بيان
الآيات تذكر قصة نزول المائدة؟؟؟؟؟ على المسيح (عليه السلام) و أصحابه، و هي و إن لم تصرح بأن الله أنزلها عليهم غير أن الآية الأخيرة تتضمن الوعد المنجز منه بإنزالها من غير تقييد و قد وصف تعالى نفسه بأنه لا يخلف الميعاد.
و قول بعضهم: إنهم استقالوا عيسى (عليه السلام) بعد ما سمعوا الوعيد الشديد من الله تعالى لمن يكفر منهم بعد نزول المائدة قول من غير دليل من كتاب أو حديث يعتمد عليه.
و قد نقل ذلك عن جمع من المفسرين، و ممن يذكر منهم: المجاهد و الحسن، و لا حجة في قولهما و لا قول غيرهما و لو عد قولهما رواية كانت من الموقوفات التي لا حجية لها لضعفها على أنها معارضة بغيرها من الروايات الدالة على نزولها، على أنها لو صحت لم تكن إلا من الآحاد التي لا يعتمد عليها في غير الأحكام.
و ربما يستدل على عدم نزولها بأن النصارى لا يعرفونها و كتبهم المقدسة خالية عن حديثها، و لو كانت نازلة لتوفرت الدواعي على ذكره في كتبهم و حفظه فيما بينهم بسيرة مستمرة كما تحفظوا على العشاء الرباني لكن الخبير بتاريخ شيوع النصرانية و ظهور الأناجيل لا يعبأ بأمثال هذه الأقاويل فلا كتبهم مكتوبة محفوظة على التواتر إلى زمن عيسى (عليه السلام)، و لا هذه النصرانية الحاضرة تتصل بزمنه حتى ينتفع بها فيها يعتورونه يدا بيد، أو فيما لا يعرفونه مما ينسب إلى الدعوة العيسوية أو يتعلق بها.
نعم وقع في بعض الأناجيل إطعام المسيح تلاميذه و جماعة من الناس بالخبز و السمك القليلين على طريق الإعجاز، غير أن القصة لا تنطبق على ما قصة القرآن في شيء من خصوصياته، ورد في إنجيل يوحنا، الإصحاح السادس ما هذا نصه: 1 «بعد هذا مضى يسوع إلى عبر بحر الجليل و هو بحر طبرية 2 و تبعه جمع كثير لأنهم أبصروا آياته التي كان يصنعها في المرضى 3 فصعد يسوع إلى جبل و جلس هناك مع تلاميذه 4 و كان الفصح عند اليهود قريبا 5 فرفع يسوع عينيه و نظر أن جمعا كثيرا مقبل إليه فقال لفيلبس من أين نبتاع خبزا ليأكل هؤلاء 6 و إنما قال هذا ليمتحنه لأنه هو علم ما هو مزمع أن يفعل 7 أجابه فيلبس لا يكفيهم خبز بمأتي دينار ليأخذ كل واحد منهم شيئا يسيرا 8 قال له واحد من تلاميذه و هو أندراوس أخو سمعان بطرس 9 هنا غلام معه خمسة أرغفة شعير و سمكتان و لكن ما هذا لمثل هؤلاء 10 فقال يسوع اجعلوا الناس يتكئون و كان في المكان عشب كثير فاتكأ الرجال و عددهم نحو خمسة آلاف 11 و أخذ يسوع الأرغفة و شكر و وزع على التلاميذ و التلاميذ أعطوا المتكئين و كذلك من السمكتين بقدر ما شاءوا 12 فلما شبعوا قال لتلاميذه أجمعوا الكسر الفاضلة لكي لا يضيع شيء 13 فجمعوا و ملئوا اثنتي عشرة قفة من الكسر من خمسة أرغفة الشعير التي فضلت عن الآكلين 14 فلما رأى الناس الآية التي صنعها يسوع قالوا إن هذا هو بالحقيقة النبي الآتي إلى العالم 15 و أما يسوع فإذ علم أنهم مزمعون أن يأتوا و يختطفوه ليجعلوه ملكا انصرف أيضا إلى الجبل وحده».
ثم إن التدبر في هذه القصة بما لها من سياق مسرود في كلامه تعالى يهدي إلى جهة أخرى من البحث فإن السؤال المذكور في أولها بظاهره خال عن رعاية الأدب و الواجب حفظه في جنب الله سبحانه، و قد انتهى الكلام إلى وعيد منه تعالى لمن يكفر بهذه الآية وعيدا لا يوجد له نظير في شيء من الآيات التي اختص الله سبحانه بها أنبياءه أو اقترحها أممهم عليهم كاقتراح أمم نوح و هود و صالح و شعيب و موسى و محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).
فهل كان ذلك لكون الحواريين و هم السائلون أساءوا الأدب في سؤالهم؟ لأن لفظهم لفظ من يشك في قدرة الله سبحانه ففي اقتراحات الأمم السابقة عليهم من الإهانة بمقام ربهم و السخرية و الهزء بأنبيائهم و كذا ما توجد حكايته في القرآن من طواغيت قوم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و اليهود المعاصرين له ما هو أوقح من ذلك و أشنع!.
