بيان
الآيتان و كذا الآيات التالية لها القاصة قصة نزول المائدة و التالية لها المخبرة عما سيسأل الله عيسى بن مريم (عليهما السلام) عن اتخاذ الناس إياه و أمه إلهين من دون الله سبحانه و ما يجيب به عن ذلك، كلها مرتبطة بغرض السورة الذي افتتحت به، و هو الدعوة إلى الوفاء بالعهد و الشكر للنعمة و التحذير عن نقض العهود و كفران النعم الإلهية و بذلك يتم رجوع آخر السورة إلى أولها و تحفظ وحدة المعنى المراد.
قوله تعالى: «إذ قال الله يا عيسى بن مريم - إلى قوله - و إذ تخرج الموتى بإذني» الآية تعد عدة من الآيات الباهرة الظاهرة بيده (عليه السلام) إلا أنها تمتن بها عليه و على أمه جميعا، و هي مذكورة بهذا اللفظ تقريبا فيما يحكيه تعالى من تحديث الملائكة مريم عند بشارتها بعيسى (عليه السلام) في سورة آل عمران، قال تعالى: «إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم - إلى أن قال - و يكلم الناس في المهد و كهلا - إلى أن قال - و يعلمه الكتاب و الحكمة و التوراة و الإنجيل و رسولا إلى بني إسرائيل، أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فتكون طيرا بإذن الله و أبرىء الأكمه و الأبرص و أحيي الموتى بإذن الله» الآيات: «آل عمران: 45 50».
و التأمل في سياق الآيات يوضح الوجه في عد ما ذكره من الآيات المختصة ظاهرا بالمسيح نعمة عليه و على والدته جميعا كما تشعر به آيات آل عمران فإن البشارة إنما تكون بنعمة، و الأمر على ذلك فإن ما اختص به المسيح (عليه السلام) من آية و موهبة كالولادة من غير أب و التأييد بروح القدس و خلق الطير و إبراء الأكمه و الأبرص و إحياء الموتى بإذن الله سبحانه فهي بعينها كرامة لمريم كما أنها كرامة لعيسى (عليه السلام) فهما معا منعمان بالنعمة الإلهية كما قال تعالى: «نعمتي عليك و على والدتك».
و إلى ذلك يشير تعالى بقوله: «و جعلناها و ابنها آية للعالمين»: «الأنبياء: 91» حيث عدهما معا آية واحدة لا آيتين.
و قوله: «إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس» الظاهر أن التأييد بروح القدس هو السبب المهيىء له لتكليم الناس في المهد، و لذلك وصل قوله «تكلم الناس» من غير أن يفصله بالعطف إلى الجملة السابقة إشعارا بأن التأييد و التكليم معا أمر واحد مؤلف من سبب و مسبب، و اكتفى في موارد من كلامه بذكر أحد الأمرين عن الآخر كقوله في آيات آل عمران المنقولة آنفا: «و تكلم الناس في المهد و كهلا»، و قوله: «و آتينا عيسى بن مريم البينات و أيدناه بروح القدس»: «البقرة: 235».
على أنه لو كان المراد بتأييده بروح القدس مسألة الوحي بوساطة الروح لم يختص بعيسى بن مريم (عليهما السلام) و شاركه فيها سائر الرسل مع أن الآية تأبى ذلك بسياقها.
و قوله: «و إذ علمتك الكتاب و الحكمة و التوراة و الإنجيل من الممكن أن يستفاد منه أنه (عليه السلام) إنما تلقى علم ذلك كله بتلق واحد عن أمر إلهي واحد من غير تدريج و تعدد كما أنه أيضا ظاهر جمع الجميع و تصديرها بإذ من غير تكرار لها.
و كذلك قوله: «إذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيه فتكون طيرا بإذني و تبرء الأكمه و الأبرص بإذني» ظاهر السياق من جهة عدم تكرار لفظة «إذ» أن خلق الطير و إبراء الأكمه و الأبرص كانا متقارنين زمانا، و أن تذييل خلق الطير بذكر الإذن من غير أن يكتفي بالإذن المذكور في آخر الجملة إنما هو لعظمة أمر الخلق بإفاضة الحياة فتعلقت العناية به فاختص بذكر الإذن بعده من غير أن ينتظر فيه آخر الكلام صونا لقلوب السامعين من أن يخطر فيها أن غيره تعالى يستقل دونه بإفاضة الحياة أو تلبث فيها هذه الخطرة و لو لحظات يسيرة، و الله أعلم.
و قوله: «و إذ تخرج الموتى بإذني» إخراج الموتى كناية عن إحيائها، و فيه عناية ظاهرة بأن الإحياء الذي جرى على يديه (عليه السلام) كان إحياء لموتى مقبورين بإفاضة الحياة عليهم و إخراجهم من قبورهم إلى حياة دنيوية، و في اللفظ دلالة على الكثرة، و قد تقدم في الكلام على آيات آل عمران بقية ما يتعلق بهذه الآيات من الكلام فراجع ذلك.
قوله تعالى: «و إذ كففت بني إسرائيل عنك» إلى آخر الآية.
