بيان
قوله تعالى: ما جعل الله من بحيرة و لا سائبة و لا وصيلة و لا حام، هذه أصناف من الأنعام كان أهل الجاهلية يرون لها أحكاما مبنية على الاحترام و نوع من التحرير، و قد نفى الله سبحانه أن يكون جعل من ذلك شيئا، فالجعل المنفي متعلق بأوصافها دون ذواتها فإن ذواتها مخلوقة لله سبحانه من غير شك، و كذلك أوصافها من جهة أنها أوصاف فحسب، و إنما الذي تقبل الإسناد إليه تعالى و نفيه هي أوصافها من جهة كونها مصادر لأحكام كانوا يدعونها لها فهي التي تقبل الإسناد و نفيه، فنفي جعل البحيرة و أخواتها في الآية نفي لمشروعية الأحكام المنتسبة إليها المعروفة عندهم.
و هذه الأصناف الأربعة من الأنعام و إن اختلفوا في معنى أسمائها و يتفرع عليه الاختلاف في تشخيص أحكامها كما ستقف عليه، لكن من المسلم أن أحكامها مبنية على نوع من تحريرها و الاحترام لها برعاية حالها، ثلاثة منها و هي البحيرة و السائبة و الحامي من الإبل، و واحدة و هي الوصيلة من الشاة.
أما البحيرة ففي المجمع،: أنها الناقة كانت إذا نتجت خمسة أبطن و كان آخرها ذكرا بحروا أذنها أي شقوها شقا واسعا و امتنعوا عن ركوبها و نحرها، و لا تطرد عن ماء و لا تمنع عن مرعى، فإذا لقيها المعيي لم تركبها، عن الزجاج.
و قيل: إنهم كانوا إذا نتجت الناقة خمسة أبطن نظروا في البطن الخامس فإن كان ذكرا نحروه فأكله الرجال و النساء جميعا، و إن كانت أنثى شقوا أذنها فتلك البحيرة ثم لا يجز لها وبر، و لا يذكر لها اسم الله إن ذكيت، و لا حمل عليها، و حرم على النساء أن يذقن من لبنها شيئا، و لا أن ينتفعن بها، و كان لبنها و منافعها للرجال خاصة دون النساء حتى تموت فإذا ماتت اشتركت الرجال و النساء في أكلها، عن ابن عباس، و قيل «إن البحيرة بنت السائبة، عن محمد بن إسحاق».
و أما السائبة ففي المجمع، أنها ما كانوا يسيبونه فإن الرجل إذا نذر القدوم من سفر أو البرء من علة أو ما أشبه ذلك قال: ناقتي سائبة فكانت كالبحيرة في أن لا ينتفع بها، و أن لا تخلى عن ماء و لا تمنع من مرعى، عن الزجاج، و هو قول علقمة.
و قيل: هي التي تسيب للأصنام أي تعتق لها، و كان الرجل يسيب من ماله ما يشاء فيجيء به إلى السدنة - و هم خدمة آلهتهم - فيطعمون من لبنها أبناء السبيل و نحو ذلك عن ابن عباس و ابن مسعود.
و قيل: إن السائبة هي الناقة إذا تابعت بين عشر إناث ليس فيهن ذكر سيبت فلم تركبوها، و لم يجزوا وبرها و لم يشرب لبنها إلا ضيف فما نتجت بعد ذلك من أنثى شق أذنها ثم تخلى سبيلها مع أمها، و هي البحيرة، عن محمد بن إسحاق.
و أما الوصيلة ففي المجمع،: و هي في الغنم، كانت الشاة إذا ولدت أنثى فهي لهم، و إذا ولدت ذكرا جعلوه لآلهتهم، فإن ولدت ذكرا و أنثى قالوا: وصلت أخاها فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم.
عن الزجاج.
و قيل: كانت الشاة إذا ولدت سبعة أبطن فإن كان السابع جديا ذبحوه لآلهتهم و لحمه للرجال دون النساء، و إن كان عناقا، استحيوها و كانت من عرض الغنم، و إن ولدت في البطن السابع جديا و عناقا قالوا: إن الأخت وصلت أخاها لحرمته علينا فحرما جميعا فكانت المنفعة و اللبن للرجال دون النساء، عن ابن مسعود و مقاتل.
و قيل: الوصيلة الشاة إذا تأمت عشر إناث في خمسة أبطن ليس فيها ذكر جعلت وصيلة فقالوا: قد وصلت فكان ما ولدت بعد ذلك للذكور دون الإناث عن محمد بن إسحاق.
و أما الحامي ففي المجمع،: هو الذكر من الإبل كانت العرب إذا أنتجت من صلب الفحل عشرة أبطن قالوا: قد حمى ظهره فلا يحمل عليه، و لا يمنع من ماء و لا من مرعى، عن ابن عباس و ابن مسعود، و هو قول أبي عبيدة و الزجاج.
و قيل: إنه الفحل إذا لقح ولد ولده قيل: حمى ظهره فلا يركب، عن الفراء.
