بيان
تعرض لسؤالهم عن وقت قيام الساعة و رد له بأن علمه ليس لأحد إلا الله فقد خصه بنفسه.
قوله تعالى: «يسألونك عن الساعة أيان مرساها» الظاهر أن التعبير بيسألونك لإفادة الاستمرار فقد كان المشركون بعد ما سمعوا حديث القيامة يراجعون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و يسألونه أن يعين لهم وقتها مصرين على ذلك و قد تكرر في القرآن الكريم الإشارة إلى ذلك.
و المرسى مصدر ميمي بمعنى الإثبات و الإقرار و قوله: «أيان مرساها» بيان للسؤال و المعنى يسألك هؤلاء المنكرون للساعة المستهزءون به عن الساعة متى إثباتها و إقرارها؟ أي متى تقوم القيامة؟ قوله تعالى: «فيم أنت من ذكراها» استفهام إنكاري و «فيم أنت» مبتدأ و خبر، و «من» لابتداء الغاية، و الذكرى كثرة الذكر و هو أبلغ من الذكر على ما ذكره الراغب.
و المعنى في أي شيء أنت من كثرة ذكر الساعة أي ما ذا يحصل لك من العلم بوقتها من ناحية كثرة ذكرها و بسبب ذلك أي لست تعلمها بكثرة ذكرها.
أو الذكرى بمعنى حضور حقيقة معنى الشيء في القلب، و المعنى - على الاستفهام الإنكاري - لست في شيء من العلم بحقيقتها و ما هي عليه حتى تحيط بوقتها و هو أنسب من المعنى السابق.
و قيل: المعنى ليس ذكراها مما يرتبط ببعثتك إنما بعثت لتنذر من يخشاها.
و قيل: «فيم» إنكار لسؤالهم، و قوله: «أنت من ذكراها» استئناف و تعليل لإنكار سؤالهم، و المعنى فيم هذا السؤال إنما أنت من ذكرى الساعة لاتصال بعثتك بها و أنت خاتم الأنبياء، و هذا المقدار من العلم يكفيهم، و هو قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما روي: «بعثت أنا و الساعة كهاتين إن كادت لتسبقني».
و قيل: الآية من تمام سؤال المشركين خاطبوا به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و المعنى ما الذي عندك من العلم بها و بوقتها؟ أو ما الذي حصل لك و أنت تكثر ذكرها.
و أنت خبير بأن السياق لا يلائم شيئا من هذه المعاني تلك الملاءمة، على أنها أو أكثرها لا تخلو من تكلف.
قوله تعالى: «إلى ربك منتهاها» في مقام التعليل لقوله: «فيم أنت من ذكراها» و المعنى لست تعلم وقتها لأن انتهاءها إلى ربك فلا يعلم حقيقتها و صفاتها و منها تعين الوقت إلا ربك فليس لهم أن يسألوا عن وقتها و ليس في وسعك أن تجيب عنها.
و ليس من البعيد - و الله أعلم - أن تكون الآية في مقام التعليل بمعنى آخر و هو أن الساعة تقوم بفناء الأشياء و سقوط الأسباب و ظهور أن لا ملك إلا لله الواحد القهار فلا ينتسب اليوم إلا إليه تعالى من غير أن يتوسط بالحقيقة بينه تعالى و بين اليوم أي سبب مفروض و منه الزمان فليس يقبل اليوم توقيتا بحسب الحقيقة.
و لذا لم يرد في كلامه تعالى من التحديد إلا تحديد اليوم بانقراض نشأة الدنيا كقوله: «و نفخ في الصور فصعق من في السماوات و من في الأرض»: الزمر: 68 و ما في معناه من الآيات الدالة على خراب الدنيا بتبدل الأرض و السماء و انتثار الكواكب و غير ذلك.
و إلا تحديده بنوع من التمثيل و التشبيه كقوله تعالى: «كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها»، و قوله: «كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار»: الأحقاف: 35، و قوله: «و يوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة» ثم ذكر حق القول في ذلك فقال: «و قال الذين أوتوا العلم و الإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث»: الروم: 56.
