بيان
مشافهة الله رسوله عيسى بن مريم في أمر ما قالته النصارى في حقه، و كان الغرض من سرد الآيات ذكر ما اعترف به (عليه السلام) و حكاه عن نفسه في حياته الدنيا: أنه لم يكن من حقه أن يدعي لنفسه ما ليس فقد كان بعين الله التي لا تنام و لا تزيغ و أنه لم يتعد ما حده الله سبحانه له فلم يقل إلا ما أمر أن يقول ذلك، و اشتغل بالعمل بما كلفه الله أن يشتغل به و هو أمر الشهادة، و قد صدقه الله تعالى فيما ذكره من حق الربوبية و العبودية.
و بهذا تنطبق الآيات على الغرض النازل لأجله السورة، و هو بيان الحق المجعول لله على عباده أن يفوا بالعهد الذي عقدوه و أن لا ينقضوا الميثاق فليس لهم أن يسترسلوا كيفما أرادوا و أن يرتعوا رغدا حيث شاءوا فلم يملكوا هذا النوع من الحق من قبل ربهم، و لا أنهم قادرون على ذلك من حيال أنفسهم، و لله ملك السماوات و الأرض و ما فيهن و هو على كل شيء قدير، و بذلك تختتم السورة.
قوله تعالى: «و إذ قال الله يا عيسى بن مريم، أ أنت قلت للناس اتخذوني و أمي إلهين من دون الله» «إذ» ظرف متعلق بمحذوف يدل عليه المقام، و المراد به يوم القيامة لقوله تعالى فيها: «قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم» و قول عيسى (عليه السلام) فيها «و كنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم».
و قد عبرت الآية عن مريم بالأمومة فقيل: «اتخذوني و أمي إلهين» دون أن يقال: «اتخذوني و مريم إلهين للدلالة على عمدة حجتهم في الألوهية و هو ولادته منها بغير أب، فالبنوة و الأمومة الكذائيتين هما الأصل في ذلك فالتعبير به و بأمه أدل و أبلغ من التعبير بعيسى و مريم.
و «دون» كلمة تستعمل بحسب المال في معنى الغير، قال الراغب: يقال للقاصر عن الشيء «دون» قال بعضهم: هو مقلوب من الدنو، و الأدون الدني، و قوله تعالى: «لا تتخذوا بطانة من دونكم» أي من لم يبلغ منزلتكم في الديانة، و قيل: في القرابة، و قوله: «و يغفر ما دون ذلك» أي ما كان أقل من ذلك، و قيل: ما سوى ذلك، و المعنيان متلازمان، و قوله: أ أنت قلت للناس اتخذوني و أمي إلهين من دون الله» أي غير الله، انتهى.
و قد استعمل لفظ «من دون الله» كثيرا في القرآن في معنى الإشراك دون الاستقلال بمعنى أن المراد من اتخاذ إله أو إلهين أو آلهة من دون الله هو أن يتخذ غير الله شريكا لله سبحانه في ألوهيته لا أن يتخذ غير الله إلها و تنفي ألوهية الله سبحانه فإن ذلك من لغو القول الذي لا يرجع إلى محصل فإن الذي أثبته حينئذ يكون هو الإله سبحانه و ينفي غيره، و يعود النزاع إلى بعض الأوصاف التي أثبتها فمثلا لو قال قائل: «إن الإله هو المسيح و نفى إله المسيح عاد مفاد كلامه إلى إثبات الإله تعالى و توصيفه بصفات المسيح البشرية، و لو قال قائل: إن الأصنام أو أرباب الأصنام آلهة و نفى الله تعالى و تقدس فإنه يقول بأن للعالم إلها فقد أثبت الله سبحانه لكنه نعته بنعت الكثرة و التعدد فقد جعل لله شركاء، أو يقول كما يقوله النصارى: إن الله ثالث ثلاثة أي واحد هو ثلاث و ثلاث هو واحد.
و من قال: إن مبدأ العالم هو الدهر أو الطبيعة و نفى أن يكون للعالم إله تعالى عن ذلك فقد أثبت للعالم صانعا و هو الله عز اسمه لكنه نعته بنعوت القصور و النقص و الإمكان.
و من نفى أن يكون لهذا النظام العجيب مبدأ أصلا و نفى العلية و التأثير على الرغم من صريح ما تقضي به فطرته فقد أثبت عالما موجودا ثابتا لا يقبل النفي و الانعدام من رأس أي هو واجب الثبوت و حافظ ثبوته و وجوده إما نفسه و ليس لطرو الزوال و التغير إلى أجزائه، و إما غيره فهو الله تبارك و تعالى، و له نعوت كماله.
فتبين أن الله سبحانه لا يقبل النفي أصلا إلا بظاهر من القول من غير أن يكون له معنى معقول.
و الملاك في ذلك كله أن الإنسان إنما يثبت الإله تعالى من جهة الحاجة العامة في العالم إلى من يقيم أود وجوده و يدبر أمر نظامه ثم يثبت خصوصيات وجوده فما أثبته من شيء لسد هذه الخلة و رفع تلك الحاجة فهو الله سبحانه ثم إذا أثبت إلها غيره أو أثبت كثرة فإما أن يكون قد أخطأ في تشخيص صفاته و ألحد في أسمائه، أو يثبت له شريكا أو شركاء تعالى عن ذلك، و أما نفيه و إثبات غيره فلا معنى له.
فظهر أن معنى قوله: «إلهين من دون الله» شريكين لله هما من غيره، و إن سلم أن الكلمة لا تؤدي معنى الشركة بوجه، قلنا: إن معناها لا يتعدى اتخاذ إلهين هما من سنخ غير الله سبحانه و أما كون ذلك مقارنا لنفي ألوهيته تعالى أو إثباتها فهو مسكوت عنه لا يدل عليه لفظ و إنما يعلم من خارج، و النصارى لا ينفون ألوهيته تعالى مع اتخاذهم المسيح و أمه إلهين من دون الله سبحانه.
و ربما استشكل بعضهم الآية بأن النصارى غير قائلين بألوهية مريم العذراء (عليها السلام)، و ذكروا في توجيهها وجوها.
لكن الذي يجب أن يتنبه عليه أن الآية إنما ذكرت اتخاذهم إياها إلهة و لم يذكر قولهم بأنها إلهة بمعنى التسمية، و اتخاذ الإله غير القول بالألوهية إلا من باب الالتزام، و اتخاذ الإله يصدق بالعبادة و الخضوع العبودي قال تعالى: «أ فرأيت من اتخذ إلهه هواه»: «الجاثية: 23» و هذا المعنى مأثور عن أسلاف النصارى مشهود في أخلافهم.
قال الآلوسي في روح المعاني،: إن أبا جعفر الإمامي حكى عن بعض النصارى أنه كان فيما مضى قوم يقال لهم: «المريمية» يعتقدون في مريم أنها إله.
و قال في تفسير المنار،: أما اتخاذهم المسيح إلها فقد تقدم في مواضع من تفسير هذه السورة، و أما أمه فعبادتها كانت متفقا عليها في الكنائس الشرقية و الغربية بعد قسطنطين، ثم أنكرت عبادتها فرقة البروتستانت التي حدثت بعد الإسلام بعدة قرون.
إن هذه العبادة التي توجهها النصارى إلى مريم والدة المسيح (عليه السلام) منها ما هو صلاة ذات دعاء و ثناء و استغاثة و استشفاع، و منها صيام ينسب إليها و يسمى باسمها، و كل ذلك يقرن بالخضوع و الخشوع لذكرها و لصورها و تماثيلها، و اعتقاد السلطة الغيبية لها التي يمكنها بها في اعتقادهم أن تنفع و تضر في الدنيا و الآخرة بنفسها أو بواسطة ابنها، و قد صرحوا بوجوب العبادة لها، و لكن لا يعرف عن فرقة من فرقهم إطلاق كلمة «إله» عليها بل يسمونها «والدة الإله» و يصرح بعض فرقهم أن ذلك حقيقة لا مجاز.
و القرآن يقول هنا: إنهم اتخذوها و أمها إلهين، و الاتخاذ غير التسمية فهو يصدق بالعبادة و هي واقعة قطعا، و بين في آية أخرى أنهم قالوا: إن الله هو المسيح عيسى بن مريم، و ذلك معنى آخر، و قد فسر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله تعالى في أهل الكتاب: «اتخذوا أحبارهم و رهبانهم أربابا من دون الله» أنهم اتبعوهم فيما يحلون و يحرمون لا أنهم سموهم أربابا.
و أول نص صريح رأيته في عبادة النصارى لمريم عبادة حقيقية ما في كتاب «السواعي» من كتب الروم الأرثوذكس، و قد اطلعت على هذا الكتاب في دير يسمى «دير التلميد» و أنا في أول العهد بمعاهد التعليم، و طوائف الكاثوليك يصرحون بذلك و يفاخرون به.
و قد زين الجزويت في بيروت العدد التاسع من السنة السابعة لمجلتهم «المشرق» بصورتها و بالنقوش الملونة إذ جعلوه تذكارا لمرور خمسين سنة على إعلان البابا بيوس التاسع: أن مريم البتول حبل بها بلا دنس الخطية» و أثبتوا في هذا العدد عبادة الكنائس الشرقية لمريم كالكنائس الغربية.
و منه قول الأب «لويس شيخو» في مقالة له فيه عن الكنائس الشرقية: «أن تعبد الكنيسة الأرمنية للبتول الطاهرة أم الله لأمر مشهور» و قوله «قد امتازت الكنيسة القبطية بعبادتها للبتولة المغبوطة أم الله» انتهى كلامه.
و نقل أيضا بعض مقالة للأب «إنستاس الكرملي» نشرت في العدد الرابع عشر من السنة الخامسة من مجلة المشرق الكاثوليكية البيروتية قال تحت عنوان قدم «التعبد للعذراء» بعد ذكر عبارة سفر التكوين في عداوة الحية للمرأة و نسلها و تفسير المرأة بالعذراء: «أ لا ترى أنك لا ترى من هذا النص شيئا ينوه بالعذراء تنويها جليا إلى أن جاء ذلك النبي العظيم «إيليا» الحي فأبرز عبادة العذراء من حيز الرمز و الإبهام إلى عالم الصراحة و التبيان».
ثم فسر هذه الصراحة و التبيان بما في سفر الملوك الثالث بحسب تقسيم الكاثوليك من أن إيليا حين كان مع غلامه في رأس الكرمل أمره سبع مرات أن يتطلع نحو البحر فأخبره الغلام بعد تطلعه المرة السابعة: أنه رأى سحابة قدر راحة الرجل طالعة من البحر.
قال صاحب المقالة: فمن ذلك النشىء أول ما ينشأ من السحاب قلت: إن هو إلا صورة مريم على ما أحقه المفسرون بل و صورة الحبل بلا دنس أصلي، ثم قال: هذا أصل عبادة العذراء في الشرق العزيز، و هو يرتقي إلى المائة العاشرة قبل المسيح، و الفضل في ذلك عائد إلى هذا النبي إيليا العظيم، ثم قال: و لذلك كان أجداد الكرمليين أول من آمن أيضا بالإله يسوع بعد الرسل و التلامذة، و أول من أقام للعذراء معبدا بعد انتقالها إلى السماء بالنفس و الجسد، انتهى.
قوله تعالى: «قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق» إلى آخر الآية هذه الآية و التي تتلوها جواب المسيح عيسى بن مريم (عليهما السلام) عما سئل عنه و قد أتى (عليه السلام) فيه بأدب عجيب:.
فبدأ بتسبيحه تعالى لما فاجأه أن سمع ذكر ما لا يليق نسبته إلى ساحة الجلال و العظمة و هو اتخاذ الناس إلهين من دون الله شريكين له سبحانه فمن أدب العبودية أن يسبح العبد ربه إذا سمع ما لا ينبغي أن يسمع فيه تعالى أو ما يخطر بالبال تصور ذلك، و عليه جرى التأديب الإلهي في كلامه كقوله: «و قالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه»: «الأنبياء: 26» و قوله: «و يجعلون لله البنات سبحانه»: «النحل: 57».
ثم عاد إلى نفي ما استفهم عن انتسابه إليه، و هو أن يكون قد قال للناس اتخذوني و أمي إلهين من دون الله، و لم ينفه بنفسه بل بنفي سببه مبالغة في التنزيه فلو قال: «لم أقل ذلك أو لم أفعل» لكان فيه إيماء إلى إمكان وقوعه منه لكنه لم يفعل، لكن إذا نفاه بنفي سببه فقال: «ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق» كان ذلك نفيا لما يتوقف عليه ذلك القول، و هو أن يكون له أن يقول ذلك حقا فنفي هذا الحق نفي ما يتفرع عليه بنحو أبلغ نظير ما إذ قال المولى لعبده: لم فعلت ما لم آمرك أن تفعله؟ فإن أجاب العبد بقوله: «لم أفعل» كان نفيا لما هو في مظنة الوقوع، و إن قال: «أنا أعجز من ذلك» كان نفيا بنفي السبب و هو القدرة، و إنكارا لأصل إمكانه فضلا عن الوقوع.
و قوله: «ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق» إن كان لفظ «يكون» ناقصة فاسمها قوله: «أن أقول» و خبرها قوله: «لي» و اللام للملك، و المعنى: ما أملك ما لم أملكه و ليس من حقي القول بغير حق، و إن كانت تامة فلفظ «لي» متعلق بها و قوله: «أن أقول، إلخ» فاعلها، و المعنى: ما يقع لي القول بغير حق، و الأول من الوجهين أقرب، و على أي حال يفيد الكلام نفي الفعل بنفي سببه.
و قوله (عليه السلام): «إن كنت قلته فقد علمته» نفي آخر للقول المستفهم عنه لا نفيا لنفسه بنفسه بل بنفي لازمه فإن لازم وقوع هذا القول أن يعلم به الله لأنه الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض و لا في السماء و هو القائم على كل نفس بما كسبت، المحيط بكل شيء.
و هذا الكلام منه (عليه السلام) يتضمن أولا فائدة إلقاء القول مع الدليل من غير أن يكتفي بالدعوى المجردة و ثانيا الإشعار بأن الذي كان يعتبره في أفعاله و أقواله هو علم الله سبحانه من غير أن يعبأ بغيره من خلقه علموا أو جهلوا، فلا شأن له معهم.
و بلفظ آخر السؤال إنما يصح طبعا في ما كان مظنة الجهل فيراد به نفي الجهل و إفادة العلم، إما لنفس السائل إذا كان هو الجاهل بواقع الأمر، أو لغيره إذا كان السائل عالما و أراد أن يعلم غيره بما يعلم هو من واقع الأمر كما يحمل عليه نوع السؤال الواقع في كلامه تعالى، و قوله (عليه السلام) في الجواب في مثل المقام إن كنت قلته فقد علمته» إرجاع للأمر إلى علمه تعالى و إشعار أنه لا يعتبر شيئا في أفعاله و أقواله غير علمه تعالى.
ثم أشار بقوله: «تعلم ما في نفسي و لا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب» ليكون تنزيها لعلمه تعالى عن مخالطة الجهل إياه و هو و إن كان ثناء أيضا في نفسه لكنه غير مقصود لأن المقام ليس بمقام الثناء بل مقام التبري عن انتساب ما نسب إليه.
فقوله (عليه السلام): «تعلم ما في نفسي» توضيح لنفوذ العلم الذي ذكره في قوله: «إن كنت قلته فقد علمته» و بيان أن علمه تعالى بأعمالنا و هو الملك الحق يومئذ ليس من قبيل علم الملوك منا بأحوال رعيته بارتفاع أخبار المملكة إليه ليعلم بشيء و يجهل بشيء، و يستحضر حال بعض و يغفل عن حال بعض، بل هو سبحانه لطيف خبير بكل شيء و منها نفس عيسى بن مريم بخصوصه.
و مع ذلك لم يستوف حق البيان في وصف علمه تعالى فإنه سبحانه يعلم كل شيء، لا كعلم أحدنا بحال الآخر و علم الآخر بحاله، بل يعلم ما يعلم بالإحاطة به من غير أن يحيط به شيء و لا يحيطون به علما فهو تعالى إله غير محدود و كل من سواه محدود مقدر لا يتعدى طور نفسه المحدود، و لذلك ضم (عليه السلام) إلى الجملة جملة أخرى فقال: «تعلم ما في نفسي و لا أعلم ما في نفسك».
أما قوله: «إنك أنت علام الغيوب» ففيه بيان العلة لقوله: «تعلم ما في نفسي» «إلخ»، و فيه استيفاء حق البيان من جهة أخرى و هو رفع توهم أن حكم العلم في قوله: «تعلم ما في نفسي و لا أعلم ما في نفسك» مقصور بما بينه و بين ربه لا يطرد في كل شيء فبين بقوله: «إنك أنت علام الغيوب» أن العلم التام بجميع الغيوب منحصر فيه فما كان عند شيء من الأشياء و هو غيب عن غيره فهو معلوم لله سبحانه و هو محيط به.
و لازم ذلك أن لا يعلم شيء من الأشياء بغيبه تعالى و لا بغيب غيره الذي هو تعالى عالم به لأنه مخلوق محدود لا يتعدى طور نفسه فهو علام جميع الغيوب، و لا يعلم شيء غيره تعالى بشيء من الغيوب لا الكل و لا البعض.
على أنه لو أحيط من غيبه تعالى بشيء فإن أحاط تعالى به لم يكن هذا المحيط محيطا حقيقة بل محاطا له تعالى ملكه الله بمشيئته أن يحيط بشيء من ملكه من غير أن يخرج بذلك من ملكه كما قال تعالى: «و لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء»: «البقرة: 255».
و إن لم يحط سبحانه تعالى بما أحاط به كان مضروبا بحد فكان مخلوقا تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
قوله تعالى: «ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي و ربكم» لما نفى (عليه السلام) القول المسئول عنه عن نفسه بنفي سببه أولا نفاه ببيان وظيفته التي لم يتعدها ثانيا فقال: «ما قلت لهم إلا ما أمرتني به» «إلخ»، و أتى فيه بالحصر بطريق النفي و الإثبات ليدل على الجواب بنفي ما سئل عنه و هو القول: «اتخذوني و أمي إلهين من دون الله».
و فسر ما أمره به ربه من القول بقوله: «أن اعبدوا الله» ثم وصف الله سبحانه بقوله: «ربي و ربكم» لئلا يبقى أدنى شائبة من الوهم في أنه عبد رسول يدعو إلى الله ربه و رب جميع الناس وحده لا شريك له.
و على هذه الصراحة كان يسلك عيسى بن مريم (عليهما السلام) في دعوته ما دعاهم إلى التوحيد على ما يحكي عنه القرآن الشريف، قال تعالى حكاية عنه: «إن الله هو ربي و ربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم»: «الزخرف: 64» و قال: «و إن الله ربي و ربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم»: «مريم: 36».
قوله تعالى: «و كنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم و أنت على كل شيء شهيد» ثم ذكر (عليه السلام) وظيفته الثانية من جانب الله سبحانه و هو الشهادة على أعمال أمته كما قال تعالى: «و يوم القيامة يكون عليهم شهيدا»: «النساء: 195».
يقول (عليه السلام) ما كان لي من الوظيفة فيهم إلا الرسالة إليهم و الشهادة على أعمالهم: أما الرسالة فقد أديتها على أصرح ما يمكن، و أما الشهادة فقد كنت عليها ما دمت فيهم، و لم أتعد ما رسمت لي من الوظيفة فأنا براء من أن أكون ألقي إليهم أن اتخذوني و أمي إلهين من دون الله.
و قوله: «فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم» الرقوب و الرقابة هو الحفظ، و المراد به في المقام بدلالة السياق هو الحفظ على الأعمال، و كأنه أبدل الشهيد من الرقيب احترازا عن تكرر اللفظ بالنظر إلى قوله بعد: «و أنت على كل شيء شهيد»، و لا نكتة تستدعي الإتيان بلفظ «الشهيد» ثانيا بالخصوص.
و اللفظ أعني قوله: «كنت أنت الرقيب عليهم» يدل على الحصر، و لازمه أنه تعالى كان شهيدا ما دام عيسى (عليه السلام) شهيدا و شهيدا بعده فشهادته (عليه السلام) كانت وساطة في الشهادة لا شهادة مستقلة على حد سائر التدبيرات الإلهية التي وكل عليها بعض عباده ثم هو على كل شيء وكيل كالرزق و الإحياء و الإماتة و الحفظ و الدعوة و الهداية و غيرها، و الآيات الشريفة في ذلك كثيرة لا حاجة إلى إيرادها.
و لذلك عقب (عليه السلام) قوله: «فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم» بقوله: «و أنت على كل شيء شهيد» ليدل بذلك على أن الشهادة على أعمال أمته التي كان يتصداها ما دام فيهم كانت حصة يسيرة من الشهادة العامة المطلقة التي هي شهادة الله سبحانه على شيء فإنه تعالى شهيد على أعيان الأشياء و على أفعالها التي منها أعمال عباده، التي منها أعمال أمة عيسى ما دام فيهم و بعد توفيه، و هو تعالى شهيد مع الشهداء و شهيد بدونهم.
و من هنا يظهر أن الحصر صادق في حقه تعالى مع قيام الشهداء على شهادتهم فإنه (عليه السلام) حصر الشهادة بعد توفيه في الله سبحانه مع أن لله بعده شهداء من عباده و رسله و هو (عليه السلام) يعلم ذلك.
و من الدليل على ذلك بشارته (عليه السلام) بمجيء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) - على ما يحكيه القرآن - بقوله: «يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة و مبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد»: «الصف: 6» و قد نص القرآن على كون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من الشهداء قال تعالى: «و جئنا بك على هؤلاء شهيدا»: «النساء: 41».
على أن الله سبحانه حكى عنه هذا الحصر: «فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم» و لم يرده بالإبطال فالله سبحانه هو الشهيد لا غير مع وجود كل شهيد أي إن حقيقة الشهادة هي لله سبحانه كما أن حقيقة كل كمال و خير هو لله سبحانه، و أن ما يملكه غيره من كمال أو خير أو حسن فإنما هو بتمليكه تعالى من غير أن يستلزم هذا التمليك انعزاله تعالى عن الملك و لا زوال ملكه و بطلانه، و عليك بالتدبر في أطراف ما ذكرناه.
فبان بما أورده من بيان حاله المحكي عنه في الآيتين أنه بريء مما قاله الناس في حقه و أن لا عهدة عليه فيما فعلوه، و لذلك ختم (عليه السلام) كلامه بقوله: «إن تعذبهم فإنهم عبادك» إلى آخر الآية.
قوله تعالى: «إن تعذبهم فإنهم عبادك و إن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم» لما اتضح بما أقام (عليه السلام) من الحجة أن لم يكن له من الوظيفة بالنسبة إلى الناس إلا أداء الرسالة و القيام بأمر الشهادة، و أنه لم يشتغل فيهم إلا بذلك و لم يتعده إلى ما ليس له بحق فهو غير مسئول عما تفوهوا به من كلمة الكفر، بان أنه (عليه السلام) بمعزل عن الحكم الإلهي المتعلق بهم فيما بينهم و بين ربهم، و لذلك استأنف الكلام ثانيا فقال من غير وصل و تفريع: «إن تعذبهم، إلخ».
فالآية كالصالحة لأن يوضع موضع البيان السابق، و مفادها أنه لا عهدة علي فيما وقعوا فيه من الشرك الشنيع، و لم أداخل أمرهم في شيء حتى أشاركهم فيما بينك و بينهم من الحكم عليهم بما شئت فهم و حكمك في حقهم بما أردت، و هم و صنعك فيهم بما صنعت، إن تعذبهم بما حكمت فيمن أشرك بك بدخول النار فإنهم عبادك، و إليك تدبير أمرهم، و لك أن تسخط عليهم به لأنك المولى الحق و إلى المولى أمر عباده، و أن تغفر لهم بإمحاء أثر هذا الظلم العظيم فإنك أنت العزيز الحكيم لك حق العزة و الحكمة، و للعزيز و هو الذي له من الجدة و القدرة ما ليس لغيره و لا سيما إذا كان حكيما لا يقدم على أمر إلا إذا كان مما ينبغي أن يقدم عليه أن يغفر الظلم العظيم فإن العزة و الحكمة إذا اعتنقتا في فاعل لم تدعا قدرة تقوم عليه و لا مغمضة في ما قضى به من أمر.
و بما تقدم من البيان ظهر أولا: أن قوله: «فإنهم عبادك» بمنزلة أن يقال: «فإنك مولاهم الحق» على ما هو دأب القرآن من ذكر أسماء الله بعد ذكر أفعاله كما في آخر الآية.
و ثانيا: أن قوله: «فإنك أنت العزيز الحكيم» ليس مسوقا للحصر بل الإتيان بضمير الفصل و إدخال اللام في الخبر للتأكيد، و يئول معناه إلى أن عزتك و حكمتك مما لا يداخله ريب فلا مجال للاعتراض عليك إن غفرت لهم.
و ثالثا: أن المقام مقام المشافهة بين عيسى بن مريم (عليهما السلام) و ربه لما كان مقام ظهور العظمة الإلهية التي لا يقوم لها شيء كان مقتضاه أن يراعي فيه جانب ذلة العبودية للغاية بالتحرز عن الدلال و الاسترسال و التجنب عن مداخلة في الأمر بدعاء أو سؤال، و لذلك قال (عليه السلام): «و إن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم» و لم يقل «فإنك غفور رحيم» لأن سطوع آية العظمة و السطوة الإلهية القاهرة الغالبة على كل شيء لا يدع للعبد إلا أن يلتجىء إليه بما له من ذلة العبودية و مسكنة الرقية و المملوكية المطلقة، و الاسترسال عند ذلك ذنب عظيم.
و أما قول إبراهيم (عليه السلام) لربه: «فمن تبعني فإنه مني و من عصاني فإنك غفور رحيم: «إبراهيم: 36» فإنه من مقام الدعاء و للعبد أن يثير فيه ناشئة الرحمة الإلهية بما استطاع.
قوله تعالى: «قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم» تقرير لصدق عيسى بن مريم (عليهما السلام) على طريق التكنية فإنه لم يصرح بشخصه و إنما المقام هو الذي يفيد ذلك.
و المراد بهذا الصدق من الصادقين صدقهم في الدنيا فإنه تعالى يعقب هذه الجملة بقوله: «لهم جنات تجري من تحتها الأنهار، إلخ» و من البين أنه بيان لجزاء صدقهم عند الله سبحانه فهو النفع الذي يعود إليهم من جهة الصدق، و الأعمال و الأحوال الأخروية - و منها صدق أهل الآخرة - لا يترتب عليها أثر النفع بمعنى الجزاء و بلفظ آخر: الأعمال و الأحوال الأخروية لا يترتب عليها جزاء كما يترتب على الأعمال و الأحوال الدنيوية إذ لا تكليف في الآخرة، و الجزاء من فروع التكليف، و إنما الآخرة دار حساب و جزاء كما أن الدنيا دار عمل و تكليف، قال تعالى: «يوم يقوم الحساب»: «إبراهيم: 41» و قال: «اليوم تجزون ما كنتم تعملون»: «الجاثية: 28» و قال تعالى: «إنما هذه الحياة الدنيا متاع و إن الآخرة هي دار القرار»: «المؤمن: 39».
و الذي ذكره عيسى (عليه السلام) من حاله في الدنيا مشتمل على قول و فعل و قد قرره الله على الصدق فالصدق الذي ذكر في الآية يشمل الصدق في الفعل كما يشمل الصدق في القول فالصادقون في الدنيا في قولهم و فعلهم ينتفعون يوم القيامة بصدقهم، لهم الجنات الموعودة و هم الراضون المرضيون الفائزون بعظيم الفوز.
على أن الصدق في القول يستلزم الصدق في الفعل - بمعنى الصراحة و تنزه العمل عن سمة النفاق - و ينتهي به إلى الصلاح، و قد روي أن رجلا من أهل البدو استوصى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فوصاه أن لا يكذب ثم ذكر الرجل أن رعاية ما وصى به كفه عن عامة المعاصي إذ ما من معصية عرضت إلا ذكر أنه لو اقترحها ثم سئل عنها وجب عليه أن يعترف بها على نفسه و يخبر بها الناس فلم يقترفها مخافة ذلك.
قوله تعالى: «لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم و رضوا عنه ذلك الفوز العظيم» رضي الله عنهم بما قدموا إليه من الصدق، و رضوا عن الله بما آتاهم من الثواب.
و قد علق رضاه بهم أنفسهم لا بأعمالهم كما في قوله تعالى: «و رضي له قولا»: «طه: 190» و قوله: «و إن تشكروا يرضه لكم»: «الزمر: 7» و بين القسمين من الرضى فرق فإن رضاك عن شيء هو أن لا تدفعه بكراهة و من الممكن أن يأتي عدوك بفعل ترضاه و أنت تسخط على نفسه، و أن يأتي صديقك الذي تحبه بفعل لا ترضاه.
فقوله: «رضي الله عنهم» يدل على أن الله يرضى عن أنفسهم، و من المعلوم أن الرضى لا يتعلق بأنفسهم ما لم يحصل غرضه جل ذكره من خلقهم، و قد قال تعالى: «و ما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون»: «الذاريات: 56»، فالعبودية هو الغرض الإلهي من خلق الإنسان فالله سبحانه إنما يرضى عن نفس عبده إذا كان مثالا للعبودية أي أن يكون نفسه نفس عبد لله الذي هو رب كل شيء فلا يرى نفسه و لا شيئا غيره إلا مملوكا لله خاضعا لربوبيته لا يئوب إلا إلى ربه و لا يرجع إلا إليه كما قال تعالى في سليمان و أيوب: «نعم العبد إنه أواب»: «ص: 44» و هذا هو الرضى عنه.
و هذا من مقامات العبودية، و لازمه طهارة النفس عن الكفر بمراتبه و عن الاتصاف بالفسق كما قال تعالى: «و لا يرضى لعباده الكفر»: «الزمر: 7» و قال تعالى: «فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين»: «التوبة: 96».
و من آثار هذا المقام أن العبودية إذا تمكنت من نفس العبد و رأى ما يقع عليه بصره و تبلغه بصيرته مملوكا لله خاضعا لأمره فإنه يرضى عن الله فإنه يجد أن كل ما آتاه الله فإنما آتاه من فضله من غير أن يتحتم عليه فهو جود و نعمة، و أن ما منعه فإنما منعه عن حكمة.
على أن الله سبحانه يذكر عنهم و هم في الجنة بقوله: «لهم فيها ما يشاءون»: «النحل: 31، الفرقان: 16»، و من المعلوم أن الإنسان إذا وجد كل ما يشاؤه لم يكن له إلا أن يرضى.
و هذا غاية السعادة الإنسانية بما هو عبد، و لذلك ختم الكلام بقوله: «ذلك الفوز العظيم».
قوله تعالى: «لله ملك السماوات و الأرض و ما فيهن و هو على كل شيء قدير»، - الملك - بالكسر - سلطة خاصة على رقبة الأشياء و أثره نفوذ الإرادة فيما يقدر عليه المالك من التصرف فيها، و الملك - بالضم - سلطة خاصة على النظام الموجود بين الأشياء و أثره نفوذ الإرادة فيما يقدر عليه، و بعبارة ساذجة: الملك - بالكسر - متعلق بالفرد، و الملك - بالضم - متعلق بالجماعة.
و حيث كان الملك في نفوذ الإرادة بالفعل مقيدا أو متقوما بالقدرة فإذا تمت القدرة و أطلقت كان الملك ملكا مطلقا غير مقيد بشيء دون شيء و حال دون حال، و لبيان هذه النكتة عقب تعالى قوله: «لله ملك السماوات و الأرض و ما فيهن» بقوله: «و هو على كل شيء قدير».
و اختتمت السورة بهذه الآية الدالة على الملك المطلق، و المناسبة ظاهرة، فإن غرض السورة هو حث العباد و ترغيبهم على الوفاء بالعهود و المواثيق المأخوذة عليهم من جانب ربهم، و هو الملك على الإطلاق فلا يبقى لهم إلا أنهم عباد مملوكون على الإطلاق ليس لهم فيما يأمرهم به و ينهاهم عنه إلا السمع و الطاعة، و لا فيما يأخذ منهم من العهود و المواثيق إلا الوفاء بها من غير نقض.
بحث روائي
في تفسير العياشي، عن ثعلبة بن ميمون عن بعض أصحابنا عن أبي جعفر (عليه السلام): في قول الله تبارك و تعالى لعيسى: «أ أنت قلت للناس اتخذوني و أمي إلهين من دون الله» قال: لم يقله و سيقوله، إن الله إذا علم أن شيئا كائن أخبر عنه خبر ما قد كان.
أقول: و فيه، أيضا عن سليمان بن خالد عن أبي عبد الله (عليه السلام): مثله، و حاصله أن الإتيان بصيغة الماضي في الأمر المستقبل للعلم بتحقق وقوعه، و هو شائع في اللغة.
و فيه، عن جابر الجعفي عن أبي جعفر (عليه السلام): في تفسير هذه الآية: «تعلم ما في نفسي و لا أعلم ما في نفسك - إنك أنت علام الغيوب»، قال: إن اسم الله الأكبر ثلاثة و سبعون حرفا فاحتجب الرب تبارك و تعالى منها بحرف فمن ثم لا يعلم أحد ما في نفسه عز و جل. أعطى آدم اثنين و سبعين حرفا فتوارثها الأنبياء حتى صار إلى عيسى (عليه السلام) فذلك قول عيسى: «تعلم ما في نفسي» يعني اثنين و سبعين حرفا من الاسم الأكبر يقول: أنت علمتنيها فأنت تعلمها: «و لا أعلم ما في نفسك» يقول: لأنك احتجبت بذلك الحرف فلا يعلم أحد ما في نفسك.
أقول: سيجيء البحث المبسوط عن أسماء الله الحسنى و اسمه الأعظم الأكبر في تفسير قوله تعالى: «و لله الأسماء الحسنى فادعوه بها» الآية: «الأعراف: 108» و يتبين هناك أن الاسم الأكبر أو الاسم الأعظم ليس من نوع اللفظ حتى يتألف من حروف الهجاء و إنما المراد بالاسم في أمثال هذه الموارد هو المحكي عنه بالاسم اللفظي و هو الذات مأخوذا بصفة من صفاته و وجه من وجوهه و يعود الاسم اللفظي حينئذ اسم الاسم على ما سيتضح بعد.
و على هذا فقوله (عليه السلام): «إن الاسم الأكبر مؤلف من ثلاثة و سبعين حرفا» و نظيره ما ورد في روايات كثيرة في هذا الباب من أن الاسم الأعظم مؤلف من كذا حرفا، و أنها متفرقة مبثوثة في كذا سورة أو أنه في كذا آية كل ذلك بيانات مبنية على الرمز، و أمثال مضروبة لتفهيم ما يسع تفهيمه من الحقائق فما كل حقيقة ميسورا بيانها بالصراحة من غير كناية و بالعين دون المثل.
و الذي يتضح به معنى الحديث بعض الاتضاح هو أن يقال: إنه لا شك أن أسماء الله تعالى الحسنى وسائط لظهور الكون بأعيانه و حدوث حوادثه التي لا تحصى، فإنا لا نشك في أن الله سبحانه خلق خلقه لأنه خالق جواد مبدىء مثلا لا لأنه منتقم شديد البطش، و أنه إنما يرزق من يرزق لأنه رازق معط مثلا لا لأنه قابض مانع، و أنه إنما يفيض الحياة للأحياء لأنه الحي المحيي لا لأنه مميت معيد، و الآيات القرآنية أصدق شاهد على هذه الحقيقة، فإنا نرى المعارف المبينة في متون الآيات معللة بالأسماء المناسبة لمعانيها في ذيلها فربما اختتمت الآية لبيان ما تضمه من المعنى باسم، و ربما اختتمت باسمين يفيدان بمجموعهما المعنى المذكور فيها.
و من هنا يظهر أن الواحد منا لو رزق علم الأسماء و علم الروابط التي بينها و بين الأشياء و ما تقضيه أسماؤه تعالى مفردة و مؤلفة علم النظام الكوني بما جرى و بما يجري عليه عن قوانين كلية منطبقة على جزئياتها واحدا بعد واحد.
و قد بين القرآن الشريف على ما يفهم من ظواهره قوانين عامة كثيرة في المبدإ و المعاد و ما رتبه الله تعالى من أمر السعادة و الشقاوة ثم خاطب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: «و نزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء».
لكنها جميعا قوانين كلية ضرورية إلا أنها ضرورية لا في أنفسها و باقتضاء من ذواتها بل بما أفاده الله سبحانه عليها من الضرورة و اللزوم، و إذا كانت هذه الحكومة العقلية القطعية من جهته تعالى و بأمره و إرادته فمن البين أن فعله تعالى لا يجبره تعالى على مؤدى نفسه، و لا يغلبه في ذاته فهو سبحانه القاهر الغالب فكيف يغلبه ما ينتهي إليه تعالى من كل جهة و يفتقر إليه في عينه و أثره، فافهم ذلك.
فمن المحال أن يكون العقل الذي يحكم بما يحكم بإفاضة الله ذلك عليه أو تكون الحقائق التي إنما وجدت أحكامها و آثارها به تعالى، حاكمة عليه تعالى مقتضية فيه بالحكم و الاقتضاء اللذين هو المبقي لهما القاهر الغالب عليهما، و بعبارة أخرى: ما في الأشياء من اقتضاء و حكم إنما هو أثر التمليك الذي ملكه الله إياها، و لا معنى لأن يملك شيء بالملك الذي ملكه الله بعينه منه تعالى شيئا فهو تعالى مالك على الإطلاق غير مملوك بوجه من الوجوه أصلا.
فلو أثاب الله المجرم أو عاقب المثيب أو فعل أي فعل أراد لم يكن عليه ضير، و لا منعه مانع من عقل أو خارج إلا أنه تعالى وعدنا و أوعدنا بالسعادة و الشقاء و حسن الجزاء و سوء الجزاء، و أخبرنا أنه لا يخلف الميعاد و أخبرنا من طريق الوحي أو العقل بأمور ثم ذكر أنه لا يقول إلا الحق فسكنت نفوسنا به و اطمأنت قلوبنا إليه بما لا طريق للريب إليه، قال تعالى: «إن الله لا يخلف الميعاد»: «آل عمران: 9، الرعد: 31» و قال تعالى: «و الحق أقول»: «ص: 84» و في معناهما الضرورة العقلية في أحكامها.