و هذه الأسماء و إن اختلفوا في تفسيرها إلا أن من المحتمل قريبا أن يكون ذلك الاختلاف ناشئا من اختلاف سلائق الأقوام في سننهم فإن أمثال ذلك كثيرة في السنن الدائرة بين الأقوام الهمجية.
و كيف كان فالآية ناظرة إلى نفي الأحكام التي كانوا قد اختلقوها لهذه الأصناف الأربعة من الأنعام، ناسبين ذلك إلى الله سبحانه بدليل قوله أولا: «ما جعل الله، إلخ» و ثانيا: «و لكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب، إلخ».
و لذلك كان قوله: «و لكن الذين كفروا، إلخ» بمنزلة الجواب عن سؤال مقدر كأنه لما قيل: «ما جعل الله من بحيرة، إلخ» سئل فقيل فما هذا الذي يدعيه هؤلاء الذين كفروا؟ فأجيب بأنه افتراء منهم على الله الكذب ثم زيد في البيان فقيل: «و أكثرهم لا يعقلون» و مفاده أنهم مختلفون في هذا الافتراء فأكثرهم يفترون ما يفترون و هم لا يعقلون، و القليل من هؤلاء المفترين يعقلون الحق و أن ما ينسبونه إليه تعالى من الافتراء، و هم المتبوعون المطاعون لغيرهم المديرون لأزمة أمورهم فهم أهل عناد و لجاج.
قوله تعالى: «و إذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله، إلى آخر» الآية في حكاية دعوتهم إلى ما أنزل الله إلى الرسول الذي شأنه البلاغ، فقط فالدعوة دعوة إلى الحق و هو الصدق الخالي عن الفرية، و العلم المبرى من الجهل فإن الآية السابقة تجمع الافتراء و عدم التعقل في جانبهم فلا يبقى لما يدعون إليه - أعني جانب الله سبحانه - إلا الصدق و العلم.
لكنهم ما دفعوه إلا بالتقليد حيث قالوا: حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا، و التقليد و إن كان حقا في بعض الأحيان و على بعض الشروط و هو رجوع الجاهل إلى العالم، و هو مما استقر عليه سير المجتمع الإنساني في جميع أحكام الحياة التي لا يتيسر فيها للإنسان أن يحصل العلم بما يحتاج إلى سلوكه من الطريق الحيوي، لكن تقليد الجاهل في جهله بمعنى رجوع الجاهل إلى جاهل آخر مثله مذموم في سنة العقلاء كما يذم رجوع العالم إلى عالم آخر بترك ما يستقل بعمله من نفسه و الأخذ بما يعلم غيره.
و لذلك رده تعالى بقوله: «أ و لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا و لا يهتدون» و مفاده أن العقل - لو كان هناك عقل - لا يبيح للإنسان الرجوع إلى من لا علم عنده و لا اهتداء فهذه سنة الحياة لا تبيح سلوك طريق لا تؤمن مخاطره، و لا يعلم وصفه لا بالاستقلال و لا باتباع من له به خبرة.
و لعل إضافة قوله: «و لا يهتدون» إلى قوله: «لا يعلمون شيئا» لتتميم قيود الكلام بحسب الحقيقة، فإن رجوع الجاهل إلى مثله و إن كان مذموما لكنه إنما يذم إذا كان المسئول المتبوع مثل السائل التابع في جهله لا يمتاز عنه بشيء، و أما إذا كان المتبوع نفسه يسلك الطريق بهداية عالم خبير به و دلالته فهو مهتد في سلوكه، و لا ذم على من اتبعه في مسيره و قلده في سلوك الطريق، فإن الأمر ينتهي إلى العلم بالآخرة كمن يتبع عالما بأمر الطريق ثم يتبعه آخر جاهل به.
و من هنا يتضح أن قوله: «أ و لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا» غير كاف في تمام الحجة عليهم لاحتمال أن يكون آباءهم الذين اتبعوهم بالتقليد مهتدين بتقليد العلماء الهداة فلا يجري فيهم حكم الذم، و لا تتم عليهم الحجة فدفع ذلك بأن آباءهم لا يعلمون شيئا و لا يهتدون، و لا مسوغ لاتباع من هذا حاله.
و لما تحصل من الآية الأولى أعني قوله: «ما جعل الله من بحيرة، إلخ» أنهم بين من لا يعقل شيئا و هم الأكثرون، و من هو معاند مستكبر تحصل أنهم بمعزل من أهلية توجيه الخطاب و إلقاء الحجة و لذلك لم تلق إليهم الحجة في الآية الثانية بنحو التخاطب بل سيق الكلام على خطاب غيرهم و الصفح عن مواجهتهم فقيل: «أ و لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا و لا يهتدون».
و قد تقدم في الجزء الأول من أجزاء هذا الكتاب بحث علمي أخلاقي في معنى التقليد يمكنك أن تراجعه.