أو أنهم لكونهم مؤمنين قبل السؤال و النزول لو كفروا بعد النزول و مشاهدة الآية الباهرة استحقوا هذا الوعيد على هذه الشدة؟ فالكفر بعد مشاهدة الآية الباهرة و إن كان عتوا و طغيانا كبيرا لكنه لا يختص بهم، ففي سائر الأمم أمثال لهم في ذلك و لم يوعدوا بمثل هذا الوعيد قط حتى الذين ارتدوا منهم بعد التمكن في مقام القرب و التحقق بآيات الله سبحانه كالذي يذكره الله سبحانه في قوله: «و اتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين»: «الأعراف: 157».
و الذي يمكن أن يقال في المقام أن هذه القصة بما صدر به من السؤال يمتاز بمعنى يختص به من بين سائر معجزات الأنبياء التي أتوا بها لاقتراح من أممهم أو لضرورات أخر تدعو إلى ذلك.
و ذلك أن الآيات المعجزة التي يقصها الكلام الإلهي إما آيات آتاها الله الأنبياء حين بعثهم لتكون حجة مؤيدة لنبوتهم أو رسالتهم كما أوتي موسى (عليه السلام) اليد البيضاء و العصا، و أوتي عيسى (عليه السلام) إحياء الموتى و خلق الطير و إبراء الأكمه و الأبرص، و أوتي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) القرآن، و هذه آيات أوتيت لحاجة الدعوة إلى الإيمان و إتمام الحجة على الكفار ليهلك من هلك عن بينة و يحيا من حي عن بينة.
و إما آيات معجزة أتى بها الأنبياء و الرسل لاقتراح الكفار عليهم كناقة صالح، و يلحق بها المخوفات و المعذبات المستعملة في الدعوة كآيات موسى (عليه السلام) على قوم فرعون من الجراد و القمل و الضفادع و غير ذلك في سبع آيات، و طوفان نوح، و رجفة ثمود و صرصر عاد و غير ذلك، و هذه أيضا آيات متعلقة بالمعاندين الجاحدين.
و إما آيات أراها الله المؤمنين لحاجة مستها، و ضرورة دعت إليها، كانفجار العيون من الحجر و نزول المن و السلوى على بني إسرائيل في التيه، و رفع الطور فوق رءوسهم و شق البحر لنجاتهم من فرعون و عمله، فهذه آيات واقعة لإرهاب العاصين المستكبرين أو كرامة للمؤمنين لتتم كلمة الرحمة في حقهم من غير أن يكونوا قد اقترحوها.
و من هذا الباب المواعيد التي وعدها الله في كتابه المؤمنين كرامة لرسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) كوعد فتح مكة و مقت المشركين من كفار قريش و غلبة الروم إلى غير ذلك.
فهذه أنواع الآيات المقتصة في القرآن و المذكورة في التعليم الإلهي، و أما اقتراح الآية بعد نزول الآية فهو من التهوس يعده التعليم الإلهي من الهجر الذي لا يعبأ به كاقتراح أهل الكتاب أن ينزل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عليهم كتابا من السماء مع وجود القرآن بين أيديهم، قال تعالى: «يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة - إلى أن قال - لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه و الملائكة يشهدون و كفى بالله شهيدا»: «النساء: 166».
و كما سأل المشركون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إنزال الملائكة أو إراءة ربهم تعالى و تقدس قال تعالى: «و قال الذين لا يرجون لقاءنا لو لا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم و عتوا عتوا كبيرا»: «الفرقان: 21» و قال تعالى: «و قالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام و يمشي في الأسواق لو لا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا، أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها و قال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا، انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا»: «الفرقان: 9» إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.
و ليس ذلك كله إلا لأن عنوان نزول الآية هو ظهور الحق و تمام الحجة فإذا نزلت فقد ظهر الحق و تمت الحجة فلو أعيد سؤال نزول الآية و قد نزلت و حصل الغرض فلا عنوان له إلا العبث بآيات الله و اللعب بالمقام الربوبي و التذبذب في القبول، و فيه أعظم العتو و الاستكبار.
و هذا لو صدر عن المؤمنين لكان الذنب فيه أكثف و الإثم فيه أعظم فما ذا يصنع المؤمن بنزول الآية السماوية و هو مؤمن و خاصة إذا كان ممن شاهد آيات الله فآمن عن مشاهدتها؟ و هل هو إلا أشبه شيء بما يقترحه أرباب الهوى و المترفون في مجالس الأنس و حفل التفكه من المشعوذين أو أصحاب الرياضات العجيبة أن يطيبوا عيشهم بإتحافهم بأعجب ما يقدرون عليه من الشعبذة و الأعمال الغريبة؟.
و الذي يفيده ظاهر قوله تعالى: «إذ قال الحواريون يا عيسى بن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة» أنهم اقترحوا على المسيح (عليه السلام) أن يريهم آية خاصة و هم حواريوه المختصون به و قد رأوا تلك الآيات الباهرة و الكرامات الظاهرة فإنه (عليه السلام) لم يرسل إلى قومه إلا بالآيات المعجزة كما يعطيه قوله تعالى: «و رسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله، إلخ»: «آل عمران: 49».
و كيف يتصور في من آمن بالمسيح (عليه السلام) أن لا يعثر منه على آية و هو (عليه السلام) بنفس وجوده آية خلقه الله من غير أب و أيده بروح القدس يكلم الناس في المهد و كهلا و لم يزل مكرما بآية بعد آية حتى رفعه الله إليه و ختم أمره بأعجب آية.
فاقتراحهم آية اختاروها لأنفسهم بعد هاتيك الآيات على كثرتها من قبيل اقتراح الآية بعد الآية و قد ركبوا أمرا عظيما و لذلك وبخهم عيسى (عليه السلام) بقوله: «اتقوا الله إن كنتم مؤمنين».