فيه دلالة على أنهم قصدوه بشر فكفهم الله عن ذلك فينطبق على ما ذكره الله في سورة آل عمران في قصصه (عليه السلام) بقوله: «و مكروا و مكر الله و الله خير الماكرين».
قوله تعالى: «و إذ أوحيت إلى الحواريين» الآية، الآية منطبقة على آيات سورة آل عمران بقوله: «فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله و اشهد بأنا مسلمون»: «آل عمران: 52».
و من هنا يظهر أن هذا الإيمان الذي ذكره في الآية بقوله: «و إذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي و برسولي قالوا آمنا، الآية غير إيمانهم الأول به (عليه السلام) فإن ظاهر قوله في آية آل عمران: «فلما أحس عيسى منهم الكفر» أنه كان في أواخر أيام دعوته و قد كان الحواريون و هم السابقون الأولون في الإيمان به ملازمين له.
على أن ظاهر قوله في آية آل عمران: «قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله و اشهد بأنا مسلمون» أن الدعوة إنما سيقت لأخذ الميثاق على نصرة دين الله لا أصل الإيمان بالله، و لذلك ختم الآية بقولهم: «و اشهد بأنا مسلمون» و هو التسليم لأمر الله بإقامة دعوته و تحمل الأذى في جنبه، و كل ذلك بعد أصل الإيمان بالله طبعا.
فتبين أن المراد بقوله: «و إذ أوحيت إلى الحواريين، إلخ» قصة أخذ الميثاق من الحواريين، و في الآية أبحاث أخر مرت في تفسير سورة آل عمران.
بحث روائي
في المعاني، بإسناده عن أبي يعقوب البغدادي قال: قال ابن السكيت لأبي الحسن الرضا (عليه السلام): لما ذا بعث الله موسى بن عمران بيده البيضاء و العصا و آلة السحر، و بعث عيسى بآلة الطب، و بعث محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) بالكلام و الخطب؟. فقال أبو الحسن (عليه السلام): إن الله تعالى لما بعث موسى (عليه السلام) كان الأغلب على أهل عصره السحر فأتاهم من عند الله تعالى بما لم يكن عند القوم و في وسعهم مثله، و بما أبطل به سحرهم، و أثبت به الحجة عليهم و إن الله تعالى بعث عيسى في وقت ظهرت فيه الزمانات و احتاج الناس إلى الطب فأتاهم من عند الله تعالى بما لم يكن عندهم مثله، و بما أحيا لهم الموتى، و أبرأ الأكمه و الأبرص بإذن الله، و أثبت به الحجة عليهم و إن الله تعالى بعث محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) في وقت كان الأغلب على أهل عصره الخطب و الكلام و الشعر فأتاهم من كتاب الله و الموعظة و الحكمة بما أبطل به قولهم، و أثبت به الحجة عليهم. قال ابن السكيت ما رأيت مثلك اليوم قط فما الحجة على الخلق اليوم؟ فقال: العقل يعرف به الصادق على الله فيصدقه و الكاذب على الله فيكذبه، قال ابن السكيت: هذا و الله هو الجواب.
و في الكافي، عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن الحسن بن محبوب عن أبي جميلة عن أبان بن تغلب و غيره عن أبي عبد الله (عليه السلام): أنه سئل هل كان عيسى بن مريم أحيا أحدا بعد موته بأكل و رزق و مدة و ولد؟ فقال: نعم إنه كان له صديق مواخ له في الله تبارك و تعالى، و كان عيسى (عليه السلام) يمر به و ينزل عليه، و إن عيسى غاب عنه حينا ثم مر به ليسلم عليه فخرجت عليه أمه فسألها عنه فقالت له: مات يا رسول الله، فقال: أ تحبين أن تراه؟ قالت: نعم. فقال: إذا كان غدا أتيتك حتى أحييه لك بإذن الله تعالى. فلما كان من الغد أتاها فقال لها: انطلقي معي إلى قبره فانطلقا حتى أتيا قبره فوقف عليه عيسى (عليه السلام) ثم دعا الله عز و جل فانفرج القبر فخرج ابنها حيا فلما رأته أمه و رءاها بكيا فرحمهما عيسى (عليه السلام) فقال له عيسى: أ تحب أن تبقى مع أمك في الدنيا؟ فقال: يا رسول الله بأكل و رزق و مدة أم بغير أكل و رزق و مدة؟ فقال له عيسى (عليه السلام): بأكل و رزق و مدة تعمر عشرين سنة و تزوج و يولد لك، قال: نعم إذا. قال: فدفعه عيسى (عليه السلام) إلى أمه فعاش عشرين سنة و ولد له.
و في تفسير العياشي، عن محمد بن يوسف الصنعاني عن أبيه قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) «إذ أوحيت إلى الحواريين» قال: ألهموا.
أقول: و استعمال الوحي في مورد الإلهام جاء في القرآن في غير مورد كقوله تعالى: «و أوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه»: «القصص: 7»، و قوله تعالى: «و أوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا»: «النحل: 68» و قوله في الأرض: «بأن ربك أوحى لها»: «الزلزال: 5».
|