و هذا الذي بينه هو مقتضى أسمائه تعالى فيما علمنا بتعليمه منها لكن من وراء ذلك أنه تعالى هو المالك على الإطلاق له أن يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد، قال تعالى: «لا يسأل عما يفعل و هم يسألون»: «الأنبياء: 23»، و هذا المعنى بعينه اسم من أسمائه تعالى مجهول الكنه لا طريق إلى تعلق العلم به لأحد من خلقه فإن كل ما نعلمه من أسمائه فهو مما يحكيه مفهوم من المفاهيم ثم نشخص بنسبته آثاره في الوجود و أما الآثار التي لا طريق إلى تشخيصها في الوجود فهي لا محالة آثار لاسم لا طريق إلى الحصول على معناها و إن شئت فقل: إنه اسم لا يصطاد بمفهوم، و إنما يشير إليه صفة ملكه المطلق نوعا من الإشارة.
فقد تبين أن من أسمائه تعالى ما لا سبيل إليه لأحد من خلقه و هو الذي احتجب تعالى به فافهم ذلك.
كلام في معنى الأدب
نبحث فيه عن الأدب الذي أدب به أنبياءه و رسله (عليهم السلام) في عدة فصول: 1 - - الأدب على ما يتحصل من معناه - هو الهيئة الحسنة التي ينبغي أن يقع عليه الفعل المشروع إما في الدين أو عند العقلاء في مجتمعهم كآداب الدعاء و آداب ملاقاة الأصدقاء و إن شئت قلت: ظرافة الفعل.
و لا يكون إلا في الأمور المشروعة غير الممنوعة فلا أدب في الظلم و الخيانة و الكذب و لا أدب في الأعمال الشنيعة و القبيحة، و لا يتحقق أيضا إلا في الأفعال الاختيارية التي لها هيئات مختلفة فوق الواحدة حتى يكون بعضها متلبسا بالأدب دون بعض كأدب الأكل مثلا في الإسلام، و هو أن يبدأ فيه باسم الله و يختم بحمد الله و يؤكل دون الشبع إلى غير ذلك، و أدب الجلوس في الصلاة و هو التورك على طمأنينة و وضع الكفين على الوركين فوق الركبتين و النظر إلى حجره و نحو ذلك.
و إذ كان الأدب هو الهيئة الحسنة في الأفعال الاختيارية و الحسن و إن كان بحسب أصل معناه و هو الموافقة لغرض الحياة مما لا يختلف فيه أنظار المجتمعات لكنه بحسب مصاديقه مما يقع فيه أشد الخلاف، و بحسب اختلاف الأقوام و الأمم و الأديان و المذاهب و حتى المجتمعات الصغيرة المنزلية و غيرها في تشخيص الحسن و القبح يقع الاختلاف بينهم في آداب الأفعال.
فربما كان عند قوم من الآداب ما لا يعرفه آخرون، و ربما كان بعض الآداب المستحسنة عند قوم شنيعة مذمومة عند آخرين كتحية أول اللقاء فإنه في الإسلام بالتسليم تحية من عند الله مباركة طيبة، و عند قوم برفع القلانس، و عند بعض برفع اليد حيال الرأس، و عند آخرين بسجدة أو ركوع أو انحناء بطأطأة الرأس، و كما أن في آداب ملاقاة النساء عند الغربيين أمورا يستشنعها الإسلام و يذمها، إلى غير ذلك.
غير أن هذه الاختلافات جميعا إنما نشأت في مرحلة تشخيص المصداق و أما أصل معنى الأدب، و هو الهيأة الحسنة التي ينبغي أن يكون عليها الفعل فهو مما أطبق عليه العقلاء من الإنسان و أطبقوا أيضا على تحسينه فلا يختلف فيه اثنان.
2 - لما كان الحسن من مقومات معنى الأدب على ما ذكر في الفصل السابق، و كان مختلفا بحسب المقاصد الخاصة في المجتمعات المختلفة أنتج ذلك ضرورة اختلاف الآداب الاجتماعية الإنسانية فالأدب في كل مجتمع كالمرآة يحاكي خصوصيات أخلاق ذلك المجتمع العامة التي رتبها فيهم مقاصدهم في الحياة، و ركزتها في نفوسهم عوامل اجتماعهم و عوامل مختلفة أخر طبيعية أو اتفاقية.
و ليست الآداب هي الأخلاق لما أن الأخلاق هي الملكات الراسخة الروحية التي تتلبس بها النفوس، و لكن الآداب هيئات حسنة مختلفة تتلبس بها الأعمال الصادرة عن الإنسان عن صفات مختلفة نفسية، و بين الأمرين بون بعيد.
فالآداب من منشئات الأخلاق و الأخلاق من مقتضيات الاجتماع بخصوصه بحسب غايته الخاصة فالغاية المطلوبة للإنسان في حياته هي التي تشخص أدبه في أعماله، و ترسم لنفسه خطأ لا يتعداه إذا أتى بعمل في مسير حياته و التقرب من غايته.
3 - و إذ كان الأدب يتبع في خصوصيته الغاية المطلوبة في الحياة فالأدب الإلهي الذي أدب الله سبحانه به أنبياءه و رسله (عليهم السلام) هو الهيئة الحسنة في الأعمال الدينية التي تحاكي غرض الدين و غايته، و هو العبودية على اختلاف الأديان الحقة بحسب كثرة موادها و قلتها و بحسب مراتبها في الكمال و الرقي.
و الإسلام لما كان من شأنه التعرض لجميع جهات الحياة الإنسانية بحيث لا يشذ عنه شيء من شئونها يسير أو خطير دقيق أو جليل فلذلك وسع الحياة أدبا، و رسم في كل عمل هيئة حسنة تحاكي غايته.
و ليس له غاية عامة إلا توحيد الله سبحانه في مرحلتي الاعتقاد و العمل جميعا أي أن يعتقد الإنسان أن له إلها هو الذي منه بدىء كل شيء و إليه يعود كل شيء له الأسماء الحسنى و الأمثال العليا، ثم يجري في الحياة و يعيش بأعمال تحاكي بنفسها عبوديته و عبودية كل شيء عنده لله الحق عز اسمه، و بذلك يسري التوحيد في باطنه و ظاهره، و تظهر العبودية المحضة من أقواله و أفعاله و سائر جهات وجوده ظهورا لا ستر عليه و لا حجاب يغطيه.
فالأدب الإلهي - أو أدب النبوة - هي هيئة التوحيد في الفعل.
4 - من المعلوم بالقياس و يؤيده التجربة القطعية أن العلوم العملية - و هي التي تتعلم ليعمل بها - لا تنجح كل النجاح و لا تؤثر أثرها الجميل دون أن تلقى إلى المتعلم في ضمن العمل، لأن الكليات العلمية ما لم تنطبق على جزئياتها و مصاديقها تتثاقل النفس في تصديقها و الإيمان بصحتها لاشتغال نفوسنا طول الحياة بالجزئيات الحسية و كلالها بحسب الطبع الثانوي من مشاهدة الكليات العقلية الخارجة عن الحس فالذي صدق حسن الشجاعة في نفسها بحسب النظر الخالي عن العمل ثم صادف موقفا من المواقف الهائلة التي تطير فيها القلوب أدى به ذلك إلى النزاع بين عقله الحاكم بحسن الشجاعة و وهمه الجاذب إلى لذة الاحتراز من تعرض الهلكة الجسمانية و زوال الحياة المادية الناعمة فلا تزال النفس تتذبذب بين هذا و ذاك، و تتحير في تأييد الواحد من الطرفين المتخاصمين، و القوة في جانب الوهم لأن الحس معه.
فمن الواجب عند التعليم أن تتلقى المتعلم الحقائق العلمية مشفوعة بالعمل حتى يتدرب بالعمل و يتمرن عليه لتزول بذلك الاعتقادات المخالفة الكائنة في زوايا نفسه و يرسخ التصديق بما تعلمه في النفس، لأن الوقوع أحسن شاهد على الإمكان.
و لذلك نرى أن العمل الذي لم تعهد النفس وقوعه في الخارج يصعب انقيادها له فإذا وقع لأول مرة بدا كأنه انقلب من امتناع إلى إمكان و عظم أمر وقوعه و أورث في النفس قلقا و اضطرابا، ثم إذا وقع ثانيا و ثالثا هان أمره و انكسر سورته و التحق بالعاديات التي لا يعبأ بأمرها، و إن الخير عادة كما أن الشر عادة.
و رعاية هذا الأسلوب في التعليمات الدينية و خاصة في التعليم الديني الإسلامي من أوضح الأمور فلم يأخذ شارع الدين في تعليم مؤمنيه بالكليات العقلية و القوانين العامة قط بل بدأ بالعمل و شفعه بالقول و البيان اللفظي فإذا استكمل أحدهم تعلم معارف الدين و شرائعه استكمله و هو مجهز بالعمل الصالح مزود بزاد التقوى.
كما أن من الواجب أن يكون المعلم المربي عاملا بعلمه فلا تأثير في العلم إذا لم يقرن بالعمل لأن للفعل دلالة كما أن للقول دلالة فالفعل المخالف للقول يدل على ثبوت هيئة مخالفة في النفس يكذب القول فيدل على أن القول مكيدة و نوع حيلة يحتال بها قائله لغرور الناس و اصطيادهم.
و لذلك نرى الناس لا تلين قلوبهم و لا تنقاد نفوسهم للعظة و النصيحة إذا وجدوا الواعظ به أو الناصح بإبلاغه غير متلبس بالعمل متجافيا عن الصبر و الثبات في طريقه، و ربما قالوا: «لو كان ما يقوله حقا لعمل به» إلا أنهم ربما اشتبه عليهم الأمر في استنتاج منه فإن النتيجة أن القول ليس بحق عند القائل إذ لو كان حقا عنده لعمل به، و ليس ينتج أن القول ليس بحق مطلقا كما ربما يستنتجونه.
فمن شرائط التربية الصالحة أن يكون المعلم المربي نفسه متصفا بما يصفه للمتعلم متلبسا بما يريد أن يلبسه، فمن المحال العادي أن يربي المربي الجبان شجاعا باسلا، أو يتخرج عالم حر في آرائه و أنظاره من مدرسة التعصب و اللجاج و هكذا.
قال تعالى: «أ فمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون»: «يونس: 35» و قال: «أ تأمرون الناس بالبر و تنسون أنفسكم»: «البقرة: 44» و قال حكاية عن قول شعيب لقومه: «و ما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت»: «هود: 88» إلى غير ذلك من الآيات.
فلذلك كله كان من الواجب أن يكون المعلم المربي ذا إيمان بمواد تعليمه و تربيته.
على أن الإنسان الخالي عن الإيمان بما يقوله حتى المنافق المتستر بالأعمال الصالحة المتظاهر بالإيمان الصريح الخالص لا يتربى بيده إلا من يمثله في نفسه الخبيثة فإن اللسان و إن أمكن إلقاء المغايرة بينه و بين الجنان بالتكلم بما لا ترضى به النفس و لا يوافقه السر إلا أن الكلام من جهة أخرى فعل و الفعل من آثار النفس و رشحاتها، و كيف يمكن مخالفة الفعل لطبيعة فاعله؟.
فالكلام من غير جهة الدلالة اللفظية الوضعية حامل لطبيعة نفس المتكلم من إيمان أو كفر أو غير ذلك، و واضعها و موصلها إلى نفس المتعلم البسيطة الساذجة فلا يميز جهة صلاحه - و هو جهة دلالته الوضعية - من جهة فساده - و هو سائر جهاته - إلا من كان على بصيرة من الأمر، قال تعالى في وصف المنافقين لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم): «و لتعرفنهم في لحن القول»: «سورة محمد: 30» فالتربية المستعقبة للأثر الصالح هو ما كان المعلم المربي فيها ذا إيمان بما يلقيه إلى تلامذته مشفوعا بالعمل الصالح الموافق لعلمه، و أما غير المؤمن بما يقوله أو غير العامل على طبق علمه فلا يرجى منه خير.
و لهذه الحقيقة مصاديق كثيرة و أمثلة غير محصاة في سلوكنا معاشر الشرقيين و الإسلاميين خاصة في التعليم و التربية في معاهدنا الرسمية و غير الرسمية فلا يكاد تدبير ينفع و لا سعي ينجح.
5 - و إلى هذا الباب يرجع ما نرى أن كلامه تعالى يشتمل على حكاية فصول من الأدب الإلهي المتجلي من أعمال الأنبياء و الرسل (عليهم السلام) مما يرجع إلى الله سبحانه من أقسام عباداتهم و أدعيتهم و أسئلتهم أو يرجع إلى الناس في معاشراتهم و مخاطباتهم فإن إيراد الأمثلة في التعليم نوع من التعليم العملي بإشهاد العمل.
قال الله تعالى بعد ذكر قصة إبراهيم في التوحيد مع قومه: «و تلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم، و وهبنا له إسحاق و يعقوب كلا هدينا و نوحا هدينا من قبل و من ذريته داود و سليمان و أيوب و يوسف و موسى و هارون و كذلك نجزي المحسنين، و زكريا و يحيى و عيسى و إلياس كل من الصالحين، و إسماعيل و اليسع و يونس و لوطا و كلا فضلنا على العالمين، و من آبائهم و ذرياتهم و إخوانهم و اجتبيناهم و هديناهم إلى صراط مستقيم، ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده و لو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون، أولئك الذين آتيناهم الكتاب و الحكم و النبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين، أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده»: «الأنعام: 90»، يذكر تعالى أنبياءه الكرام (عليهم السلام) ذكرا جامعا ثم يذكر أنه أكرمهم بالهداية الإلهية و هي الهداية إلى التوحيد فحسب و الدليل عليه قوله: «و لو أشركوا لحبط عنهم»، فلم يذكر منافيا لما حباهم به من الهداية إلا الشرك فلم يهدهم إلا إلى التوحيد.
غير أن التوحيد حكمه سار إلى أعمالهم متمكن فيها و الدليل عليه قوله: «لحبط عنهم ما كانوا يعملون» فلو لا أن الشرك جار في الأعمال متسرب فيها لم يستوجب حبطها فالتوحيد المنافي له كذلك.
و معنى سراية التوحيد في الأعمال كون صورها تمثل التوحيد و تحاكيه محاكاة المرآة لمرئيها بحيث لو فرض أن التوحيد تصور لكان هو تلك الأعمال بعينها، و لو أن تلك الأعمال تجردت اعتقادا محضا لكانت هي هو بعينه.
و هذا المعنى كثير المصداق في الصفات الروحية فإنك ترى أعمال المتكبر يمثل ما في نفسه من صفة الكبر و الخيلاء، و كذلك البائس المسكين يحاكي جميع حركاته و سكناته ما في سره من الذلة و الاستكانة و هكذا.
ثم أدب تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) فأمره أن يقتدي بهداية من سبقه من الأنبياء (عليهم السلام) لا بهم، و الاقتداء إنما يكون في العمل دون الاعتقاد فإنه غير اختياري بحسب نفسه أي أن يختار أعمالهم الصالحة المبنية على التوحيد الصادرة عنهم عن تأديب عملي إلهي.
و نعني بهذا التأديب العملي ما يشير إليه قوله تعالى: «و جعلناهم أئمة يهدون بأمرنا و أوحينا إليهم فعل الخيرات و إقام الصلاة و إيتاء الزكاة و كانوا لنا عابدين»: «الأنبياء: 37» فإن إضافة المصدر في قوله «فعل الخيرات» «إلخ»، تدل على أن المراد به الفعل الصادر منهم من خيرات فعلوها و صلاة أقاموها و زكاة آتوها دون مجرد الفعل المفروض فهذا الوحي المتعلق بالأفعال في مرحلة صدورها منهم وحي تسديد و تأديب، و ليس هو وحي النبوة و التشريع، و لو كان المراد به وحي النبوة لقيل: «و أوحينا إليهم أن افعلوا الخيرات و أقيموا الصلاة و آتوا الزكاة» كما في قوله تعالى: «ثم أوحينا إليك أن اتبع»: «النحل: 132» و قوله: «و أوحينا إلى موسى و أخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا و اجعلوا بيوتكم قبلة و أقيموا الصلاة»: «يونس: 87» إلى غير ذلك من الآيات، و معنى وحي التسديد أن يخص الله عبدا من عباده بروح قدسي يسدده في أعمال الخير و التحرز عن السيئة كما يسددنا الروح الإنساني في التفكر في الخير و الشر، و الروح الحيواني في اختيار ما نشتهيه من الجذب و الدفع بالإرادة، و سيجيء الكلام المبسوط في ذلك إن شاء الله.
و بالجملة فقوله: «فبهداهم اقتده» تأديب إلهي إجمالي له (صلى الله عليه وآله وسلم) بأدب التوحيد المنبسط على أعمال الأنبياء (عليهم السلام) المنزهة من الشرك.
ثم قال تعالى - بعد ما ذكر عدة من أنبيائه (عليهم السلام) - في سورة مريم «أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم و ممن حملنا مع نوح و من ذرية إبراهيم و إسرائيل و ممن هدينا و اجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا و بكيا، فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة و اتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا، إلا من تاب و آمن و عمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة و لا يظلمون شيئا: «مريم: 60».
فذكر تعالى أدبهم العام في حياتهم أنهم يعيشون على الخضوع عملا و على الخشوع قلبا لله عز اسمه فإن سجودهم عند ذكر آيات الله تعالى مثال الخضوع و بكاءهم و هو لرقة القلب و تذلل النفس آية الخشوع و هما معا كناية عن استيلاء صفة العبودية على نفوسهم بحيث كلما ذكروا بآية من آيات الله بان أثره في ظاهرهم كما استولت الصفة على باطنهم فهم على أدبهم الإلهي و هو سمة العبودية إذا خلوا مع ربهم و إذا خلوا للناس، فهم يعيشون على أدب إلهي مع ربهم و مع الناس جميعا.
و من الدليل على أن المراد به الأدب العام قوله تعالى في الآية الثانية: «فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة و اتبعوا الشهوات» فإن الصلاة و هي التوجه إلى الله هي حالهم مع ربهم و اتباع الشهوات حالهم مع غيرهم من الناس، و حيث قوبل أولئك بهؤلاء أفاد الكلام أن أدب الأنبياء العام أن يراجعوا ربهم بسمة العبودية و أن يسيروا بين الناس بسمة العبودية أي تكون بنية حياتهم مبنية على أساس أن لهم ربا يملكهم و يدبر أمرهم، منه بدءوهم و إليه مرجعهم فهذا هو الأصل في جميع أحوالهم و أعمالهم.
و الذي ذكره تعالى من استثناء التائبين منهم أدب آخر إلهي بدأ فيه بآدم (عليه السلام) أول الأنبياء حيث قال: «و عصى آدم ربه فغوى ثم اجتباه ربه فتاب عليه و هدى»: «طه: 123» و سيجيء بعض القول فيه إن شاء الله تعالى.
و قال تعالى: «ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له سنة الله في الذين خلوا من قبل و كان أمر الله قدرا مقدورا الذين يبلغون رسالات الله و يخشونه و لا يخشون أحدا إلا الله و كفى بالله حسيبا»: «الأحزاب: 39».
أدب عام أدب الله سبحانه به أنبياءه (عليهم السلام) و سنة جارية له فيهم أن لا يتحرجوا في ما قسم لهم من الحياة و لا يتكلفوا في أمر من الأمور إذ كانوا على الفطرة و الفطرة لا تهدي إلا إلى ما جهزها الله بما يلائمها في نيله، و لا تتكلف الاستواء على ما لم يسهل الله لها الارتقاء على مستواه، قال تعالى حكاية عن نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم): «و ما أنا من المتكلفين»: «ص: 86» و قال تعالى: «لا يكلف الله نفسا إلا وسعها»: «البقرة: 268» و قال تعالى: «لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها»: «الطلاق: 7» و إذ كان التكلف خروجا عن الفطرة فهو من اتباع الشهوة و الأنبياء في مأمن منه.
و قال تعالى و هو أيضا من التأديب بأدب جامع: «يا أيها الرسل كلوا من الطيبات و اعملوا صالحا إني بما تعملون عليم، و إن هذه أمتكم أمة واحدة و أنا ربكم فاتقون»: «المؤمنون: 52» أدبهم تعالى أن يأكلوا من الطيبات أي أن يتصرفوا في الطيبات من مواد الحياة و لا يتعدوها إلى الخبائث التي تتنفر منها الفطرة السليمة و أن يأتوا من الأعمال بالصالح منها و هو الذي يصلح للإنسان أن يأتي به مما تميل إليه الفطرة بحسب ما جهزها الله من أسباب تحفظ بعملها بقائه إلى حين، أو أن يأتوا بالعمل الذي يصلح أن يقدم إلى حضرة الربوبية، و المعنيان متقاربان، فهذا أدب يتعلق بالإنسان الفرد.
ثم وصله تعالى بأدب اجتماعي فذكر لهم أن الناس ليسوا إلا أمة واحدة: المرسلون و المرسل إليهم، و ليس لهم إلا رب واحد فليجتمعوا على تقواه، و يقطعوا بذلك دابر الاختلافات و التحزبات، فإذا التقى الأمران أعني الأدب الفردي و الاجتماعي تشكل مجتمع واحد بشرى مصون عن الاختلاف يعبد ربا واحدا، و يجري الآحاد منه على الأدب الإلهي فاتقوا خبائث الأفعال و سيئات الأعمال فقد استووا على أريكة السعادة.
و هذا ما جمعته آية أخرى و هي قوله تعالى: «شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا و الذي أوحينا إليك و ما وصينا به إبراهيم و موسى و عيسى أن أقيموا الدين و لا تتفرقوا فيه»: «الشورى: 13».
و قد فرق الله الأدبين في موضع آخر فقال: «و ما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون»: «الأنبياء: 25» فأدبهم بتوحيده و بناء العبادة عليه، و هذا هو أدبهم بالنسبة إلى ربهم، و قال: «و قالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام و يمشي في الأسواق لو لا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا، أو يلقى إليه كنز أو يكون له جنة يأكل منها - إلى أن قال - و ما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام و يمشون في الأسواق»: «الفرقان: 20» فذكر أن سيرة الأنبياء جميعا و هو أدبهم الإلهي هو الاختلاط بالناس و رفض التحجب و الاختصاص و التميز من بين الناس فكل ذلك مما تدفعه الفطرة، و هذا أدبهم في الناس.
6 - من أدب الأنبياء (عليهم السلام) في توجيههم الوجوه إلى ربهم و دعائهم إياه ما حكاه الله تعالى من قول آدم (عليه السلام) و زوجته: «ربنا ظلمنا أنفسنا و إن لم تغفر لنا و ترحمنا لنكونن من الخاسرين»: «الأعراف: 23» كلمة قالاها بعد ما أكلا من الشجرة التي نهاهما الله أن يقربا منها، و إنما كان نهي إرشاد ليس بالمولوي، و لم يعصياه عصيان تكليف بل كان ذلك منهما مخالفة نصيحة في رعايتها صلاح حالهما، و سعادة حياتهما في الجنة الأمنة من كل شقاء و عناء، و قد قال لهما ربهما في تحذيرهما عن متابعة إبليس: «فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى، إن لك أن لا تجوع فيها و لا تعرى، و أنك لا تظمؤا فيها و لا تضحى»: «طه: 191».
فلما وقعا في المحنة و شملتهما البلية، و أخذت سعادة الحياة يوادعهما وداع ارتحال لم يشتغلا بأنفسهما اشتغال اليائس البائس، و لم يقطع القنوط ما بينهما و بين ربهما من السبب الموصول بل بادرا إلى الالتجاء بالله الذي إليه أمرهما، و بيده كل خير يأملانه لأنفسهما فأخذا و تعلقا بصفة ربوبيته المشتملة على كل ما يدفع به الشر و يجلب به الخير، فالربوبية هي الصفة الكريمة يربط العبد بالله سبحانه.
ثم ذكرا الشر الذي يهددهما بظهور آياته و هو الخسران - كأنهما اشتريا لذة الأكل بطاعة الإرشاد الإلهي فبان لهما أن سعادتهما قد أشرفت بذلك على الزوال - في الحياة، و ذكرا حاجتهما إلى ما يدفع هذا الشر عنهما فقالا: «و إن لم تغفر لنا و ترحمنا لنكونن من الخاسرين» أي إن خسران الحياة يهددنا و قد أطل بنا و ما له من دافع إلا مغفرتك للذنب الصادر عنا و غشيانك إيانا بعد ذلك برحمتك و هي السعادة لما أن الإنسان بل كل موجود مصنوع يشعر بفطرته المغروزة أن من شأن الأشياء الواقعة في منزل الوجود و مسير البقاء أن تستتم ما يعرضها من النقص و العيب، و أن السبب الجابر لهذا الكسر هو الله سبحانه وحده فهو من عادة الربوبية.
و لذلك كان يكفي مجرد إظهار الحال، و إبراز ما نزل على العبد من مسكنة الحاجة فلا حاجة إلى السؤال بلفظ بل في بدو الحاجة أبلغ السؤال و أفصح الاقتراح.
و لذلك لم يصرحا بما يسألانه و لم يقولا: «فاغفر لنا و ارحمنا» و لأنهما - و هو العمدة - أوقفا أنفسهما بما صدر عنهما من المخالفة موقف الذلة و المسكنة التي لا وجه معها و لا كرامة، فنتجت لهما التسليم المحض لما يصدر في ذلك من ساحة العزة و من الحكم فكفا عن كل مسألة و اقتراح غير أنهما ذكرا أنه ربهما فأشارا إلى ما يطمعان فيه منه مع اعترافهما بالظلم.
فكان معنى قولهما: «ربنا ظلمنا أنفسنا و إن لم تغفر لنا و ترحمنا لنكونن من الخاسرين»: أسأنا فيما ظلمنا أنفسنا فأشرفنا بذلك على الخسران المهدد لعامة سعادتنا في الحياة فهو ذا الذلة و المسكنة أحاطت بنا، و الحاجة إلى إمحاء وسمة الظلم و شمول الرحمة شملتنا، و لم يدع ذلك لنا وجهة و لا كرامة نسألك بها، فها نحن مسلمون لحكمك أيها الملك العزيز فلك الأمر و لك الحكم غير أنك ربنا و نحن مربوبان لك نأمل منك ما يأمله مربوب من ربه.
و من أدبهم ما حكاه الله تعالى من دعوة نوح (عليه السلام) في ابنه: «و هي تجري بهم في موج كالجبال و نادى نوح ابنه و كان في معزل يا بني اركب معنا و لا تكن مع الكافرين، قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء - إلى أن قال - و نادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي و إن وعدك الحق و أنت أحكم الحاكمين، قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسئلن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين، قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم و إلا تغفر لي و ترحمني أكن من الخاسرين»: «هود: 47».
لا ريب أن الظاهر من قول نوح (عليه السلام) أنه كان يريد الدعاء لابنه بالنجاة غير أن التدبر في آيات القصة يكشف الغطاء عن حقيقة الأمر بنحو آخر: فمن جانب أمره الله بركوب السفينة هو و أهله و المؤمنون بقوله: «احمل فيها من كل زوجين اثنين و أهلك إلا من سبق عليه القول و من آمن»: «هود: 40» فوعده بإنجاء أهله و استثنى منهم من سبق عليه القول، و قد كانت امرأته كافرة كما ذكرها الله في قوله: «ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح و امرأة لوط»: «التحريم: 10» و أما ابنه فلم يظهر منه كفر بدعوة نوح، و الذي ذكره الله من أمره مع أبيه و هو في معزل إنما هو معصية بمخالفة أمره (عليه السلام) و ليس بالكفر الصريح فمن الجائز أن يظن في حقه أنه من الناجين لظهور كونه من أبنائه و ليس من الكافرين فيشمله الوعد الإلهي بالنجاة.
و من جانب قد أوحى الله تعالى إلى نوح (عليه السلام) حكمه المحتوم في أمر الناس كما قال: «و أوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون، و اصنع الفلك بأعيننا و وحينا و لا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون»: «هود - 37» فهل المراد بالذين ظلموا الكافرون بالدعوة أو يشمل كل ظلم أو هو مبهم مجمل يحتاج إلى تفسير من لدن قائله تعالى؟.
فكان هذه الأمور رابته (عليه السلام) في أمر ابنه و لم يكن نوح (عليه السلام) بالذي يغفل من مقام ربه و هو أحد الخمسة أولي العزم سادات الأنبياء، و لم يكن لينسى وحي ربه: «و لا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون» و لا ليرضى بنجاة ابنه و لو كان كافرا ماحضا في كفره، و هو (عليه السلام) القائل فيما دعا على قومه: «رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا»: «نوح: 26» و لو رضي في ابنه بذلك لرضي بمثله في امرأته.
و لذلك لم يجترء (عليه السلام) على مسألة قاطعة بل ألقى مسألته كالعارض المستفسر لعدم إحاطته بالعوامل المجتمعة واقعا على أمر ابنه، بل بدأ بالنداء باسم الرب لأنه مفتاح دعاء المربوب المحتاج السائل ثم قال: «إن ابني من أهلي و إن وعدك الحق» كأنه يقول و هذا يقضي بنجاة ابني «و أنت أحكم الحاكمين» لا خطأ في أمرك و لا مغمض في حكمك فما أدري إلى م انجر أمره؟.
و هذا هو الأدب الإلهي أن يقف العبد على ما يعلمه، و لا يبادر إلى مسألة ما لا يدري وجه المصلحة فيه.
فألقى نوح (عليه السلام) القول على وجد منه كما يدل عليه لفظ النداء في قوله: «و نادى نوح ربه» فذكر الوعد الإلهي و لما يزد عليه شيئا و لا سأل أمرا.
فأدركته العصمة الإلهية و قطعت عليه الكلام، و فسر الله سبحانه له معنى قوله في الوعد: «و أهلك» أن المراد به الأهل الصالحون و ليس الابن بصالح، و قد قال تعالى من قبل: «و لا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون» و قد أخذ نوح (عليه السلام) بظاهر الأهل و أن المستثنى منهم هو امرأته الكافرة فقط، ثم فرع عليه النهي عن السؤال فيما ليس له به علم، و هو سؤال نجاة ابنه على ما كان يلوح إليه كلامه أنه سيسألها.
فانقطع عنه السؤال بهذا التأديب الإلهي، و استأنف (عليه السلام) بكلام آخر صورته صورة التوبة و حقيقته الشكر لما أنعم الله بهذا الأدب الذي هو من النعمة فقال: «رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم» فاستعاذ إلى ربه مما كان من طبع كلامه أن يسوقه إليه و هو سؤال نجاة ابنه و لا علم له بحقيقة حاله.
و من الدليل على أنه لم يقع منه سؤال بعد هو قوله: «أعوذ بك أن أسألك» «إلخ» و لم يقل: «أعوذ بك من سؤال ما ليس لي به علم» لتدل إضافة المصدر إلى فاعله وقوع الفعل منه.
«لا تسئلن» «إلخ»، و لو كان سأله لكان من حق الكلام أن يقابل بالرد الصريح أو يقال مثلا: «لا تعد إلى مثله» كما وقع نظيره في موارد من كلامه تعالى كقوله: «قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني»: «الأعراف: 134»، و قوله: «إذ تلقونه بألسنتكم و تقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم - إلى أن قال - يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا»: «النور: 17».
و من دعاء نوح (عليه السلام) ما حكاه الله تعالى بقوله: «رب اغفر لي و لوالدي و لمن دخل بيتي مؤمنا و للمؤمنين و المؤمنات و لا تزد الظالمين إلا تبارا»: «نوح: 28» حكاه الله تعالى عنه في آخر سورة نوح بعد آيات كثيرة أوردها في حكاية شكواه (عليه السلام) الذي بثه لربه فيما جاهد به من دعوة قومه ليلا و نهارا فيما يقرب من ألف سنة من مدى حياته، و ما قاساه من شدتهم و كابده من المحنة في جنب الله سبحانه، و بذل من نفسه مبلغ جهدها، و صرف منها في سبيل هدايتهم منتهى طوقها فلم ينفعهم دعاؤه إلا فرارا، و لم يزدهم نصحه إلا استكبارا.
و لم يزل بعد ما بثه فيهم من النصيحة و الموعظة الحسنة و قرعه أسماعهم من الحق و الحقيقة، و يشكو إلى ربه ما واجهوه به من العناد و الإصرار على الخطيئة، و قابلوه به من المكر و الخديعة حتى هاج به الوجد و الأسف و أخذته الغيرة الإلهية فدعا عليهم فقال: «رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا، إنك إن تذرهم يضلوا عبادك و لا يلدوا إلا فاجرا كفارا»: «نوح: 27».
و ما ذكره من إضلالهم عباد الله إن تركهم الله على الأرض هو الذي ذكره عنهم في ضمن كلامه السابق المحكي عنه: «و قد أضلوا كثيرا» و قد أضلوا كثيرا من المؤمنين به فخاف إضلالهم الباقين منهم، و قوله: «و لا يلدوا إلا فاجرا كفارا» إخبار ببطلان استعداد أصلابهم و أرحامهم أن يخرج منها مؤمن ذكره - و هو من أخبار الغيب - عن تفرس نبوي و وحي إلهي.
و إذا دعا على الكافرين لغيرة إلهية أخذته، و هو النبي الكريم أول من جاء بكتاب و شريعة، و انتهض لإنقاذ الدنيا من غمرة الوثنية و لم يلبه من المجتمع البشري إلا قليل - و هو قريب من ثمانين نسمة على ما في الأخبار - فكان من أدب هذا الموقف أن لا ينسى المؤمنين بربه الآخذين بدعوته، و يدعو لهم إلى يوم القيامة بالخير.
فقال: «رب اغفر لي» فبدأ بنفسه لأن الكلام في معنى طلب المغفرة لمن يسلك سبيله فهو إمامهم و أمامهم «و لوالدي» و فيه دليل على إيمانهما «و لمن دخل بيتي مؤمنا» و هم المؤمنون به من أهل عصره «و للمؤمنين و المؤمنات» و هم جميع المؤمنين أهل التوحيد فإن قاطبتهم أمته، و رهن منته إلى يوم القيامة، و هو أول من أقام الدعوة الدينية في الدنيا بكتاب و شريعة، و رفع أعلام التوحيد بين الناس، و لذلك حياه الله سبحانه بأفضل تحيته إذ قال: «سلام على نوح في العالمين»: «الصافات: 79» فعليه السلام من نبي كريم كلما آمن بالله مؤمن، أو عمل له بعمل صالح، و كلما ذكر لله عز اسمه اسم، و كلما كان في الناس من الخير و السعادة رسم فذلك كله من بركة دعوته، و ذنابة نهضته، صلى الله عليه و على سائر الأنبياء و المرسلين أجمعين.
و من ذلك ما حكاه الله تعالى عن إبراهيم (عليه السلام) في محاجته قومه: «قال أ فرأيتم ما كنتم تعبدون، أنتم و آباؤكم الأقدمون، فإنهم عدو لي إلا رب العالمين، الذي خلقني فهو يهدين، و الذي هو يطعمني و يسقين، و إذا مرضت فهو يشفين، و الذي يميتني ثم يحيين، و الذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين، رب هب لي حكما و ألحقني بالصالحين، و اجعل لي لسان صدق في الآخرين، و اجعلني من ورثة جنة النعيم، و اغفر لأبي إنه كان من الضالين، و لا تخزني يوم يبعثون»: «الشعراء: 87».
دعاء يدعو (عليه السلام) به لنفسه، و لأبيه عن موعدة وعدها إياه، و قد كان هذا أول أمره و لم ييأس بعد من إيمان أبيه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه.
و قد بدأ فيه بالثناء على ربه ثناء جميلا على ما هو أدب العبودية و هذا أول ثناء مفصل حكاه الله سبحانه عنه (عليه السلام)، و ما حكى عنه قبل ذلك ليس بهذا النحو كقوله: «يا قوم إني بريء مما تشركون، إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات و الأرض»: «الأنعام: 79» و قوله لأبيه: «سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا»: «مريم: 47».
و قد استعمل (عليه السلام) من الأدب في ثنائه أن أتى بثناء جامع أدرج فيه عناية ربه به من بدء خلقه إلى أن يعود إلى ربه، و أقام فيه نفسه مقام الفقر و الحاجة كلها، و لم يذكر لربه إلا الغنى و الجود المحض، و مثل نفسه عبدا داخرا لا يقدر على شيء و تقلبه المقدرة الإلهية حالا إلى حال من خلق ثم إطعام و سقي و شفاء عن مرض ثم أماته ثم إحياء ثم إشخاص إلى جزاء يوم الجزاء، و ليس له إلا الطاعة المحضة و الطمع في غفران الخطيئة.
و من الأدب المراعي في بيانه نسبة المرض إلى نفسه في قوله: «و إذا مرضت فهو يشفين» لما أن نسبته إليه تعالى في مثل المقام و هو مقام الثناء لا يخلو عن شيء، و المرض و إن كان من جملة الحوادث و هي لا تخلو عن نسبة إليه تعالى، لكن الكلام ليس مسوقا لبيان حدوثه حتى ينسب إليه تعالى بل لبيان أن الشفاء من المرض من رحمته و عنايته تعالى، و لذلك نسب المرض إلى نفسه و الشفاء إلى ربه بدعوى أنه لا يصدر منه إلا الجميل.
ثم أخذ في الدعاء و استعمل فيه من الأدب البارع أن ابتدأ باسم الرب و قصر مسألته على النعم الحقيقية الباقية من غير أن يلتفت إلى زخارف الدنيا الفانية، و اختار مما اختاره ما هو أعظم و أفخم فسأل الحكم و هو الشريعة و اللحوق بالصالحين و سأل لسان صدق في الآخرين و هو أن يبعث الله بعده زمانا بعد زمان، و حينا بعد حين من يقوم بدعوته، و يروج شريعته، و هو في الحقيقة سؤال أن يخصه بشريعة باقية إلى يوم القيامة ثم سأل وراثة الجنة و مغفرة أبيه و عدم الخزي يوم القيامة.