و لذلك بعينه وجهوا ما اقترحوا عليه و فسروا قولهم ثانيا بما يكسر سورة ما أوهمه إطلاق كلامهم، و يزيل عنه تلك الحدة فقالوا: «نريد أن نأكل منها و تطمئن قلوبنا و نعلم أن قد صدقتنا و نكون عليها من الشاهدين» فضموا إلى غرض الأكل أغراضا أخر يوجه اقتراحهم، يريدون به أن اقتراحهم هذا ليس من قبيل التفكه بالأمور العجيبة و العبث بآيات الإلهية بل له فوائد مقصودة: من كمال علمهم و إزالة خطرات السوء من قلوبهم و شهادتهم عليها.
لكنهم مع ذلك لم يتركوا ذكر إرادة الأكل و منه كانت الخطيئة و لو قالوا: «نريد أن نأكل منها فتطمئن قلوبنا، إلخ» لم يلزمهم ما لزمهم إذ قالوا: «نريد أن نأكل منها و تطمئن قلوبنا، إلخ» فإن الكلام الأول يقطع جميع منابت التهوس و المجازفة دون الثاني.
و لما ألحوا عليه أجابهم عيسى (عليه السلام) إلى ما اقترحوا عليه و التمسوه و سأل ربه أن يكرمهم بها، و هي معجزة مختصة في نوعها بأمته لأنها الآية الوحيدة التي نزلت إليهم عن اقتراح في أمر غير لازم ظاهرا و هو أكل المؤمنين منها، و لذلك عنونها (عليه السلام) عنوانا يصلح به أن يوجه الوجه بسؤاله إلى ساحة العظمة و الكبرياء فقال: «اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا و آخرنا» فعنونها بعنوان العيدية، و العيد عند قوم هو اليوم الذي نالوا فيه موهبة أو مفخرة مختصة بهم من بين الناس، و كان نزول المائدة عليهم منعوتا بهذا النعت.
و لما سأل عيسى ربه ما سأل - و حاشاه أن يسأل إلا ما يعلم أن من المرجو استجابته و أن ربه لا يمقته و لا يفضحه، و حاشا ربه أن يرده خائبا في دعائه - استجاب له ربه دعاءه غير أنه شرط فيها لمن يكفر بها عذابا يختص به من بين جميع الناس كما أن الآية آية خاصة بهم لا يشاركهم في نوعها غيرهم من الأمم فقال الله سبحانه «إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين»، هذا.
قوله تعالى: «إذ قال الحواريون يا عيسى بن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء» «إذ» ظرف متعلق بمقدر و التقدير اذكر إذ قال «إلخ»، أو ما يقرب منه، و ذهب بعضهم إلى أنه متعلق بقوله في الآية السابقة: «قالوا آمنا، إلخ» أي قال الحواريون: آمنا بالله و اشهد بأنا مسلمون في وقت قالوا فيه لعيسى: «هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء» و المراد أنهم ما كانوا على صدق في دعواهم، و لا على جد في إشهادهم عيسى (عليه السلام) على إسلامهم له.
و فيه أنه مخالف لظاهر السياق، و كيف يكون إيمانهم غير خالص؟ و قد ذكر الله أنه هو أوحى إليهم أن آمنوا بي و برسولي و هو تعالى يمتن بذلك على عيسى (عليه السلام) على أنه لا وجه حينئذ للإظهار في قوله: «إذ قال الحواريون، إلخ».
و «المائدة» الخوان إذا كان فيه طعام، قال الراغب: و المائدة الطبق الذي عليه الطعام، و يقال لكل واحدة منهما مائدة، و يقال: مادني يميدني أي أطعمني، انتهى.
و متن السؤال الذي حكي عنهم في الآية و هو قولهم: «هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء» بحسب ظاهر ما يتبادر من معناه مما يستبعد العقل صدوره عن الحواريين و هم أصحاب المسيح و تلامذته و أخصاؤه الملازمون له المقتبسون من أنوار علومه و معارفه المتبعون آدابه و آثاره، و الإيمان بأدنى مراتبه ينبه الإنسان على أن الله سبحانه على كل شيء قدير، لا يجوز عليه العجز و لا يغلبه العجز فكيف جاز أن يستفهموا رسولهم عن استطاعة ربه على إنزال مائدة من السماء.
و لذلك قرأ الكسائي من السبعة: «هل تستطيع ربك» بتاء المضارعة و نصب «ربك» على المفعولية أي هل تستطيع أنت أن تسأل ربك، فحذف الفعل الناصب للمفعول و أقيم «تستطيع» مقامه، أو أنه مفعول لفعل محذوف فقط.
و قد اختلف المفسرون في توجيهه على بناء من أكثريهم على أن المراد به غير ما يتبادر من ظاهره من الشك في قدرة الله سبحانه لنزاهة ساحتهم من هذا الجهل السخيف.