و يلوح إلى ما مر ما في مواضع من كلامه أن الساعة لا تأتي إلا بغتة، قال تعالى: «ثقلت في السماوات و الأرض لا تأتيكم إلا بغتة يسألونك كأنك حفي عنها قل إنما علمها عند الله و لكن أكثر الناس لا يعلمون»: الأعراف: 187 إلى غير ذلك من الآيات.
و هذا وجه عميق يحتاج في تمامه إلى تدبر واف ليرتفع به ما يتراءى من مخالفته لظواهر عدة من آيات القيامة و عليك بالتدبر في قوله تعالى: «لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد»: ق: 22 و ما في معناه من الآيات و الله المستعان.
قوله تعالى: «إنما أنت منذر من يخشاها» أي إنما كلفناك بإنذار من يخشى الساعة دون الإخبار بوقت قيام الساعة حتى تجيبهم عن وقتها إذا سألوك عنه فالقصر في الآية قصر إفراد بقصر شأنه (صلى الله عليه وآله وسلم) في الإنذار و تنفي عنه العلم بالوقت و تعيينه لمن يسأل عنه.
و المراد بالخشية على ما يناسب المقام الخوف منها إذا ذكر بها أي شأنية الخشية لا فعليتها قبل الإنذار.
قوله تعالى: «كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها» بيان لقرب الساعة بحسب التمثيل و التشبيه بأن قرب الساعة من حياتهم الدنيا بحيث مثلهم حين يرونها مثلهم لو لبثوا بعد حياتهم في الأرض عشية أو ضحى تلك العشية أي وقتا نسبته إلى نهار واحد نسبة العشية إلى ما قبلها منه أو نسبة الضحى إلى ما قبله منه.
و قد ظهر بما تقدم أن المراد باللبث لبث ما بين الحياة الدنيا و البعث أي لبثهم في القبور لأن الحساب يقع على مجموع الحياة الدنيا.
و قيل: المراد به اللبث بين حين سؤالهم عن وقتها و بين البعث و فيه أنهم إنما يشاهدون لبثهم على هذه الصفة عند البعث و البعث الذي هو الإحياء بعد الموت إنما نسبته إلى الموت الذي قبله دون مجموع الموت و بعض الحياة التي بين زمان السؤال عن الوقت و زمان الموت.
على أنه لا يلائم ظواهر سائر الآيات المتعرضة للبثهم قبل البعث كقوله تعالى «قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين»: المؤمنون: 112.
و قيل: المراد باللبث اللبث في الدنيا و هو سخيف.
بحث روائي
في تفسير القمي،: «و أما من خاف مقام ربه و نهى النفس عن الهوى - فإن الجنة هي المأوى» قال: هو العبد إذا وقف على معصية الله و قدر عليها ثم تركها مخافة الله و نهي الله و نهى النفس عنها فمكافاته الجنة، قوله «يسألونك عن الساعة أيان مرساها» قال: متى تقوم؟ فقال الله: «إلى ربك منتهاها» أي علمها عند الله، قوله «كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها» قال: بعض يوم.
و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم و ابن مردويه بسند ضعيف عن ابن عباس قال: إن مشركي مكة سألوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا: متى تقوم الساعة استهزاء منهم فنزلت «يسألونك عن الساعة أيان مرساها» الآيات.
و فيه، أخرج البزار و ابن جرير و ابن المنذر و الحاكم و صححه و ابن مردويه عن عائشة قالت: ما زال رسول الله يسأل عن الساعة حتى أنزل عليه «فيم أنت من ذكراها إلى ربك منتهاها» فلم يسأل عنها.
أقول: و رواه أيضا عن عدة من أصحاب الكتب عن عروة مرسلا، و رواه أيضا عن عدة منهم عن شهاب بن طارق عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): مثله، و السياق لا يلائم كونه جوابا عن سؤال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
و في بعض الروايات: كانت الأعراب إذا قدموا على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سألوه عن الساعة فينظر إلى أحدث إنسان فيهم فيقول: إن يعش هذا قرنا قامت عليكم ساعتكم: رواها في الدر المنثور، عن ابن مردويه عن عائشة.
و هي من التوقيت الذي يجل عنه ساحة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و قد أوحي إليه في كثير من السور القرآنية سيما المكية أن علم الساعة يختص به تعالى لا يعلمه إلا هو و أمر أن يجيب من سأله عن وقتها بنفي العلم به عن نفسه.
|