و قد أجابه الله تعالى إلى جميع ما سأله عنه على ما ينبىء به كلامه تعالى إلا دعاءه لأبيه و حاشا رب العالمين أن يذكر دعاء عبد من عباده المكرمين مما ذهب سدى لم يستجبه، قال تعالى: «ملة أبيكم إبراهيم»: «الحج: 78» و قال: «و جعله كلمة باقية في عقبه»: «الزخرف: 28» و قال: «لقد اصطفيناه في الدنيا و إنه في الآخرة لمن الصالحين»: «البقرة: 103» و حياه بسلام عام إذ قال: «سلام على إبراهيم»: «الصافات: 190».
و سير التاريخ بعده (عليه السلام) يصدق جميع ما ذكره القرآن الشريف من محامده و أثنى فيه عليه فإنه (عليه السلام) هو النبي الكريم قام وحده بدين التوحيد و إحياء ملة الفطرة و انتهض لهدم أركان الوثنية، و كسر الأصنام على حين اندرست فيه آيات التوحيد، و عفت الأيام فيها رسوم النبوة و نسيت الدنيا اسم نوح و الكرام من أنبياء الله، فأقام دين الفطرة على ساق، و بث دعوة التوحيد بين الناس و دين التوحيد حتى اليوم و قد مضى من زمنه ما يقرب من أربعة آلاف سنة حي باسمه باق في عقبه فإن الذي تعرفه الدنيا من دين التوحيد هو دين اليهود و نبيهم موسى، و دين النصارى و نبيهم عيسى، و هما من آل إسرائيل يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم (عليهما السلام)، و دين الإسلام الذي بعث به محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو من ذرية إسماعيل بن إبراهيم (عليهما السلام).
و مما ذكره الله من دعائه قوله: «رب هب لي من الصالحين»: «الصافات: 100» يسأل الله فيه ولدا صالحا، و فيه اعتصام بربه، و إصلاح لمسألته الذي هي بوجه دنيوية بوصف الصلاح ليعود إلى جهة الله و ارتضائه.
و مما ذكره تعالى من دعائه ما دعا به حين قدم إلى أرض مكة و قد أسكن إسماعيل و أمه بها، قال تعالى: «و إذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا و ارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله و اليوم الآخر قال و من كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار و بئس المصير»: «البقرة: 162».
يسأل ربه أن يتخذ أرض مكة - و هي يومئذ أرض قفرة و واد غير ذي زرع - حرما لنفسه ليجمع بذلك شمل الدين، و يكون ذلك رابطة أرضية جسمانية بين الناس و بين ربهم يقصدونه لعبادة ربهم، و يتوجهون إليه في مناسكهم، و يراعون حرمته فيما بينهم فيكون ذلك آية باقية خالدة لله في الأرض يذكر الله كل من ذكره، و يقصده كل من قصده، و تتشخص به الوجهة، و تتحد به الكلمة.
و الدليل على أنه (عليه السلام) يريد بالأمن الأمن التشريعي الذي هو معنى اتخاذه حرما دون الأمن الخارجي من وقوع المقاتلات و الحروب و سائر الحوادث المفسدة للأمن المخلة بالرفاهية قوله تعالى: «أ و لم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء»: «القصص: 57» فإن في الآية امتنانا عليهم بأمن الحرم و هو المكان الذي احترمه الله لنفسه فاتصف بالأمن من جهة ما احترمه الناس لا من جهة عامل تكويني يقيه من الفساد و القتل، و الآية نزلت و قد شاهدت مكة حروبا مبيدة بين قريش و جرهم فيها، و كذا من القتل و الجور و الفساد ما لا يحصى، و كذا قوله تعالى: «أ و لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا و يتخطف الناس من حولهم»: «العنكبوت: 67» أي لا يتخطفون من الحرم لاحترام الناس إياه لمكان الحرمة التي جعلناها.
و بالجملة كان مطلوبه (عليه السلام) هو أن يكون لله في الأرض حرم تسكنه ذريته، و كان لا يحصل ذلك إلا ببناء بلد يقصده الناس من كل جانب فيكون مجمعا دينيا يؤمونه بالسكونة و اللواذ و الزيارة إلى يوم القيامة فلذلك سأل أن يجعله بلدا آمنا، و قد كان غير ذي زرع فسأل أن يرزقهم من الثمرات حتى يعمر بسكانه و لا يتفرقوا منه.
ثم لما أحس أن دعاءه بهذا التشريف يشمل المؤمن و الكافر قيد مسألته بإيمان المدعو لهم بالله و اليوم الآخر فقال: «من آمن منهم بالله و اليوم الآخر» و أما أن ذلك كيف يمكن في بلد لو اتفق أن يسكن فيه المؤمنون و الكفار معا و اختلفوا، أو إذا قطن فيه الكفار فقط؟ و كيف يرزقون من الثمرات و الأرض بطحاء غير ذي زرع؟ فلم يتعرض له في مسألته.
و هذا من أدبه (عليه السلام) في مقام الدعاء فإن من فضول القول أن يعلم الداعي ربه كيف يقضي حاجته؟ و ما هو الطريق إلى إجابة مسألته؟ و هو رب عليم حكيم قدير إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون.
لكن الله سبحانه إذ كان يريد أن يقضي حاجته على السنة الجارية في الأسباب العادية و لا يفرق فيها بين المؤمن و الكافر تمم دعاءه (عليه السلام) بما قيد به كلامه من قوله: «و من كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار و بئس المصير».
و هذا الدعاء الذي أدى إلى تشريع الحرم الإلهي و بناء الكعبة المقدسة التي هي أول بيت وضع للناس ببكة مباركة و هدى للعالمين هو إحدى ثمرات همته العالية المقدسة التي امتن به على من بعده من المسلمين إلى يوم القيامة.
و مما دعا (عليه السلام) دعاؤه في آخر عمره على ما حكاه الله تعالى بقوله: «و إذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا و اجنبني و بني أن نعبد الأصنام، رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني و من عصاني فإنك غفور رحيم، ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم و ارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون، ربنا إنك تعلم ما نخفي و ما نعلن و ما يخفى على الله من شيء في الأرض و لا في السماء، الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل و إسحاق إن ربي لسميع الدعاء رب اجعلني مقيم الصلاة و من ذريتي ربنا و تقبل دعاء، ربنا اغفر لي و لوالدي و للمؤمنين يوم يقوم الحساب»: «إبراهيم: 41».
و هذا مما دعا (عليه السلام) به في أواخر عمره الشريف و قد بنيت بلدة مكة، و الدليل عليه قول فيه: «الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل و إسحاق» و قوله: «اجعل هذا البلد آمنا» و لم يقل كما في دعائه السابق: «و اجعل هذا بلدا آمنا».
و مما استعمل فيه من الأدب تمسكه بالربوبية في دعائه، و كلما ذكر ما يختص بنفسه قال: «رب» و كلما ذكر ما يشاركه فيه غيره قال: «ربنا».
و من الأدب المستعمل في دعائه أن كلما ذكر حاجة من الحوائج يمكن أن يسأل لغرض مشروع أو غير مشروع ذكر غرضه الصحيح من حاجته، و فيه من إثارة الرحمة الإلهية ما لا يخفى فلما قال: «اجنبني و بني» «إلخ»، ذكر بعده قوله: «رب إنهن أضللن» «إلخ»، و حيث قال: «ربنا إني أسكنت» «إلخ»، قال بعده: «ربنا ليقيموا الصلاة» و إذ دعا بقوله: «فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم و ارزقهم من الثمرات» ذيله بقوله: «لعلهم يشكرون».
و من أدبه فيه أنه أردف كل حاجة ذكرها بما يناسب مضمونها من أسماء الله الحسنى كالغفور و الرحيم و سميع الدعاء، و كرر اسم الرب كلما ذكر حاجة من حوائجه فإن الربوبية هي السبب الموصول بين العبد و بين الله تعالى، و هو المفتاح لباب كل دعاء.
و من أدبه فيه قوله: «و من عصاني فإنك غفور رحيم» حيث لم يدع عليهم بشيء يسوء غير أنه ذكر مع ذكرهم اسمين من أسماء الله تعالى هما الواسطتان في شمول نعمة السعادة على كل إنسان أعني الغفور الرحيم حبا منه لنجاة أمته و انبساط جود ربه.
و من ذلك ما حكاه الله عنه و عن ابنه إسماعيل و قد اشتركا فيه، و هو قوله تعالى: «و إذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت و إسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، ربنا و اجعلنا مسلمين لك و من ذريتنا أمة مسلمة لك و أرنا مناسكنا و تب علينا إنك أنت التواب الرحيم، ربنا و ابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك و يعلمهم الكتاب و الحكمة و يزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم»: «البقرة: 192».
دعاء دعوا به عند بنائهما الكعبة، و فيه من الأدب الجميل ما في سابقه.
و من ذلك ما حكاه الله عن إسماعيل (عليه السلام) في قصة الذبح قال تعالى: «فبشرناه بغلام حليم، فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ما ذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين»: «الصافات: 120».
و صدر كلامه و إن كان من أدبه مع أبيه إلا أن الذيل فيما بينه و بين ربه على أن التأدب مع مثل إبراهيم خليل الله (عليه السلام) تأدب مع الله تعالى.
و بالجملة لما ذكر له أبوه ما رآه في المنام، و كان أمرا إلهيا بدليل قول إسماعيل: «افعل ما تؤمر» أمره أن يرى فيه رأيه، و هو من أدبه (عليه السلام) مع ابنه فقال له إسماعيل: «يا أبت افعل ما تؤمر، إلخ» و لم يذكر أنه الرأي الذي رآه هضما لنفسه و تواضعا لأبيه كأنه لا رأي له قبال رأيه و لذلك صدر القول بخطابه بالأبوة، و لم يقل: «إن شئت فافعل ذلك ليكون مسألته القطعية تطييبا لنفس أبيه، و لأنه ذكر في كلامه أنه أمر أمر به إبراهيم، و لا يتصور في حق مثله أن يتروي أو يتردد في فعل ما أمر به دون أن يمتثل أمر ربه.
ثم في قوله: «ستجدني إن شاء الله من الصابرين» تطييب آخر لنفس أبيه، و كل ذلك من أدبه مع أبيه (عليه السلام).
و قد تأدب مع ربه إذ لم يأت بما وعده إياه في صورة القطع و الجزم دون أن استثنى بمشيئة الله فإن في القطع من غير تعليق الأمر بمشيئة الله شائبة دعوى الاستقلال في السببية، و لتخل عنها ساحة النبوة، و قد ذم الله لذلك قوما إذ قطعوا أمرا و لم يعلقوا كما قال في قصة أصحاب الجنة: «إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين، و لا يستثنون»: «القلم: 18» و قد أدب الله سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) في كتابه بأن يستثني في قوله تأديبا بكناية عجيبة إذ قال: «و لا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا، إلا أن يشاء الله»: «الكهف: 24».
و من ذلك ما حكاه الله عن يعقوب (عليه السلام) حين رجع بنوه من مصر و قد تركوا بنيامين و يهودا بها قال تعالى: «و تولى عنهم و قال يا أسفا على يوسف و ابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم، قالوا تالله تفتؤا تذكر يوسف حتى يكون حرضا أو تكون من الهالكين، قال إنما أشكوا بثي و حزني إلى الله و أعلم من الله ما لا تعلمون»: «يوسف: 86».
يقول لبنيه إن مداومتي على ذكر يوسف شكاية مني سوء حالي إلى الله و لست بائس من رحمة ربي أن يرجعه إلي من حيث لا يحتسب، و ذلك أن من أدب الأنبياء مع ربهم أن يتوجهوا في جميع أحوالهم إلى ربهم و يوردوا عامة حركاتهم و سكناتهم في سبيله فإن الله سبحانه ينص على أنه هداهم إليه صراطا مستقيما قال: «أولئك الذين هدى الله»: «الأنعام: 90» و قال في خصوص يعقوب: «و وهبنا له إسحاق و يعقوب كلا هدينا»: «الأنعام: 84» ثم ذكر أن اتباع الهوى ضلال عن سبيل الله فقال تعالى: «و لا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله»: «ص: 26».
فالأنبياء و هم المهديون بهداية الله لا يتبعون الهوى البتة فعواطفهم النفسانية و أميالهم الباطنية من شهوة أو غضب أو حب أو بغض أو سرور أو حزن مما يتعلق بمظاهر الحياة من مال و بنين و نكاح و مأكل و ملبس و مسكن و غير ذلك كل ذلك واقعة في سبيل الله لا يقصدون به إلا الله جلت عظمته فإنما هما سبيلان مسلوكان سبيل يتبع فيه الحق و سبيل يتبع فيه الهوى، و إن شئت قلت: سبيل ذكر الله و سبيل نسيانه.
و الأنبياء (عليهم السلام) إذ كانوا مهديين إلى الله لا يتبعون الهوى كانوا على ذكر من ربهم لا يقصدون بحركة أو سكون غيره تعالى، و لا يقرعون بحاجة من حوائج حياتهم باب غيره من الأسباب بمعنى أنهم إذا تعلقوا بسبب لم ينسهم ذلك ربهم و أن الأمر إليه تعالى لا أنهم ينفون الأسباب نفيا مطلقا لا يبقى مع ذلك لها وجود في التصور مطلقا فإن ذلك مما لا مطمع فيه، و لا أنهم يرون ذوات الأشياء و ينفون عنها وصفة السببية فإن في ذلك خروجا عن صراط الفطرة الإنسانية بل التعلق به أن لا يرى لغيره استقلالا، و يضع كل شيء موضعه الذي وضعه الله فيه.
و إذ كان حالهم (عليهم السلام) ما ذكرنا من تعلقهم بالله حق التعلق تمكن منهم هذا الأدب الإلهي أن يراقبوا مقام ربهم و يراعوا جانب ربوبيته فلا يقصدوا شيئا إلا لله، و لا يتركوا شيئا إلا لله، و لا يتعلقوا بسبب إلا و هم متعلقون بربهم قبله و معه و بعده، فهو غايتهم على كل حال.
فقوله (عليه السلام): «إنما أشكوا بثي و حزني إلى الله» يريد به أن ذكري المستمر ليوسف و أسفي عليه ليس على حد ما يلغو أحدكم إذا أصابته مصيبة ففقد نعمة من نعم الله فيذكرها لمن لا يملك منه نفعا و لا ضرا بجهل منه، و إنما ذلك شكوى مني إلى الله فيما دخلني من فقد يوسف، و ليس ذلك مسألة مني في أمر لا يكون فإني أعلم من الله ما لا تعلمون.
و من ذلك ما حكاه الله عن يوسف الصديق حين هددته امرأة العزيز بالسجن إن لم يفعل ما كانت تأمره به: «قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه و إلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن و أكن من الجاهلين»: «يوسف: 33».
يذكر (عليه السلام) لربه أن أمره يدور عندهن في موقفه ذاك بين السجن و بين إجابتهن إلى ما يسألنه، و أنه بعلمه الذي أكرمه الله به، و هو المحكي عنه في قوله تعالى: «و لما بلغ أشده آتيناه حكما و علما»: «يوسف: 22» يختار السجن على إجابتهن غير أن الأسباب منضودة على طبق ما يرجونه منه قوية غالبة فهي تهدده بالجهل بمقام ربه و إبطال ما عنده من العلم بالله، و لا حكم في ذلك إلا له تعالى كما قال لصاحبه في السجن: «إن الحكم إلا لله»: «يوسف: 40» و لذلك تأدب ع و لم يذكر لنفسه حاجة لأنه حكم بنحو، بل لوح إلى تهديد الجهل إياه بإبطال نعمة العلم الذي أكرمه بها ربه، و ذكر أن نجاته من مهلكة الجهل و اندفاع كيدهن تتوقف إلى صرفه تعالى فسلم الأمر إليه و سكت.
فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن و هو الصبوة و إلا فالسجن فتخلص من السجن و الصبوة جميعا، و منه يعلم أن مراده من كيدهن هو الصبوة و السجن جميعا، و أما قوله (عليه السلام): «رب السجن أحب إلي، إلخ» فإنما هو تمايل قلبي إلى السجن على تقدير تردد الأمر و كناية عن النفرة و المباغضة للفحشاء و ليس بسؤال منه للسجن كما قال (عليه السلام): الموت أولى من ركوب العار. و العار أولى من دخول النار. لا كما ربما يظن أنه سأل بذلك السجن فقضي له به، و الدليل على ما ذكرناه قوله تعالى بعده: «ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين»: «يوسف: 35» لظهور الآية أن سجنه كان عن رأي بدا لهم بعد ذلك، و قد كان الله سبحانه صرف عنه قبل ذلك بالدعوة إلى أنفسهن و التهديد بالسجن.
و منه ما حكى الله سبحانه من ثنائه و دعائه (عليه السلام) حيث قال: «فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه و قال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين، و رفع أبويه على العرش و خروا له سجدا و قال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا و قد أحسن بي إذ أخرجني من السجن و جاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني و بين إخوتي إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم، رب قد آتيتني من الملك و علمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات و الأرض أنت وليي في الدنيا و الآخرة توفني مسلما و ألحقني بالصالحين»: «يوسف: 110».
فليتدبر الباحث فيما يعطيه الآيات من أدب النبوة و ليمثل عنده ما كان عليه يوسف (عليه السلام) من الملك و نفوذ الأمر و ما كان عليه أبواه من توقان النفس إلى لقائه، و ما كان عليه إخوته من التواضع و هم جميعا على ذكر من تاريخ حياته من حين فقدوه إلى حين وجدوه و هو عزيز مستو على عرش العزة و الهيمنة.
لم يشق (عليه السلام) فما بكلام إلا و لربه فيه نصيب أو كل النصيب إلا ما أصدره من الأمر بقوله: «ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين» فأمرهم بالدخول و حكم لهم بالأمن، و لم يستتم الكلام حتى استثنى فيه بمشيئة الله لئلا يوهم الاستقلال في الحكم دون الله، و هو (عليه السلام) القائل: «إن الحكم إلا لله».
ثم شرع في الثناء على ربه فيما جرى عليه منذ فارقهم إلى أن اجتمع بهم و بدأ في ذلك بقصة رؤياه و تحقق تأويلها و صدق فيه أباه لا فيما عبرها به فقط بل حتى فيما ذكره في آخر كلامه من علم الله و حكمته توغلا منه في الثناء على ربه حيث قال له أبوه: «و كذلك يجتبيك ربك و يعلمك - إلى أن قال - إن ربك عليم حكيم»: «يوسف: 6» و قال له يوسف هاهنا بعد ما صدقه فيما عبر به رؤياه: «إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم»: «يوسف: 100».
ثم أشار إلى إجمال ما جرى عليه ما بين رؤياه و تأويلها فنسبها إلى ربه و وصفها بالحسن و هو من الله إحسان، و من ألطف أدبه توصيفه ما لقي من إخوته حين ألقوه في غيابة الجب إلى أن شروه بثمن بخس دراهم معدودة، و اتهموه بالسرقة بقوله: «نزغ الشيطان بيني و بين إخوتي».
و لم يزل يذكر نعم ربه و يثني عليه و يقول: ربي و ربي حتى غشيه الوله و أخذته جذبة إلهية فاشتغل بربه و تركهم كأنه لا يعرفهم، و قال: «رب قد آتيتني من الملك و علمتني من تأويل الأحاديث، فأثنى على ربه بحاضر نعمه عنده، و هو الملك و العلم بتأويل الأحاديث، ثم انتقلت نفسه الشريفة من ذكر النعم إلى أن ربه الذي أنعم عليه بما أنعم لأنه فاطر السماوات و الأرض، و مخرج كل شيء من العدم البحت إلى الوجود من غير أن يكون لشيء من الأشياء جدة من نفسه يملك به ضرا أو نفعا أو نعمة أو نقمة أو صلاحية أن يدبر أمر نفسه في دنيا أو آخرة.
و إذ كان فاطر كل شيء فهو ولي كل شيء، و لذلك ذكر بعد قوله: «فاطر السماوات و الأرض» أنه عبد داخر لا يملك تدبير نفسه في دنيا و لا آخرة بل هو تحت ولاية الله سبحانه يختار له من الخير ما يشاء و يقيمه أي مقام أراد فقال: «أنت وليي في الدنيا و الآخرة» و عندئذ ذكر ما له من مسألة يحتاج فيها إلى ربه و هو أن ينتقل من الدنيا إلى الآخرة و هو في حال الإسلام إلى ربه على حد ما منحه الله آباءه إبراهيم و إسماعيل و إسحاق و يعقوب قال تعالى: «و لقد اصطفيناه في الدنيا و إنه في الآخرة لمن الصالحين، إذ قال له ربه أسلم - و هو الاصطفاء - قال أسلمت لرب العالمين، و وصى بها إبراهيم بنيه و يعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا و أنتم مسلمون»: «البقرة: 123».
و هو قوله: «توفني مسلما و ألحقني بالصالحين» يسأل التوفي على الإسلام ثم اللحوق بالصالحين، و هو الذي سأله جده إبراهيم (عليه السلام) بقوله: «رب هب لي حكما و ألحقني بالصالحين»: «الشعراء: 83» فأجيب إليه كما في الآيات المذكورة آنفا و هذا آخر ما ذكر الله من حديثه و ختم به قصته، و أن إلى ربك المنتهى، و هذا مما في السياقات القرآنية من عجيب اللطف.
و من ذلك ما حكاه الله سبحانه عن نبيه موسى (عليه السلام) في أوائل نشوئه بمصر حين وكز القبطي فقضى عليه: «قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم»: «القصص: 16» و قوله حين فر من مصر فبلغ مدين و سقى لابنتي شعيب ثم تولى إلى الظل فقال: «رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير»: «القصص: 24».
و قد استعمل (عليه السلام) في مسألتيه من الأدب بعد الالتجاء بالله و التعلق بربوبيته أن صرح في دعائه الأول بالطلب لأنه كان متعلقا بالمغفرة و الله سبحانه يحب أن يستغفر كما قال: «و استغفروا الله إن الله غفور رحيم»: «البقرة: 199» و هو الذي دعا إليه نوح فمن بعده من الأنبياء (عليهم السلام)، و لم يصرح بحاجته بعينه في دعائه الثاني الذي ظاهره بحسب دلالة المقام أنه كان يريد رفع حوائج الحياة كالغذاء و المسكن مثلا بل إنما ذكر الحاجة ثم سكت، فما للدنيا عند الله من قدر.
و اعلم أن قوله (عليه السلام): «رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي» يجري في الاعتراف بالظلم و طلب المغفرة مجرى قول آدم و زوجته: «ربنا ظلمنا أنفسنا و إن لم تغفر لنا و ترحمنا لنكونن من الخاسرين» بمعنى أن المراد بالظلم هو ظلمه على نفسه لاقترافه عملا يخالف مصلحة حياته كما أن الأمر كان على هذا النحو في آدم و زوجته.
فإن موسى (عليه السلام) إنما فعل ما فعل قبل أن يبعثه الله بشريعته الناهية عن القتل و إنما قتل نفسا كافرة غير محترمة، و لا دليل على وجود النهي عن مثل هذا القتل قبل شريعته و كان الأمر في عصيان آدم و زوجته على هذه الوتيرة فقد ظلما أنفسهما بالأكل من الشجرة قبل أن يشرع الله شريعة بين النوع الإنساني فإنما أسس الله الشرائع كائنة ما كانت بعد هبوطهما من الجنة إلى الأرض.
و مجرد النهي عن اقتراب الشجرة لا دليل على كونه مولويا مستلزما لتحقق المعصية المصطلحة بمخالفته، مع أن القرائن قائمة على كون النهي المتعلق بهما إرشاديا كما في آيات سورة طه على ما بيناه في تفسير قصة جنة آدم في الجزء الأول من الكتاب.
على أن الكتاب الإلهي نص في كون موسى (عليه السلام) مخلصا، و أن إبليس لا سبيل له إلى إغواء المخلصين من عباد الله تعالى و من الضروري أن لا معصية بدون إغواء إبليس قال الله تعالى: «و اذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا و كان رسولا نبيا»: «مريم: 51» و قال تعالى» «قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين»: «ص: 83».
و من هنا يظهر أن المراد بالمغفرة المسئولة في دعائه كما في دعائهما «(عليهما السلام)» ليست هي إمحاء العقاب الذي يكتبه الله على المجرمين كما في المعاصي المولوية بل إمحاء الآثار السيئة التي كان يستتبعها الظلم على النفس في مجرى الحياة فقد كان موسى (عليه السلام) يخاف أن يفشو أمره و يظهر ما هو ذنب له عندهم فسأله تعالى أن يستر عليه و يغفره، و المغفرة في عرف القرآن أعم من إمحاء العقاب بل هي إمحاء الأثر السيىء كائنا ما كان، و لا ريب أن أمر الجميع بيد الله سبحانه.
و نظير هذا من وجه قول نوح (عليه السلام) فيما تقدم من دعائه «و إلا تغفر لي و ترحمني» أي و إن لم تؤدبني بأدبك، و لم تعصمني بعصمتك و وقايتك و ترحمني بذلك أكن من الخاسرين، فافهم ذلك.
و منه دعاؤه (عليه السلام) أول ما ألقي إليه الوحي و بعث بالرسالة إلى قومه على ما حكاه الله قال تعالى: «قال رب اشرح لي صدري و يسر لي أمري و احلل عقدة من لساني يفقهوا قولي و اجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي اشدد به أزري و أشركه في أمري كي نسبحك كثيرا و نذكرك كثيرا إنك كنت بنا بصيرا»: «طه: 35».
ينصح (عليه السلام) لما بعث لها من الدعوة الدينية و يذكر لربه - على ما يفيده الكلام بإعانة من المقام - إنك كنت بصيرا بحالي أنا و أخي أنا منذ نشأنا نحب تسبيحك، و قد حملتني الليلة ثقل الرسالة و في نفسي من الحدة و في لساني من العقدة ما أنت أعلم به و إني أخاف أن يكذبوني أن دعوتهم إليك و بلغتهم رسالتك فيضيق صدري و لا ينطلق لساني فاشرح لي صدري، و يسر لي أمري، و هذا رفع التحرج الذي ذكره الله بقوله: «ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له سنة الله في الذين خلوا من قبل»: «الأحزاب: 38» و احلل عقدة من لساني يفقهوا قولي و أخي هارون أفصح مني لسانا و هو من أهلي فأشركه في هذا الأمر و اجعله وزيرا لي كي نسبحك - كما كنا نحبه - كثيرا و نذكرك عند ملإ الناس بالتعاضد كثيرا فهذا محصل ما سأله (عليه السلام) ربه من أسباب الدعوة و التبليغ، و الأدب الذي استعمل فيه أن ذكر غايته و غرضه من أسئلته لئلا يوهم كلامه أنه يسأل ما يسأل لنفسه فقال: «كي نسبحك كثيرا و نذكرك كثيرا» و استشهد على صدقه في دعواه بعلم الله نفسه بإلقاء أنفسهما بين يديه و عرضها عليه فقال: «إنك كنت بنا بصيرا» و عرض السائل المحتاج نفسه في حاجتها على المسئول الغني الجواد من أقوى ما يهيج عاطفة الرحمة لأنه يفيد إراءة نفس الحاجة فوق ما يفيده ذكر الحاجة باللسان الذي لا يمتنع عليه أن يكذب.
و منه ما حكى الله عنه مما دعا به على فرعون و ملئه إذ قال: «و قال موسى ربنا إنك آتيت فرعون و ملأه زينة و أموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم و اشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم، قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما و لا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون»: «يونس: 89».
الدعاء لموسى و هارون و لذلك صدر بكلمة «ربنا» و يدل عليه ما في الآية التالية: «قال قد أجيبت دعوتكما» دعوا أولا على أموالهم أن يطمس الله عليها ثم على أنفسهم أن يشد الله على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم فلا يقبل إيمانهم كما قال تعالى: «يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا»: «الأنعام: 185» أي انتقم منهم بتحريم الإيمان عليهم بمفاجاة العذاب كما حرموه على عبادك بإضلالهم، و هذا أشد ما يمكن أن يدعى به على أحد فإنه الدعاء بالشقوة الدائمة و لا شيء شرا منه بالنسبة إلى إنسان.
و الدعاء بالشر غير الدعاء بالخير حكما فإن الرحمة الإلهية سبقت غضبه و قد قال لموسى فيما أوحي إليه: «عذابي أصيب به من أشاء و رحمتي وسعت كل شيء»: «الأعراف: 165» فسعة الرحمة الإلهية تقضي بكراهية إصابة الشر و الضر لعبد من عباده و إن كان ظالما، و يشهد بذلك ما يفيض الله سبحانه من نعمه عليهم و سترهم بكرمه و أمره عباده بالحلم و التصبر عند جهالتهم و خرقهم اللهم إلا في إقامة حق لازم، أو عند اضطرار في مظلمة إذا كانوا على علم بأن مصلحة ملزمة كمصلحة الدين أو أهل الدين تقتضي ذلك.
على أن جهات الخير و السعادة كلما كانت أرق لطافة و أدق رتبة كانت أوقع عند النفوس بالفطرة التي فطر الله الناس عليها بخلاف جهات الشر و الشقاء فإن الإنسان بحسب طبعه يفر من الوقوف عليها، و يحتال أن لا يلتفت إلى أصلها فضلا عن تفاصيل خصوصياتها، و هذا المعنى يوجب اختلاف الدعاءين أعني الدعاء بالخير و الدعاء بالشر من حيث الآداب.
فمن أدب الدعاء بالشر أن تذكر الأمور التي بعثت إلى الدعاء بالتكنية و خاصة في الأمور الشنيعة الفظيعة بخلاف الدعاء بالخير فإن التصريح بعوامل الدعاء فيه هو المطلوب، و قد راعاه (عليه السلام) في دعائه حيث قال: «ليضلوا عن سبيلك» و لم يأت بتفاصيل ما كانت تأتي به آل فرعون من الفظائع.
و من أدبه الإكثار من الاستغاثة و التضرع و قد راعاه فيما يقول: «ربنا» و تكرره مرات في دعائه على قصره.
و من أدبه أن لا يقدم عليه إلا مع العلم بأنه على مصلحة الحق من دين أو أهله من دون أن يجري على ظن أو تهمة، و قد كان (عليه السلام) على علم منه و قد قال الله فيه: «و لقد أريناه آياتنا كلها فكذب و أبى»: «طه: 56» و كأنه لذلك أمره الله سبحانه و أخاه عند ما أخبرهما بالاستجابة بقوله: «فاستقيما و لا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون» و الله أعلم.
و من دعاء موسى ما حكاه الله عنه في قوله: «و اختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل و إياي أ تهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء و تهدي من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا و ارحمنا و أنت خير الغافرين، و اكتب لنا في هذه الدنيا حسنة و في الآخرة إنا هدنا إليك: «الأعراف: 165».
يبتدىء الدعاء من قوله: «فاغفر لنا، إلخ» غير أن الموقف لما كان موقفا صعبا قد أخذهم الغضب الإلهي و البطش الذي لا يقوم له شيء، و ما مسألة المغفرة و الرحمة من سيد ساخط قد هتكت حرمته و أهين على سؤدده كمسألة من هو في حال سوي فلذلك قدم (عليه السلام) ما تسكن به فورة الغضب الإلهي حتى يتخلص إلى طلب المغفرة و الرحمة.
فقال: «رب لو شئت أهلكتهم من قبل و إياي» يريد (عليه السلام) - كما تدل عليه قرينة المقام - رب إن نفسي و نفوسهم جميعا قبض قدرتك، و طوع مشيئتك، لو شئت أهلكتهم و أنا فيهم قبل اليوم كما أهلكتهم اليوم و أبقيتني فما ذا أقول لقومي إذا رجعت إليهم و اتهموني بأني قتلتهم، و حالهم ما أنت أعلم به؟ و هذا يبطل دعوتي و يحبط عملي.
ثم عد (عليه السلام) إهلاك السبعين إهلاكا له و لقومه فذكر أنهم سفهاء من قومه لا يعبأ بفعلهم فأخذ ربه برحمته حيث لم يكن من عادته تعالى أن يهلك قوما بفعل السفهاء منهم، و ليس ذلك إلا موردا من موارد الامتحان العام الذي لا يزال جاريا على الإنسان فيضل به كثير، و يهتدي به كثير، و لم تقابلها إلا بالصفح و الستر.
و إذ كان بيدك أمر نفسي و نفوسنا تقدر على إهلاكنا متى شئت، و كانت هذه الواقعة غير بدع في مسير امتحانك العام الذي يعقب ضلال قوم و هداية آخرين، و لا ينتهي إلا إلى مشيئتك فأنت ولينا الذي يقوم بأمرك و مشيئتك تدبير أمورنا، و لا صنع لنا فيها فاقض فينا بالمغفرة و الرحمة فإن من جملة صفاتك أنك خير الغافرين، و اكتب لنا في هذه الدنيا عيشة آمنة من العذاب و هي التي يستحسنها من أحاط به غمر السخط الإلهي، و في الآخرة حسنة بالمغفرة و الجنة.
و هذا ما ساقه (عليه السلام) في مسألته، و قد أخذتهم الرجفة و شملتهم البلية فانظر كيف استعمل جميل أدب العبودية و استرحم ربه، و لم يزل يستوهب الرحمة، و يسكن بثنائه فورة السخط الإلهي حتى أجيب إلى ما لم يذكره من الحاجة بين ما ذكره، و هو إعادة حياتهم إليهم بعد الإهلاك، و أوحي إليه بما حكاه الله تعالى: «قال عذابي أصيب به من أشاء و رحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون و يؤتون الزكاة و الذين هم بآياتنا يؤمنون»: «الأعراف: 165» فما ظنك به تعالى بعد ما قال لموسى (عليه السلام) جوابا لمسألته: «و رحمتي وسعت كل شيء».
و قد ذكر تعالى صريح عفوه عن هؤلاء، و إجابته إلى مسألته موسى (عليه السلام) بإعادة الحياة إليهم و قد أهلكوا و ردهم إلى الدنيا بقوله: «و إذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة و أنتم تنظرون، ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون: «البقرة: 56» و يقرب من ذلك ما في سورة النساء.
و قد استعمل (عليه السلام) من الأدب في كلامه حيث قال: «تضل بها من تشاء» لم يذكر أن ذلك من سوء اختيار هؤلاء الضالين لينزهه تعالى لفظا كما كان ينزهه قلبا فيكون على حد قوله تعالى: «يضل به كثيرا و يهدي به كثيرا و ما يضل به إلا الفاسقين»: «البقرة: 26» لأن المقام كان يصرفه عن التعرض إلا لكونه تعالى وليا على الإطلاق ينتهي إليه كل التدبير لا غير.
و لم يورد في الذكر أيضا عمدة ما في نفسه من المسألة و هو أن يحييهم الله سبحانه بعد الإهلاك لأن الموقف على ما كان فيه من هول و خطر كان يصرفه عن الاسترسال، و إنما أشار إليه إشارة بقوله: «رب لو شئت أهلكتهم من قبل و إياي، إلخ».
و من دعائه (عليه السلام) ما دعا به حين رجع إلى قومه من الميقات فوجدهم قد عبدوا العجل من بعده، و قد كان الله سبحانه أخبره بذلك قال تعالى «و ألقى الألواح و أخذ برأس أخيه يجره إليه، قال ابن أم إن القوم استضعفوني و كادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء و لا تجعلني مع القوم الظالمين»: «الأعراف: 105» فعند ذلك رق له و دعا له و لنفسه ليمتازا بذلك من القوم الظالمين: «قال رب اغفر لي و لأخي و أدخلنا في رحمتك و أنت أرحم الراحمين»: «الأعراف: 115».
و لم يكن يريد التميز منهم و أن يدخلهما الله في رحمته إلا لما كان يعلم أن الغضب الإلهي سينال القوم بظلمهم كما ذكره الله بقوله بعد ذلك: «إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم و ذلة في الحياة الدنيا»: «الأعراف: 125» و يعرف بما تقدم وجوه من الأدب في كلامه.
و من دعائه (عليه السلام) - و هو في معنى الدعاء على قومه إذ قالوا له حين أمرهم بدخول الأرض المقدسة: «يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت و ربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون»: «المائدة: 24» - ما حكاه الله تعالى بقوله: «قال رب إني لا أملك إلا نفسي و أخي فافرق بيننا و بين القوم الفاسقين»: «المائدة: 25».
و قد أخذ (عليه السلام) بالأدب الجميل حيث كنى عن الإمساك عن أمرهم و تبليغهم أمر ربهم ثانيا بعد ما جبهوا أمره الأول بأقبح الرد و أشنع القول بقوله: «رب إني لا أملك إلا نفسي و أخي» أي لا يطيعني فيما أمرته إلا نفسي و أخي أي إنهم ردوا علي بما لا مطمع فيهم بعده، فها أنا أكف عن أمرهم بأمرك و إرشادهم إلى ما فيه صلاح جماعتهم.
و إنما نسب ملك نفسه و أخيه إلى نفسه لأن مراده من الملك بقرينة المقام ملك الطاعة و لو كان هو الملك التكويني لم ينسبه إلى نفسه إلا مع بيان أن حقيقته لله سبحانه، و إنما له من الملك ما ملكه الله إياه، و لما عرض لربه من نفسه الإمساك و اليأس عن إجابتهم إليه أحال الحكم في ذلك فقال: «فافرق بيننا و بين القوم الفاسقين».
و من ذلك ما دعا به شعيب (عليه السلام) على قومه إذ قال: «ربنا افتح بيننا و بين قومنا بالحق و أنت خير الفاتحين»: «الأعراف: 89».
و هذا استنجاز منه للوعد الإلهي بعد ما يئس من نجاح دعوته فيهم، و مسألة للقضاء بينه و بينهم بالحق على ما قاله الله تعالى: «و لكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط و هم لا يظلمون»: «يونس: 48».
و إنما قال «بيننا» لأنه ضم المؤمنين به إلى نفسه، و قد كان الكافرون من قومه هددوا إياه و المؤمنين به جميعا إذ قالوا: «لنخرجنك يا شعيب و الذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا»: «الأعراف: 88» فضمهم إلى نفسه و هاجر قومه في عملهم و سار بهم إلى ربه و قال: «ربنا افتح بيننا، إلخ».