و أوجه ما يمكن أن يقال هو أن الاستطاعة في الآية كناية عن اقتضاء المصلحة و وقوع الإذن كما أن الإمكان و القدرة و القوة يكنى بها عن ذلك كما يقال: «لا يقدر الملك أن يصغي إلى كل ذي حاجة» بمعنى أن مصلحة الملك تمنعه من ذلك و إلا فمطلق الإصغاء مقدور له، و يقال: «لا يستطيع الغني أن يعطي كل سائل» أي مصلحة حفظ المال لا تقتضيه، و يقال: «لا يمكن للعالم أن يبث كل ما يعلمه» أي يمنعه عن ذلك مصلحة الدين أو مصلحة الناس و النظام الدائر بينهم، و يقول أحدنا لصاحبه: «هل تستطيع أن تروح معي إلى فلان»؟ و إنما السؤال عن الاستطاعة بحسب الحكمة و المصلحة لا بحسب أصل القدرة على الذهاب، هذا.
و هناك وجوه أخرى ذكروها: منها: أن هذا السؤال لأجل تحصيل الاطمئنان بإيمان العيان لا للشك في قدرة الله سبحانه فهو على حد قول إبراهيم (عليه السلام) فيما حكى الله عنه: «رب أرني كيف تحيي الموتى قال أ و لم تؤمن قال بلى و لكن ليطمئن قلبي».
و فيه: أن مجرد صحة أن تسأل الآية لزيادة الإيمان و اطمئنان القلب لا يصحح حمل سؤالهم عليه و لم تثبت عصمتهم كإبراهيم (عليه السلام) حتى تكون دليلا منفصلا يوجب حمل كلامهم على ما لا حزازة فيه بل الدليل على خلافه حيث لم يقولوا: نريد أن نأكل منها فتطمئن قلوبنا كما قال إبراهيم (عليه السلام): «بلى و لكن ليطمئن قلبي» بل قالوا: «نريد أن نأكل منها و تطمئن قلوبنا» فعدوا الأكل بحيال نفسه غرضا.
على أن هذا الوجه إنما يستدعي تنزه قلوبهم عن شائبة الشك في قدرة الله سبحانه و أما حزازة ظاهر الكلام فعلى حالها.
على أنه قد تقدم في تفسير قوله تعالى: «و إذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى» الآية: «البقرة: 206» أن مراده (عليه السلام) لم يكن مشاهدة تلبس الموتى بالحياة بعد الموت كما عليه بناء هذا الوجه و لو كان كذلك لكان من قبيل طلب الآية بعد العيان و هو في مقام المشافهة مع ربه بل مراده مشاهدة كيفية الإحياء بالمعنى الذي تقدم بيانه.
و منها: أنه سؤال عن الفعل دون القدرة عليه فعبر عنه بلازمه.
و فيه: أنه لا دليل عليه، و لو سلم فإنه إنما ينفي عنهم الجهل بالقدرة المطلقة الإلهية و أما منافاة إطلاق اللفظ للأدب العبودي فعلى حالها.
و منها: أن في الكلام حذفا تقديره: هل تستطيع سؤال ربك؟ و يدل عليه قراءة هل تستطيع ربك و المعنى: هل تستطيع أن تسأله من غير صارف يصرفك عن ذلك.
و فيه أن الحذف و التقدير لا يعيد لفظة «هل يستطيع ربك» إلى قولنا هل تستطيع سؤال ربك بأي وجه فرض لمكان اختلاف الفعل في القراءتين بالغيبة و الحضور، و التقدير لا يحول الغيبة إلى الخطاب البتة، و إن كان و لا بد فليقل: أنه من قبيل إسناد الفعل المنسوب إلى عيسى (عليه السلام) إلى ربه من جهة أن فعله فعل الله أو أن كل ما له (عليه السلام) فهو لله سبحانه، و هذا الوجه مع كونه فاسدا من جهة أن الأنبياء و الرسل إنما ينسب من أفعالهم إلى الله ما لا يستلزم نسبته إليه النقص و القصور في ساحته تعالى كالهداية و العلم و نحوهما، و أما لوازم عبوديتهم و بشريتهم كالعجز و الفقر و الأكل و الشرب و نحو ذلك فمما لا تستقيم نسبته إليه تعالى البتة فمشكلة ظاهر اللفظ على حالها.
و منها: أن الاستطاعة هنا بمعنى الإطاعة و المعنى: هل يطيعك ربك و يجيب دعاءك إذا سألته ذلك، و فيه: أنه من قبيل تبديل المشكل بما هو أشكل فإن الاستفهام عن إطاعة الله سبحانه لرسوله و انقياده له أشنع و أفظع من الاستفهام عن استطاعته.
و قد انتصر بعضهم لهذا الوجه فقال في تقريره ما محصله: أن الاستطاعة و الإطاعة من مادة الطوع مقابل الكره فإطاعة الأمر فعله عن رضى و اختيار، و الاستفعال في هذه المادة كالاستفعال في مادة الإجابة فإذا كان معنى استجابة: أجاب دعاءه أو سؤاله فمعنى استطاعة: أطاعه أي أنه انقاد له و صار في طوعه أو طوعا له، و السين و التاء في المادتين على أشهر معانيهما و هو الطلب، و لكنه طلب دخل على فعل محذوف دل عليه المذكور المترتب على المحذوف، و معنى استطاع الشيء: طلب و حاول أن يكون ذلك الشيء طوعا له فأطاعه و انقاد له، و معنى استجاب: سئل شيئا و طلب منه أن يجيب إليه فأجاب.
قال: فبهذا الشرح الدقيق تفهم صحة قول من قال من المفسرين: إن «يستطيع» هنا بمعنى يطيع و إن معنى يطيع: يفعل مختارا راضيا غير كاره فصار حاصل معنى الجملة: هل يرضى ربك و يختار أن ينزل علينا مائدة من السماء إذا نحن سألناه أو سألته لنا ذلك، انتهى.