و يتبين من الآية أن الرجوع إلى كتاب الله و إلى رسوله - و هو الرجوع إلى السنة - ليس من التقليد المذموم في شيء.
بحث روائي
في تفسير البرهان، عن الصدوق بإسناده إلى محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله عز و جل: «ما جعل الله من بحيرة و لا سائبة - و لا وصيلة و لا حام» قال: إن أهل الجاهلية كانوا إذا ولدت الناقة ولدين في بطن واحد قالوا: وصلت، فلا يستحلون ذبحها و لا أكلها، و إذا ولدت عشرا جعلوها سائبة، و لا يستحلون ظهرها و لا أكلها، و الحام فحل الإبل لم يكونوا يستحلونه فأنزل الله: أنه لم يكن يحرم شيئا من ذلك.
قال: ثم قال ابن بابويه: و قد روي: أن البحيرة الناقة إذا أنتجت خمسة أبطن و إن كان الخامس ذكرا نحروه فأكله الرجال و النساء، و إن كان الخامس أنثى بحروا أذنها أي شقوها و كانت حراما على النساء لحمها و لبنها فإذا ماتت حلت للنساء، و السائبة البعير يسيب بنذر يكون على الرجل أن سلمه الله من مرض أو بلغه منزله أن يفعل ذلك. و الوصيلة من الغنم، كانوا إذا ولدت شاة سبعة أبطن فكان السابع ذكرا ذبح فأكل منه الرجال و النساء، و إن كان أنثى تركت في الغنم و إن كان ذكرا و أنثى قالوا: وصلت أخاها فلم تذبح و كان لحمها حراما على النساء إلا أن تموت منها شيء فيحل أكلها للرجال و النساء. و الحام الفحل إذا ركب ولد ولده قالوا: قد حمى ظهره، قال: و قد يروى: أن الحام هو من الإبل إذا أنتج عشرة أبطن قالوا: قد حمى ظهره فلا يركب و لا يمنع من كلاء و لا ماء.
أقول: و من طرق الشيعة و أهل السنة روايات أخر في معاني هذه الأسماء: البحيرة و السائبة و الوصيلة و الحام، و قد مر شطر منها في الكلام المنقول عن الطبرسي في مجمع البيان، في البيان المتقدم.
و المتيقن من معانيها - كما عرفت - أن هذه الأصناف من الأنعام كانت في الجاهلية محررة نوعا من التحرير ذات أحكام مناسبة لذلك كحماية الظهر و حرمة أكل اللحم و عدم المنع من الماء و الكلاء، و أن الوصيلة من الغنم و الثلاثة الباقية من الإبل.
و في المجمع،: روى ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أن عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف كان قد ملك مكة، و كان أول من غير دين إسماعيل، و اتخذ الأصنام و نصب الأوثان، و بحر البحيرة، و سيب السائبة، و وصل الوصيلة، و حمى الحامي.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): فلقد رأيته في النار يؤذي أهل النار ريح قصبه، و يروى يجر قصبه في النار.
أقول: و روي في الدر المنثور، هذا المعنى بعدة طرق عن ابن عباس و غيره.
و في الدر المنثور، أخرج عبد الرزاق و ابن أبي شيبة و عبد بن حميد و ابن جرير عن زيد بن أسلم قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إني لأعرف أول من سيب السوائب، و نصب النصب، و أول من غير دين إبراهيم، قالوا: من هو يا رسول الله؟ قال: عمرو بن لحي أخو بني كعب لقد رأيته يجر قصبه في النار يؤذي أهل النار ريح قصبه. و إني لأعرف من نحر النحائر، قالوا: من هو يا رسول الله؟ قال: رجل من بني مدلج كانت له ناقتان فجذع آذانهما و حرم ألبانهما و ظهورهما و قال: هاتان لله ثم احتاج إليهما فشرب ألبانهما و ركب ظهورهما. قال: فلقد رأيته في النار، و هما يقصمانه بأفواههما و يطئانه بأخفافهما.
و فيه،: أخرج أحمد و عبد بن حميد و الحكيم الترمذي في نوادر الأصول، و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و البيهقي في الأسماء و الصفات، عن أبي الأحوص، عن أبيه قال: أتيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في خلقان من الثياب فقال لي: هل لك من مال؟ قلت: نعم قال: من أي المال؟ قلت: من كل المال: من الإبل و الغنم و الخيل و الرقيق قال: فإذا آتاك الله فلير عليك. ثم قال: تنتج إبلك رافية آذانها؟ قلت: نعم و هل تنتج الإبل إلا كذلك؟ قال: فلعلك تأخذ موسى فتقطع آذان طائفة منها، و تقول: هذه بحر، و تشق آذان طائفة منها و تقول: هذه الصرم؟ قلت: نعم، قال: فلا تفعل إن كل ما آتاك الله لك حل، ثم قال: ما جعل الله من بحيرة و لا سائبة و لا وصيلة و لا حام.
|