و قد استمسك في دعائه باسمه الكريم: «خير الفاتحين» لما مر أن التمسك بالصفة المناسبة لمتن الدعاء تأييد بالغ بمنزلة الإقسام، و هذا بخلاف قول موسى (عليه السلام): «رب إني لا أملك إلا نفسي و أخي فافرق بيننا و بين القوم الفاسقين» المنقول آنفا لما تقدم أن لفظه ع ليس بدعاء حقيقة بل هو كناية عن الإمساك عن الدعوة و إرجاع للأمر إلى الله فلا مقتضى للإقسام بخلاف قول شعيب.
و من ذلك ما حكاه الله من ثناء داود و سليمان (عليهما السلام) قال تعالى: «و لقد آتينا داود و سليمان علما و قالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين»: «النمل: 15».
وجه الأدب في حمدهما و شكرهما و نسبة ما عندهما من فضيلة العلم إلى الله سبحانه ظاهر، فلم يقولا مثل ما حكى عن غيرهما كقول قارون لقومه إذ وعظوه أن لا يستكبر في الأرض بماله: «إنما أوتيته على علم عندي»: «القصص: 78» و كما حكى الله عن قوم آخرين: «فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم و حاق بهم ما كانوا به يستهزءون»: «المؤمن: 83».
و لا ضير في الحمد على تفضيل الله إياهما على كثير من المؤمنين فإنه من ذكر خصوص النعمة و بيان الواقع، و ليس ذلك من التكبر على عباد الله حتى يلحق به ذم، و قد ذكر الله عن طائفة من المؤمنين سؤال التفضيل و مدحهم على علو طبعهم و سمو همتهم حيث قال: «و الذين يقولون ربنا - إلى أن قال - و اجعلنا للمتقين إماما»: «الفرقان: 74».
و من ذلك ما حكاه عن سليمان (عليه السلام) في قصة النملة بقوله: «حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان و جنوده و هم لا يشعرون، فتبسم ضاحكا من قولها و قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي و على والدي و أن أعمل صالحا ترضاه و أدخلني برحمتك في عبادك الصالحين»: «النمل: 19».
ذكرته النملة بما قالته ما له من الملك العظيم الذي شيدت أركانه بتسخير الريح تجري بأمره، و الجن يعملون له ما يشاء و العلم بمنطق الطير و غيره غير أن هذا الملك لم يقع في ذكره (عليه السلام) في صورة أجلى أمنية يبلغها الإنسان كما فينا و لم ينسه عبوديته و مسكنته بل إنما وقع في نفسه في صورة نعمة أنعمها عليه ربه فذكر ربه و نعمته أنعمها عليه و على والديه بما خصهم به، و هو من مثله (عليه السلام) و الحال هذا الحال أفضل الأدب مع ربه.
و قد ذكر نعمة ربه، و هي و إن كانت كثيرة في حقه غير أن مورد نظره (عليه السلام) و المقام ذاك المقام - هو الملك العظيم و السلطة القاهرة، و لذلك ذكر العمل الصالح و سأل ربه أن يوزعه ليعمل صالحا لأن العمل الصالح و السيرة الحسنة هو المطلوب ممن استوى على عرش الملك.
فلذلك كله سأل ربه أولا أن يوزعه على شكر نعمته، و ثانيا أن يعمل صالحا، و لم يرض بسؤال العمل الصالح دون أن قيده بقوله: «ترضاه» فإنه عبد لا شغل له بغير ربه و لا يريد الصالح من العمل إلا لأن ربه يرضاه، ثم تمم مسألة التوفيق لصلاح العمل بمسألة صلاح الذات فقال: «و أدخلني برحمتك في عبادك الصالحين».
و من ذلك ما حكاه الله عن يونس (عليه السلام) و قد دعا به و هو في بطن الحوت الذي التقمه قال تعالى: «و ذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين»: «الأنبياء: 87».
كان (عليه السلام) - على ما يقصه القرآن - قد سأل ربه أن ينزل على قومه العذاب فأجابه إلى ذلك فأخبرهم به فلما أشرف عليهم العذاب بالنزول تابوا إلى ربهم فرفع عنهم العذاب، و لما شاهد يونس ذلك ترك قومه، و ذهب لوجهه حتى ركب السفينة فاعترضها حوت فساهمهم في أن يدفعوا الحوت بإلقاء رجل منهم إليه ليلتقمه و ينصرف عن الباقين، فخرجت القرعة باسمه فألقي في البحر فالتقمه الحوت فكان يسبح الله في بطنه إلى أن أمره الله أن يلقيه إلى ساحل البحر، و لم يكن ذلك إلا تأديبا إلهيا يؤدب به أنبياءه على حسب ما يقتضيه مختلف أحوالهم، و قد قال تعالى: «و لو لا أنه كان من المسبحين، للبث في بطنه إلى يوم يبعثون»: «الصافات: 144» فكان حاله في تركه العود إلى قومه و ذهابه لوجهه يمثل حال عبد أنكر على ربه بعض عمله فغضب عليه فأبق منه و ترك خدمته و ما هو وظيفة عبوديته فلم يرتض الله له ذلك فأدبه فابتلاه و قبض عليه في سجن لا يقدر فيه أن يتوسع قدر أنملة في ظلمات بعضها فوق بعض فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين.
و لم يكن ذلك كله إلا لأن يتمثل له على خلاف ما كان يمثله حاله أن الله سبحانه قادر على أن يقبض عليه و يحبسه حيث شاء، و أن يصنع به ما شاء فلا مهرب من الله سبحانه إلا إليه، و لذلك لقنه الحال الذي تمثل له و هو في سجنه من بطن الحوت أن يقر لله بأنه هو المعبود الذي لا معبود غيره، و لا مهرب عن عبوديته فقال: «لا إله إلا أنت» و لم يناده تعالى بالربوبية، و هذا أوحد دعاء من أدعية الأنبياء (عليهم السلام) لم يصدر باسم الرب.
ثم ذكر ما جرى عليه الحال من تركه قومه إثر عدم إهلاكه تعالى إياهم بما أنزل عليهم من العذاب فأثبت الظلم لنفسه و نزه الله سبحانه عن كل ما فيه شائبة الظلم و النقص فقال: «سبحانك إني كنت من الظالمين».
و لم يذكر مسألته - و هي الرجوع إلى مقامه العبودي السابق - عدا لنفسه دون لياقة الاستعطاء و استحقاق العطاء استغراقا في الحياء و الخجل، و الدليل على مسألته قوله تعالى بعد الآية السابقة: «فاستجبنا له و نجيناه من الغم»: «الأنبياء: 88».
و الدليل على أن مسألته كانت هي الرجوع إلى سابق مقامه قوله تعالى: «فنبذناه بالعراء و هو سقيم، و أنبتنا عليه شجرة من يقطين، و أرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون، فآمنوا به فمتعناهم إلى حين»: «الصافات: 184».
و من ذلك ما ذكره الله تعالى عن أيوب (عليه السلام) بعد ما أزمنه المرض و هلك عنه ماله و ولده حيث قال: «و أيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر و أنت أرحم الراحمين»: «الأنبياء: 83».
وجوه التأدب فيه ظاهرة مما تقدم بيانه، و لم يذكر (عليه السلام) حاجته صريحا على حد ما تقدم من أدعية آدم و نوح و موسى و يونس (عليهما السلام) هضما لنفسه و استحقارا لأمره، و أدعية الأنبياء كما تقدم و يأتي خالية عن التصريح بالحاجة إذا كان مما يرجع إلى أمور الدنيا و إن كانوا لا يريدون شيئا من ذلك اتباعا لهوى أنفسهم.
و بوجه آخر ذكره السبب الباعث إلى المسألة كمس الضر و الصفة الموجودة في المسئول المطمعة للسائل في المسألة ككونه تعالى أرحم الراحمين، و السكوت عن ذكر نفس الحاجة، أبلغ كناية عن أن الحاجة لا تحتاج إلى ذكر فإن ذكرها يوهم أن الأسباب المذكورة ليست بكافية في إثارة رحمة من هو أرحم الراحمين بل يحتاج إلى تأييد بالذكر و تفهيم باللفظ.
و من ذلك ما حكاه عن زكريا (عليه السلام): حيث قال: «ذكر رحمة ربك عبده زكريا، إذ نادى ربه نداء خفيا، قال رب إني وهن العظم مني و اشتعل الرأس شيبا و لم أكن بدعائك رب شقيا، و إني خفت الموالي من ورائي و كانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا، يرثني و يرث من آل يعقوب و اجعله رب رضيا»: «مريم: 6».
إنما حثه على هذا الدعاء و رغبه في أن يستوهب ولدا من ربه ما شاهده من أمر مريم ابنة عمران في زهدها و عبادتها، و ما أكرمها الله سبحانه به من أدب العبودية، و خصها به من كرامة الرزق من عنده على ما يقصه الله تعالى في سورة آل عمران قال تعالى: «و كفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب، هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء»: «آل عمران: 38».
فغشيه شوق شديد إلى ولد طيب صالح يرثه و يعبد ربه عبادة مرضية كما ورثت مريم عمران و بلغت جهدها في عبادة ربها و نالت منه الكرامة غير أنه وجد نفسه و قد نال منه الشيب، و انهدت منه القوى، و كذلك امرأته و قد كانت عاقرة في سني ولادتها فأدركته من حسرة الحرمان من نعمة الولد الطيب الرضي ما الله أعلم به، لكن لم يملك نفسه مما هاج فيه من الغيرة الإلهية و الاعتزاز بربه دون أن رجع إلى ربه و ذكر له ما يثور به الرحمة و الحنان من حاله أنه لم يزل عالقا على باب العبودية و المسألة منذ حداثة سنه حتى وهن عظمه و اشتعل رأسه شيبا، و لم يكن بدعائه شقيا، و قد وجده سبحانه سميع الدعاء فليسمع دعاءه و ليهب له وارثا رضيا.
و الدليل على ما ذكرنا أنه إنما سأل ما سأل بما ملك نفسه من هيجان الوجد و الحزن ما حكاه الله تعالى عنه بعد ما أوحي إليه بالاستجابة بقوله: «قال رب أنى يكون لي غلام و كانت امرأتي عاقرا و قد بلغت من الكبر عتيا، قال كذلك قال ربك هو علي هين و قد خلقتك من قبل و لم تك شيئا»: «مريم: 9» فإنه ظاهر في أنه (عليه السلام) لما سمع الاستجابة صحا عن حاله و أخذ يتعجب من غرابة المسألة و الإجابة حتى سأل ربه عن ذلك في صورة الاستبعاد و سأل لنفسه عليه آية فأجيب إليها أيضا.
و كيف كان فالذي استعمله (عليه السلام) في دعائه من الأدب هو ما ساقه إليه حال الوجد و الحزن الذي ملكه، و لذلك قدم على دعائه بيان ما بلغ به الحال في سبيل ربه فقد صرف دهره في سلوك سبيل الإنابة و المسألة حتى وقف موقفا يرق له قلب كل ناظر رحيم ثم سأل الولد و علله بأن ربه سميع الدعاء.
فهذا معنى ما ذكره مقدمة لمسألته لا أنه كان يمتن بطول عبوديته على ربه - حاشا مقام النبوة - فمعنى قوله على ما في سورة آل عمران: «رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء» أني أسألك ما أسألك لا لأن لطول عبوديتي - و هو دعاؤه المديد - قدرا عندك أو فيه منه عليك بل لأني أسألك، و قد وجدتك سميعا لدعاء عبادك و مجيبا لدعوة السائلين المضطرين، و قد اضطرني خوف الموالي من ورائي، و الحث الشديد لذرية طيبة يعبدك أن أسألك.
و قد تقدم أن من الأدب الذي استعمله في دعائه أن ألحق تخوف الموالي قوله: «و اجعله رب رضيا» و الرضي و إن كان طبعه يدل بهيئته على ثبوت الرضا لموصوفه، و الرضا يشمل بإطلاقه رضى الله و رضى زكريا و رضى يحيى لكن قوله في آية آل عمران: «ذرية طيبة» يدل على أن المراد بكونه رضيا كونه مرضيا عند زكريا لأن الذرية إنما تكون طيبة لصاحبها لا غير.
و من ذلك ما حكاه الله سبحانه عن المسيح حين سأل المائدة بقوله: «قال عيسى بن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا و آخرنا و آية منك و ارزقنا و أنت خير الرازقين»: «المائدة: 141».
القصة المذكورة في كلامه تعالى في سؤال الحواريين عيسى (عليه السلام) نزول مائدة من السماء عليهم تدل بسياقه أن هذه المسألة كانت من الأسئلة الشاقة على عيسى (عليه السلام) لأن ما حكي عنهم من قولهم له: «يا عيسى بن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء» كان أولا مشتملا بظاهره على الاستفهام عن قدرة الله سبحانه، و لا يوافق ذلك أدب العبودية و إن كان حاق مرادهم السؤال عن المصلحة دون أصل القدرة فإن حزازة اللفظ على حالها.
و كان ثانيا متضمنا لاقتراح آية جديدة مع أن آياته (عليه السلام) الباهرة كانت قد أحاطت بهم من كل جهة فكانت نفسه الشريفة آية، و تكلمه في المهد آية، و إحياؤه الموتى و خلقه الطير و إبراؤه الأكمه و الأبرص و إخباره عن المغيبات و علمه بالتوراة و الإنجيل و الكتاب و الحكمة آيات إلهية لا تدع لشاك شكا و لا لمرتاب ريبا فاختيارهم آية لأنفسهم و سؤالهم إياه كان بظاهره كالعبث بآيات الله و اللعب بجانبه، و لذلك وبخهم بقوله: «اتقوا الله إن كنتم مؤمنين».
لكنهم أصروا على ذلك و وجهوا مسألتهم بقولهم: «نريد أن نأكل منها و تطمئن قلوبنا و نعلم أن قد صدقتنا و نكون عليها من الشاهدين» و ألجئوه إلى السؤال فسأل.
أصلح (عليه السلام) بأدبه الموهوب من جانب الله سبحانه ما اقترحوه من السؤال بما يصلح به أن يقدم إلى حضرة العزة و الكبرياء فعنونه أولا بعنوان أن يكون عيدا لهم يختصون هو و أمته به فإنها آية اقتراحية عديمة النظير بين آيات الأنبياء (عليهم السلام) حيث كانت آياتهم إنما تنزل لإتمام الحجة أو لحاجة الأمة إلى نزولها، و هذه الآية لم تكن على شيء من هاتين الصفتين.
ثم أجمل ثانيا ما فصله الحواريون من فوائد نزولها من اطمئنان قلوبهم بها و علمهم بصدقه (عليه السلام) و شهادتهم عليها، في قوله: «و آية منك».
ثم ذكر ثالثا ما ذكروه من عرض الأكل و أخره و إن كانوا قدموه في قولهم: «نريد أن نأكل منها، إلخ» و ألبسه لباسا آخر أوفق بأدب الحضور فقال: «و ارزقنا» ثم ذيله بقوله: «و أنت خير الرازقين» ليكون تأييدا للسؤال بوجه، و ثناء له تعالى من وجه آخر.
و قد صدر مسألته بندائه تعالى: «اللهم ربنا» فزاد على ما يوجد في سائر أدعية الأنبياء (عليهم السلام) من قولهم «رب» أو «ربنا» لأن الموقف صعب كما تقدم بيانه.
و منه مشافهته (عليه السلام) ربه المحكية بقوله تعالى: «و إذ قال الله يا عيسى بن مريم أ أنت قلت للناس اتخذوني و أمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي و لا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب، ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي و ربكم و كنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم و أنت على كل شيء شهيد، إن تعذبهم فإنهم عبادك و إن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم»: «المائدة: 181».
تأدب (عليه السلام) في كلامه أولا بأن صدره بتنزيهه تعالى عما لا يليق بقدس ساحته كما جرى عليه كلامه تعالى قال: «و قالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه»: «الأنبياء: 26».
و ثانيا بأن أخذ نفسه أدون و أخفض من أن يتوهم في حقه أن يقول مثل هذا القول حتى يحتاج إلى أن ينفيه، و لذلك لم يقل من أول مقالته إلى آخرها: «ما قلت» أو «ما فعلت» و إنما نفى ذلك مرة بعد مرة على طريق الكناية و تحت الستر فقال: «ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق» فنفاه بنفي سببه أي لم يكن لي حق في ذلك حتى يسعني أن أتفوه بمثل ذاك القول العظيم، ثم قال: «إن كنت قلته فقد علمته»، إلخ» فنفاه بنفي لازمه أي إن كنت قلته كان لازم ذلك أن تعلمه لأن علمك أحاط بي و بجميع الغيوب.
ثم قال: «ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي و ربكم» فنفاه بإيراد ما يناقضه مورده على طريق الحصر بما و إلا أي إني قلت لهم قولا و لكنه هو الذي أمرتني به و هو أن اعبدوا الله ربي و ربكم، و كيف يمكن أن أقول لهم مع ذلك أن اتخذوني و أمي إلهين من دون الله؟.
ثم قال: «و كنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم» و هو نفي منه (عليه السلام) لذلك كالمتمم لقوله: «ما قلت لهم إلا ما أمرتني به» «إلخ» و ذلك لأن معناه: ما قلت لهم شيئا مما ينسب إلي و الذي قلت لهم إنما قلته عن أمر منك، و هو «أن اعبدوا الله ربي و ربكم» و لم يتوجه إلى أمر فيما سوى ذلك، و لا مساس بهم إلا الشهادة و الرقوب لأعمالهم ما دمت، فلما توفيتني انقطعت عنهم، و كنت أنت الرقيب عليهم بشهادتك الدائم العام قبل أن توفيتني و بعده و عليهم و على كل شيء غيرهم.
و إذ قد بلغ الكلام هذا المبلغ توجه له (عليه السلام) أن ينفي ذلك القول عن نفسه بوجه آخر متمم للوجوه التي ذكرها، و به يحصل تمام النفي فقال: «إن تعذبهم فإنهم عبادك، «إلخ» يقول - على ما يؤيده السياق - و إذا كان الأمر على ما ذكرت فأنا بمعزل منهم و هم بمعزل مني فأنت و عبادك هؤلاء إن تعذبهم فإنهم عبادك، و للسيد الرب أن يعذب عبيده بمخالفتهم و إشراكهم به و هم مستحقون للعذاب، و إن تغفر لهم فلا عتب عليك لأنك عزيز غير مغلوب و حكيم لا يفعل الفعل السفهي اللغو، و إنما يفعل ما هو الأصلح.
و بما بينا يظهر وجوه لطيفة من أدب العبودية في كلامه (عليه السلام) و لم يورد جملة في كلامه إلا و قد مزجها بأحسن الثناء بأبلغ بيان و أصدق لسان.
و من ذلك ما حكاه الله تعالى عن نبيه محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، و قد ألحق به في ذلك المؤمنين من أمته فقال تعالى: «آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه و المؤمنون كل آمن بالله و ملائكته و كتبه و رسله لا نفرق بين أحد من رسله و قالوا سمعنا و أطعنا غفرانك ربنا و إليك المصير، لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت و عليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا و لا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا و لا تحملنا ما لا طاقة لنا به و اعف عنا و اغفر لنا و ارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين»: «البقرة: 268».
كلامه تعالى - كما ترى - يحكي إيمان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالقرآن الكريم فيما اشتمل عليه من أصول المعارف، و فيما اشتمل عليه من الأحكام الإلهية جميعا، ثم يلحق به (صلى الله عليه وآله وسلم) المؤمنين من أمته دون المعاصرين الحاضرين عنده (صلى الله عليه وآله وسلم) منهم فحسب، بل المؤمنين من جميع الأمة على ما هو ظاهر السياق.
و لازم ذلك أن يكون ما ذكر فيه من إقرار أو ثناء أو دعاء بالنسبة إلى بعضهم محكيا عن لسان حالهم، و إن أمكن أن يكون ذلك مما قاله آخرون بلسان قالهم، أو يكون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو القائل ذلك مشافها ربه عن نفسه الشريفة و عن المؤمنين لأنهم بإيمانهم من فروع شجرة نفسه الطيبة المباركة.
و الآيتان تشتملان على ما هو كالمقايسة و الموازنة بين أهل الكتاب و بين مؤمني هذه الأمة من حيث تلقيهم ما أنزل إليهم في كتاب، الله و إن شئت قلت: من حيث تأدبهم بأدب العبودية تجاه الكتاب النازل إليهم، فإنه ظاهر ما أثنى الله سبحانه على هؤلاء و خفف الله عنهم في الآيتين بعين ما وبخ أولئك عليه و عيرهم به في الآيات السابقة من سورة البقرة فقد ذم أهل الكتاب بالتفريق بين ملائكة الله فأبغضوا جبريل و أحبوا غيره، و بين كتب الله المنزلة فكفروا بالقرآن و آمنوا بغيره، و بين رسل الله فآمنوا بموسى أو به و بعيسى و كفروا بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، و بين أحكامه فآمنوا ببعض ما في كتاب الله و كفروا ببعض، و المؤمنون من هذه الأمة آمنوا بالله و ملائكته و كتبه و رسله لا نفرق بين أحد من رسله.
فقد تأدبوا مع ربهم بالتسليم لما أحقه الله من المعارف الملقاة إليهم ثم تأدبوا بالتلبية لما ندب الله إليه من أحكامه إذ قالوا: «سمعنا و أطعنا» لا كقول اليهود: «سمعنا و عصينا» ثم تأدبوا فعدوا أنفسهم عبادا مملوكين لربهم لا يملكون منه شيئا و لا يمتنون عليه بإيمانهم و طاعتهم فقالوا: «غفرانك ربنا» لا كما قالت اليهود: «سيغفر لنا» و قالت: «إن الله فقير و نحن أغنياء» و قالت: «لن تمسنا النار إلا أياما معدودة» إلى غير ذلك من هفواتهم.
ثم قال الله سبحانه: «لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت و عليها ما اكتسبت» فإن التكليف الإلهي يتبع بحسب طبعه الفطرة التي فطر الناس عليها، و من المعلوم أن الفطرة التي هي نوع الخلقة لا تدعو إلا إلى ما جهزت به، و في ذلك سعادة الحياة البتة.
نعم لو كان الأمر على ضرب من الأهمية القاضية بزيادة الاهتمام به، أو خرج العبد المأمور عن حكم الفطرة و زي العبودية جاز بحكم آخر من قبل الفطرة أن يوجه المولى أو كل من بيده الأمر إليه من الحكم ما هو خارج عن سعته المعتادة كان يأمره بالاحتياط بمجرد الشك، و اجتناب النسيان و الخطإ إذا اشتد الاهتمام بالأمر، نظير وجوب الاحتياط في الدماء و الفروج و الأموال في الشرع الإسلامي، أو يحمل عليه الكلفة و يزيد في التضييق عليه كلما زاد في اللجاج و ألح في المسألة كما أخبر الله بنظائر ذلك في بني إسرائيل.
و كيف كان فقوله: «لا يكلف الله نفسا» إما ذيل كلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و المؤمنون، و إنما قالوه تقدمة لقولهم: «ربنا لا تؤاخذنا، إلخ» ليجري مجرى الثناء عليه تعالى و دفعا لما يتوهم أن الله سبحانه يؤاخذ بما فوق الطاقة و يكلف بالحرجي من الحكم فيندفع بأن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها و أن الذي سألوه بقولهم: «ربنا لا تؤاخذنا، إلخ» إنما هو الأحكام بعناوين ثانوية ناشئة من قبل الحكم أو من قبل المكلفين بالعناد لا من قبله تعالى.
و إما كلام له تعالى موضوع بين فقرتين من دعائم المحكي في كلامه أعني قولهم: «غفرانك ربنا إلخ» و قولهم: «ربنا لا تؤاخذنا، إلخ» ليفيد ما مر من الفائدة و يكون تأديبا و تعليما لهم منه تعالى فيكون جاريا مجرى كلامهم لأنهم مؤمنون بما أنزل الله، و هو منه، و على أي حال فهو مما يعتمد عليه كلامهم، و يتكىء عليه دعاؤهم.
ثم ذكر بقية دعائهم و إن شئت فقل: طائفة أخرى من مسائلهم: «ربنا لا تؤاخذنا» إلخ «ربنا و لا تحمل علينا إصرا» إلخ «ربنا و لا تحملنا ما لا طاقة لنا به و اعف عنا» و كان مرادهم به العفو عما صدر منهم من النسيان و الخطإ و سائر موجبات الحرج «و اغفر لنا و ارحمنا» في سائر ذنوبنا و خطيئاتنا و لا يلزم من ذكر المغفرة هاهنا التكرار بالنظر إلى قولهم سابقا: «غفرانك ربنا» لأنها كلمة حكيت عنهم لفائدة قياس حالهم و أدبهم مع ربهم على أهل الكتاب في معاملتهم مع ربهم و بالنسبة إلى كتابهم المنزل إليهم، على أن مقام الدعاء لا يمانع التكرار كسائر المقامات.
و اشتمال هذا الدعاء على أدب العبودية في التمسك بذيل الربوبية مرة بعد مرة و الاعتراف بالمملوكية و الولاية، و الوقوف موقف الذلة و مسكنة العبودية قبال رب العزة مما لا يحتاج إلى بيان.
و في القرآن الكريم تأديبات إلهية و تعليمات عالية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأقسام من الثناء يثني بها على ربه أو المسألة التي يسأله بها كما في قوله تعالى: «قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء» إلى آخر الآيتين: «آل عمران: 26» و قوله تعالى: «قل اللهم فاطر السماوات و الأرض عالم الغيب و الشهادة أنت تحكم بين عبادك»: «الزمر: 46» و قوله تعالى: «قل الحمد لله و سلام على عباده الذين اصطفى»: «النمل: 59» و قوله تعالى: «قل إن صلاتي و نسكي و محياي و مماتي لله» إلخ: «الأنعام: 126، و قوله تعالى: «و قل رب زدني علما»: طه: 141» و قوله: و قل رب أعوذ بك من همزات الشياطين» إلخ: «المؤمنون: 97» إلى غير ذلك من الآيات و هي كثيرة جدا.
و يجمعها جميعا أنها تشتمل على أدب بارع أدب الله به رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) و ندب هو إليه أمته.
7 - رعايتهم الأدب عن ربهم فيما حاوروا قومهم، و هذا أيضا باب واسع و هو ملحق بالأدب في الثناء على الله سبحانه، و هو من جهة أخرى من أبواب التبليغ العملي الذي لا يقصر أو يزيد أثرا على التبليغ القولي.
و في القرآن من ذلك شيء كثير قال تعالى في محاورة جرت بين نوح و قومه: «قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين، قال إنما يأتيكم به الله إن شاء و ما أنتم بمعجزين، و لا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم و إليه ترجعون»: «هود: 34» ينفي (عليه السلام) عن نفسه ما نسبوا إليه من إتيان الآية ليعجزوه به، و ينسبه إلى ربه و يبالغ في الأدب بقوله: «إن شاء» ثم بقوله «و ما أنتم بمعجزين» أي لله، و لذلك نسبه إليه تعالى بلفظ «الله» دون لفظ «ربي» لأن الله هو الذي ينتهي إليه كل جمال و جلال، و لم يكتف بنفي القدرة على إتيان الآية عن نفسه و إثباته حتى ثناه بنفي نفع نصحه لهم إن لم يرد الله أن ينتفعوا به فأكمل بذلك نفي القدرة عن نفسه و إثباته لربه، و علل ذلك بقوله: «هو ربكم و إليه ترجعون».
فهذه محاورة غاصة بالأدب الجميل في جنب الله سبحانه حاور بها نوح (عليه السلام) الطغاة من قومه محاجا لهم، و هو أول نبي من الأنبياء (عليهم السلام) فتح باب الاحتجاج في الدعوة إلى التوحيد، و انتهض على الوثنية على ما يذكره القرآن الشريف.
و هذا أوسع هذه الأبواب مسرحا لنظر الباحث في أدب الأنبياء (عليهم السلام) يعثر على لطائف من سيرتهم المملوءة أدبا و كمالا فإن جميع أقوالهم و أفعالهم و حركاتهم و سكناتهم مبنية على أساس المراقبة و الحضور العبودي، و إن كانت صورتها صورة عمل من غاب عن ربه و غاب عنه ربه سبحانه قال تعالى: «و من عنده لا يستكبرون عن عبادته و لا يستحسرون، يسبحون الليل و النهار لا يفترون»: الأنبياء: 20».
و قد حكى الله تعالى في كلامه محاورات كثيرة عن هود و صالح و إبراهيم و موسى و شعيب و يوسف و سليمان و عيسى و محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) و غيرهم من الأنبياء (عليهم السلام) في حالات لهم مختلفة كالشدة و الرخاء و الحرب و السلم و الإعلان و الإسرار و التبشير و الإنذار و غير ذلك.
تدبر في قوله تعالى: «فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال يا قوم أ لم يعدكم ربكم وعدا حسنا أ فطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي»: «طه: 86» يذكر موسى (عليه السلام) إذ رجع إلى قومه و قد امتلأ غيظا و حنقا لا يصرفه ذلك عن رعاية الأدب في ذكر ربه.
و قوله تعالى: «و راودته التي هو في بيتها عن نفسه و غلقت الأبواب و قالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون»: «يوسف: 23» و قوله تعالى: «قالوا تالله لقد آثرك الله علينا و إن كنا لخاطئين، قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم و هو أرحم الراحمين»: «يوسف: 92» يذكر يوسف في خلإ المراودة الذي يملك من الإنسان كل عقل و يبطل عنده كل حزم لا يشغله ذلك عن التقوى ثم عن رعاية الأدب في ذكر ربه و مع غيره.
و قوله تعالى: «فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أ أشكر أم أكفر و من شكر فإنما يشكر لنفسه و من كفر فإن ربي غني كريم»: «النمل: 40» و هذا سليمان (عليه السلام) و قد أوتي من عظيم الملك و نافذ الأمر و عجيب القدرة أن أمر بإحضار عرش ملكة سبإ من سبإ إلى فلسطين فأحضر في أقل من طرفة عين فلم يأخذه كبر النفس و خيلاؤها، و لم ينس ربه و لم يمكث دون أن أثنى على ربه في ملئه بأحسن الثناء.
و ليقس ذلك إلى ما ذكره الله من قصة نمرود مع إبراهيم (عليه السلام) إذ قال: «أ لم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي و يميت قال أنا أحيي و أميت»: «البقرة: 285» و قد قال ذلك إذ أحضر رجلين من السجن فأمر بقتل أحدهما و إطلاق الآخر.
أو إلى ما ذكره فرعون مصر إذ قال كما حكاه الله: «يا قوم أ ليس لي ملك مصر و هذه الأنهار تجري من تحتي أ فلا تبصرون، أم أنا خير من هذا الذي هو مهين و لا يكاد يبين، فلو لا ألقي عليه أسورة من ذهب»: «الزخرف: 53» يباهي بملك مصر و أنهاره و مقدار من الذهب كان يملكه هو و ملؤه و لا يلبث دون أن يقول كما حكى الله: «أنا ربكم الأعلى» و هو الذي كانت تستذله آيات موسى يوما بعد يوم من طوفان و جراد و قمل و ضفادع و غير ذلك.
و قوله تعالى: «إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا»: «التوبة: 40» و قوله: «و إذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا - إلى أن قال - فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير»: «التحريم: 3» فلم يهزهزه (صلى الله عليه وآله وسلم) شدة الأمر و الهول و الفزع في يوم الخوف أن يذكر أن ربه معه و لم تنجذب نفسه الشريفة إلى ما كان يهدده من الأمر، و كذا ما أسر به إلى بعض أزواجه في الخلوة في اشتماله على رعاية الأدب في ذكر ربه.
و على وتيرة هذه النماذج المنقولة تجري سائر ما وقع في قصصهم (عليهم السلام) في القرآن الكريم من الأدب الرائع و السنن الشريفة، و لو لا أن الكلام قد طال بنا في هذه الأبحاث لاستقصينا قصصهم و أشبعنا فيها البحث.
8 - أدب الأنبياء (عليهم السلام) مع الناس في معاشرتهم و محاورتهم، مظاهر هذا القسم هي الاحتجاجات المنقولة عنهم في القرآن مع الكفار، و المحاورات التي حاوروا بها المؤمنين منهم، ثم شيء يسير من سيرتهم المنقولة.
أما الأدب في القول فإنك لا تجد فيما حكي من شذرات أقوالهم مع العتاة و الجهلة أن يخاطبوهم بشيء مما يسوؤهم أو شتم أو أهانة و إزراء و قد نال منهم المخالفون بالشتم و الطعن و الاستهزاء و السخرية كل منال فلم يجيبوهم إلا بأحسن القول و أنصح الوعظ معرضين عنهم بسلام و إذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما.
قال تعالى: «فقال الملأ الذين كفروا من قومه - يعني قوم نوح - ما نراك إلا بشرا مثلنا و ما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي و ما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين، قال يا قوم أ رأيتم إن كنت على بينة من ربي و آتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أ نلزمكموها و أنتم لها كارهون»: «هود: 28».
و قال تعالى حكاية عن عاد قوم هود: «إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله و اشهدوا أني بريء مما تشركون، من دونه»: «هود: 55» يريدون باعتراء بعض آلهتهم إياه بسوء ابتلائه (عليه السلام) بمثل جنون أو سفاهة و نحو ذلك.
و قال تعالى حكاية عن آزر: «قال أ راغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك و اهجرني مليا، قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا»: «مريم: 47».
و قال تعالى حكاية عن قوم شعيب (عليه السلام): «قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة و إنا لنظنك من الكاذبين، قال يا قوم ليس بي سفاهة و لكني رسول من رب العالمين، أبلغكم رسالات ربي و أنا لكم ناصح أمين»: «الأعراف: 68».
و قال تعالى: «قال فرعون و ما رب العالمين، قال رب السماوات و الأرض و ما بينهما - إلى أن قال - قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون، قال رب المشرق و المغرب و ما بينهما إن كنتم تعقلون»: «الشعراء: 28».
و قال تعالى حكاية عن قوم مريم: «قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا، يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء و ما كانت أمك بغيا، فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا، قال إني عبد الله آتاني الكتاب و جعلني نبيا» «إلخ»: «مريم: 30».
و قال تعالى يسلي نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما رموه به من الكهانة و الجنون و الشعر: «فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن و لا مجنون، أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون، قل تربصوا فإني معكم من المتربصين»: «الطور: 31».
و قال: «و قال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا، انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا»: «الفرقان: 9».
إلى غير ذلك من أنواع الشتم و الرمي و الإهانة التي حكي عنهم في القرآن، و لم ينقل عن الأنبياء (عليهم السلام) أن يقابلوهم بخشونة أو بذاء بل بالقول الصواب و المنطق الحسن اللين اتباعا للتعليم الإلهي الذي لقنهم خير القول و جميل الأدب قال تعالى خطابا لموسى و هارون (عليهما السلام): «اذهبا إلى فرعون إنه طغى، فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى»: «طه: 44» و قال لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم): «و إما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا»: «الإسراء: 28».
و من أدبهم في المحاورة و الخطاب أنهم كانوا ينزلون أنفسهم منزلة الناس فيكلمون كل طبقة من طبقاتهم على قدر منزلته من الفهم، و هذا ظاهر بالتدبر فيما حكي من محاوراتهم الناس على اختلافهم المنقولة عن نوح فمن بعده، و قد روى الفريقان عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «إنا معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم».
و ليعلم أن البعثة بالنبوة إنما بنيت على أساس الهداية إلى الحق و بيانه و الانتصار له فعليهم أن يتجهزوا بالحق في دعوتهم، و ينخلعوا عن الباطل و يتقوا شبكات الضلال أيا ما كانت سواء وافق ذلك رضى الناس أو سخطهم، و استعقب طوعهم أو كرههم و لقد ورد منه تعالى أشد النهي في ذلك لأنبيائه و أبلغ التحذير حتى عن اتباع الباطل قولا و فعلا بغرض نصرة الحق فإن الباطل باطل سواء وقع في طريق الحق أو لم يقع، و الدعوة إلى الحق لا يجامع تجويز الباطل و لو في طريق الحق و الحق الذي يهدي إليه الباطل و ينتجه ليس بحق من جميع جهاته.
و لذلك قال تعالى: «و ما كنت متخذ المضلين عضدا»: «الكهف: 51» و قال: «و لو لا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا، إذن لأذقناك ضعف الحياة و ضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا»: «الإسراء: 75» فلا مساهلة و لا ملابسة و لا مداهنة في حق و لا حرمة لباطل.
و لذلك جهز الله سبحانه رجال دعوته و أولياء دينه و هم الأنبياء (عليهم السلام) بما يسهل لهم الطريق إلى اتباع الحق و نصرته، قال تعالى: «ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له سنة الله في الذين خلوا من قبل و كان أمر الله قدرا مقدورا، الذين يبلغون رسالات الله و يخشونه و لا يخشون أحدا إلا الله و كفى بالله حسيبا»: «الأحزاب: 39» فأخبر أنهم لا يتحرجون فيما فرض الله لهم و يخشونه و لا يخشون أحدا غيره فليس أي مانع من إظهارهم الحق و لو بلغ بهم أي مبلغ و أوردهم أي مورد.
ثم وعدهم النصر فيما انتهضوا له فقال: «و لقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين، إنهم لهم المنصورون، و إن جندنا لهم الغالبون»: «الصافات: 137» و قال: «إنا لننصر رسلنا»: «المؤمن: 51».