و فيه أولا: أنه لم يأت بشيء دون أن قاس استطاع باستجاب ثم أعطى هذا معنى ذاك و هو قياس في اللغة ممنوع.
و ثانيا: أن كون الاستطاعة و الإطاعة راجعين بحسب المادة إلى الطوع مقابل الكره لا يستلزم وجوب جريان الاستعمال على رعاية معنى المادة الأصلية في جميع التطورات الطارئة عليها فكثير من المواد هجرت خصوصية معناها الأصلي في ما عرضها من الهيئات الاشتقاقية نظير ضرب و أضرب و قبل و أقبل و قبل و قابل و استقبل بحسب التبادر الاستعمالي.
و اعتبار المادة الأصلية في البحث عن الاشتقاقات اللغوية لا يراد به إلا الاستعلام مبلغ ما يعيش المادة الأصلية بين مشتقاتها بحسب عروض تطورات الاشتقاق عليها، أو انقضاء أمد حياتها بحسب المعنى و تبدله إلى معنى آخر لا أن يلغى حكم التطورات و يحفظ المعنى الأصلي ما جرى اللسان، فافهم ذلك.
فالاعتبار في اللفظ بما يفيده بحسب الاستعمال الدائر الحي لا بما تفيده المادة اللغوية و قد استعمل لفظ الاستطاعة في كلامه تعالى في أزيد من أربعين موضعا، و هو في الجميع بمعنى القدرة، و استعمل لفظ الإطاعة فيما يقرب من سبعين موضعا و هو في الجميع بمعنى الانقياد، و استعمل لفظ الطوع فيما استعمل و هو مقابل الكره فكيف يسوغ أن يؤخذ لفظ يستطيع بمعنى يطيع ثم يطيع بمعنى الطوع ثم يحكم بأن يستطيع في الآية بمعنى يرضى؟.
و أما حديث أجاب و استجاب فقد استعملا معا في كلامه تعالى بمعنى واحد و ورد استعمال الاستجابة في موارد هي أضعاف ما استعملت فيه الإجابة فإنك تجد الاستجابة فيما يقرب من ثلاثين موضعا، و لا تجد الإجابة في أكثر من عشرة مواضع فكيف يقاس عليها أطاع و استطاع؟.
و كونهما بمعنى واحد ليس إلا لانطباق عنايتين مختلفتين على مورد واحد فمعنى أجاب أن الجواب تجاوز عن المسئول إلى السائل، و معنى استجاب أن المسئول طلب من نفسه الجواب فأداه إلى السائل.
و من هنا يظهر أن الذي فسر به الاستجابة و هو قوله: و معنى استجاب سئل شيئا و طلب منه أن يجيب إليه فأجاب ليس على ما ينبغي فإن باب الاستفعال هو طلب «فعل» لا طلب «افعل» و هو ظاهر.
و ثالثا: أن السياق لا يلائم هذا المعنى إذ لو كان معنى قولهم: «هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء» إنه هل يرضى ربك أن نسأله نحن أو تسأله أنت أن ينزل علينا مائدة من السماء، و كان غرضهم من هذا السؤال أو النزول أن يزدادوا إيمانا و يطمئنوا قلبا فما وجه توبيخ عيسى (عليه السلام) لهم بقوله: «اتقوا الله إن كنتم مؤمنين»؟ و ما وجه وعيده تعالى الكافرين بها بعذاب لا يعذبه أحدا من العالمين، و هم لم يقولوا إلا حقا و لم يسألوا إلا مسألة مشروعة، و قد قال تعالى: «و اسألوا الله من فضله»: «النساء: 32».
قوله تعالى: «قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين» توبيخ منه (عليه السلام) لهم لما يشتمل عليه ظاهر كلامهم من الاستفهام عن استطاعة ربه على إنزال المائدة فإن كلامهم مريب على أي حال.
و أما على ما قدمناه من أن الأصل في مؤاخذتهم الذي يترتب عليه الوعيد الشديد في آخر الآيات هو أنهم سألوا آية حيث لا حاجة إليها و اقترحوا بما في معنى العبث بآيات الله سبحانه، ثم تعبيرهم بما يتبادر من ظاهره كونهم كأنهم لم يعقدوا قلوبهم على القدرة الربوبية فوجه توبيخه (عليه السلام) لهم بقوله: «اتقوا الله إن كنتم مؤمنين» أظهر.
قوله تعالى: «قالوا نريد أن نأكل منها و تطمئن قلوبنا و نعلم أن قد صدقتنا و نكون عليها من الشاهدين» السياق ظاهر في أن قولهم هذا عذر اعتذروا به للتخلص من توبيخه (عليه السلام) و ما ذكروه ظاهر التعلق باقتراحهم الآية بنزول المائدة دون ما يظهر من قولهم: هل يستطيع ربك أن ينزل»، من المعنى الموهم للشك في إطلاق القدرة، و هذا أيضا أحد الشواهد على أن ملاك المؤاخذة في المقام هو أنهم سألوا آية على آية من غير حاجة إليها.
و أما قولهم: «نريد أن نأكل منها، إلخ» فقد عدوا في بيان غرضهم من اقتراح الآية أمورا أربعة: أحدها: الأكل و كان مرادهم بذكره أنهم ما أرادوا به اللعب بآيات الله بل أرادوا أن يأكلوا منها، و هو غرض عقلائي، و قد تقدم أن هذا القول منهم كالتسليم لاستحقاقهم التوبيخ من عيسى (عليه السلام) و الوعيد الشديد من الله لمن يكفر منهم بآية المائدة.
