشة بن محصن الأسدي فقال: أ في كل عام يا رسول الله؟ قال: أما إني لو قلت: نعم لوجبت، و لو وجبت ثم تركتم لضللتم اسكتوا عني ما سكت عنكم فإنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم و اختلافهم على أنبيائهم فأنزل الله: «يا أيها الذين آمنوا - لا تسئلوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم» إلى آخر الآية.
أقول: و روي القصة عن أبي هريرة و أبي أمامة و غيرهما عدة من الرواة، و رويت في المجمع و غيره من كتب الخاصة، و هي تنطبق على ما قدمناه في البيان المتقدم.
و فيه، أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم عن السدي: في قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا لا تسئلوا عن أشياء،» الآية قال: غضب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوما من الأيام فقام خطيبا فقال: سلوني فإنكم لا تسألوني عن شيء إلا أنبأتكم به فقام إليه رجل من قريش من بني سهم يقال له: عبد الله بن حذاقة و كان يطعن فيه فقال: يا رسول الله من أبي؟ فقال: أبوك فلان فدعاه لأبيه فقام إليه عمر فقبل رجله و قال: يا رسول الله رضينا بالله ربا و لك نبيا و بالقرآن إماما فاعف عنا عفا الله عنك فلم يزل به حتى رضي فيومئذ قال: الولد للفراش و للعاهر الحجر، و أنزل عليه: «قد سألها قوم من قبلكم».
أقول: و الرواية مروية بعدة طرق على اختلاف في متونها، و قد عرفت فيما تقدم أنها غير قابلة الانطباق على الآية.
و فيه، أيضا: أخرج ابن جرير و ابن المنذر و الحاكم و صححه عن ثعلبة الخشني قال: فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الله حد حدودا فلا تعتدوها، و فرض لكم فرائض فلا تضيعوها، و حرم أشياء فلا تنتهكوها، و ترك أشياء في غير نسيان و لكن رحمة منه لكم فاقبلوها و لا تبحثوا عنها.
و في المجمع، و الصافي، عن علي (عليه السلام) قال: إن الله افترض عليكم فرائض فلا تضيعوها و حد لكم حدودا فلا تعتدوها، و نهاكم عن أشياء فلا تنتهكوها، و سكت لكم عن أشياء و لم يدعها نسيانا فلا تتكلفوها.
و في الكافي، بإسناده عن أبي الجارود قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): إذا حدثتكم بشيء فاسألوني عنه من كتاب الله، ثم قال في بعض حديثه: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نهى عن القيل و القال، و فساد المال، و كثرة السؤال فقيل له: يا بن رسول الله أين هذا من كتاب الله؟ قال: إن الله عز و جل يقول: «لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف - أو إصلاح بين الناس» و قال: «و لا تؤتوا السفهاء أموالكم - التي جعل الله لكم قياما» و قال: «لا تسئلوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم».
و في تفسير العياشي، عن أحمد بن محمد قال: كتبت إلى أبي الحسن الرضا (عليه السلام) و كتب في آخره: أ و لم تنهوا عن كثرة المسائل؟ فأبيتم أن تنتهوا، إياكم و ذلك فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم فقال الله تبارك و تعالى: «يا أيها الذين آمنوا لا تسئلوا عن أشياء إلى قوله تعالى كافرين».
|