و لذلك نجدهم فيما حكي عنهم لا يبالون شيئا في إظهار الحق و قول الصدق و إن لم يرتضه الناس و استمروه في مذاقهم، قال تعالى حاكيا عن نوح يخاطب قومه: «و لكني أراكم قوما تجهلون»: «هود: 29» و قال عن قول هود: «إن أنتم إلا مفترون»: «هود: 50» و قوله لقومه: «قد وقع عليكم من ربكم رجس و غضب أ تجادلونني في أسماء سميتموها أنتم و آباؤكم ما نزل الله بها من سلطان»: «الأعراف: 71»، و قال تعالى يحكي عن لوط: «بل أنتم قوم مسرفون»: «الأعراف: 81» و حكى عن إبراهيم من قوله لقومه: «أف لكم و لما تعبدون من دون الله أ فلا تعقلون»: «الأنبياء: 67» و حكى عن موسى في جواب قول فرعون له: «إني لأظنك يا موسى مسحورا، قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات و الأرض بصائر و إني لأظنك يا فرعون مثبورا»: «الإسراء: 120» أي ممنوعا من الإيمان بالحق مطرودا هالكا، إلى غير ذلك من الموارد.
فهذه كلها من رعاية الأدب في جنب الحق و اتباعه، و لا مطلوب أعز منه و لا بغية أشرف منه و أغلى، و إن كان في بعضها ما ينافي الأدب الدائر بين الناس لابتناء حياتهم على اتباع جانب الهوى و السلوك إلى أمتعة الحياة بمداهنة المبطلين و الخضوع و التملق إلى المفسدين و المترفين سياسة في العمل.
و جملة الأمر أن الأدب كما تقدم في أول هذه المباحث إنما يتأتى في القول السائغ و العمل الصالح، و يختلف حينئذ باختلاف مسالك الحياة في المجتمعات و الآراء و العقائد التي تتمكن فيها و تتشكل هي عنها، و الدعوة الإلهية التي تستند إليها المجتمع الديني إنما تتبع الحق في الاعتقاد و العمل، و الحق لا يخالط الباطل و لا يمازجه و لا يستند إليه و لا يعتضد به فلا محيص عن إظهاره و اتباعه، و الأدب الذي يتأتى فيه أن يسلك في طريق الحق أحسن المسالك و يتزيى فيه بأظرف الأزياء كاختيار لين القول إذا صح أن يتكلم بلينة و خشونة، و اختيار الاستعجال في الخبر إذا أمكن فيه كل من المسارعة و التبطي.
و هذا هو الذي يأمر به في قوله تعالى: «و كتبنا له - أي لموسى - في الألواح من كل شيء موعظة و تفصيلا لكل شيء فخذها بقوة و أمر قومك يأخذوا بأحسنها»: «الأعراف: 154» و بشر عباده الآخذين به في قوله: «فبشر عباد، الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله و أولئك هم أولوا الألباب»: «الزمر: 18» فلا أدب في باطل و لا أدب في ممزوج من حق و باطل فإن الخارج من صريح الحق ضلال لا يرتضيه ولي الحق و قد قال: «فما ذا بعد الحق إلا الضلال»: «يونس: 32».
و هذا هو الذي دعا أنبياء الحق إلى صراحة القول و صدق اللهجة و إن كان ذلك في بعض الموارد مما لا يرتضيه سنة المداهنة و التساهل و الأدب الكاذب الدائر في المجتمعات غير الدينية.
و من أدبهم مع الناس في معاشرتهم و سيرتهم فيهم احترام الضعفاء و الأقوياء على حد سواء و الإكثار و المبالغة في حق أهل العلم و التقوى منهم فإنهم لما بنوا على أساس العبودية و تربية النفس الإنسانية تفرع عليه تسوية الحكم في الغني و الفقير و الصغير و الكبير و الرجل و المرأة و المولى و العبد و الحاكم و المحكوم و الأمير و المأمور و السلطان و الرعية، و عند ذلك لغا تمايز الصفات، و اختصاص الأقوياء بمزايا اجتماعية، و بطل تقسم الوجدان و الفقدان و الحرمان و التنعم و السعادة و الشقاء بين صفتي الغنى و الفقر و القوة و الضعف، و أن للقوي و الغني من كل مكانة أعلاها، و من كل عيشة أنعمها، و من كل مجاهدة أروحها و أسهلها، و من كل وظيفة أخفها بل كان الناس في ذلك شرعا سواء، قال: «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر و أنثى و جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم»: «الحجرات: 13» و تبدل استكبار الأقوياء بقوتهم و مباهاة الأغنياء بغنيتهم تواضعا للحق و مسارعة إلى المغفرة و الرحمة، و تسابقا في الخيرات و جهادا في سبيل الله و ابتغاء لمرضاته.
و احترم حينئذ للفقراء كما للأغنياء، و تؤدب مع الضعفاء كما مع الأغنياء بل اختص هؤلاء بمزيد شفقة و رأفة و رحمة، قال تعالى يؤدب نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم): «و اصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة و العشي يريدون وجهه و لا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا و لا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا و اتبع هواه و كان أمره فرطا»: «الكهف: 28» و قال تعالى: «و لا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة و العشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء و ما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين»: «الأنعام: 52»، و قال: «لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم و لا تحزن عليهم و اخفض جناحك للمؤمنين، و قل إني أنا النذير المبين»: «الحجر: 89».
و يشتمل على هذا الأدب الجميل ما حكاه الله من محاورة بين نوح (عليه السلام) و قومه إذ قال: «فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا و ما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي و ما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين، قال يا قوم أ رأيتم إن كنت على بينة من ربي و آتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أ نلزمكموها و أنتم لها كارهون، و يا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله و ما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقوا ربهم و لكني أراكم قوما تجهلون - أي في تحقيركم أمر الفقير الضعيف - و يا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أ فلا تذكرون، و لا أقول لكم عندي خزائن الله و لا أعلم الغيب و لا أقول إني ملك - أي لا أدعي شيئا يميزني منكم بمزية إلا أني رسول إليكم - و لا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما في أنفسهم - أي من الخير و السعادة اللذين يرجيان منهم - إني إذا لمن الظالمين»: «هود: 31».
و نظيره في نفي التمييز قول شعيب لقومه على ما حكاه الله: «و ما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت و ما توفيقي إلا بالله عليه توكلت و إليه أنيب»: «هود: 88»، و قال الله تعالى يعرف رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) للناس: «لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم»: «التوبة: 182» و قال أيضا: «و منهم الذين يؤذون النبي و يقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله و يؤمن للمؤمنين و رحمة للذين آمنوا منكم»: «التوبة: 61» و قال أيضا: «و إنك لعلى خلق عظيم»: «القلم: 4» و قال أيضا و فيه جماع ما تقدم: «و ما أرسلناك إلا رحمة للعالمين»: «الأنبياء: 170».
و هذه الآيات و إن كانت بحسب المعنى المطابقي ناظرة إلى أخلاقه (صلى الله عليه وآله وسلم) الحسنة دون أدبه الذي هو أمر وراء الخلق إلا أن نوع الأدب - كما تقدم بيانه - يستفاد من نوع الخلق، على أن نفس الأدب من الأخلاق الفرعية.
بحث روائي آخر
الآيات القرآنية التي يستفاد منها خلقه (صلى الله عليه وآله وسلم) الكريم و أدبه الجميل أكثرها واردة في صورة الأمر و النهي، و لذلك رأينا أن نورد في هذا المقام روايات من سننه (صلى الله عليه وآله وسلم) فيها مجامع أخلاقه التي تلوح إلى أدبه الإلهي الجميل، و هي مع ذلك متأيدة بالآيات الشريفة القرآنية.
1 - في معاني الأخبار، بطريق عن أبي هالة التميمي عن الحسن بن علي (عليهما السلام) و بطريق آخر عن الرضا عن آبائه عن علي بن الحسين عن الحسن بن علي (عليهما السلام)، و بطريق آخر عن رجل من ولد أبي هالة عن الحسن بن علي (عليهما السلام): قال: سألت خالي هند بن أبي هالة، و كان وصافا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و أنا أشتهي أن يصف لي منه شيئا لعلي أتعلق به فقال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فخما مفخما يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر، أطول من المربوع و أقصر من المشذب، عظيم الهامة، رجل الشعر، إن تفرقت عقيقته فرق و إلا فلا يجاوز شعره شحمة أذنيه إذا هو وفرة، أزهر اللون، واسع الجبين، أزج الحواجب سوابغ في غير قرن، بينهما عرق يدره الغضب له نور يعلوه يحسبه من لم يتأمله أشم، كث اللحية، سهل الخدين، ضليع الفم، مفلج، أشنب، مفلج الأسنان، دقيق المشربة، كان عنقه جيد دمية في صفاء الفضة، معتدل الخلق، بادنا متماسكا، سواء البطن و الصدر، بعيد ما بين المنكبين، ضخم الكراديس، عريض الصدر، أنور المتجرد، موصول ما بين اللبة و السرة بشعر يجري كالخط، عاري الثديين و البطن مما سوى ذلك، أشعر الذراعين و المنكبين و أعلى الصدر، طويل الزندين، رحب الراحة، شثن الكفين و القدمين، سائل الأطراف، سبط القصب، خمصان الأخمصين، فسيح القدمين ينبو عنهما الماء، إذا زال زال قلعا، يخطو تكفؤا، و يمشي هونا، ذريع المشية، إذا مشى كأنما ينحط في صبب، و إذا التفت التفت جميعا، خافض الطرف، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، جل نظره الملاحظة يبدر من لقيه بالسلام. قال: فقلت له: صف لي منطقه، فقال: كان (صلى الله عليه وآله وسلم) متواصل ا - أحزان، دائم الفكر ليس له راحة، طويل الصمت لا يتكلم في غير حاجة، يفتتح الكلام و يختتمه بأشداقه، يتكلم بجوامع الكلم فصلا لا فضول فيه و لا تقصير، دمثا ليس بالجافي و لا بالمهين، يعظم عنده النعمة و إن دقت، لا يذم منها شيئا غير أنه كان لا يذم ذواقا و لا يمدحه، و لا تغضيه الدنيا و ما كان لها، فإذا تعوطي الحق لم يعرفه أحد، و لم يقم لغضبه شيء حتى ينتصر له، إذا أشار أشار بكفه كلها، و إذا تعجب قلبها، و إذا تحدث اتصل بها فضرب راحته اليمنى باطن إبهامه اليسرى، و إذا غضب أعرض و انشاح، و إذا غضب غض طرفه جل ضحكه التبسم، يفتر عن مثل حب الغمام:. قال الصدوق: إلى هنا رواية القاسم بن المنيع عن إسماعيل بن محمد بن إسحاق بن جعفر بن محمد، و الباقي رواية عبد الرحمن إلى آخره: قال الحسن (عليه السلام): فكتمتها الحسين (عليه السلام) زمانا ثم حدثته به فوجدته قد سبقني إليه فسألته عنه فوجدته قد سأل أباه (عليه السلام) عن مدخل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و مخرجه و مجلسه و شكله فلم يدع منه شيئا. قال الحسين (عليه السلام) قد سألت أبي (عليه السلام) عن مدخل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: كان دخوله في نفسه مأذونا له في ذلك، فإذا آوى إلى منزله جزأ دخوله ثلاثة أجزاء: جزء لله، و جزء لأهله، و جزء لنفسه، ثم جزأ جزءه بينه و بين الناس فيرد ذلك بالخاصة على العامة، و لا يدخر عنهم منه شيئا. و كان من سيرته (صلى الله عليه وآله وسلم) في جزء الأمة إيثار أهل الفضل بأدبه، و قسمه على قدر فضلهم في الدين، فمنهم ذو الحاجة، و منهم ذو الحاجتين، و منهم ذو الحوائج فيتشاغل بهم، و يشغلهم فيما أصلحهم و الأمة من مسألته عنهم، و بإخبارهم بالذي ينبغي، و يقول: ليبلغ الشاهد منكم الغائب، و أبلغوني حاجة من لا يقدر على إبلاغ حاجته فإنه من أبلغ سلطانا حاجة من لا يقدر على إبلاغها ثبت الله قدميه يوم القيامة، لا يذكر عنده إلا ذلك، و لا يقبل من أحد غيره، يدخلون روادا، و لا يفترقون إلا عن ذواق و يخرجون أدلة. و سألته عن مخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كيف كان يصنع فيه؟ فقال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يخزن لسانه إلا عما كان يعنيه، و يؤلفهم و لا ينفرهم، و يكرم كريم كل قوم و يوليه عليهم، و يحذر الناس و يحترس منهم من غير أن يطوي عن أحد بشره و لا خلقه، و يتفقد أصحابه، و يسأل الناس عن الناس، و يحسن الحسن و يقويه، و يقبح القبيح و يوهنه، معتدل الأمر غير مختلف، لا يغفل مخافة أن يغفلوا و يميلوا، و لا يقصر عن الحق و لا يجوزه، الذين يلونه من الناس خيارهم، أفضلهم عنده أعمهم نصيحة للمسلمين، و أعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة و موازرة. قال (عليه السلام) فسألته عن مجلسه (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: كان لا يجلس و لا يقوم إلا على ذكر، لا يوطن الأماكن و ينهى عن إيطانها و إذا انتهى إلى قوم جلس حيث ينتهي به المجلس و يأمر بذلك، و يعطي كل جلسائه نصيبه، و لا يحسب أحد من جلسائه أن أحدا أكرم عليه منه، من جالسه صابرة حتى يكون هو المنصرف، من سأله حاجة لم يرجع إلا بها أو بميسور من القول، قد وسع الناس منه خلقه فصار لهم أبا، و كانوا عنده في الحق سواء، مجلسه مجلس حلم و حياء و صدق و أمانة، و لا ترفع فيه الأصوات، و لا يؤبن فيه الحرم، و لا تثنى فلتاته، متعادلين، متواصلين فيه بالتقوى، متواضعين، يوقرون الكبير، و يرحمون الصغير، و يؤثرون ذا الحاجة، و يحفظون الغريب. فقلت: كيف كانت سيرته (صلى الله عليه وآله وسلم) في جلسائه؟ فقال (عليه السلام): كان (صلى الله عليه وآله وسلم) دائم البشر، سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظ و لا غليظ و لا صخاب و لا فحاش و لا عياب، و لا مداح، يتغافل عما لا يشتهي، فلا يؤيس منه و لا يخيب منه مؤمليه، قد ترك نفسه من ثلاث: المراء و الإكثار و ما لا يعنيه، و ترك الناس من ثلاث: كان لا يذم أحدا و لا يعيره، و لا يطلب عثراته و لا عورته، و لا يتكلم إلا فيما رجى ثوابه، إذا تكلم أطرق جلساؤه كأن على رءوسهم الطير، فإذا سكت تكلموا، و لا يتنازعون عنده الحديث، من تكلم أنصتوا له حتى يفرغ، حديثهم عنده حديث أوليتهم، يضحك مما يضحكون منه، و يتعجب مما يتعجبون منه، و يصبر للغريب على الجفوة في مسألته و منطقه حتى إن كان أصحابه يستجلبونهم، و يقول: إذا رأيتم طالب الحاجة يطلبها فارفدوه، و لا يقبل الثناء إلا من مكافىء، و لا يقطع على أحد كلامه حتى يجوز فيقطعه بنهي أو قيام. قال: فسألته عن سكوت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال (عليه السلام) كان سكوته (صلى الله عليه وآله وسلم) على أربع: على الحلم و الحذر و التقدير و التفكير: فأما التقدير ففي تسوية النظر و الاستماع بين الناس، و أما تفكره ففيما يبقى و يفنى، و جمع له الحلم و الصبر فكان لا يغضبه شيء و لا يستفزه، و جمع له الحذر في أربع: أخذه بالحسن ليقتدي به، و تركه القبيح لينتهي عنه، و اجتهاده الرأي في صلاح أمته، و القيام فيما جمع له خير الدنيا و الآخرة:. أقول: و رواه في مكارم الأخلاق نقلا من كتاب محمد بن إسحاق بن إبراهيم الطالقاني بروايته عن ثقاته عن الحسن و الحسين (عليهما السلام) قال في البحار: و الرواية من الأخبار المشهورة روته العامة في أكثر كتبهم، انتهى.
و قد روي في معناها أو معنى بعض أجزائها روايات كثيرة عن الصحابة.
قوله: «المربوع» الذي بين الطويل و القصير، و المشذب الطويل الذي لا كثير لحم على بدنه، و رجل الشعر من باب علم فهو رجل بالفتح و السكون أي كان بين السبط و الجعد، و العقيقة الخصلة السبطة من الشعر، و أزهر اللون أي لونه مشرق صاف، و الأزج من الحاجب ما رق و طال، و السوابغ من الحاجب هي الواسعة، و القرن بفتحتين اقتران ما بينها، و الشمم ارتفاع قصبة الأنف مع حسن و استواء، و كث اللحية المجتمع شعرها إذا كثف من غير طول، و سهل الخد مستوية من غير لحم كثير، و ضليع الفم أي وسيعه و يعد في الرجال من المحاسن، و المفلج من الفلجة بفتحتين إذا تباعد ما بين قدميه أو يديه أو أسنانه، و الأشنب أبيض الأسنان.
و المشربة الشعر وسط الصدر إلى البطن، و الدمية بالضم الغزال، و المنكب مجتمع رأس الكتف و العضد، و الكراديس جمع كردوس و هو العظمان إذا التقيا في مفصل، و أنور المتجرد كان المتجرد اسم فاعل من التجرد و هو التعري من لباس و نحوه، و المراد أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان جميل الظاهر حسن الخلقة في بدنه إذا تجرد عن اللباس.
و اللبة بالضم فالتشديد موضع القلادة من الصدر و السرة معروفة، و الزند موصل الذراع من الكف، و رحب الراحة أي وسيعها، و الشثن بفتحتين الغلظ في القدمين و الكفين، و سبط القصب أي سهل العظام مسترسلها من غير نتو، أخمص القدم، الموضع الذي لا يصل الأرض منها، و الخمصان ضامر البطن فخمصان الأخمصين أي كونهما ذا نتو و ارتفاع بالغ من الأرض، و الفسحة هي الوسعة، و القلع بفتحتين القوة في المشي.
و التكفؤ في المشي الميد و التمايل فيه، و ذريع المشية أي السريع فيها، و الصبب ما انحدر من الطريق أو الأرض، و خافض الطرف تفسيره ما بعده من قوله: «نظره إلى الأرض» «إلخ».
و الأشداق جمع شدق - بالكسر فالسكون - و هو زاوية الفم من باطن الخدين، و افتتاح الكلام و اختتامه بالأشداق كناية عن الفصاحة، يقال: تشدق أي لوى شدقه للتفصح، و الدمث من الدماثة و تفسيره ما بعده و هو قوله: «ليس بالجافي و لا بالمهين» و الذواق بالفتح ما يذاق من طعام، و انشاح من النشوح أي أعرض، و يفتر عن مثل حب الغمام افتر الرجل افترارا أي ضحك ضحكا حسنا، و حب الغمام البرد، و المراد أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يضحك ضحكا حسنا يبدو به أسنانه.
و قوله: «فيرد ذلك بالخاصة على العامة» «إلخ»، المراد أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) و إن كان في جزئه الذي لنفسه خلا بنفسه عن الناس لكنه لا ينقطع عنهم بالكلية بل يرتبط بواسطة خاصته بالناس فيجيبهم في مسائلهم و يقضي حوائجهم، و لا يدخر عنهم من جزء نفسه شيئا، و الرواد جمع رائد و هو الذي يتقدم القوم أو القافلة يطلب لهم مرعى أو منزلا و نحو ذلك.
و قوله: «لا يوطن الأماكن و ينهى عن إيطانها» المراد بها المجالس أي لا يعين لنفسه مجلسا خاصا بين الجلساء حذرا من التصدر و التقدم فقوله: «و إذا انتهى» «إلخ»، كالمفسر له، و لا تؤبن فيه الحرم أي لا تعاب عنده حرمات الناس، و الأبنة بالضم العيب، و الحرم بالضم فالفتح جمع حرمة.
و قوله: «و لا تثنى فلتاته» من التثنية بمعنى التكرار، و الفلتات جمع فلتة و هي العثرة أي إذا وقعت فيه فلتة من أحد جلسائه بينها لهم فراقبوا للتحذر من الوقوع فيها ثانيا، و البشر بالكسر فالسكون بشاشة الوجه، و الصخاب الشديد الصياح.
و قوله: «حديثهم عنده حديث أوليتهم» الأولية جمع ولي، و كان المراد به التالي التابع و المعنى أنهم كانوا يتكلمون واحدا بعد آخر بالتناوب من غير أن يداخل أحدهم كلام الآخر أو يتوسطه أو يشاغبوا فيه، و قوله: «حتى إن كان أصحابه يستجلبونهم» أي يريدون جلبهم عنه و تخليصه منهم.
و قوله: «و لا يقبل الثناء إلا من مكافىء» أي في مقابل نعمة أنعمها على أحدهم و هو الشكر الممدوح من كافأه بمعنى جازاه، أو من المكافاة بمعنى المساواة أي ممن يثني بما يستحقه من الثناء على ما أنعم به من غير إطراء و إغراق، و قوله: «و لا يقطع على أحد كلامه حتى يجوز» أي يتعدى عن الحق فيقطعه حينئذ بنهي أو قيام، و الاستفزاز الاستخفاف و الإزعاج.
2 - و في الإحياء،:: كان (صلى الله عليه وآله وسلم) أفصح الناس منطقا و أحلاهم إلى أن قال و كان يتكلم بجوامع الكلم لا فضول و لا تقصير كأنه يتبع بعضه بعضا، بين كلامه توقف يحفظه سامعه و يعيه، كان جهير الصوت أحسن الناس نغمة.
3 - و في التهذيب، بإسناده عن إسحاق بن جعفر عن أخيه موسى عن آبائه عن علي (عليه السلام) قال: سمعت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: بعثت بمكارم الأخلاق و محاسنها.
4 - و في مكارم الأخلاق، عن أبي سعيد الخدري قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أشد حياء من العذراء في خدرها، و كان إذا كره شيئا عرفناه في وجهه.
5 - و في الكافي، بإسناده عن محمد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يذكر أنه أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ملك فقال: إن الله يخيرك أن تكون عبدا رسولا متواضعا أو ملكا رسولا. قال: فنظر إلى جبرئيل و أومأ بيده أن تواضع فقال: عبدا رسولا متواضعا، فقال الرسول: مع أنه لا ينقصك مما عند ربك شيئا، قال: و معه مفاتيح خزائن الأرض.
6 - و في نهج البلاغة، قال (عليه السلام): فتأس بنبيك الأطهر الأطيب إلى أن قال قضم الدنيا، قضما و لم يعرها طرفا، أهضم أهل الدنيا كشحا، و أخمصهم من الدنيا بطنا، عرضت عليه الدنيا عرضا فأبى أن يقبلها، و علم أن الله سبحانه أبغض شيئا فأبغضه، و صغر شيئا فصغره، و لو لم يكن فينا إلا حبنا ما أبغض الله و تعظيمنا لما صغر الله لكفى به شقاقا لله و محادة عن أمر الله، و لقد كان رسول الله يأكل على الأرض و يجلس جلسة العبد، و يخصف بيده نعله، و يركب الحمار العاري و يردف خلفه، و يكون الستر على باب بيته فيكون عليه التصاوير فيقول: يا فلانة لإحدى أزواجه غيبيه عني فإني إذا نظرت إليه ذكرت الدنيا و زخارفها، فأعرض عن الدنيا بقلبه، و أمات ذكرها عن نفسه، و أحب أن يغيب زينتها عن عينه لكيلا يتخذ منها رياشا، و لا يعتقدها قرارا، و لا يرجو فيها مقاما، فأخرجها من النفس، و أشخصها عن القلب، و غيبها عن البصر، و كذلك من أبغض شيئا أبغض أن ينظر إليه و أن يذكر عنده.
7 - و في الإحتجاج، عن موسى بن جعفر عن أبيه عن آبائه عن الحسن بن علي عن أبيه علي (عليه السلام) في خبر طويل: و كان (صلى الله عليه وآله وسلم) يبكي حتى يبتل مصلاه خشية من الله عز و جل من غير جرم، الحديث.
8 - و في المناقب،: و كان (صلى الله عليه وآله وسلم) يبكي حتى يغشى عليه فقيل له: أ ليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك و ما تأخر؟ فقال: أ فلا أكون عبدا شكورا؟ و كذلك كان غشيات علي بن أبي طالب وصيه في مقاماته.
أقول: بناء سؤال السائل على تقدير كون الغرض من العبادة هو الأمن من العذاب و قد ورد: أنه عبادة العبيد، و بناء جوابه (صلى الله عليه وآله وسلم) على كون الداعي هو الشكر لله سبحانه، و هو عبادة الكرام، و هو قسم آخر من أقسام العبادة، و قد ورد في المأثور عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام): أن من العبادة ما تكون خوفا من العقاب و هو عبادة العبيد، و منها ما تكون طمعا في الثواب و هو عبادة التجار، و منها ما تكون شكرا لله سبحانه، و في بعض الروايات حبا لله تعالى، و في بعضها لأنه أهل له.
و قد استقصينا البحث في معنى الروايات في تفسير قوله تعالى: «و سيجزي الله الشاكرين»: «آل عمران: 144» في الجزء الرابع من الكتاب، و بينا هناك أن الشكر لله في عبادته هو الإخلاص له، و أن الشاكرين هم المخلصون بفتح اللام من عباد الله المعنيون بمثل قوله تعالى: «سبحان الله عما يصفون، إلا عباد الله المخلصين»: «الصافات: 106».
9 - و في إرشاد الديلمي،: أن إبراهيم (عليه السلام) كان يسمع منه في صلاته أزيز كأزيز الوجل من خوف الله تعالى، و كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كذلك.
10 - و في تفسير أبي الفتوح، عن أبي سعيد الخدري قال: لما نزل قوله تعالى: «اذكروا الله ذكرا كثيرا» اشتغل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بذكر الله حتى قال الكفار: إنه جن.
11 - و في الكافي، بإسناده عن زيد الشحام عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يتوب إلى الله في كل يوم سبعين مرة، قلت: أ كان يقول: أستغفر الله و أتوب إليه؟ قال: لا و لكن كان يقول: أتوب إلى الله، قلت كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يتوب و لا يعود، و نحن نتوب و نعود، قال: الله المستعان.
12 - و في مكارم الأخلاق، نقلا من كتاب النبوة عن علي (عليه السلام): أنه كان إذا وصف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: قال: كان أجود الناس كفا، و أجرأ الناس صدرا، و أصدق الناس لهجة، و أوفاهم ذمة، و ألينهم عريكة، و أكرمهم عشيرة، من رآه بديهة هابه، و من خالطه معرفة أحبه، لم أر قبله و لا بعده مثله، (صلى الله عليه وآله وسلم).
13 - و في الكافي، بإسناده عن عمر بن علي عن أبيه (عليه السلام) قال: كانت من أيمان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا و أستغفر الله.
14 - و في إحياء العلوم،: كان (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا اشتد وجده أكثر من مس لحيته الكريمة.
15 - و فيه،: و كان (صلى الله عليه وآله وسلم) أسخى الناس لا يثبت عنده دينار و لا درهم، و إن فضل شيء و لم يجد من يعطيه و فجأ الليل لم يأو إلى منزله حتى يتبرأ منه إلى من يحتاج إليه، لا يأخذ مما آتاه الله إلا قوت عامه فقط من أيسر ما يجد من التمر و الشعير، و يضع سائر ذلك في سبيل الله. لا يسأل شيئا إلا أعطاه ثم يعود إلى قوت عامه فيؤثر منه حتى إنه ربما احتاج قبل انقضاء العام إن لم يأته شيء، قال: و ينفذ الحق و إن عاد ذلك عليه بالضرر أو على أصحابه، قال: و يمشي وحده بين أعدائه بلا حارس، قال: لا يهوله شيء من أمور الدنيا. قال: و يجالس الفقراء، و يؤاكل المساكين، و يكرم أهل الفضل في أخلاقهم، و يتألف أهل الشرف بالبر لهم، يصل ذوي رحمة من غير أن يؤثرهم على من هو أفضل منهم، لا يجفو على أحد، يقبل معذرة المعتذر إليه. قال: و كان له عبيد و إماء من غير أن يرتفع عليهم في مأكل و لا ملبس، لا يمضي له وقت من غير عمل لله تعالى أو لما لا بد منه من صلاح نفسه، يخرج إلى بساتين أصحابه لا يحتقر مسكينا لفقره أو زمانته، و لا يهاب ملكا لملكه، يدعو هذا و هذا إلى الله دعاء مستويا.
16 - و فيه، قال: و كان (صلى الله عليه وآله وسلم) أبعد الناس غضبا و أسرعهم رضى، و كان أرأف الناس بالناس، و خير الناس للناس، و أنفع الناس للناس.
17 - و فيه، قال: و كان (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا سر و رضي فهو أحسن الناس رضى، فإن وعظ وعظ بجد، و إن غضب و لا يغضب إلا لله لم يقم لغضبه شيء، و كذلك كان في أموره كلها، و كان إذا نزل به الأمر فوض الأمر إلى الله، و تبرأ من الحول و القوة، و استنزل الهدى.
أقول: و التوكل على الله و تفويض الأمور إليه و التبري من الحول و القوة و استنزال الهدى من الله يرجع بعضها إلى بعض و ينشأ الجميع من أصل واحد، و هو أن للأمور استنادا إلى الإرادة الإلهية الغالبة غير المغلوبة و القدرة القاهرة غير المتناهية، و قد أطبق على الندب إلى ذلك الكتاب و السنة كقوله تعالى: «و على الله فليتوكل المتوكلون»: «إبراهيم: 12» و قوله: «و أفوض أمري إلى الله»: «المؤمن: 44» و قوله: «و من يتوكل على الله فهو حسبه»: «الطلاق: 3» و قوله: «ألا له الخلق و الأمر»: «الأعراف: 54» و قوله: «و أن إلى ربك المنتهى»: «النجم: 42» إلى غير ذلك من الآيات، و الروايات في هذه المعاني فوق حد الإحصاء.
و التخلق بهذه الأخلاق و التأدب بهذه الآداب على أنه يجري بالإنسان مجرى الحقائق و يطبق عمله على ما ينبغي أن ينطبق عليه من الواقع و يقره على دين الفطرة فإن حقيقة الأمر هو رجوع الأمور بحسب الحقيقة إلى الله سبحانه كما قال: «ألا إلى الله تصير الأمور»: «الشورى: 53»، له فائدة قيمة هي أن اتكاء الإنسان و اعتماده على ربه - و هو يعرفه بقدرة غير متناهية و إرادة قاهرة غير مغلوبة - يمد إرادته و يشيد أركان عزيمته فلا ينثلم عن كل مانع يبدو له، و لا تنفسح عن كل تعب أو عناء يستقبله، و لا يزيلها كل تسويل نفساني و وسوسة شيطانية تظهر لسره في صورة الخطورات الوهمية.
من سننه و أدبه في العشرة
18 - و في إرشاد الديلمي، قال: كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يرقع ثوبه، و يخصف نعله، و يحلب شاته، و يأكل مع العبد و يجلس على الأرض، و يركب الحمار و يردف، و لا يمنعه الحياء أن يحمل حاجته من السوق إلى أهله، و يصافح الغني و الفقير، و لا ينزع يده من يد أحد حتى ينزعها هو، و يسلم على من استقبله من غني و فقير و كبير و صغير، و لا يحقر ما دعي إليه و لو إلى حشف التمر. و كان (صلى الله عليه وآله وسلم) خفيف المئونة، كريم الطبيعة، جميل المعاشرة، طلق الوجه، بساما من غير ضحك، محزونا من غير عبوس، متواضعا من غير مذلة، جوادا من غير سرف رقيق القلب، رحيما بكل مسلم، و لم يتجش من شبع قط، و لم يمد يده إلى طمع قط.
19 - و في مكارم الأخلاق، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أنه كان ينظر في المرآة و يرجل جمته و يتمشط، و ربما نظر في الماء و سوى جمته فيه، و لقد كان يتجمل لأصحابه فضلا على تجمله لأهله، و قال: (صلى الله عليه وآله وسلم) إن الله يحب من عبده إذا خرج إلى إخوانه أن يتهيأ لهم و يتجمل.
20 - و في العلل، و العيون، و المجالس، بإسناده عن الرضا عن آبائه (عليهم السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): خمس لا أدعهن حتى الممات: الأكل على الأرض مع العبيد، و ركوبي مؤكفا، و حلبي العنز بيدي، و لبس الصوف، و التسليم على الصبيان لتكون سنة من بعدي.
21 - و في الفقيه، عن علي (عليه السلام): أنه قال لرجل من بني سعد: أ لا أحدثك عني و عن فاطمة إلى أن قال فغدا علينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و نحن في لحافنا فقال: السلام عليكم فسكتنا و استحيينا لمكاننا ثم قال (صلى الله عليه وآله وسلم): السلام عليكم فسكتنا، ثم قال (صلى الله عليه وآله وسلم): السلام عليكم فخشينا إن لم نرد عليه أن ينصرف، و قد كان يفعل ذلك فيسلم ثلاثا فإن أذن له و إلا انصرف فقلنا: و عليك السلام يا رسول الله ادخل فدخل، الخبر.
22 - و في الكافي، بإسناده عن ربعي بن عبد الله عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يسلم على النساء و يرددن عليه السلام، و كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يسلم على النساء و كان يكره أن يسلم على الشابة منهن، و يقول: أتخوف أن يعجبني صوتها فيدخل علي أكثر مما أطلب من الأجر:. أقول: و رواه الصدوق مرسلا، و كذا سبط الطبرسي في المشكاة، نقلا عن كتاب المحاسن.
23 - و فيه، بإسناده عن عبد العظيم بن عبد الله الحسني رفعه قال: كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يجلس ثلاثا: القرفصاء و هو أن يقيم ساقيه و يستقبلهما بيده، و يشد يده في ذراعه، و كان يجثو على ركبتيه، و كان يثني رجلا واحدة و يبسط عليها الأخرى، و لم ير متربعا قط.
24 - و في المكارم، نقلا من كتاب النبوة عن علي (عليه السلام) قال: ما صافح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أحدا قط فنزع يده من يده حتى يكون هو الذي ينزع يده، و ما فاوضه أحد قط في حاجة أو حديث فانصرف حتى يكون الرجل هو الذي ينصرف، و ما نازعه أحد قط الحديث فيسكت حتى يكون هو الذي يسكت، و ما رئي مقدما رجله بين يدي جليس له قط. و لا خير بين أمرين إلا أخذ بأشدهما، و ما انتصر لنفسه من مظلمة حتى ينتهك محارم الله فيكون حينئذ غضبه لله تبارك و تعالى، و ما أكل متكئا قط حتى فارق الدنيا، و ما سئل شيئا قط فقال لا، و ما رد سائل حاجة قط إلا أتى بها أو بميسور من القول، و كان أخف الناس صلاة في تمام، و كان أقصر الناس خطبة و أقلهم هذرا، و كان يعرف بالريح الطيب إذا أقبل، و كان إذا أكل مع القوم كان أول من يبدأ و آخر من يرفع يده، و كان إذا أكل أكل مما يليه، فإذا كان الرطب و التمر جالت يده، و إذا شرب شرب ثلاثة أنفاس، و كان يمص الماء مصا و لا يعبه عبا، و كان يمينه لطعامه و شرابه و أخذه و عطائه فكان لا يأخذ إلا بيمينه، و لا يعطي إلا بيمينه، و كان شماله لما سوى ذلك من بدنه و كان يحب التيمن في جميع أموره في لبسه و تنعله و ترجله. و كان إذا دعا دعا ثلاثا، و إذا تكلم تكلم وترا، و إذا استأذن استأذن ثلاثا، و كان كلامه فصلا يتبينه كل من سمعه، و إذا تكلم رئي كالنور يخرج من بين ثناياه، و إذا رأيته قلت: أفلج و ليس بأفلج. و كان نظره اللحظ بعينه، و كان لا يكلم أحدا بشيء يكرهه، و كان إذا مشى كأنما ينحط في صبب، و كان يقول: إن خياركم أحسنكم أخلاقا، و كان لا يذم ذواقا و لا يمدحه، و لا يتنازع أصحاب الحديث عنده، و كان المحدث عنه يقول: لم أر بعيني مثله قبله و لا بعده (صلى الله عليه وآله وسلم).
25 - و في الكافي، بإسناده عن جميل بن دراج عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقسم لحظاته بين أصحابه فينظر إلى ذا و ينظر إلى ذا بالسوية. قال: و لم يبسط رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رجليه بين أصحابه قط، و إن كان ليصافحه الرجل فما يترك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يده من يده حتى يكون هو التارك فلما فطنوا لذلك كان الرجل إذا صافحه مال بيده فنزعها من يده.
26 - و في المكارم، قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إذا حدث بحديث تبسم في حديثه.
27 - و فيه، عن يونس الشيباني قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): كيف مداعبة بعضكم بعضا؟ قلت: قليلا. قال: هلا تفعلوا؟ فإن المداعبة من حسن الخلق، و إنك لتدخل بها السرور على أخيك، و لقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يداعب الرجل يريد به أن يسره.
و فيه، عن أبي القاسم الكوفي في كتاب الأخلاق، عن الصادق (عليه السلام) قال: ما من مؤمن إلا و فيه دعابة، و كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يداعب و لا يقول إلا حقا.
29 - و في الكافي، بإسناده عن معمر بن خلاد قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) فقلت: جعلت فداك الرجل يكون مع القوم فيمضي بينهم كلام يمزحون و يضحكون؟ فقال: لا بأس ما لم يكن، فظننت أنه عنى الفحش. ثم قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يأتيه الأعرابي فيأتي إليه بالهدية ثم يقول مكانه: أعطنا ثمن هديتنا فيضحك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و كان إذا اغتم يقول: ما فعل الأعرابي ليته أتانا.
30 - و في الكافي، بإسناده عن طلحة بن زيد عن أبي عبد الله (عليه السلام): قال كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أكثر ما يجلس تجاه القبلة.
31 - و في المكارم، قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يؤتى بالصبي الصغير ليدعو له بالبركة فيضعه في حجره تكرمة لأهله، و ربما بال الصبي عليه فيصيح بعض من رآه حين يبول فيقول (صلى الله عليه وآله وسلم): لا تزرموا بالصبي حتى يقضي بوله ثم يفرغ له من دعائه أو تسميته، و يبلغ سرور أهله فيه، و لا يرون أنه يتأذى ببول صبيهم فإذا انصرفوا غسل ثوبه بعده.