و ذكر بعضهم: أن المراد بذكر الأكل إبانة أنهم في حاجة شديدة إلى الطعام و لا يجدون ما يسد حاجتهم.
و ذكر آخرون أن المراد نريد أن نتبرك بأكله.
و أنت تعلم أن المعنى الذي قرر في كل من هذين الوجهين أمر لا يدل عليه مجرد ذكر الأكل، و لو كان مرادهم ذلك و هو أمر يدفع به التوبيخ لكان مقتضى مقام الاعتذار التصريح بذكره، و حيث لم يذكر شيء من ذلك مع حاجة المقام إلى ذكره لو كان مرادا فليس المراد بالأكل إلا مطلق معناه من حيث إنه غرض عقلائي هو أحد أجزاء غرضهم في اقتراح نزول المائدة.
الثاني: اطمئنان القلب و هو سكونه باندفاع الخطورات المنافية للخلوص و الحضور.
و الثالث: العلم بأنه (عليه السلام) قد صدقهم فيما بلغهم عن ربه، و المراد بالعلم حينئذ هو العلم اليقيني الذي يحصل في القلب بعد ارتفاع الخطورات و الوساوس النفسانية عنه، أو العلم بأنه قد صدقهم فيما وعدهم من ثمرات الإيمان كاستجابة الدعاء كما ذكره بعضهم، لكن يبعده أن الحواريين ما كانوا يسألون إنزال المائدة من السماء إلا بدعاء عيسى (عليه السلام) و مسألته، و بالجملة بإعجاز منه (عليه السلام) و قد كانوا رأوا منه (عليه السلام) آيات كثيرة فإنه (عليه السلام) لم يزل في حياته قرينا لآيات إلهية كبرى، و لم يرسل إلى قومه و لم يدعهم دعوة إلا مع آيات ربه فلم يزالوا يرون ثمرات إيمانه من استجابة الدعاء إن كان المراد الثمرة التي هي استجابة دعائه (عليه السلام)، و إن كان المراد الثمرة التي هي استجابة دعائهم أنفسهم فإنهم لم يسألوا نزول الآية بدعاء أنفسهم، و لم تنزل إلا بدعاء عيسى (عليه السلام).
الرابع: أن يكونوا عليها من الشاهدين عند ما يحتاج إلى الشهادة كالشهادة عند المنكرين، و الشهادة عند الله يوم القيامة، فالمراد بها مطلق الشهادة، و يمكن أن يكون المراد مجرد الشهادة عند الله سبحانه كما وقع في بعض قولهم الذي حكاه الله تعالى إذ قال: «ربنا آمنا بما أنزلت و اتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين»: «آل عمران: 53».
فقد تحصل أنهم - فيما اعتذروا به - ضموا أمورا جميلة مرضية إلى غرضهم الآخر الذي هو الأكل من المائدة السماوية ليحسموا به مادة الحزازة عن اقتراحهم الآية بعد مشاهدة الآيات الكافية فأجابهم عيسى (عليه السلام) إلى مسألتهم بعد الإصرار.
قوله تعالى: «قال عيسى بن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا و آخرنا و آية منك و ارزقنا و أنت خير الرازقين» خلط (عليه السلام) نفسه بهم في سؤال المائدة، و بدأ بنداء ربه بلفظ عام فقال: «اللهم ربنا» و قد كانوا قالوا له: «هل يستطيع ربك» ليوافق النداء الدعاء.
و قد توحد هذا الدعاء من بين جميع الأدعية و المسائل المحكية في القرآن عن الأنبياء (عليهم السلام) بأن صدر «باللهم ربنا» و غيره من أدعيتهم مصدر بلفظ «رب» أو «ربنا» و ليس إلا لدقة المورد و هول المطلع، نعم يوجد في أقسام الثناء المحكية نظير هذا التصدير كقوله: «قل الحمد لله»: «النمل: 59» و قوله: «قل اللهم مالك الملك»: «آل عمران: 26» و قوله: «قل اللهم فاطر السماوات و الأرض»: «الزمر: 46».
ثم ذكر (عليه السلام) عنوانا لهذه المائدة النازلة هو الغرض له و لأصحابه من سؤال نزولها و هو أن تنزل فتكون عيدا له و لجميع أمته، و لم يكن الحواريون ذكروا فيما اقترحوه أنهم يريدون عيدا يخصون به لكنه (عليه السلام) عنون ما سأله بعنوان عام و قلبه في قالب حسن ليخرج عن كونه سؤالا للآية مع وجود آيات كبرى إلهية بين أيديهم و تحت مشاهدتهم، و يكون سؤالا مرضيا عند الله غير مصادم لمقام العزة و الكبرياء فإن العيد من شأنه أن يجمع الكلمة، و يجدد حياة الملة، و ينشط نفوس العائدين، و يعلن كلما عاد عظمة الدين.
و لذلك قال: «عيدا لأولنا و آخرنا» أي أول جماعتنا من الأمة و آخر من يلحق بهم - على ما يدل عليه السياق - فإن العيد من العود و لا يكون عيدا إلا إذا عاد حينا بعد حين، و في الخلف بعد السلف من غير تحديد.
و هذا العيد مما اختص به قوم عيسى (عليه السلام) كما اختصوا بنوع هذه الآية النازلة على ما تقدم بيانه.
و قوله: «و آية منك» لما قدم مسألة العيد و هي مسألة حسنة جميلة لا عتاب عليها عقبها بكونها آية منه تعالى كأنه من الفائدة الزائدة المترتبة على الغرض الأصلي غير مقصودة وحدها حتى يتعلق بها عتاب أو سخط، و إلا فلو كانت مقصودة وحدها من حيث كونها آية لم تخل مسألتها من نتيجة غير مطلوبة فإن جميع المزايا الحسنة التي كان يمكن أن يراد بها كانت ممكنة الحصول بالآيات المشهودة كل يوم منه (عليه السلام) للحواريين و غيرهم.
و قوله: «و ارزقنا و أنت خير الرازقين» و هذه فائدة أخرى عدها مترتبة على ما سأله من العيد من غير أن تكون مقصودة بالذات، و قد كان الحواريون ذكروه مطلوبا بالذات حيث قالوا: «نريد أن نأكل منها» فذكروه مطلوبا لذاته و قدموه على غيره، لكنه (عليه السلام) عده غير مطلوب بالذات و أخره عن الجميع و أبدل لفظ الأكل من لفظ الرزق فأردفه بقوله «و أنت خير الرازقين».
و الدليل على ما ذكرنا أنه (عليه السلام) جعل ما أخذوه أصلا فائدة مترتبة أنه سأل أولا لجميع أمته و نفسه، و هو سؤال العيد الذي إضافة إلى سؤالهم فصار بذلك كونها آية من الله و رزقا وصفين خاصين للبعض دون البعض كالفائدة المترتبة غير الشاملة.
فانظر إلى أدبه (عليه السلام) البارع الجميل مع ربه، و قس كلامه إلى كلامهم - و كلا الكلامين يؤمان نزول المائدة - تر عجبا فقد أخذ (عليه السلام) لفظ سؤالهم فأضاف و حذف، و قدم و أخر، و بدل و حفظ حتى عاد الكلام الذي ما كان ينبغي أن يوجه به إلى حضرة العزة و ساحة العظمة أجمل كلام يشتمل على أدب العبودية، فتدبر في قيود كلامه (عليه السلام) تر عجبا.
قوله تعالى: «قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين» قرأ أهل المدينة و الشام و عاصم «منزلها» بالتشديد و الباقون «منزلها» بالتخفيف - على ما في المجمع -، و التخفيف أوفق لأن الإنزال هو الدال على النزول الدفعي، و كذلك نزلت المائدة، و أما التنزيل فاستعماله الشائع إنما هو في النزول التدريجي كما تقدم كرارا.
و قوله تعالى: «إني منزلها عليكم» وعد صريح بالإنزال و خاصة بالنظر إلى الإتيان به في هيئة اسم الفاعل دون الفعل، و لازم ذلك أن المائدة قد نزلت عليهم.
و ذكر بعض المفسرين أنها لم تنزل كما روي ذلك في الدر المنثور، و مجمع البيان، و غيرهما عن الحسن و مجاهد: قالا: إنها لم تنزل و إن القوم لما سمعوا الشرط استعفوا عن نزولها و قالوا: لا نريدها و لا حاجة لنا فيها فلم تنزل.
و الحق أن الآية ظاهرة الدلالة على النزول فإنها تتضمن الوعد الصريح بالنزول و حاشاه تعالى أن يجود لهم بالوعد الصريح و هو يعلم أنهم سيستعفون عنها فلا تنزل، و الوعد الذي في الآية صريح و الشرط الذي في الآية يتضمن تفرع العذاب و ترتبه على الكفر بعد النزول، و بعبارة أخرى: الآية تتضمن الوعد المطلق بالإنزال ثم تفريع العذاب على الكفر لا أنها تشتمل على الوعد بالإنزال على تقدير قبولهم العذاب على الكفر، حتى يرتفع موضوع الوعد عند عدم قبولهم الشرط فلا تنزل المائدة باستعفائهم عن نزولها، فافهم.
و كيف كان فاشتمال وعده تعالى بإنزال المائدة على الوعيد الشديد بعذاب الكافرين بها منهم ليس ردا لدعاء عيسى (عليه السلام) و إنما هو استجابة له غير أنه لما كان ظاهر الاستجابة بعد الدعاء - على ما له من السياق - أن هذه الآية تكون رحمة مطلقة منه لهم يتنعم بها آخرهم و أولهم، قيد تعالى هذا الإطلاق بالشرط الذي شرط عليهم، و محصله أن هذا العيد الذي خصهم الله به لا ينتفع به جميعهم بل إنما ينتفع به المؤمنون المستمرون على الإيمان منهم، و أما الكافرون بها فيستضرون بها أشد الضرر.
فالآيتان في كلامه تعالى من حيث إطلاق الدعاء بحسب لازمه و تقييد الاستجابة كقوله تعالى: «و إذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال و من ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين»: «البقرة - 142» و قوله تعالى حكاية عن موسى (عليه السلام): «أنت ولينا فاغفر لنا و ارحمنا و أنت خير الغافرين، و اكتب لنا في هذه الدنيا حسنة و في الآخرة إنا هدنا إليك قال عذابي أصيب به من أشاء و رحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون و يؤتون الزكاة و الذين هم بآياتنا يؤمنون»: «الأعراف: 165».