32 - و فيه، روي: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان لا يدع أحدا يمشي معه إذا كان راكبا حتى يحمله معه فإن أبى قال: تقدم أمامي و أدركني في المكان الذي تريد.
33 - و فيه، عن أبي القاسم الكوفي في كتاب الأخلاق،: و جاء في الآثار: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم ينتقم لنفسه من أحد قط بل كان يعفو و يصفح.
34 - و فيه،: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا فقد الرجل من إخوانه ثلاثة أيام سأل عنه فإن كان غائبا دعا له، و إن كان شاهدا زاره، و إن كان مريضا عاده.
35 - و فيه،: عن أنس قال: خدمت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تسع سنين فما أعلم أنه قال لي قط: هلا فعلت كذا و كذا؟ و لا عاب علي شيئا قط.
36 - و في الإحياء، قال: قال أنس: و الذي بعثه بالحق ما قال لي في شيء قط كرهه: لم فعلته؟ و لا لامني نساؤه إلا قال: دعوه إنما كان هذا بكتاب و قدر.
37 - و فيه، عن أنس: و كان (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يدعوه أحد من أصحابه و غيرهم إلا قال: لبيك.
38 - و فيه، عنه: و لقد كان (صلى الله عليه وآله وسلم) يدعو أصحابه بكناهم إكراما لهم و استمالة لقلوبهم، و يكني من لم يكن له كنية فكان يدعى بما كناه به، و يكني أيضا النساء اللاتي لهن الأولاد و اللاتي لم يلدن، و يكني الصبيان فيستلين به قلوبهم.
39 - و فيه،: و كان (صلى الله عليه وآله وسلم) يؤثر الداخل عليه بالوسادة التي تحته فإن أبى أن يقبلها عزم عليه حتى يفعل.
40 - و في الكافي، بإسناده عن عجلان قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) فجاء سائل فقام (عليه السلام) إلى مكيل فيه تمر فملأ يده فناوله، ثم جاء آخر فسأله فقام فأخذ بيده فناوله ثم جاء آخر فسأله فقام فأخذ بيده فناوله، ثم جاء آخر فقال (عليه السلام): الله رازقنا و إياك. ثم قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان لا يسأله أحد من الدنيا شيئا إلا أعطاه فأرسلت إليه امرأة ابنا لها فقالت: انطلق إليه فاسأله فإن قال: ليس عندنا شيء فقل: أعطني قميصك، قال: فأخذ قميصه فرمى به و في نسخة أخرى فأعطاه فأدبه الله على القصد فقال: «و لا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك - و لا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا». 41 - و فيه، بإسناده عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يأكل الهدية و لا يأكل الصدقة.
42 - و فيه، عن موسى بن عمران بن بزيع قال: قلت للرضا (عليه السلام): جعلت فداك إن الناس رووا أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان إذا أخذ في طريق رجع في غيره! كذا كان؟ قال: فقال نعم فأنا أفعله كثيرا فافعله، ثم قال لي: أما إنه أرزق لك.
43 - و في الإقبال، بإسناده عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يخرج بعد طلوع الشمس.
44 - و في الكافي، بإسناده عن عبد الله بن المغيرة عمن ذكره قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا دخل منزلا قعد في أدنى المجلس إليه حين يدخل: أقول: و رواه سبط الطبرسي في المشكاة، نقلا عن المحاسن، و غيره.
45 - و من سننه و آدابه (صلى الله عليه وآله وسلم) في التنظف و الزينة ما في المكارم، قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا غسل رأسه و لحيته غسلهما بالسدر.
46 - و في الجعفريات، بإسناده عن جعفر بن محمد عن آبائه عن علي (عليه السلام) قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يرجل شعره، و أكثر ما كان يرجل بالماء، و يقول: كفى بالماء طيبا للمؤمن.
47 - و في الفقيه، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن المجوس جزوا لحاهم و وفروا شواربهم، و إنا نحن نجز الشوارب و نعفي اللحى.
48 - و في الكافي، بإسناده عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من السنة تقليم الأظفار.
49 - و في الفقيه،: روي: من السنة دفن الشعر و الظفر و الدم.
50 - و فيه، بإسناده عن محمد بن مسلم: أنه سأل أبا جعفر (عليه السلام) عن الخضاب فقال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يختضب، و هذا شعره عندنا.
51 - و في المكارم،: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يطلي فيطليه من يطلي حتى إذا بلغ ما تحت الإزار تولاه بنفسه.
52 - و في الفقيه،: قال علي (عليه السلام): نتف الإبط ينفي الرائحة الكريهة و هو طهور و سنة مما أمر به الطيب (عليه السلام).
53 - و في المكارم،: كان له (صلى الله عليه وآله وسلم) مكحلة يكتحل بها في كل ليلة و كان كحله الإثمد.
54 - و في الكافي، بإسناده عن أبي أسامة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من سنن المرسلين السواك.
55 - و في الفقيه، بإسناده عن علي (عليه السلام) في حديث الأربعمائة قال: و السواك مرضاة الله و سنة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و مطهرة للفم.
أقول: و الأخبار في استنانه (صلى الله عليه وآله وسلم) بالسواك من طرق الفريقين كثيرة جدا.
56 - و في الفقيه،: قال الصادق (عليه السلام): أربع من أخلاق الأنبياء: التطيب و التنظيف بالموسى و حلق الجسد بالنورة و كثرة الطروقة.
57 - و في الكافي، بإسناده عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كانت لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ممسكة إذا هو توضأ أخذها بيده و هي رطبة فكان إذا خرج عرفوا أنه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
58 - و في المكارم،: كان لا يعرض له طيب إلا تطيب، و يقول: هو طيب ريحه خفيف محمله، و إن لم يتطيب وضع إصبعه في ذلك الطيب ثم لعق منه.
59 - و فيه،: كان (صلى الله عليه وآله وسلم) يستجمر بالعود القماري.
60 - و في ذخيرة المعاد،: و كان أي المسك أحب الطيب إليه (صلى الله عليه وآله وسلم).
61 - و في الكافي، بإسناده عن إسحاق الطويل العطار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ينفق في الطيب أكثر مما ينفق في الطعام.
62 - و فيه، بإسناده عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): الطيب في الشارب من أخلاق النبيين و كرامة للكاتبين.
63 - و فيه، بإسناده عن السكن الخزاز قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: حق على كل محتلم في كل جمعة أخذ شاربه و أظفاره و مس شيء من الطيب، و كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا كان يوم الجمعة و لم يكن عنده طيب دعا ببعض خمر نسائه فبلها في الماء ثم وضعها على وجهه.
64 - و في الفقيه، بإسناده عن إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا أتى بطيب يوم الفطر بدأ بنسائه.
65 - و في المكارم،: و كان يدهن (صلى الله عليه وآله وسلم) بأصناف من الدهن، قال و كان (صلى الله عليه وآله وسلم) يدهن بالبنفسج و يقول: هو أفضل الأدهان.
66 - و من آدابه (صلى الله عليه وآله وسلم) في السفر ما في الفقيه، بإسناده عن عبد الله بن سنان عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يسافر يوم الخميس.
أقول: و في هذا المعنى أحاديث كثيرة.
67 - و في أمان الأخطار، و مصباح الزائر، قال: ذكر صاحب كتاب عوارف المعارف: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان إذا سافر حمل معه خمسة أشياء: المرآة و المكحلة و المذرى و السواك، قال: و في رواية أخرى: و المقراض:. أقول: و رواه في المكارم و الجعفريات.
68 - و في المكارم، عن ابن عباس قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا مشى مشى مشيا يعرف أنه ليس بعاجز و لا كسلان.
69 - و في الفقيه، بإسناده عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في سفره إذا هبط هلل و إذا صعد كبر.
70 - و في لب اللباب، للقطب: عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أنه لم يرتحل من منزل إلا و صلى فيه ركعتين، و قال: حتى يشهد علي بالصلاة.
71 - و في الفقيه، قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا ودع المؤمنين قال: زودكم الله التقوى، و وجهكم إلى كل خير، و قضى لكم كل حاجة، و سلم لكم دينكم و دنياكم، و ردكم سالمين إلي غانمين.
أقول: و الروايات في دعائه (صلى الله عليه وآله وسلم) عند الوداع مختلفة لكنها على اختلافها متفقة في الدعاء بالسلامة و الغنيمة.
72 - و في الجعفريات، بإسناده عن جعفر بن محمد عن آبائه عن علي (عليه السلام): أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يقول للقادم من مكة: تقبل الله نسكك، و غفر ذنبك، و أخلف عليك نفقتك.
73 - و من آدابه (صلى الله عليه وآله وسلم) في الملابس و ما يتعلق بها ما في الإحياء،: كان (صلى الله عليه وآله وسلم) يلبس من الثياب ما وجد من إزار أو رداء، أو قميص أو جبة أو غير ذلك، و كان يعجبه الثياب الخضر، و كان أكثر ثيابه البياض، و يقول: ألبسوها أحياءكم، و كفنوا فيها موتاكم. و كان يلبس القباء المحشو للحرب و غير الحرب، و كان له قباء سندس فيلبسه فيحسن خضرته على بياض لونه، و كانت ثيابه كلها مشمرة فوق الكعبين، و يكون الإزار فوق ذلك إلى نصف الساق و كان قميصه مشدود الإزار و ربما حل الإزار في الصلاة و غيرها. و كانت له ملحفة مصبوغة بالزعفران، و ربما صلى بالناس فيها وحدها، و ربما لبس الكساء وحده ليس عليه غيره، و كان له كساء ملبد يلبسه و يقول: إنما أنا عبد ألبس كما يلبس العبد، و كان له ثوبان لجمعته خاصة سوى ثيابه في غير الجمعة، و ربما لبس الإزار الواحد ليس عليه غيره، و يعقد طرفيه بين كتفيه، و ربما أم به الناس على الجنائز، و ربما صلى في بيته في الإزار الواحد ملتحفا به محالفا بين طرفيه و يكون ذلك الإزر الذي جامع فيه يومئذ، و كان ربما صلى بالليل في الإزار و يرتدي ببعض الثوب مما يلي هدبه، و يلقي البقية على بعض نسائه فيصلي كذلك. و لقد كان له كساء أسود فوهبه فقالت له أم سلمة، بأبي أنت و أمي ما فعل ذلك الكساء الأسود؟ فقال: كسوته. فقالت: ما رأيت شيئا قط كان أحسن من بياضك على سواده و قال أنس: و ربما رأيته يصلي بنا الظهر في شمله عاقدا بين طرفيها، و كان يتختم، و ربما خرج و في خاتمه الخيط المربوط يتذكر بها الشيء، و كان يختم به على الكتب و يقول: الخاتم على الكتاب خير من التهمة. و كان يلبس القلانس تحت العمائم و بغير عمامة، و ربما نزع قلنسوته من رأسه فجعلها سترة بين يديه ثم يصلي إليها، و ربما لم تكن العمامة فيشد العصابة على رأسه و على جبهته، و كانت له عمامة تسمى السحاب فوهبها من علي فربما طلع علي فيها فيقول (صلى الله عليه وآله وسلم): أتاكم علي في السحاب. و كان إذا لبس ثوبا لبسه من قبل ميامنه و يقول: الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي و أتجمل به في الناس، و إذا نزع ثوبه أخرجه من مياسره، و كان إذا لبس جديدا أعطى خلق ثيابه مسكينا ثم يقول: ما من مسلم يكسو مسلما من سمل ثيابه، لا يكسوه إلا لله إلا كان في ضمان الله و حرزه و خيره ما واراه حيا و ميتا. و كان له فراش من أدم حشوه ليف طوله ذراعان أو نحوه و عرضه ذراع و شبر أو نحوه، و كانت له عباءة تفرش له حيثما تنقل تثنى طاقين تحته، و كان ينام على الحصير ليس تحته شيء غيره. و كان من خلقه تسمية دوابه و سلاحه و متاعه و كان اسم رايته العقاب، و سيفه الذي يشهد به الحروب ذا الفقار، و كان له سيف يقال له: المخذم، و آخر يقال له: الرسوب، و آخر يقال له القضيب، و كانت قبضة سيفه محلاة بالفضة، و كان يلبس المنطقة من الأدم فيها ثلاث حلق من فضة، و كان اسم قوسه الكتوم و جعبته الكافور، و كان اسم ناقته العضباء، و اسم بغلته الدلدل، و كان اسم حماره يعفور، و اسم شاته التي يشرب لبنها عينة. و كان له مطهرة من فخار يتوضأ فيها و يشرب منها فيرسل الناس أولادهم الصغار الذين قد عقلوا فيدخلون على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فلا يدفعون عنه، فإذا وجدوا في المطهرة ماء شربوا منه و مسحوا على وجوههم و أجسادهم يبتغون بذلك البركة.
74 - و في الجعفريات، عن جعفر بن محمد عن آبائه عن علي (عليه السلام) قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يلبس من القلانس المضربة إلى أن قال و كان له درع يقال له ذات الفضول و كانت له ثلاث حلقات من فضة، بين يديها واحدة و اثنتان من خلفها، الخبر.
75 - و في العوالي،: روي: أنه كان له (صلى الله عليه وآله وسلم) عمامة سوداء يتعمم بها و يصلي فيها.
أقول: و روي أن عمامته (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت ثلاث أكوار أو خمسا.
76 - و في الخصال، بإسناده عن علي في الحديث الأربعمائة قال: البسوا الثياب القطن فإنها لباس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و لم يكن يلبس الشعر و الصوف إلا من علة:. أقول: و رواه الصدوق أيضا مرسلا، و رواه الصفواني في كتاب التعريف، و يتبين بهذا معنى ما مر من لبسه (صلى الله عليه وآله وسلم) الصوف و أنه لا منافاة.
77 - و في الفقيه، بإسناده عن إسماعيل بن مسلم عن الصادق عن أبيه (عليه السلام) قال: كانت لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عنزة في أسفلها عكاز يتوكأ عليها و يخرجها في العيدين يصلي إليها:. أقول: و رواه في الجعفريات،.
78 - و في الكافي، بإسناده عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان خاتم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من ورق.
79 - و فيه، بإسناده عن أبي خديجة قال: قال: الفص مدور، و قال: هكذا كان خاتم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
80 - و في الخصال، بإسناده عن عبد الرحيم بن أبي البلاد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خاتمان: أحدهما عليه مكتوب لا إله إلا الله محمد رسول الله، و الآخر: صدق الله.
81 - و فيه، بإسناده عن الحسين بن خالد عن أبي الحسن الثاني (عليه السلام) في حديث: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أمير المؤمنين و الحسن و الحسين و الأئمة (عليهم السلام) كانوا يتختمون في اليمين.
82 - و في المكارم، عن الصادق عن علي (عليه السلام) قال: لبس الأنبياء القميص قبل السراويل:. أقول: و رواه في الجعفريات، و في المعاني السابقة أخبار أخر كثيرة.
83 - و من آدابه (صلى الله عليه وآله وسلم) في مسكنه و ما يتعلق به ما في كتاب التحصين، لابن فهد قال: توفي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و ما وضع لبنة على لبنة.
84 - و في لب اللباب، قال: قال (عليه السلام): المساجد مجالس الأنبياء.
85 - و في الكافي، بإسناده عن السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا خرج في الصيف من البيت خرج يوم الخميس، و إذا أراد أن يدخل في الشتاء من البرد دخل يوم الجمعة:. أقول: و رواه أيضا في الخصال مرسلا.
86 - و عن كتاب العدد القوية، للشيخ علي بن الحسن بن المطهر أخ العلامة رحمهما الله عن خديجة رضي الله عنها قالت: كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا دخل المنزل دعا بالإناء فتطهر للصلاة ثم يقوم فيصلي ركعتين يوجز فيهما ثم يأوي إلى فراشه.
87 - و في الكافي، بإسناده عن عباد بن صهيب قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: ما بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عدوا قط.
88 - و في المكارم،: كان فراش رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عباءة، و كانت مرفقته من أدم حشوها ليف فثنيت ذات ليلة فلما أصبح قال: لقد منعتني الليلة الفراش الصلاة فأمر أن يجعل له بطاق واحد، و كان له فراش من أدم حشوه ليف، و كانت له عباءة تفرش له حيثما انتقل، و تثنى ثنتين.
89 - و فيه،: عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: ما استيقظ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من نوم قط إلا خر لله ساجدا.
90 -: و من آدابه (صلى الله عليه وآله وسلم) في المناكح و الأولاد ما في رسالة المحكم و المتشابة، للمرتضى بإسناده إلى تفسير النعماني عن علي (عليه السلام) قال: إن جماعة من الصحابة كانوا قد حرموا على أنفسهم النساء و الإفطار بالنهار و النوم بالليل فأخبرت أم سلمة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فخرج إلى أصحابه فقال: أ ترغبون عن النساء؟ فإني آتي النساء و آكل بالنهار و أنام بالليل فمن رغب عن سنتي فليس مني، الخبر.
أقول: و هذا المعنى مروي في كتب الفريقين بطرق كثيرة.
91 - و في الكافي، بإسناده عن إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من أخلاق الأنبياء حب النساء.
92 - و فيه، بإسناده عن بكار بن كردم و غير واحد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): جعل قرة عيني في الصلاة و لذتي في النساء.
أقول: و يقرب منه ما روي بطرق أخرى.
93 - و في الفقيه،: و كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا أراد أن يتزوج بامرأة بعث إليها من ينظر إليها، الخبر.
94 - و في تفسير العياشي،: عن الحسين بن بنت إلياس قال: سمعت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) يقول: إن الله جعل الليل سكنا، و جعل النساء سكنا، و من السنة التزويج بالليل و إطعام الطعام.
95 - و في الخصال، بإسناده عن علي (عليه السلام) في حديث الأربعمائة قال: عقوا عن أولادكم يوم السابع، و تصدقوا بوزن شعورهم فضة على مسلم، و كذلك فعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالحسن و الحسين و سائر أولاده.
96 -: و من آدابه (صلى الله عليه وآله وسلم) في الأطعمة و الأشربة و ما يتعلق بالمائدة ما في الكافي، بإسناده عن هشام بن سالم و غيره عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما كان شيء أحب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من أن يظل جائعا خائفا في الله.
97 - و في الإحتجاج، بإسناده عن موسى بن جعفر عن آبائه عن الحسين بن علي (عليهما السلام) في حديث طويل: في أسئلة اليهودي الشامي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى أن قال قال له اليهودي: فإن عيسى يزعمون أنه كان زاهدا!، قال له علي (عليه السلام): كان كذلك، و محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أزهد الأنبياء كان له ثلاث عشرة نسوة سوى من يطيف به من الإماء ما رفعت له مائدة قط و عليها طعام، و ما أكل خبز بر قط، و لا شبع من خبز شعير قط ثلاث ليال متواليات.
98 - و في أمالي الصدوق، عن العيص بن القاسم قال: قلت للصادق (عليه السلام): حديث يروى عن أبيك: أنه قال: ما شبع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من خبز بر قط أ هو صحيح؟ فقال: لا ما أكل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خبز بر قط و لا شبع من خبز شعير قط.
99 - و في الدعوات، للقطب قال: و روي ما أكل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) متكئا إلا مرة ثم جلس فقال: اللهم إني عبدك و رسولك.
أقول: و روى هذا المعنى الكليني و الشيخ بطرق كثيرة و الصدوق و البرقي و الحسين بن سعيد في كتاب الزهد.
100 - و في الكافي، بإسناده عن زيد الشحام عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما أكل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) متكئا منذ بعثه الله حتى قبض كان يأكل أكلة العبد، و يجلس جلسة العبد. قلت: و لم؟ قال تواضعا لله عز و جل.
110 - و فيه، بإسناده عن أبي خديجة قال: سأل بشير الدهان عن أبي عبد الله (عليه السلام) و أنا حاضر فقال: هل كان يأكل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) متكئا على يمينه و على يساره؟ فقال: ما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يأكل متكئا على يمينه و لا على يساره، و لكن يجلس جلسة العبد، قلت: و لم ذاك؟ قال: تواضعا لله عز و جل.
120 - و فيه، بإسناده عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يأكل أكل العبد، و يجلس جلسة العبد، و كان يأكل على الحضيض و ينام على الحضيض.
130 - و في الإحياء،: كان (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا جلس يأكل جمع بين ركبتيه و بين قدميه كما يجلس المصلي إلا أن الركبة فوق الركبة و القدم فوق القدم، و يقول إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد و أجلس كما يجلس العبد.
140 - و في كتاب التعريف، للصفواني عن علي (عليه السلام): كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا قعد على المائدة قعد قعدة العبد، و كان يتكىء عن فخذه الأيسر.
150 - و في المكارم،: عن ابن عباس قال: كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يجلس على الأرض، و يعتقل الشاة، و يجيب دعوة المملوك.
160 - و في المحاسن، بإسناده عن حماد بن عثمان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يلعق أصابعه إذا أكل.
170 - و في الإحتجاج، نقلا من كتاب مواليد الصادقين قال: كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يأكل كل الأصناف من الطعام، و كان يأكل ما أحل الله له مع أهله و خدمه إذا أكلوا و مع من يدعوه من المسلمين على الأكل، و على ما أكلوا عليه و ما أكلوا إلا أن ينزل بهم ضيف فيأكل مع ضيفه إلى أن قال و كان أحب الطعام إليه ما كان على ضفف.
أقول: قوله: «و على ما أكلوا عليه» يريد أمثال المائدة و الصحفة، و قوله: «و ما أكلوا» ما موصولة أو توقيتية، و قوله: «إلا أن ينزل، إلخ» استثناء من قوله: «مع أهله و خدمه» و «الضفف» كثرة العيال و نحوها، و الضفة بالفتح الجماعة.
180 - و في الكافي، بإسناده عن ابن القداح عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا أكل مع القوم طعاما كان أول من يضع يده و آخر من يرفعها ليأكل القوم.
190 - و في الكافي، بإسناده إلى محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): عشاء النبيين بعد العتمة فلا تدعوا العشاء فإن ترك العشاء خراب البدن.
101 - و في الكافي، بإسناده عن عنبسة بن نجاد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما قدم إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) طعام فيه تمر إلا بدأ بالتمر.
111 - و في الكافي، و صحيفة الرضا، بإسناده عن آبائه (عليهم السلام) قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا أكل التمر يطرح النوى على ظهر كفه ثم يقذف به.
121 - و في الإقبال، نقلا من الجزء الثاني من تاريخ النيسابوري، في ترجمة الحسن بن بشر بإسناده قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يحمد الله بين كل لقمتين.
131 - و في الكافي، بإسناده عن وهب بن عبد ربه قال: رأيت أبا عبد الله (عليه السلام) يتخلل فنظرت إليه فقال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يتخلل، و هو يطيب الفم.
141 - و في المكارم، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أنه كان إذا شرب بدأ فسمى إلى أن قال: و يمص الماء مصا و لا يعبه عبا، و يقول: إن الكباد من العب.
151 - و في الجعفريات، عن جعفر بن محمد عن آبائه عن علي (عليه السلام) قال: تفقدت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) غير مرة، و هو إذا شرب تنفس ثلاثا مع كل واحدة منها تسمية إذا شرب و تحميد إذا انقطع فسألته عن ذلك فقال: يا علي شكرا لله تعالى بالحمد و تسمية من الداء.
161 - و في المكارم،: كان (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يتنفس في الإناء إذا شرب فإن أراد أن يتنفس أبعد الإناء عن فيه حتى يتنفس.
171 - و في الإحياء،: و كان (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا أكل اللحم لم يطأطىء رأسه إليه و يرفعه إلى فيه رفعا ثم ينهشه انتهاشا ثم قال: و كان إذا أكل اللحم خاصة غسل يديه غسلا جيدا ثم مسح بفضل الماء على وجهه.
181 - و في المكارم، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أنه كان يأكل الأصناف من الطعام.
أقول: ثم ذكر الطبرسي أصنافا من الطعام كان (صلى الله عليه وآله وسلم) يأكلها كالخبز و اللحم على أقسامه و البطيخ و الخربز و السكر و العنب و الرمان و التمر و اللبن و الهريسة و السمن و الخل و الهندباء و الباذروج و الكرنب.
و روي: أنه كان يحب التمر.
و روي أنه كان يعجبه العسل.
و روي أنه كان أحب الثمرات إليه الرمان.
191 - و في أمالي الطوسي، بإسناده عن أبي أسامة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان طعام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الشعير إذا وجده، و حلواه التمر، و وقوده السعف.
102 - و في المكارم، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أنه كان لا يأكل الحار حتى يبرد و يقول: إن الله لم يطعمنا نارا إن الطعام الحار غير ذي بركة. و كان إذا أكل سمى، و يأكل بثلاث أصابع، و مما يليه و لا يتناول من بين يدي غيره، و يؤتى بالطعام فيشرع قبل القوم ثم يشرعون، و كان يأكل بأصابعه الثلاث. الإبهام و التي تليها و الوسطى و ربما استعان بالرابعة، و كان يأكل بكفه كلها، و لم يأكل بإصبعين، و يقول: إن الأكل بإصبعين هو أكل الشيطان، و لقد جاء أصحابه يوما بفالوذج فأكل معهم و قال: مم هذا؟ فقالوا: نجعل السمن و العسل فيأتي كما ترى فقال: إن هذا طعام طيب. و كان يأكل خبز الشعير غير منخول و ما أكل خبز بر قط، و لا شبع من خبز شعير قط، و لا أكل على خوان حتى مات، و كان يأكل البطيخ و العنب و يأكل الرطب و يطعم الشاة النوى، و كان لا يأكل الثوم و لا البصل و لا الكراث و لا العسل الذي فيه المغافير، و المغافير ما يبقى من الشجر في بطون النحل فيلقيه في العسل فيبقى له ريح في الفم. و ما ذم طعاما قط. كان إذا أعجبه أكله، و إذا كرهه تركه و لا يحرمه على غيره، و كان يلحس القصعة و يقول: آخر الصحفة أعظم الطعام بركة، و كان إذا فرغ لعق أصابعه الثلاث التي أكل بها واحدة واحدة، و كان يغسل يده من الطعام حتى ينقيها، و كان لا يأكل وحده.
أقول: قوله: «الإبهام و التي تليها و الوسطى» من جميل أدب الراوي حيث لم يقل: الإبهام و السبابة «إلخ» صونا له (صلى الله عليه وآله وسلم) عن إطلاق السبابة على إصبعه الشريفة لما في اللفظ من الإيهام.
و الذي رواه من أكله (صلى الله عليه وآله وسلم) الفالوذج يخالف ما في المحاسن مسندا عن يعقوب بن شعيب عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: بينا أمير المؤمنين (عليه السلام) في الرحبة في نفر من أصحابه إذ أهدي إليه خوان فالوذج فقال لأصحابه: مدوا أيديكم فمدوا أيديهم و مد يده ثم قبضها و قال: إني ذكرت أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يأكله فكرهت أكله.
112 - و في المكارم، قال: و كان (صلى الله عليه وآله وسلم) يشرب في أقداح القوارير التي يؤتى بها من الشام، و يشرب في الأقداح التي تتخذ من الخشب و الجلود و الخزف:. أقول: و روي قريبا من صدره في الكافي، و المحاسن، و فيه: و يعجبه أن يشرب في القدح الشامي و كان يقول: هي أنظف آنيتكم.
122 - و في المكارم، عن النبي: أنه كان يشرب بكفه يصب الماء فيها، و يقول: ليس إناء أطيب من اليد.
132 - و في الكافي، بإسناده عن عبد الله بن سنان قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يذبح يوم الأضحى كبشين أحدهما عن نفسه و الآخر عمن لم يجد من أمته.
142 - و من آدابه (صلى الله عليه وآله وسلم) في الخلوة ما في شرح النفلية، للشهيد الثاني عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أنه لم ير علي بول و لا غائط.
152 - و في الجعفريات، بإسناده عن جعفر بن محمد عن آبائه عن علي (عليه السلام) قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا أراد أن يتخنع غطى رأسه ثم دفنه، و إذا أراد يبزق فعل مثل ذلك، و كان إذا أراد الكنيف غطى رأسه.
أقول: و اتخاذ الكنيف في العرب مما حدث بعد الإسلام، و كانوا قبل ذلك يخرجون إلى البر على ما يستفاد من بعض الروايات.
162 - و في الكافي، بإسناده عن الحسين بن خالد عن أبي الحسن الثاني (عليه السلام) قال: قلت له: إنا روينا الحديث أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يستنجي و خاتمه في إصبعه، و كذلك كان يفعل أمير المؤمنين (عليه السلام)، و كان نقش خاتم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): محمد رسول الله؟ قال: صدقوا، قلت: فينبغي لنا أن نفعل، قال: إن أولئك كانوا يتختمون في اليد اليمنى و إنكم أنتم تتختمون في اليسرى، الحديث.
أقول و روي قريب منه في الجعفريات، و في المكارم، نقلا عن كتاب اللباس، للعياشي عن الصادق (عليه السلام).
172 - و من آدابه (صلى الله عليه وآله وسلم) عند المصائب و البلايا و في الأموات و ما يتعلق بها ما في المكارم،: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا رأى من جسمه بثرة أعاذ بالله و استكان له و جار إليه فيقال له: يا رسول الله ما هو ببأس، فيقول: إن الله إذا أراد أن يعظم صغيرا عظم، و إذا أراد أن يصغر عظيما صغر.
182 - و في الكافي، بإسناده عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: السنة أن يحمل السرير من جوانبه الأربع، و ما كان بعد ذلك من حمل فهو تطوع.
192 - و في قرب الإسناد، عن الحسين بن طريف عن الحسين بن علوان عن جعفر عن أبيه: أن الحسن بن علي (عليهما السلام) كان جالسا و معه أصحاب له فمر بجنازة فقام بعض القوم و لم يقم الحسن (عليه السلام) فلما مضوا بها قال بعضهم: أ لا قمت عافاك الله فقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقوم للجنازة إذا مروا بها؟ فقال الحسن (عليه السلام): إنما قام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مرة واحدة، و ذلك أنه مر بجنازة يهودي و قد كان المكان ضيقا فقام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و كره أن يعلوا رأسه.
103 - و في دعوات القطب، قال: كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا أتبع جنازة غلبته كآبة، و أكثر حديث النفس، و أقل الكلام.
113 - و في الجعفريات، بإسناده عن جعفر بن محمد عن آبائه عن علي (عليه السلام): أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يحثو ثلاث حثيات من تراب على القبر.
123 - و في الكافي، بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يصنع بمن مات من بني هاشم خاصة شيئا لا يصنعه بأحد من المسلمين: كان إذا صلى بالهاشمي و نضح قبره بالماء وضع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كفه على القبر حتى ترى أصابعه في الطين، فكان الغريب يقدم أو المسافر من أهل المدينة فيرى القبر الجديد علة أثر كف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيقول: من مات من آل محمد؟ 133 - و في مسكن الفؤاد، للشهيد الثاني عن علي (عليه السلام): أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا عزى قال: آجركم الله و رحمكم، و إذا هنأ قال: بارك الله لكم و بارك الله عليكم.
143 - و من آدابه (صلى الله عليه وآله وسلم) في الوضوء و الغسل ما في آيات الأحكام، للقطب عن سليمان بن بريدة عن أبيه: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يتوضأ لكل صلاة فلما كان عام الفتح صلى الصلوات بوضوء واحد فقال عمر: يا رسول الله صنعت شيئا ما كنت صنعته، فقال: عمدا فعلته.
153 - و في الكافي، بإسناده عن زرارة قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): أ لا أحكي لكم وضوء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ فقلنا: بلى فدعا بقعب فيه شيء من ماء فوضعه بين يديه، ثم حسر عن ذراعيه، ثم غمس فيه كفه اليمنى ثم قال: هكذا إذا كانت الكف طاهرة ثم غرف ملأها ماء فوضعها على جبينه، ثم قال: بسم الله و سدله على أطراف لحيته ثم أمر يده على وجهه و ظاهر جبينه مرة واحدة، ثم غمس يده اليسرى فغرف بها ملأها ثم وضعه على مرفقه اليمنى فأمر كفه على ساعده حتى جرى الماء على أطراف أصابعه ثم غرف بيمينه ملأها فوضعه على مرفقه اليسرى فأمر كفه على ساعده حتى جرى الماء على أطراف أصابعه، و مسح مقدم رأسه و ظاهر قدميه ببلة يساره و بقية بلة يمناه. قال: و قال أبو جعفر (عليه السلام): إن الله وتر يحب الوتر فقد يجزيك من الوضوء ثلاث غرفات: واحدة للوجه و اثنتان للذراعين، و تمسح ببلة يمناك ناصيتك، و ما بقي من بلة يمينك ظهر قدمك اليمنى، و تمسح ببلة يسارك ظهر قدمك اليسرى. قال زرارة: قال أبو جعفر (عليه السلام) سأل رجل أمير المؤمنين (عليه السلام) عن وضوء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فحكى له مثل ذلك.
أقول: و هذا المعنى مروي عن زرارة و بكير و غيرهما بطرق متعددة رواها الكليني و الصدوق و الشيخ و العياشي و المفيد و الكراجكي و غيرهم، و أخبار أئمة أهل البيت (عليهم السلام) في ذلك مستفيضة تقرب من التواتر.
163 - و في الأمالي، لمفيد الدين الطوسي بإسناده عن أبي هريرة: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان إذا توضأ بدأ بميامنه.
173 - و في التهذيب، بإسناده عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الوضوء فقال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يتوضأ بمد من ماء و يغتسل بصاع:. أقول: و روي مثله عن أبي جعفر (عليه السلام) بطريق آخر.
183 - و في العيون، بإسناده عن الرضا عن آبائه (عليهم السلام) في حديث طويل: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إنا أهل بيت لا تحل لنا الصدقة، و أمرنا بإسباغ الطهور، و لا ننزي حمارا على عتيقة.
193 - و في التهذيب، بإسناده عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: المضمضة و الاستنشاق مما سن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
104 - و فيه، بإسناده عن معاوية بن عمار قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: كان رسول الله يغتسل بصاع، و إذا كان معه بعض نسائه يغتسل بصاع و مد.
أقول: و روى هذا المعنى الكليني في الكافي، بإسناده عن محمد بن مسلم عنه: و فيه: يغتسلان جميعا من إناء واحد، و كذلك الشيخ بطريق آخر.
114 - و في الجعفريات، بإسناده عن جعفر بن محمد، عن أبيه (عليه السلام) قال: سأل الحسن بن محمد، جابر بن عبد الله عن غسل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال جابر: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يغرف على رأسه ثلاث مرات فقال الحسن بن محمد: إن شعري كثير كما ترى فقال جابر: يا حر لا تقل ذلك فشعر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان أكثر و أطيب.
124 - و في الهداية، للصدوق: قال الصادق (عليه السلام): غسل الجمعة سنة واجبة على الرجال و النساء في السفر و الحضر إلى أن قال و قال الصادق (عليه السلام): غسل يوم الجمعة طهور و كفارة لما بينهما من الذنوب من الجمعة إلى الجمعة، قال: و العلة في غسل الجمعة أن الأنصار كانت تعمل لنواضحها و أموالها فإذا كان يوم الجمعة حضروا المسجد فيتأذى الناس بأرياح آباطهم فأمر الله النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالغسل فجرت به السنة.
أقول: و قد روي من سننه (صلى الله عليه وآله وسلم) في الغسل غسل يوم الفطر و الغسل في جميع الأعياد و أغسال أخر كثيرة ربما يأتي بعضها فيما سيأتي إن شاء الله تعالى.
134 - و من آدابه و سننه (صلى الله عليه وآله وسلم) في الصلاة و ما يلحق بها ما في الكافي، بإسناده عن الفضيل بن يسار و عبد الملك و بكير قالوا: سمعنا أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يصلي من التطوع مثلي الفريضة، و يصوم من التطوع مثلي الفريضة:. أقول: و رواه الشيخ أيضا.
144 - و فيه، بإسناده عن حنان قال: سأل عمرو بن حريث أبا عبد الله (عليه السلام) و أنا جالس فقال: جعلت فداك أخبرني عن صلاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يصلي ثمان ركعات الزوال، و أربعا الأولى، و ثماني بعدها، و أربعا العصر، و ثلاثا المغرب، و أربعا بعد المغرب، و العشاء الآخرة أربعا، و ثماني صلاة الليل، و ثلاثا الوتر، و ركعتي الفجر، و صلاة الغداة ركعتين. قلت: جعلت فداك إن كنت أقوى على أكثر من هذا يعذبني الله على كثرة الصلاة؟ فقال: لا و لكن يعذبك على ترك السنة.
أقول: و يظهر من الرواية أن الركعتين عن جلوس العشاء أعني العتمة ليستا من الخمسين بل يتم بهما - محسوبتين بواحدة عن قيام - العدد إحدى و خمسين بل إنما شرعت العتمة بدلا من الوتر لو نزل الموت قبل القيام إلى الوتر فقد روى الكليني رحمه الله في الكافي، بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فلا يبيتن إلا بوتر قلت: تعني الركعتين بعد العشاء الآخرة؟ قال: نعم إنهما بركعة فمن صلاهما ثم حدث به حدث مات على وتر فإن لم يحدث به حدث الموت يصلي الوتر في آخر الليل. فقلت: هل صلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هاتين الركعتين؟ قال: لا. قلت: و لم؟ قال: لأن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يأتيه الوحي، و كان يعلم أنه هل يموت في تلك الليلة أم لا؟ و غيره لا يعلم فمن أجل ذلك لم يصلهما و أمر بهما، الخبر.
و يمكن أن يكون المراد بقوله في الحديث: «لم يصلهما» أنه لم يداوم عليهما بل ربما صلى و ربما ترك كما يستفاد من بعض آخر من الأحاديث، فلا يعارض ما ورد من أنه كان يصليهما.
154 - و في التهذيب، بإسناده عن زرارة قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يصلي من النهار شيئا حتى تزول الشمس فإذا زالت قدر نصف إصبع صلى ثماني ركعات فإذا فاء الفيء ذراعا صلى الظهر، ثم صلى بعد الظهر ركعتين، و يصلي قبل وقت العصر ركعتين، فإذا فاء الفيء ذراعين صلى العصر، و صلى المغرب حين تغيب الشمس، فإذا غاب الشفق دخل وقت العشاء، و آخر وقت المغرب إياب الشفق فإذا آب الشفق دخل وقت العشاء و آخر وقت العشاء ثلث الليل. و كان لا يصلي بعد العشاء حتى ينتصف الليل ثم يصلي ثلاث عشرة ركعة منها الوتر و منها ركعتا الفجر قبل الغداة، فإذا طلع الفجر و أضاء صلى الغداة.
أقول: و لم يستوعب تمام نافلة العصر في الرواية، و هي معلومة من روايات أخر.
164 - و فيه، بإسناده عن معاوية بن وهب قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: و ذكر صلاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: كان (صلى الله عليه وآله وسلم) يؤتى بطهور فيخمر عند رأسه و يوضع سواكه تحت فراشه، ثم ينام ما شاء الله فإذا استيقظ جلس ثم قلب بصره في السماء، ثم تلا الآيات من آل عمران: «إن في خلق السماوات و الأرض» الآيات، ثم يستن و يتطهر، ثم يقوم إلى المسجد فيركع أربع ركعات على قدر قراءته ركوعه، و سجوده على قدر ركوعه، يركع حتى يقال: متى يرفع رأسه؟ و يسجد حتى يقال: متى يرفع رأسه. ثم يعود إلى فراشه فينام ما شاء الله، ثم يستيقظ فيجلس فيتلو الآيات و يقلب بصره إلى السماء، ثم يستن و يتطهر و يقوم إلى المسجد فيصلي الأربع ركعات كما ركع قبل ذلك. ثم يعود إلى فراشه فينام ما شاء الله ثم يستيقظ و يجلس و يتلو الآيات من آل عمران و يقلب بصره في السماء، ثم يستن و يتطهر و يقوم إلى المسجد فيوتر و يصلي الركعتين ثم يخرج إلى الصلاة.
أقول: و روي هذا المعنى أيضا في الكافي، بطريقين.
174 - و روي: أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يوجز في نافلة الصبح يصليهما عند أول الفجر ثم يخرج إلى الصلاة.
184 - و في المحاسن، بإسناده عن عمر بن يزيد عن أبي عبد الله (عليه السلام): أنه قال: من قال في وتره إذا أوتر: أستغفر الله ربي و أتوب إليه سبعين مرة، و واظب على ذلك حتى قضى سنة كتبه الله عنده من المستغفرين بالأسحار. و كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يستغفر الله في الوتر سبعين مرة، و يقول: هذا مقام العائذ بك من النار سبعا، الخبر.
194 - و في الفقيه،: كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول في قنوت الوتر: اللهم اهدني فيمن هديت، و عافني فيمن عافيت، و تولني فيمن توليت، و بارك لي فيما أعطيت، و قني شر ما قضيت، إنك تقضي و لا يقضى عليك، سبحانك رب البيت، أستغفرك و أتوب إليك و أومن بك و أتوكل عليك، و لا حول و لا قوة إلا بك يا رحيم.
105 - و في التهذيب، بإسناده عن أبي خديجة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا جاء شهر رمضان زاد في الصلاة و أنا أزيد فزيدوا.
أقول: يعني (عليه السلام) بالزيادة الألف ركعة - التراويح - نوافل شهر رمضان التي كان يصليها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) غير الخمسين نوافل اليوم و الليلة، و قد وردت في كيفيتها و تقسمها على ليالي شهر رمضان أخبار كثيرة، و ورد من طرق أئمة أهل البيت (عليهم السلام): أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يصليها بغير جماعة، و ينهى عن إتيانها بالجماعة، و يقول: لا جماعة في نافلة.
و للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) صلوات خاصة أخرى منقولة عنه في كتب الأدعية تركنا ذكرها لخروجها عن غرضنا في هذا المقام، و كذلك له (صلى الله عليه وآله وسلم) سنن في الصلوات و الأدعية و الأوراد من أراد الوقوف عليها فليراجع مظان ذكرها.
115 - و في الكافي، بإسناده عن يزيد بن خليفة قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إن عمر بن حنظلة أتانا عنك بوقت قال: إذن لا يكذب علينا إلى أن قال قلت: و قال: إن وقت المغرب إذا غاب القرص إلا أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان إذا جد به السير أخر المغرب و يجمع بينها و بين العشاء، فقال: صدق.
125 - و في التهذيب، بإسناده عن طلحة بن زيد عن جعفر عن أبيه (عليه السلام): أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان في الليلة الممطرة يوجز في المغرب و يعجل في العشاء يصليهما جميعا، و يقول: من لا يرحم لا يرحم.
135 - و فيه، بإسناده عن ابن أبي عمير عن حماد عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا كان في سفر أو عجلت به الحاجة يجمع بين الظهر و العصر و بين المغرب و العشاء الآخرة، الخبر.
أقول: و في هذا المعنى روايات كثيرة رواها الكليني و الشيخ و ابنه و الشهيد الأول رحمهم الله.
145 - و في الفقيه، بإسناده عن معاوية بن وهب عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: كان المؤذن يأتي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الحر في صلاة الظهر فيقول له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أبرد أبرد.
أقول: قال الصدوق: يعني عجل عجل أخذ ذلك من البريد، و الظاهر أن المراد به التأخير ليزول شدة الحر كما يدل عليه ما في كتاب العلاء، عن محمد بن مسلم قال: مر بي أبو جعفر (عليه السلام) بمسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و أنا أصلي فلقيني بعد فقال: إياك أن تصلي الفريضة في تلك الساعة، أ تؤديها في شدة الحر؟ قلت: إني كنت أتنفل.
155 - و في الإحياء، قال: و كان (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يجالس إليه أحد و هو يصلي إلا خفف صلاته و أقبل عليه فقال، أ لك حاجة؟ فإذا فرغ من حاجاته عاد إلى صلاته.
165 - و في كتاب زهد النبي، لجعفر بن أحمد القمي قال: كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا قام إلى الصلاة تربد وجهه خوفا من الله، و كان لصدره أو لجوفه أزيز كأزيز الوجل.
أقول: و روى هذا المعنى ابن الفهد و غيره أيضا.
175 - و فيه، قال: و في رواية أخرى: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان إذا قام إلى الصلاة كأنه ثوب ملقى.
185 - و في البحار، قال: قالت عائشة: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يحدثنا و نحدثه فإذا حضرت الصلاة فكأنه لم يعرفنا و لم نعرفه.
195 - و في المجالس، لمفيد الدين الطوسي بإسناده إلى علي (عليه السلام): في كتابه إلى محمد بن أبي بكر حين ولاه مصر إلى أن قال ثم انظر ركوعك و سجودك فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان أتم الناس صلاة، و أخفهم عملا فيها.
106 - و في الجعفريات، بإسناده عن جعفر بن محمد عن آبائه عن علي (عليه السلام) قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا تثاءب في الصلاة ردها بيده اليمنى. أقول: و روي في الدعائم مثله.
116 - و في العلل، بإسناده عن هشام بن الحكم عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) في حديث قال: قلت له: لأي علة يقال في الركوع: سبحان ربي العظيم و بحمده؟ و يقال في السجود: سبحان ربي الأعلى و بحمده؟ فقال: يا هشام إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لما أسري به، و صلى و ذكر ما رأى من عظمة الله ارتعدت فرائصه و ابترك على ركبتيه، و أخذ يقول: سبحان ربي العظيم و بحمده، فلما اعتدل من ركوعه فإنما نظر إليه في موضع أعلى من ذلك خر على وجهه و هو يقول: سبحان ربي الأعلى و بحمده فلما قالها سبع مرات سكن ذلك الرعب فلذلك جرت به السنة.
126 - في تنبيه الخواطر، للشيخ ورام بن أبي فراس عن النعمان قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يسوي صفوفنا كأنما يسوي بها القداح حتى رأى أنا قد أغفلنا عنه ثم خرج يوما و قام حتى كاد أن يكبر فرأى رجلا بادئا صدره فقال: عباد الله لتسوون صفوفكم أو ليخالفن بين وجوهكم.
136 - و فيه، عن ابن مسعود قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يمسح مناكبنا في الصلاة و يقول: استووا و لا تختلفوا فتختلف قلوبكم، الخبر.
146 - و في الفقيه، بإسناده عن داود بن الحصين عن أبي العباس عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: اعتكف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في شهر رمضان في العشر الأول ثم اعتكف في الثانية في العشر الوسطى، ثم لم يزل يعتكف في العشر الأواخر.
156 - و فيه، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): كانت بدر في شهر رمضان و لم يعتكف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فلما أن كان من قابل اعتكف عشرين: عشرا لعامه، و عشرا قضاء لما فاته:. أقول: و رواه و الذي قبله الكليني في الكافي،.
166 - و في الكافي، بإسناده عن الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا دخل العشر الأواخر يعني من شهر رمضان اعتكف في المسجد، و ضربت له قبة من شعر، و شمر الميزر، و طوى فراشه و قال بعضهم: و اعتزل النساء؟ قال: أما اعتزال النساء فلا.
أقول: و هذا المعنى مروي في روايات كثيرة، و المراد من نفي الاعتزال - كما ذكروه و تدل عليه الروايات - تجويز مخالطتهن و معاشرتهن دون المجامعة.
176 - و من آدابه و سننه (صلى الله عليه وآله وسلم) في الصيام ما في الفقيه، بإسناده عن محمد بن مروان قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يصوم حتى يقال: لا يفطر، و يفطر حتى يقال: لا يصوم، ثم صام يوما و أفطر يوما، ثم صام الإثنين و الخميس، ثم آل من ذلك إلى صيام ثلاثة أيام في الشهر: الخميس في أول الشهر، و أربعاء في وسط الشهر، و الخميس في آخر الشهر، و كان (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: ذلك صوم الدهر. و قد كان أبي (عليه السلام) يقول: ما من أحد أبغض إلى الله من رجل يقال له: كان رسول الله يفعل كذا و كذا فيقول: لا يعذبني الله على أن أجتهد في الصلاة و الصوم كأنه يرى أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ترك شيئا من الفضل عجزا منه.
186 - و في الكافي، بإسناده عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام): كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أول ما بعث يصوم حتى يقال: ما يفطر و يفطر حتى يقال: ما يصوم، ثم ترك ذلك و صام يوما و أفطر يوما و هو صوم داود، ثم ترك ذلك و صام الثلاثة الأيام الغر، ثم ترك ذلك و فرقها في كل عشرة يوما: خميسين بينهما أربعاء فقبض (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو يعمل ذلك.
أقول: و في هذا المعنى روايات كثيرة مستفيضة.
196 - و فيه، بإسناده عن عنبسة العابد قال: قبض النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على صيام شعبان و رمضان و ثلاثة أيام من كل شهر.
107 - و في نوادر، أحمد بن محمد بن عيسى عن علي بن نعمان عن زرعة عن سماعة قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن صوم شعبان أ صامه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ قال: نعم و لم يصمه كله، قلت: كم أفطر منه؟ قال: أفطر، فأعدتها و أعادها ثلاث مرات لا يزيدني على أن أفطر، ثم سألته في العام القابل عن ذلك فأجابني بمثل ذلك الخبر.
117 - و في المكارم، عن أنس قال: كانت لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) شربة يفطر عليها و شربة للسحر، و ربما كانت واحدة و ربما كانت لبنا، و ربما كانت الشربة خبزا يماث، الخبر.
127 - و في الكافي، بإسناده عن ابن القداح عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أول ما يفطر عليه في زمن الرطب الرطب و في زمن التمر التمر.
137 - و فيه، بإسناده عن السكوني عن جعفر عن أبيه (عليه السلام) قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا صام و لم يجد الحلواء أفطر على الماء و في بعض الروايات: أنه ربما أفطر على الزبيب.
147 - و في المقنعة، روي عن آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أنهم قالوا: يستحب السحور و لو بشربة من الماء، و روي أن أفضله التمر و السويق لمكان استعمال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك.
أقول: و هذا في سننه الجارية، و كان من مختصاته صوم الوصال و هو الصوم أكثر من يوم من غير فصل بالإفطار، و قد نهى (صلى الله عليه وآله وسلم) الأمة عن ذلك، و قال: إنكم لا تطيقون ذلك و إن لي عند ربي ما يطعمني و يسقين.
157 - و في المكارم، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أنه كان يأكل الهريسة أكثر ما يأكل و يتسحر بها.
167 - و في الفقيه، قال: و كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا دخل شهر رمضان أطلق كل أسير و أعطى كل سائل.
177 - و في الدعائم، عن علي (عليه السلام) قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يطوي فراشه و يشد ميزره في العشر الأواخر من شهر رمضان، و كان يوقظ أهله ليلة ثلاث و عشرين، و كان يرش وجوه النيام بالماء في تلك الليلة، و كانت فاطمة (عليها السلام) لا تدع أحدا من أهلها ينام تلك الليلة و تداويهم بقلة الطعام و تتأهب لها من النهار، و تقول: محروم من حرم خيرها.
187 - و في المقنع،: و السنة أن يفطر الرجل في الأضحى بعد الصلاة و في الفطر قبل الصلاة.
197 - و من آدابه (صلى الله عليه وآله وسلم) في قراءة القرآن و الدعاء ما في مجالس الشيخ، بإسناده عن أبي الدنيا عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يحجزه عن قراءة القرآن إلا الجنابة.
108 - و في مجمع البيان، عن أم سلمة: كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقطع قراءته آية آية.
118 - و في تفسير أبي الفتوح،: كان (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يرقد حتى يقرأ المسبحات، و يقول: في هذه السور آية هي أفضل من ألف آية. قالوا: و ما المسبحات؟ قال: سورة الحديد و الحشر و الصف و الجمعة و التغابن.
أقول: و روي هذا المعنى في مجمع البيان، عن العرباص بن سارية.
128 - و في درر اللئالي، لابن أبي جمهور عن جابر قال: كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا ينام حتى يقرأ تبارك و الم التنزيل.
138 - و في مجمع البيان،: و روى علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يحب هذه السورة: سبح اسم ربك الأعلى، و أول من قال: «سبحان ربي الأعلى» ميكائيل.
أقول: و روي أول الحديث في البحار عن الدر المنثور، و هنا أخبار أخر في ما كان يقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) عند تلاوة القرآن أو عند تلاوة سور أو آيات مخصوصة، من أرادها فعليه بمظانها.
و له (صلى الله عليه وآله وسلم) خطب و بيانات يرغب فيها و يحث على التمسك بالقرآن و التدبر فيه، و الاهتداء بهدايته، و الاستنارة بنوره، و كان هو (صلى الله عليه وآله وسلم) أولى الناس بما يندب إليه من الكمال و أسبق الناس و أسرعهم إلى كل خير، و هو القائل - في الرواية المشهورة -: شيبتني سورة هود، و قد روي عن ابن مسعود قال: أمرني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن أتلو عليه شيئا من القرآن فقرأت عليه من سورة يونس حتى إذا بلغت قوله تعالى: «و ردوا إلى الله مولاهم الحق» الآية رأيته و إذا الدمع تدور في عينيه الكريمتين.
فهذه شذرات من آدابه و سننه (صلى الله عليه وآله وسلم) و قد استفاضت الروايات و تكرر النقل في كثير منها في كتب الفريقين، و الكلام الإلهي يؤيدها و لا يدفع شيئا منها، و الله الهادي.
كلام في الرق و الاستعباد
قوله تعالى: «إن تعذبهم فإنهم عبادك»: «المائدة: 181 كلام منبىء عن معنى الرق و العبودية، و الآيات المتضمنة لهذا المعنى و إن كانت كثيرة في القرآن الكريم غير أن هذه الآية مشتملة على التعليل العقلي الكاشف عن أنه لو كان هناك عبد كان من المسلم عند العقل أن لمولاه أن يتصرف فيه بالعذاب لأنه مولاه المالك له.
و العقل لا يحق الحكم بجواز التعذيب، و تسويغ التصرف الذي يشقه إلا بعد حكمه بإباحة سائر التصرفات غير الشاقة فللمولى أن يتصرف في عبده كيف شاء و بما شاء، و إنما استثنى العقل التصرفات التي يستهجنها بما أنها تصرفات شنيعة مستهجنة لا بما أن العبد عبد.
و لازم ذلك أيضا أن على العبد أن يطيع مولاه فيما كلفه به و أن يتبعه فيما أراد و ليس له أن يستقل بشيء من العمل إن لم يرض به مولاه كما يشير إلى ذلك بعض الإشارة قوله تعالى: «بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول و هم بأمره يعملون»: «الأنبياء: 27» و قوله تعالى: «ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء و من رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا و جهرا هل يستوون»: «النحل: 75».
و استقصاء البحث في جهات ما يراه القرآن الشريف في مسألة العبودية و الرق يتوقف على فصول:
1 - اعتبار العبودية لله سبحانه:
في القرآن الكريم آيات كثيرة جدا يعد الناس عبادا لله سبحانه، و تبني على ذلك أصل الدعوة الدينية: الناس عبيد و الله مولاهم الحق.
بل ربما تعدى ذلك و أخذ كل من في السماوات و الأرض موسوما بسمة العبودية كالحقيقة المسماة بالملك على كثرتها و الحقيقة الأخرى التي يسميها القرآن الشريف بالجن قال تعالى: «إن كل من في السماوات و الأرض إلا آتي الرحمن عبدا»: «مريم: 93».
و لا ريب أن اعتبار العبودية لله سبحانه أمر مأخوذ بالتحليل و هو تحليل معنى العبودية إلى أجزائها الأصلية ثم الحكم بثبوت حقيقته بعد طرح خصوصياته الزائدة الطارئة على أصل المعنى في أولي العقل من الخليقة فهناك أفراد من الناس يسمى الواحد منهم عبدا، و لا يسمى به إلا لأن نفسه مملوكة لغيره ملكا يسوغ لذلك الغير الذي هو مالكه و مولاه أن يتصرف فيه كيف يشاء و بما أراد، و يسلب عن العبد استقلال الإرادة مطلقا.
و التأمل في هذا المعنى يوجب الحكم بأن الإنسان - و إن شئت وسعت و قلت: كل ذي شعور و إرادة - عبد لله سبحانه بحقيقة معنى العبودية فإن الله سبحانه مالك كل ما يسمى شيئا بحقيقة معنى الملك فلا يملك شيء من نفسه و لا من غيره شيئا من ضر و لا نفع و لا موت و لا حياة و لا نشور، و لا يستقل أمر في الوجود بذات و لا وصف و لا فعل اللهم إلا ما ملكه الله ذلك تمليكا لا يبطل بذلك ملكه تعالى، و لا ينتقل به الملك عنه إلى غيره بل هو المالك لما ملكهم، و القادر على ما عليه أقدرهم، و هو على كل شيء قدير، و بكل شيء محيط.
و هذه السلطة الحقيقية و الملك الواقعي هي المنشأ لوجوب انقيادهم لما يريده منهم بإرادته التشريعية، و ما يصنع لهم من شرائع الدين و قوانين الشريعة مما يصلح به أمرهم و تحاز به سعادتهم في الدارين.
و الحاصل أنه تعالى هو المالك لهم ملكا تكوينيا يكونون به عبيده الداخرين لقضائه سواء عرفوه أم جهلوه أطاعوه في تكاليفه أم عصوه و هو المالك لهم ملكا تشريعيا يوجب له عليهم السمع و الطاعة، و يحكم عليهم بالتقوى و العبادة.
و يتميز هذا الملك و المولوية بحسب الحكم عن الملك و المولوية الدائر بين الناس - و كذا العبودية المقابلة له - بأن الله سبحانه لما كان مالكا تكوينا على الإطلاق لا مالك سواه لم يجز في مرحلة العبودية التشريعية اتخاذ مولى سواه و لا عبادة أحد غيره قال تعالى: «و قضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه»: الإسراء: 23» بخلاف الموالي من الناس فإن الملك هناك لمن غلب بسبب من أسباب الغلبة.
و أيضا لما لم يكن في عبيده تعالى المملوكين شيء غير مملوك له تعالى و لم ينقسموا في وجودهم إلى مملوك و غير مملوك بل كانوا من حيث ذواتهم و أوصافهم و أحوالهم و أعمالهم مملوكين له تكوينا تبع ذلك التشريع فحكم فيهم بدوام العبودية و استيعابها لجميع ما يرجع إليهم بوجه من الوجوه فلا يسعهم أن يعبدوا الله من جهة بعض ما يرجع إليهم دون بعض مثل أن يعبدوه باللسان دون اليد كما لا يسعهم أن يجعلوا بعض عبادتهم لله تعالى و بعضها لغيره و هذا بخلاف المولوية الدائرة بين الناس فلا يسع للمولى عقلا أن يفعل ما يشاء، تأمل فيه.
و هذا هو الذي يدل على إطلاق أمثال قوله تعالى: «ما لكم من دونه من ولي و لا شفيع»: «السجدة: 4» و قوله تعالى: «و هو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى و الآخرة و له الحكم»: «القصص: 70»، و قوله: «يسبح لله ما في السماوات و ما في الأرض له الملك و له الحمد و هو على كل شيء قدير»: «التغابن: 1».
و كيفما كان فالعبودية المعتبرة بالنسبة إليه تعالى معنى تحليلي مأخوذ من العبودية التي تعتبره العقلاء من الإنسان في مجتمعهم فلها أصل في المجتمع الإنساني فلننظر ما هو أصله؟.
2 - استعباد الإنسان و أسبابه:
كان الاستعباد و الاسترقاق دائرا في المجتمع الإنساني شائعة معروفة إلى ما يقرب من سبعين سنة قبل هذا التاريخ، و لعلها توجد معمولة في بعض القبائل المتطرفة النائية في إفريقيا و آسيا حتى اليوم، و كان اتخاذ العبيد و الإماء من السنن الدائرة بين الأقوام القديمة لا يكاد يضبط بدء تاريخي له و كان ذا نظام مخصوص و أحكام و قوانين عامة بين الأمم، و أخرى مخصوصة بأمة أمة.
و الأصل في معناه كون النفس الإنسانية عند وجود شرائط خاصة سلعة مملوكة كسائر السلع المملوكة من حيوان و نبات و جماد، و إذا كانت النفس مملوكة كانت مسلوبة الاختيار مملوكة الأعمال و الآثار يتصرف فيها كيف أريد.
هذه سنتهم الدائرة بينهم في الاسترقاق غير أنه لم يكن متكئا على إرادة جزافية أو مطلقا غير مبني على أي شرط فلم يكن يسع لأحدهم أن يتملك كل من أحب، و لا أن يملك كل من شاء و أراد ببيع أو هبة أو غير ذلك فلم يكن أصل المعنى متكئا على الجزاف، و إن كان ربما يوجد في تضاعيف القوانين المتبعة فيه بحسب اختلاف آراء الأقوام و سننهم أمور جزافية كثيرة.
كانت الاستعباد مبنيا على نوع من الغلبة و السيطرة كغلبة الحرب التي تنتج للغالب الفاتح أن يفعل بخصمه المغلوب ما يشاء من قتل أو سبي أو غيره، و غلبة الرئاسة التي تصير الرئيس الجبار فعالا لما يشاء في حوزة رئاسته، و اختصاص التوليد و الإنتاج الذي يضع ولاية أمر المولود الضعيف في كف والده القوي يصنع به ما بدا له حتى البيع و الهبة و التبديل و الإعارة و نحو ذلك.
و قد تكرر في أبحاثنا السابقة: أن أصل الملك في المجتمع الإنساني مبني على القدرة المغروزة في الإنسان على الانتفاع من كل شيء يمكنه أن ينتفع به بوجه - و الإنسان مستخدم بالطبع - فالإنسان يستخدم في سبيل إبقاء حياته كل ما قدر عليه و استخدامه و الانتفاع بمنافع وجوده آخذا من المادة الأصلية فالعناصر فالمركبات الجمادية المتنوعة فالحيوان حتى الإنسان الذي هو مثله في الإنسانية.
غير أن حاجته المبرمة إلى الاجتماع و التعاون اضطره إلى قبول الاشتراك مع سائر أفراد نوعه في الانتفاع بالمنافع المحصلة من الأشياء بأعمالهم المشتركة فهو و سائر الأفراد من نوعه يكونون لذلك مجتمعا يختص كل جزء من أجزائه و كل طرف من أطرافه بعمل أو أعمال ثم ينتفع المجموع بالمجموع، و إن شئت فقل: ثم تقسم نتائج الأعمال بينهم فيتمتع كل واحد منهم بذلك على مقدار زنته الاجتماعية، و لذلك نرى أن الفرد من الإنسان و هو اجتماعي كلما قوي و اشتد أبطل المدنية الطبعية و أخذ يستخدم الناس بالغلبة، و يتملك رقابهم، و يحكم في نفوسهم و أعراضهم و أموالهم بما يقترحه.
و لأجل ذلك إذا تأملت تأملا حرا في سنتهم في استعباد الإنسان وجدت أنهم لا يعتبرون تملك الإنسان ما دام داخلا في المجتمع و جزء من أجزائه بل إما أن يكون الإنسان المملوك محكوما بالخروج عن المجتمع كالعدو المحارب الذي لا هم له إلا أن يهلك الحرث و النسل و يمحي الإنسان باسمه و رسمه فهو خارج عن مجتمع عدوه، و له أن يهلكه بالإفناء و يتملك منه ما يشاء لأن الحرمة مرفوعة، و مثله الأب بالنسبة إلى صغار أولاده و التابعين لنفسه فإنه يرى أنهم من توابعه في المجتمع من غير أن يكافئوه أو يماثلوه أو يوازنوه فله أن يتصرف فيهم حتى بالقتل و البيع و غيرهما.
و إما أن يكون الإنسان المالك ذا خصيصة تدعوه إلى أن يعتقد أنه فوق المجتمع من غير أن يعادلهم في وزن أو يشاركهم في نفع بل له نفوذ الحكم، و التمتع بصفوة ما يختار، و التصرف في نفوسهم حتى بالملك و الاستعباد.
فقد تبين أن الأصل الأساسي الذي كان يبني عليه الإنسان سنة الاستعباد و الاسترقاق هو حق الاختصاص و التملك المطلق الذي يعتقده الإنسان لنفسه، و أن الإنسان لا يستثني عنه أحدا إلا مشاركيه في مجتمعه الإنساني ممن يعادله في الزنة الاجتماعية و يتحصن منه في حصن التعاون و التعاضد، و أما الباقون فلا مانع عنده من تملكهم و استعبادهم.
و عمدتهم في ذلك طوائف ثلاث: العدو المحارب، و الأولاد الضعفاء بالنسبة إلى آبائهم و كذا النساء بالنسبة إلى أوليائهن، و المغلوب المستبذل بالنسبة إلى الغالب المتعزز.
3 - سير الاستعباد في التاريخ:
سنة الاستعباد و إن كانت مجهولة من حيث تاريخ شيوعها في المجتمع الإنساني غير أن الأشبه أن يكون أرقاء مأخوذين في أول الأمر بالقتال و التغلب ثم يلحق به الأولاد و النساء، و لذلك نعثر في تاريخ الأمم القوية الحربية من القصص و الحكايات و كذا القوانين و الأحكام المربوطة بالاسترقاق بالسبي على ما لا يوجد في غيرهم.
و قد كان دائرا بين الأمم المتمدنة القديمة كالهند و اليونان و الرومان و إيران، و بين المليين كاليهود و النصارى على ما يستفاد من التوراة و الإنجيل حتى ظهر الإسلام فأنفذ أصله مع تضييق في دائرته و إصلاح لأحكامه المقررة، ثم آل الأمر إلى أن قرر مؤتمر بروسل إلغاء الاستعباد قبل سبعين سنة تقريبا.
قال «فردينان توتل» في معجمه لأعلام الشرق و الغرب: كان الرق شائعا عند الأقدمين، و كان الرقيق يؤخذ من أسرى و سبايا الحرب و من الشعوب المغلوبة، كان للرق نظام معروف عند اليهود و اليونان و الرومان و العرب في الجاهلية و الإسلام.
و قد ألغي نظام الرق تدريجا: في الهند سنة 8134 و في المستعمرات الإفرنسية سنة 8184 و في الولايات المتحدة بعد حرب الانفصال سنة 8156 و في البرازيل سنة 8188 إلى أن اتخذ مؤتمر بروسل قرارا بإلغاء الاستعباد سنة 8109 غير أنه لا يزال موجودا فعلا بين بعض القبائل في إفريقيا و آسيا.
و مبدأ إلغاء الرق هو تساوي البشر بالحقوق و الواجبات، انتهى.
4 - ما الذي رآه الإسلام في ذلك؟
قسم الإسلام الاستعباد بحسب أسبابه، و قد تقدم أن عمدتها كانت ثلاثة: الحرب، و التغلب و الولاية كالأبوة و نحوها فألغى سببين من الثلاثة من أصله و هما التغلب و الولاية.
فاعتبر احترام الناس شرعا سواء من ملك و رعية و حاكم و محكوم و أمير و جندي و مخدوم و خادم بإلغاء الامتيازات و الاختصاصات الحيوية، و التسوية بين الأفراد في حرمة نفوسهم و أعراضهم و أموالهم، و الاعتناء بشعورهم و إرادتهم - و هو الاختيار التام في حدود الحقوق المحترمة - و أعمالهم و ما اكتسبوه و هو تسلطهم على أموالهم و منافع وجودهم من الأفعال فليس لوالي الأمر في الإسلام إلا الولاية على الناس في إجراء الحدود و الأحكام و في أطراف المصالح العامة العائدة إلى المجتمع الديني، و أما ما تشتهيه نفسه و ما يستحبه لحياته الفردية فهو كأحد الناس لا يختص من بينهم بخصيصة، و لا ينفذ أمره في الكثير مما يهواه لنفسه و لا في القليل، و يرتفع بذلك الاسترقاق التغلبي بارتفاع موضوعه.
و عدل ولاية الآباء لأبنائهم فلهم حق الحضانة و الحفظ و عليهم حق التربية و التعليم و حفظ أموالهم ما داموا محجورين بالصغر فإذا بلغوا بالرشد فهم و آباؤهم سواء في الحقوق الاجتماعية الدينية، و هم أحرار في حياتهم، لهم الخيرة فيما رضوا لأنفسهم.
نعم أكدت التوصية لآبائهم عليهم بالإحسان و مراعاة حرمة التربية، قال تعالى: «و وصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن و فصاله في عامين أن اشكر لي و لوالديك إلي المصير، و إن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما و صاحبهما في الدنيا معروفا و اتبع سبيل من أناب إلي»: «لقمان: 15» و قال تعالى: «و قضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه و بالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف و لا تنهرهما و قل لهما قولا كريما، و اخفض لهما جناح الذل من الرحمة و قل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا»: «الإسراء: 24» و قد عد في الشرع الإسلامي عقوقهما من المعاصي الكبيرة الموبقة.
و أما النساء فقد وضع لهن من المكانة في المجتمع و اعتبر لهن من الزنة الاجتماعية ما لا يجوز عند العقل السليم التخطي عنه و لو بخطوة، فصرن بذلك أحد شقي المجتمع الإنساني و قد كن في الدنيا محرومات من ذلك، و أعطين زمام الازدواج و المال و قد كن محرومات أو غير مستقلات في ذلك.
و شاركن الرجال في أمور و اختصصن عنهم بأمور و اختص الرجال بأمور كل ذلك عن مراعاة تامة لقوام وجودهن و تركيب بناهن، ثم سهل عليهن في أمور شق فيها على الرجال كأمر النفقة و حضور معارك القتال و نحو ذلك.
و قد تقدم الكلام في ذلك كله تفصيلا في أواخر سورة البقرة في الجزء الثاني من الكتاب، و في أوائل سورة النساء في الجزء الرابع منه، و تبين هناك أن النساء مختصات في الإسلام من مزيد الإرفاق بالنسبة إلى الرجال بما لا يوجد نحوه في سائر السنن الاجتماعية قديمها و حديثها.
قال تعالى: «للرجال نصيب مما اكتسبوا و للنساء نصيب مما اكتسبن»: «النساء: 31» و قال تعالى: «فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف»: «البقرة: 243» و قال تعالى: «و لهن مثل الذي عليهن بالمعروف»: «البقرة: 282» و قال: «أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض»: «آل عمران: 159» ثم جمع الجميع في بيان واحد فقال: «لها ما كسبت و عليها ما اكتسبت»: «البقرة: 268» و قال و لا تكسب كل نفس إلا عليها و لا تزر وازرة وزر أخرى»: «الأنعام: 146» إلى غير ذلك من الآيات المطلقة التي تأخذ الفرد من الإنسان جزءا تاما كاملا من المجتمع، و يعطيه من الاستقلال الفردي ما ينفصل به عن أي فرد آخر في نتائج أعماله من خير أو شر أو نفع أو ضر من غير أن يستثني صغيرا أو كبيرا أو ذكرا أو أنثى.
ثم سوى بينهم جميعا في العزة و الكرامة ثم ألغى كل عزة و كرامة إلا الكرامة الدينية المكتسبة بالتقوى و العمل فقال: «لله العزة و لرسوله و للمؤمنين»: «المنافقون: 8» و قال: «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر و أنثى و جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم»: «الحجرات: 13».
و قد أبقى الإسلام السبب الثالث من الأسباب الثلاثة للاستعباد أعني الحرب، و هو أن يسبي الكافر المحارب لله و رسوله و المؤمنين، و أما اقتتال المؤمنين بعضهم مع بعض فلا سبي فيه و لا استعباد بل يقاتل الباغي من الطائفتين حتى ينقاد لأمر الله قال تعالى: «و إن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل و أقسطوا إن الله يحب المقسطين، إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم»: «الحجرات: 10».
و ذلك أن العدو المحارب الذي لا هم له إلا أن يفني الإنسانية و يهلك الحرث و النسل لا ترتاب الفطرة الإنسانية أدنى ريب في أنه يجب أن لا يعد جزء من المجتمع الإنساني الذي له التمتع بمزايا الحياة و التنعم بحقوق الاجتماع، و أنه يجب دفعه بالإفناء فما دونه، و على ذلك جرت سنة بني آدم منذ عمروا في الأرض إلى يومنا هذا و على ذلك ستجري.
و الإسلام لما وضع بنية المجتمع - المجتمع الديني - على أساس التوحيد و حكومة الدين الإسلامي ألغى جزئية كل مستنكف عن التوحيد و حكومة الدين من المجتمع الإنساني إلا مع ذمة أو عهد فكان الخارج عن الدين و حكومته و عهده خارجا عن المجتمع الإنساني لا يعامل معه إلا معاملة غير الإنسان الذي للإنسان أن يحرمه عن أي نعمة يتمتع بها الإنسان في حياته، و يدفعه بتطهير الأرض من رجس استكباره و إفساده فهو مسلوب الحرمة عن نفسه و عمله و نتائج أي مسعى من مساعيه، فللجيش الإسلامي أن يتخذ أسرى و يستعبد عند الغلبة.
5 - ما هو السبيل إلى الاستعباد في الإسلام؟
يتأهب المسلمون على من يلونهم من الكفار فيتمون عليهم الحجة و يدعونهم إلى كلمة الحق بالحكمة و الموعظة و المجادلة بالتي هي أحسن فإن أجابوا فإخوان في الدين لهم ما للمسلمين و عليهم ما عليهم و إن أبوا إلا الرد فإن كانوا أهل كتاب و قبلوا الجزية تركوا و هم على ذمتهم، و إن أخذوا عهدا كانوا أهل كتاب أم لا وفي بعهدهم، و إن لم يكن شيء من ذلك أوذنوا على سواء و قوتلوا.
يقتل منهم من شهر سيفا و دخل المعركة و لا يقتل منهم من ألقى السلم، و لا يقتل منهم المستضعفون من الرجال و النساء و الولدان، و لا يبيتون و لا يغتالون، و لا يقطع عنهم الماء، و لا يعذبون و لا يمثل بهم فيقاتلون حتى لا تكون فتنة و يكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين.
فإذا غلبوهم و وضعت الحرب أوزارها فما تسلط عليه المسلمون من نفوسهم و أموالهم فهو لهم و قد اشتمل تاريخ حروب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و مغازيه على صحائف غر متلمعة مملوءة من السيرة العادلة الجميلة فيها لطائف الفتوة و المروة، و طرائف البر و الإحسان.
6 - ما هي سيرة الإسلام في العبيد و الإماء؟
إذا استقرت العبودية على من استقرت عليه صار ملك يمين، منافع عمله لغيره و نفقته على مولاه.
و قد وصى الإسلام أن يعامل المولى مع عبده معاملة الواحد من أهله و هو منهم فيساويهم في لوازم الحياة و حوائجها، و قد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يؤاكل عبيده و خدمه و يجالسهم، و لا يؤثر نفسه عليهم في مأكل و لا ملبس و نحوهما.
و أن لا يشق عليهم و لا يعذبوا و لا يسبوا و لا يظلموا، و أجيز أن يتزوجوا فيما بينهم بإذن أهلهم، و أن يتزوج بهم الأحرار، و أن يشاركوهم في الشهادات، و يساهموهم في الأعمال حال الرق و بعد الانعتاق.
و قد بلغ من إرفاق الإسلام في حقهم أن شاركوا الأحرار في عامة الأمور، و قد قلد جمع منهم الولاية و الإمارة و قيادة الجيش على ما يضبطه تاريخ صدر الإسلام، و يوجد بين الصحابة الكبار عدة من الموالي كسلمان و بلال و غيرهما.
و هذا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أعتق جاريته صفية بنت حي بن أخطب و تزوج بها، و تزوج جويرية بنت الحارث بعد وقعة بني المصطلق و قد كانت بين سباياهم، و كانوا مائتي بيت بالنساء و الذراري، و صار ذلك سببا لانعتاق الجميع، و قد مر إجمال القصة في الجزء الرابع من الكتاب.
و من الضروري من سيرة الإسلام أنه يقدم العبد المتقي على المولى الحر الفاسق، و أنه يبيح للعبد أن يتملك المال و يتمتع بعامة مزايا الحياة بإذن من أهله هذا إجمال من صنيع الإسلام فيهم.