و قد عرفت فيما تقدم أن السبب الأصلي في هذا العذاب الموعود الذي يختص بهم إنما هو اقتراحهم آية هي في نوعها مختصة بهم لا يشاركهم فيها غيرهم من الأمم فإذا أجيبوا إلى ذلك أوعدوا على الكفر عذابا لا يشاركهم فيها غيرهم كما شرفوا بمثل ذلك.
و من هنا يظهر أن المراد بالعالمين عالمو جميع الأمم عالمو زمانهم فإن ذلك مرتبطا بمن يمتازون عنهم من الناس و هم جميع الأمم لا أهل زمان عيسى (عليه السلام) خاصة من أمم الأرض.
و من هناك يظهر أيضا أن قوله «فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين» و إن كان وعيدا شديدا بعذاب بئيس لكن الكلام غير ناظر إلى كون العذاب فوق جميع العذابات و العقوبات في الشدة و الألم، و إنما هو مسوق لبيان انفراد العذاب في بابه، و اختصاصهم من بين الأمم به.
بحث روائي
في المجمع،: في قوله تعالى: «هل يستطيع ربك» عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: معنى الآية هل تستطيع أن تدعو ربك.
أقول: و روي هذا المعنى من طريق الجمهور عن بعض الصحابة و التابعين كعائشة و سعيد بن جبير، و هو راجع إلى ما استظهرناه من معنى الآية فيما تقدم فإن السؤال عن استطاعة عيسى (عليه السلام) إنما يصح بالنسبة إلى استطاعته بحسب الحكمة و المصلحة دون استطاعته بحسب أصل القدرة.
و في تفسير العياشي، عن عيسى العلوي عن أبيه عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: المائدة التي نزلت على بني إسرائيل مدلاة بسلاسل من ذهب عليها تسعة أحوتة و تسعة أرغفة.
أقول: و في لفظ آخر تسعة أنوان و تسعة أرغفة «و الأنوان» جمع نون و هو الحوت.
و في المجمع، عن عمار بن ياسر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: نزلت المائدة خبزا و لحما، و ذلك لأنهم سألوا عيسى طعاما لا ينفد يأكلون منها، قال: فقيل لهم: فإنها مقيمة لكم ما لم تخونوا و تخبئوا و ترفعوا فإن فعلتم ذلك عذبتم، قال: فما مضى يومهم حتى خبئوا و رفعوا و خانوا.
أقول: و رواه في الدر المنثور، عن الترمذي و ابن جرير و ابن أبي حاتم و ابن الأنباري و أبي الشيخ و ابن مردويه عن عمار بن ياسر عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) و في آخره: فمسخوا قردة و خنازير.
قال في الدر المنثور،: و أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم من وجه آخر عن عمار بن ياسر موقوفا: مثله، قال الترمذي: و الوقف أصح، انتهى.
و الذي ذكر في الخبر من أنهم سألوا طعاما لا ينفد يأكلون منها لا ينطبق على الآية ذاك الانطباق بناء على ظاهر ما حكاه الله تعالى من قولهم: «و نكون عليها من الشاهدين» فإن الطعام الذي لا يقبل النفاد لا يحتاج إلى شاهد يشهد عليه إلا أن يراد من الشهادة الشهادة عند الله يوم القيامة.
و الذي ذكر فيه من مسخهم قردة و خنازير ظاهر السياق أن ذلك هو العذاب الموعود لهم، و هذا مما يفتح بابا آخر من المناقشة فيه فإن ظاهر قوله تعالى: «فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين» اختصاص هذا العذاب بهم، و قد نص القرآن الشريف على مسخ آخرين بالقردة، قال تعالى: «و لقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين»: «البقرة: 65» و المروي في هذا الباب عن بعض طرق أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أنهم مسخوا خنازير.
و في تفسير العياشي، عن الفضيل بن يسار عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: إن الخنازير من قوم عيسى سألوا نزول المائدة فلم يؤمنوا بها فمسخهم الله خنازير.
و فيه،: عن عبد الصمد بن بندار قال: سمعت أبا الحسن (عليه السلام) يقول: كانت الخنازير قوما من القصارين كذبوا بالمائدة فمسخوا خنازير.
أقول: و فيما رواه في الكافي، عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن محمد بن الحسن الأشعري عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: الفيل مسخ كان ملكا زناء، و الذئب مسخ كان أعرابيا ديوثا، و الأرنب مسخ كانت امرأة تخون زوجها و لا تغتسل من حيضها، و الوطواط مسخ كان يسرق تمور الناس، و القردة و الخنازير قوم من بني إسرائيل اعتدوا في السبت، و الجريث و الضب فرقة من بني إسرائيل لم يؤمنوا حيث نزلت المائدة على عيسى بن مريم فتاهوا فوقعت فرقة في البحر و فرقة في البر، و الفأرة فهي الفويسقة، و العقرب كان نماما، و الدب و الوزغ و الزنبور كانت لحاما يسرق في الميزان.
و الرواية لا تعارض الروايتين السابقتين لإمكان أن يمسخ بعضهم خنزيرا و بعضهم جريثا و ضبا غير أن هذه الرواية لا تخلو عن شيء آخر و هو ما تضمنه من مسخ أصحاب السبت قردة و خنازير، و الآية الشريفة المذكورة و نظيرتها ما في سورة الأعراف إنما تذكر ان مسخهم قردة بسياق كالمنافي لغيرها، و الله أعلم.
|