ثم أكد الوصية و ندب أجمل الندب إلى تحرير رقبتهم، و إخراجهم من ظرف الاستعباد إلى جو الحرية و لا يزال يقل بذلك عددهم و يتبدل جمعهم موالي و أحرارا لوجه الله، و لم يقنع بذلك دون أن جعل تحرير الرقبة أحد خصال الكفارات مثل كفارة القتل و كفارة الإفطار، و أجاز لهم الاشتراط و الكتابة و التدبير، كل ذلك عناية بهم و قصدا إلى تخليصهم و إلحاقا لهم بالمجتمع الإنساني الصالح إلحاقا تاما يقطع دابر الاستذلال.
7 - محصل البحث في الفصول السابقة:
تحصل مما مر أمور ثلاث: الأول: أن الإسلام لم يأل جهدا في إلغاء أسباب الاستعباد و تقليلها و تضعيفها حتى وقف على واحد منها لا محيص عن اعتباره بحكم الفطرة القاطع و هو جواز استعباد كل إنسان محارب للدين مضاد للمجتمع الإنساني غير خاضع للحق بوجه من وجوه الخضوع.
الثاني: أنه استعمل جميع الوسائل الممكنة في إكرامهم - العبيد و الإماء - و تقريب شئونهم الحيوية من حياة أجزاء المجتمع الحرة حتى صاروا كأحدهم و إن لم يصيروا أحدهم، و لم يبق عليهم إلا حجاب واحد رقيق، و هو أن الزائد من أعمالهم على واجب حياتهم حياة متوسطة لمواليهم لا لهم، و إن شئت فقل: لا فاصل في الحقيقة بين الحر و العبد في الإسلام إلا إذن المولى في العبد.
الثالث: أنه احتال بكل حيلة مؤثرة إلى إلحاق صنف المماليك إلى مجتمع الأحرار بالترغيب و التحريص في موارد، و بالفرض و الإيجاب في أخرى كالكفارات، و بالتسويغ و الإنفاذ في مثل الاشتراط و التدبير و الكتابة.
8 - سير الاستعباد في التاريخ
ذكروا أن الاستعباد ظهر أول ما ظهر بالسبي و الأسر، و كانت القبائل قبل ذلك إذا غلبت في حروبها و مقاتلها و أخذت سبايا قتلتهم عن آخرهم ثم رأوا أن يتركوهم أحياء و يتملكوهم كسائر الغنائم الحربية لا لينتفعوا بأعمالهم بل إحسانا في حقهم و حفظا للنوع و احتراما للقوانين الأخلاقية التي ظهرت فيهم بالترقي في صراط المدنية شيئا بعد شيء.
و إنما ظهرت هذه السنة بين القبائل بعد ما ارتحلت عنهم طريقة الارتزاق لاصطياد إذ لم تكن لهم فيها من السعة ما يسوغ لهم الإنفاق على العبيد و الإماء حتى انتقلوا إلى عيشة النزول و الارتحال و تمكنوا من ذلك.
و بشيوع الاستعباد بين القبائل و الأمم على أي وتيرة كانت تحولت حياة الإنسان الاجتماعية بظهور جهات من الانتظام و الانضباط في المجتمعات أولا و تقسيم الأعمال ثانيا.
و لم يكن الاستعباد إذ كان دائرا في الدنيا على وتيرة واحدة في أقطار المعمورة فلم يستن في بعض المناطق أصلا كأوستراليا و آسيا المركزية و سيبريا و أميركا الشمالية و إسكيمو و بعض المناطق بإفريقيا بشمال النيل و جنوب رامبيز.
و بالعكس كان رائجا في جزيرة العرب و إفريقيا الوحشية و أوروبا و أميركا الجنوبية و كان دائرا بين اليهود، و في التوراة دعاء العبيد إلى طاعة مواليهم، و كذا بين النصارى و في كتاب بولس إلى فيلمن أن أفسيموس كان عبدا شاردا رده بولس إلى سيده.
و كانت اليهود أرفق الناس بعبيدهم، و من الشواهد على ذلك أنا لم نعثر لهم من شواهق الأبنية على ما يشبه الأهرام المعمولة بمصر و الأبنية الآشورية التاريخية فإنها كانت من أعمال العبيد الشاقة، و كانت الروم و اليونان أكثر الأمم تشديدا على العبيد.
و قد ذاع في الروم الشرقي بعد قسطنطين فكر التحرير حتى لغا الرق فيها في القرن 13 الميلادي، و بقي في الروم الغربي على شكل آخر و هو أنهم كانوا يبيعون و يشترون المزارع بزراعها - و كانت الزراعة من مشاغل العبيد - لكن لغت بينهم الأعمال الإجبارية.
و كان الاستعباد دائرا في معظم ممالك أوروبا إلى سنة 7127 الميلادية و قد انعقدت قبل ذلك بحين معاهدة بين الدولتين إنجلترا و إسبانيا على أن يجبي الإنجليز إليهم كل سنة أربعة آلاف و ثمان مائة نسمة من رقيق إفريقيا إلى ثلاثين سنة ليبيعهم منهم قبال مبالغ خطيرة يأخذها منهم.
و قد ثارت الأفكار العامة سنة 7116 على الرق و الاستعباد بينهم، و أقدم الطوائف التي قامت عليه منهم طائفة «لرزان» المذهبية، و لم يزالوا على ذلك حتى وضعت مادة قانونية سنة 7127 أن كل من دخل أرض بريطانيا فهو حر.
و قد ظهر سنة 7188 بعد بحث دقيق أن إنجلترا يعامل كل سنة مائتي ألف نسمة رقيقا، و كان الذين يجلبون منهم من إفريقيا إلى أميركا وحدها مائة ألف.
و لم يزل حتى ألغي الاستعباد في بريطانيا سنة 8133 و أدت الدولة إلى كمبانيات النخس عشرين ميلونا ليرة أثمان من حررته من رقيقهم العبيد و الإماء، و انعتق في هذه الواقعة فيها 773008 نسمة.
و لغا الاستعباد في أميركا سنة 8126 بعد مجاهدات شديدة تحملتها أهالي أميركا و قد كان شمال هذه المملكة و جنوبها مختلفين في أخذ الرقيق: أما أميركا الشمالية فإنما كانت تأخذ العبيد و الإماء للتجمل فحسب، و أما الجنوبية فكان معظم الأشغال فيها شغل الزراعة و الحرث، و كانوا في حاجة شديدة إلى كثرة الأيدي العمالة فكانوا يأخذون الأرقاء استثمارا بأعمالهم، و لذلك كانوا يتحرجون من قبول التحرير العام.
و لم يزل الاستعباد يلغى في مملكة بعد مملكة حتى انعقد قرار بروسل سنة 8109 الميلادية على إلغاء سنة الاستعباد، و أمضاها الدول و أجريت في الممالك، و لغت العبودية في الدنيا، و انعتقت بذلك الملايين من النسمات، انتهى ما ذكروه ملخصا.
و أنت تجد بثاقب نظرك أن هذه المجاهدة الطويلة و المشاجرة ثم ما وضع من قوانين الإلغاء و أنفذ من الحكم كل ذلك إنما كان يدور حول الاسترقاق من طريق الولاية أو التغلب كما يشهد به أن جل الأرقاء أو كلهم كانوا يجلبون من نواحي إفريقيا المعمول فيها ذلك، و أما الاسترقاق من طريق السبي الحربي الذي أنفذ الإسلام فلم يكن موردا للبحث قط.
9 - نظرة في بنائهم:
هذه الحرية الفطرية التي نسميها بالحرية الموهوبة للإنسان و لسنا ندري ما هو السبب الذي يسلبها عن سائر أنواع الحيوان و هي تماثل الإنسان في الشعور النفساني و الإرادة الباعثة؟ غير أن نقول إن الإنسان هو الذي يسلبها ذلك لينتفع بها لا تتفرع على أصل إلا على أن الإنسان مجهز بشعور باطني يميز له ما يلتذ به و ما يتألم به ثم بإرادة تبعثه إلى جذب ما يلذه و دفع ما يؤلمه فكان له أن يختار لنفسه ما يشاء.
و لم يتقيد الشعور الإنساني بأن يتعلق بشيء و لا يتعلق بآخر كأن لا يشعر الإنسان الضعيف المستذل بما يشعر به الإنسان القوي المتعزز، و لا تحددت الإرادة الإنسانية بحد يمنعها عن التعلق ببعض ما يستحبه أو يجبرها على التعلق بما تعلقت به إرادة غيره لتنطلق لنفع غيره و تنسى نفسها، فالإنسان الضعيف المغلوب يريد لنفسه نظائر جميع ما يريده الإنسان الذي غلبه و قهره لنفسه، و لا رابطة طبيعية بين إرادة الضعيف و إرادة القوي تجبر إرادة الضعيف على أن لا تتعلق بما تعلقت به إرادة القوي، أو تفنى في إرادة القوي فتعود الإرادتان إرادة واحدة تجري لنفع القوي، أو تتبع الإرادة اتباعا يسلبها الاستقلال.
و إذ كان كذلك و كان من حق قوانين الحياة أن تبتني على أساس البنية الطبيعية كان من الواجب أن يعيش الإنسان حرا في نفسه و حرا في عمله، و من هذا الثدي يرتضع إلغاء الاستعباد.
لكن ينبغي لنا أن نتأمل هذه الحرية الموهوبة للإنسان هل هي في المجتمع الإنساني على إطلاقها منذ ولدت و عاشت في البنى الإنسانية؟.
فلم يزل النوع الإنساني - فيما نعلم - يعيش في حال الاجتماع و لا يسعه بحسب جهازه الوجودي إلا ذلك، و من المحال أن يدوم مجتمع في حال الاجتماع و لو حينا ما إلا مع سنة مشتركة بين أفراد المجتمع سواء كانت سنة عادلة تعقلية أو سنة جائرة أو مجازفة أو بأي وصف اتصفت، و هذه السنة كيفما كانت تحدد الحرية الفردية.
على أن الإنسان لا يتأتى له أن يعيش إلا مع تصرف ما في المادة يضمن له البقاء و لا يتأتى له ذلك إلا بأن يختص بما يتصرف فيه نوعا من الاختصاص الذي نسميه بالملك - أعم من الحق و الملك المصطلح عليه - فالذي يلبسه هذا حين يلبس لا يسع لذاك أن يلبسه و الذي يأكله فرد أو يشربه أو يشغله بالتمكن فيه لا يمكن لغيره أن يستقل به، و ليس ذلك إلا تحديدا لغير المتصرف في إطلاق إرادته، و تقييدا لحريته.
و لم يزل الاختلاف يلازم هذا النوع منذ سكن الأرض فلم يمض على هؤلاء الأفراد المنتشرة في رحب الأرض يوم إلا و تطلع فيه الشمس على اختلافات، و تغيب عن اختلافات تسير بهم إلى فناء نفوس و ضيعة أعراض و انتهاب أموال، و لو كان الإنسان يرى لنفسه - أي للإنسانية - حرية مطلقة لم يكن لهذه الاختلافات بينهم أثر.
و سنة المجازاة و المؤاخذة لم تزل دائرة معمولة بين المجتمعات المتنوعة مدنية كانت أو همجية، و لا معنى للمجازاة إلا أن يملك المجتمع من الإنسان المجرم بعض ما وهبه له الخلقة من النعم، و أن يسلب عنه بعض الحرية فلو لا أن المجتمع أو من بيده الأمر في المجتمع يملك من المجرم القاتل المحكوم بالقصاص حياته لما وسعه أن يسلبها عنه، و لو لا أن الإثم المأخوذ بإثمه المؤاخذ بأنواع التعذيب و النكاية كالقطع و الضرب و الحبس و غيره ذلك يملك الحكم و الإجراء منه ما يسلبه من شئون الحياة أو الراحة أو السلطة المالية لما صح ذلك، و كيف يصح منع الجائر المتعدي أن يجور و يتعدى و لا الذب عن حريم نفس أو عرض أو مال إلا مع سلب بعض حرية المتغلب الممنوع؟.
و بالجملة فمما لا يشك فيه ذو مسكة أن بقاء الحرية الإنسانية على إطلاقها في المجتمع الإنساني و لو لحظة يوجب اختلال النظام الاجتماعي من وقته فهذا الاجتماع الذي هو أيضا فطري للإنسان و لا يعيش بدونه هو يقيد إطلاق الحرية الفطرية التي وهبته للإنسان إرادته و شعوره الغريزيان فلا يتأتى لمجتمع إنساني أن يعيش إلا مع تقييد ما لإطلاق الحرية كما لا يتأتى له أن يعيش مع بطلان الحرية من أصلها، و لم يزل المجتمع الإنساني يحفظ بين الحدين هذه الحرية التي يخيل لنا من كثرة التبليغات الغربية أنهم هم الذين خلقوا اسمها بعد ما اخترعوا معناها، و حفظوها على إطلاقها.
فهذا الاجتماع الفطري هو الذي يقيد تلك الحرية الفطرية و يحددها على حد تقييد القوى الطبيعية البدنية و غير البدنية بعضها بعضا فيقف البعض عن الفعل اعتناء بشأن بعض آخر يزامله كقوة الإبصار التي هي مبدأ للإبصار على الإطلاق تفعل فعلها حتى تكل لامسة العين أو تتعب القوة المفكرة فتقف الباصرة عن فعلها تقيدا بفعل مزاملها، و الذائقة تلتذ بالتقام الغذاء اللذيذ و ازدراده و بلعه حتى تكل عضلات الفك فتقيد الذائقة فتكف عن مشتهاها.
فالاجتماع الفطري لا يتم للإنسان إلا بأن يجود ببعض حريته في العمل و استرساله في التمتع.
10 - ما مقدار التحديد:
و أما المقدار الذي تحدد به الحرية الموهوبة من قبل الاجتماع الفطري و يتقيد به إطلاقها الفطري فهو يختلف باختلاف المجتمعات الإنسانية بحسب كثرة القوانين الدائرة المعتبرة في المجتمع و قلتها فإن المقيد للحرية بعد أصل الاجتماع إنما هو القانون المجرى بين الناس فكلما زادت القوانين و دقت في رقوب أعمالهم زاد الحرمان من الحرية و الاسترسال و كلما نقصت نقص.
لكن الذي لا مناص عنه في أي اجتماع لأي مجتمع فرض، و الواجب الذي ليس في وسع الإنسان الاجتماعي أن يستهين به و يتساهل في أمره: هو حفظ وجود الاجتماع و كونه إذ لا حياة للإنسان دونه، و حفظ السنن الدائرة و القوانين الجارية فيه من النقص و الانتقاض، و لذلك لست تجد مجتمعا من المجتمعات البشرية إلا و فيه جهة دفاعية تذب عن النفوس و الذراري و تقيهم من الفناء و الهلاك، و ولي يلي أمرهم و يحفظ السنة الجارية و العادات الدائرة المحترمة بينهم من الانتقاض ببسط الأمن الاجتماعي، و سياسة المتعدي الجائر، و الموجود من التاريخ يصدق ذلك أيضا.
و إذا كان كذلك فأول حق مشروع للمجتمع في شريعة الفطرة أن يسلب الحرية عن عدو المجتمع في أصل اجتماعه، و إن شئت فقل: أن يملك من عدوه المبيد لحياته المفسد لحرثه و نسله نفسه و عمله و يذهب بحرية إرادته بما يشاء من قتل فما دونه، و أن يسلب عن عدو السنة و القانون حرية العمل و الاسترسال في النقض، و يملك منه ما يفقده بالمجازاة من نفس أو مال أو غيرهما.
و كيف يسع الإنسان - حتى الإنسان الفرد - أن يذعن بحرية عدو لا لحياة مجتمعه يحترم فيؤاخيه و يشاركه و يمتزج به، و لا عن إبادة مجتمعه و إفنائه يغمض فيتركهم و شأنهم؟ و هل الجمع بين العناية الفطرية بالاجتماع و بين ترك هذا العدو و حريته في العمل إلا جمعا بين المتناقضين صريحا و سفها أو جنونا؟.
فتبين مما مر أولا: أن البناء على إطلاق حرية الإنسان أمر مخالف لصريح الحق الفطري المشروع للإنسان الذي هو من أول الحقوق الفطرية المشروعة.
و ثانيا: أن حق الاستعباد الذي اعتبره الإسلام هو المطابق لشريعة الفطرة، و هو أن يستعبد أعداء الدين الحق المحاربين للمجتمع الإسلامي فيسلب عنهم حرية العمل، و يجلبوا إلى داخل المجتمع الديني و يكلفوا بأن يعيشوا في زي العبودية حتى يتربوا بالتربية الصالحة الدينية، و ينعتقوا تدريجا، و يلتحقوا بالمجتمع الحر سالمين غانمين، و لولي الأمر أن يشتريهم و يعتقهم عن آخرهم إن رأى صلاح المجتمع الديني في ذلك، أو يسلك في ذلك طريقا آخر لا ينتسخ بذلك الأحكام الإلهية.
11 - إلى م آل أمر الإلغاء؟:
أجرت الدول المعظمة قرار مؤتمر بروسل و منعوا بيع الرقيق أشد المنع و انعتقت الإماء و العبيد فلا يصطفون اليوم في دكاك النخاسين و لا يساقون سوق الأغنام، و تبع ذلك أن انتسخ اتخاذ الخصيان، و لا يكاد يوجد اليوم من هؤلاء و أولئك و لو نماذج قليلة إلا ما ربما يذكر من أمر الأقوام الهمجية.
لكن هذا المقدار أعني ارتفاع اسم الاستعباد و الاسترقاق من الألسنة و غيبة المسمين بهذا الاسم عن الأنظار هل يقنع الباحث الناقد في هذه المسألة؟ أ و ليس يسأل أن هذه المسألة هل هي مسألة لفظية يجزي فيها المنع من أن يذكر الاسم، و يكفي في إجرائها أن يسمى العبد حرا و إن سلب منافع عمله و تبع غيره في إرادته، أو أن المسألة معنوية يراعى فيها حال المعنى بحسب حقيقته و آثاره الخارجية؟.
فهاتيك الحرب العالمية الثانية لم يمض عليها إلا بضع عشرة سنة حملت الدول الفاتحة على عدوها المغلوب التسليم بلا شرط ثم احتلوا بلادهم، و أخذوا ملايين من أموالهم، و تحكموا على نفوسهم و ذراريهم، و نقلوا الملايين من أسراهم إلى داخل مملكتهم يستعملونهم فيما شاءوا و كيف شاءوا، و الأمر يجري على ذلك حتى اليوم.
فليت شعري هل للاستعباد مصداق ليس به و إن منع من إطلاق لفظه؟ و هل له معنى إلا سلب إطلاق الحرية، و تملك الإرادة و العمل، و إنفاذ القوي المتعزز حكمه في الضعيف المستذل كيف شاء و أراد عدلا أو ظلما؟.
فيا لله العجب يسمي حكم الإسلام بنظير الحكم على أصلح وجه يمكن استعبادا و لا يسمى حكمهم بذلك، و الإسلام يأخذ فيه بأسهل الوجوه و أخفها و هم يأخذون بأشقها و أعنفها، فقد رأينا محبتهم و صداقتهم حينما احتلوا بلادنا تحت عنوان المحبة و الحماية و الوقاية، فكيف حال من استعلوا عليه بالعداوة و النكاية؟.
و من هنا يظهر أن قرار الإلغاء لم يكن إلا لعبا سياسيا هو في الحقيقة أخذ في صورة الرد، أما الاستعباد عن حرب و قتال فقد أنفذه الإسلام و أنفذوه عملا و إن منعوا عن التلفظ باسمه لسانا، و أما الاستعباد من طريق بيع الآباء أبناءهم الذي منعوه فقد كان الإسلام منعه من قبل، و أما الاستعباد من طريق الغلبة و السلطة الحكمية فقد منعه الإسلام من قبل، و أما هؤلاء فقد أجمعوا على منعه لكن هل توقف المنع في مرحلة اللفظ كنظيره أو تعداها إلى مرحلة المعنى و وافقه العمل؟!.
يمكنك أن تستخرج الجواب لهذا السؤال بإمرار النظر في تاريخ الاستعمارات الأروبية في آسيا و إفريقيا و أميركا، و الفجائع التي ارتكبوها، و الدماء و الأعراض و الأموال التي أهرقوها و استباحوها و نهبوها، و التحكمات التي أتوا بها و ليس بالواحد و المائة و الألف.
ليس يلزمك أن تسلك هذا السبيل على بعدها - إن كان بعيدا - فقد يجزيك أن تتأمل أخبار ما يقاسيه أهل الجزائر من فرنسا منذ سنين من إبادة النفوس و تخريب البلاد و التشديد على أهله، و ما تلقاه الممالك العربية من الإنجليز، و ما يتحمله السودان و الحمر في أميركا، و الأوروبة الشرقية من الجمهوريات الاشتراكية، و ما نكابده نحن من أيدي هؤلاء و أولئك، كل ذلك في لفظه نصح و إشفاق، و في معناه استعباد و استرقاق!.
فظهر من جميع ما مر أنهم أخذوا في مرحلة العمل بما شرعه الإسلام من إباحة و سلب إطلاق الحرية عند وجود سببها الفطري الذي هو حرب من يريد هدم المجتمع و إهلاك الإنسانية، و هو حكم مشروع في شريعة الفطرة له أصل واقعي لا يتغير و هو حاجة الإنسانية في بقائها إلى دفع ما يطاردها وجودا و يناقضها بقاء ثم أصل اجتماعي عقلائي لا يتبدل متفرع على أصله الواقعي و هو وجوب حفظ المجتمع الإنساني عن الانعدام و الانهدام.
فهذا هو الذي راموه في عملهم و أخذوه معنى و أنكروه اسما غير أنهم تعدوا هذا القسم المشروع إلى غيره غير المشروع و هو الاستعباد بسبب الغلبة و السلطة فلا يزالون يستعبدون الألوف و الملايين قبل حديث الإلغاء و بعده، و يبيعون و يشترون و يهبون و يعيرون إلا أنهم لا يسمون ذلك استعبادا، و إنما يسمى استعمارا أو استملاكا أو قيمومة أو حماية أو عناية و إعانة أو غير ذلك من الألفاظ التي لا يراد بشيء منها إلا أن يكون سترة على معنى الاستعباد، و كلما خلق أو خرق شيء منها رمي به و جيء بآخر.
و لم يبق مما نسخه قرار بروسل و لا يزال يقرع به أسماع الدنيا و أهلها و يتباهى به الدول المتمدنة الذين هم رواد المدنية الراقية، و بأيديهم راية الحرية الإنسانية إلا الاستعباد من طريق بيع الأبناء و البنات و الإخصاء و لا فائدة هامة فيه تعود إليهم مع كونه أشبه بالمسألة الفردية منه بالمسألة الاجتماعية، و نسخه مع ذلك حجة لفظية تبليغية بأيديهم كسائر حججهم التي لا تعدو مقام اللفظ و تؤثر أثر المعنى.
نعم يبقى هناك محل بحث آخر و هو أن الإسلام يبدأ في غنائمه الحربية من رقيق أو مال غير الأرض المفتوحة عنوة بالأفراد من مجتمعه فيقسمها بينهم ثم ينتهي إلى الدولة على ما سير به في صدر الإسلام و هؤلاء يحفظون الاستفادة منها حقا موقوفا على الدولة، و هذه مسألة أخرى غير مسألة أصل الاسترقاق لعلنا نوفق لاستقصاء البحث عنها فيما سيأتي إن شاء الله من الكلام في آيات الزكاة و الخمس و الله المستعان.
و بعد ذلك كله نعود إلى كلمة صاحب معجم الأعلام المنقولة سابقا: «مبدأ إلغاء الرق هو تساوي البشر في الحقوق و الواجبات» فما معنى تساوي البشر في الحقوق إلخ، فإن أريد به تساويهم في استحقاق ما لهم من الحقوق الواجبة مراعاتها و إن كانت نفس تلك الحقوق مختلفة غير متساوية البتة كاختلاف الرئيس و المرءوس و الحاكم و المحكوم و الآمر و المأمور و المطيع للقانون و المتخلف عنه و العادل و الظالم من جهة اختلافهم في الزنة الاجتماعية.
فهو كذلك لكنه لا يستلزم التسوية بين من هو جزء شريف نافع في المجتمع و بين من ليس في صلاحيته أن ينضم إلى المجتمع و لا كرامة، و إنما هو كالسم المهلك الذي أينما حل أبطل الحياة فإن من الحكم الفطري الصريح أن يفرق بينهما بإعطاء الحرية الكاملة للأول، و سلبها عن الثاني فلا حق للعدو على عدوه فيما يعاديه، و لا واجب للذئب في ذمة الغنم و لا للأسد على فريسته.
و إن أريد به أن الإنسانية لما كانت مشتركة بين أفراد الإنسان و كان في قوة الفرد من الإنسان كائنا من كان أن يرقى في المدنية و ينال من السعادة ما يناله الآخر كان من حق الإنسانية على المجتمع الراقي أن يجود بالحرية على كل إنسان و يربيه حتى يلحق المجتمع الصالح.
فلذلك حق لكن ربما كان من شرائط التربية أن يسلب المربي حرية الإرادة و العمل حينا حتى تتم التربية، و يتبصر النفس المرباة في استعمال إرادتها، و تتنعم بنعمة حريتها كما يعالج المريض بما يسوؤه و يربى الصغير بما يتحرج منه، و هذا هو الذي يراه الإسلام من سلب حرية الإرادة و العمل عن الأمة الكافرة المحاربة، و اجتلابهم إلى داخل المجتمع الديني، و تربيتهم فيها، و تخليصهم تدريجا إلى ساحة الحرية فإن السلوك سلوك اجتماعي ينبغي أن ينظر إليه و إلى نتيجته و أثره بنظر عام كلي، و ليس بأمر فردي ينظر إليه بنظر فردي جزئي، ثم من العجب أن هؤلاء أيضا يجرون عملا بما جرت عليه السيرة الإسلامية و إن خالفوه في التسمية و حسن النية كما تقدم بيانه.
و إن أريد به أن من حق الحرية الإنسانية أن تطرد في الجميع و يخلى بين كل إنسان و إرادته المطلقة.
فمن الواضح الذي لا مرية فيه أن ذلك غير جائز التسليم و لا ميسور العمل على إطلاقه و خاصة في الخصم المحارب و هو المورد الوحيد الذي يعتني به الإسلام في سلب إطلاق الحرية.
ثم لو كان هذا حقا لم يكن فيه فرق بين الواحد و الاثنين و بين الجماعة فما بالهم يسلمون للواحد من الحرية القانونية حتى مثل «الانتحار» و للاثنين مثل «دئل» و لا يسلمون لطائفة مساكين من أبناء نوعهم أن ينعزلوا في ملجإ أو مغارات و يشتغلوا بأنفسهم و يأكلوا رزق ربهم و يسلكوا سبيل حياتهم؟.
بقي هنا شيء و هو أنه ربما قال القائل: ما بال الإسلام لم يشرع للرقيق تملك المال حتى يستعين به على حوائجه الضرورية من غير أن يكون كلا على مولاه؟ و ما باله لم يحدد الرق بالإسلام حتى ينعتق العبد بالإسلام و ينمحي عنه لوث المحرومية اللازمة له و لأعقابه إلى يوم القيامة.
لكن ينبغي أن يتنبه هذا القائل إلى أن الحكم باستقرار الرق و الحرمان من تملك المال إنما ظهوره و وقوعه بحسب نظر التشريع في أول زمان الاستيلاء عليه، و حكم الفطرة عليهم - و هم الأعداء المحاربون - بجواز سلب الحرية إنما هو لإبطال كيدهم و سلب قوتهم على المقاومة لهدم الاجتماع الديني الصالح، و لا قوة و لا قدرة إلا بالملك فإذا لم يملكوا عملا و لا نتاج عمل لم يقووا على المخاصمة و المحاربة.
نعم أجاز الإسلام لهم أن يتملكوا في الجملة بتمليك الموالي، و هذا ملك في طول ملك، و ليس فيه محذور الاستقلال بالتصرف.
و أما تحديد رقهم بالإيمان فهو أمر يبطل السياسة الدينية في حفظ بيضة الإسلام و إقامة المجتمع الديني على ساقه و بسط التربية الدينية على هؤلاء المحاربين المستعلى عليهم بالعدة و القوة، و لو لا ذلك لدخلوا في ظاهر الدين بمجرد أن استقرت عليهم سيطرة الدين، و ضربت عليهم بذلة العبودية فحفظوا بذلك عدتهم و قوتهم ثم عادوا لما نهوا عنه.
و ليرجع في ذلك إلى السنة الجارية بين الأمم و الأقوام من يومنا هذا إلى أقدم العهود التي يستطاع العثور فيها على تاريخ الإنسانية فالأمتان أو القبيلتان إذا تحاربتا و تقاتلتا ثم غلبت إحداهما الأخرى و استعلت عليها فإنها ترى من حقها المشروع لها في الحرب أن تضع في عدوها السيف حتى يسلم لها الأمر تسليما مطلقا من غير شرط.
و ليست ترضى من التسليم بمجرد أن تضع الأمة المقاتلة المغلوبة أسلحتها على الأرض فتتركهم و ما يريدون بل بالتسليم لأمر الأمة الغالبة، و الخضوع التام لما تحكم فيهم، و ترى لهم أو عليهم، و تتصرف في نفوسهم و أموالهم.
و من سفه الرأي أن تقيد هذه السيطرة بقيد يفسد أثر هذا التسليم المطلق، و يبطل حكمه، و يمهد الطريق للعدو في الرجوع إلى كيده و مكره، و يجدد له رجاء العود إلى ما بدأ، و كيف يسوغ للأمة الغالبة ذلك و قد فدت عن استقلال مجتمعها المقدس عندها بالنفوس و الأموال؟ و هل ذلك إلا ظلما لنفسها و استهانة بأعز ما عندها، و تبذيرا للدماء و الأموال و المساعي؟.
و ليس لمعترض أن يعترض على أمة غالبة غلبت بتضحية النفوس و الأموال فضربت على عدوها بالذلة و المسكنة، و حفظهم على حالة الرق: بأن رجالهم قاتلوا و قتلوا و أفسدوا فأخذوا بالأسر و جوزوا بسلب الحرية على ما يبيحه الحق المشروع للمحارب على محاربه فما ذنب الأصاغر من الذراري المتولدين بعد ذلك، و لم يحملوا سلاحا، و لا سلوا سيفا، و لا دخلوا معركة؟ و ذلك أنهم ضحايا آبائهم.
بعد ذلك كله لا ينبغي أن ينسى أن للحكومة الإسلامية أن يحتال في انعتاق الرقيق بشراء و عتق و نحو ذلك إذا أحرزت أن الأصلح بحال المجتمع الإسلامي ذلك و الله أعلم.
كلام في المجازاة و العفو في فصول
1 - ما معنى الجزاء؟:
لا يخلو أي مجتمع من المجتمعات من تكاليف اجتماعية على أجزائه أن يحترموها فلا هم للمجتمع إلا أن يوافق بين أعمال الأفراد و يقرب بعضها من بعض، و يربط جانبا منها بجانب حتى تأتلف و تجتمع و ترفع بآثارها و نتائجها حوائج الأفراد بمقدار ما يستحقه كل واحد بعمله و سعيه.
و هذه التكاليف لما كانت متعلقة بأمور اختيارية يسع الإنسان أخذها و تركها، و هي بعينها لا تتم إلا مع سلب ما لحرية الإنسان في إرادته و عمله لم يمتنع أن يتخلف عنها أو عن بعضها الإنسان المتمائل بطبعه إلى الاسترسال و إطلاق الحرية.
و التنبه إلى هذا النقص في التكاليف و الفتور في بني القوانين هو الذي بعث الإنسان الاجتماعي على أن يتمم نقصها و يحكم فتورها بأمر آخر، و هو أن يضم إلى مخالفتها و التخلف عنها أمورا يكرهها الإنسان المكلف فيدعوه ذلك إلى طاعة التكليف الذي يكلف به حذرا من أن يحل به ما يكرهه و يتضرر به.
و هذا هو جزاء السيئة، و هو حق للمجتمع أو لولي الأمر على المتخلف العاصي، و له نظير في جانب طاعة التكاليف فمن الممكن أن يوضع للمطيع الممتثل بإزاء عمله بالتكليف أمر يؤثره و يحبه ليكون ذلك داعيا يدعوه إلى إتيان الواجب أو المطلوب مطلقا من التكاليف، و هو حق للمكلف المطيع على المجتمع أو لولي الأمر، و هذا هو جزاء الحسنة، و ربما يسمى جزاء السيئة عقابا و جزاء الحسنة ثوابا.
و على هذه الوتيرة يجري حكم الشريعة الإلهية قال تعالى: «للذين أحسنوا الحسنى»: «يونس: 26» و قال تعالى: «و الذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها»: «يونس: 27» و قال: «و جزاء سيئة سيئة مثلها»: «الشورى: 40».
و للعقاب و الثواب عرض عريض آخذا من الاستكراه و الاستحسان و الذم و المدح إلى آخر ما يتعلق به القدرة من الشر و الخير و يرتبطان في ذلك بعوامل مختلفة من خصوصيات الفعل و الفاعل و ولي التكليف و مقدار الضرر و النفع العائدين إلى المجتمع، و لعله يجمع الجميع أن العمل كلما زاد الاهتمام بأمره زاد عقابا في صورة المعصية و ثوابا في صورة الطاعة.
و يعتبر بين العمل و بين جزائه - كيف كان - نوع من المماثلة و المسانخة و لو تقريبا، و على ذلك يجري كلامه تعالى أيضا كما هو ظاهر أمثال قوله تعالى: «ليجزي الذين أساءوا بما عملوا و يجزي الذين أحسنوا بالحسنى»: «النجم: 31» و أوضح منه قوله تعالى و قد حكاه عن صحف إبراهيم و موسى (عليهما السلام): «و أن ليس للإنسان إلا ما سعى، و أن سعيه سوف يرى، ثم يجزاه الجزاء الأوفى»: «النجم: 41».
و هذا فيما شرعه الله في أمر القصاص أظهر، قال تعالى: «كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر و العبد بالعبد و الأنثى بالأنثى»: «البقرة: 187» و قال: «الشهر الحرام بالشهر الحرام و الحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم و اتقوا الله»: «البقرة: 149».
و لازم هذه المماثلة و المسانخة أن يعود العقاب أو الثواب إلى نفس العامل بمثل ما عمل بمعنى أنه إذا عصى حكما اجتماعيا مثلا فإنما تمتع لنفسه بما يضر المجتمع أي بما يفسد تمتعا من تمتعات المجتمع فينقص من تمتعاته في نفسه ما يعادل ذلك من نفسه أو بدنه أو ماله أو جاهه أو نحو ذلك مما يعود بوجه إليه.
و هذا هو الذي أومأنا إليه في البحث عن معنى الاستعباد أن المجتمع أو من يلي أمره يملك من المجرم نفسه أو شأنا من شئون نفسه يعادل الجرم الذي اجترمه و نقيصة الضرر الذي أوقعه على المجتمع فيعاقب بذلك أي يتصرف المجتمع أو ولي الأمر استنادا إلى هذا الملك - و هو الحق - في حياة المجرم أو شأن من شئون حياته، و يسلب حريته في ذلك.
فلو قتل نفسا مثلا بغير نفس أو فساد في الأرض في المجتمع الإسلامي ملك ولي الأمر من المجرم نفسه حيث نقصهم نفسا محترمة، و حده الذي هو القتل تصرف في نفسه عن الملك الذي ملكه، و لو سرق ما يبلغ ربع دينار من حرز فقد أضر بالمجتمع بهتك ستر من أستار الأمن العام الذي أسدلته يد الشريعة و حفظته يد الأمانة، و حدها الذي هو القطع ليس حقيقته إلا أن ولي الأمر ملك من السارق بإزاء ما أتى به شأنا من شئون حياته و هو الشأن الذي تشتمل عليه اليد فيتصرف فيه بسلب ما له من الحرية و وسيلتها من هذه الجهة، و قس على ذلك أنواع الجزاء في الشرائع و السنن المختلفة.
فيتبين من هنا أن الإجرام و المعصية الاجتماعية يستجلب نوعا من الرق و العبودية، و لذلك كان العبد أظهر مصاديق المؤاخذة و العقاب قال تعالى: «إن تعذبهم فإنهم عبادك»: «المائدة: 181».
و لهذا المعنى مظاهر متفرقة في سائر الشرائع و السنن المختلفة قال الله تعالى في قصة يوسف (عليه السلام) إذ جعل السقاية في رحل أخيه ليأخذه إليه: «قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين - أي في إنكاركم سرقة صواع الملك - قالوا من وجد في رحله فهو جزاؤه كذلك نجزي الظالمين - أي نجزي السارق باسترقاقه - فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه كذلك كدنا ليوسف - إلى أن قال - قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين - و هذا هو التبديل و نوع من الفدية - قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون»: «يوسف: 79».
و ربما كان يؤخذ القاتل أسيرا مملوكا، و ربما كان يفدي بواحدة من نسائه و حرمه كبنته و أخته إلى غير ذلك، و سنة الفدية بالتزويج كانت مرسومة إلى هذه الأيام بين القبائل و العشائر في نواحينا لأن الازدواج يعد عندهم نوعا من الاسترقاق و الإسارة للنساء.
و من هنا ما ربما يعد المطيع عبدا للمطاع لأنه بإطاعته يتبع إرادته إرادة المطاع فهو مملوكه المحروم من حرية الإرادة قال تعالى: «أ لم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين، و أن اعبدوني»: «يس: 61» و قال: «أ فرأيت من اتخذ إلهه هواه»: «الجاثية: 23».
و بالعكس من تملك المجتمع أو ولي الأمر المجرم المعاقب يملك المطيع المثاب من المجتمع أو ولي الأمر ما يوازن طاعته من الثواب فإن المجتمع أو الولي نقص من المكلف المطيع بواسطة التكليف شيئا من حريته الموهوبة فعليه أن يتممه كما نقص.
و هذا الذي ذكرناه هو السر في ما اشتهر: أن الوفاء بالوعد واجب دون الوعيد و ذلك أن مضمون الوعد في ظرف المولوية و العبودية هو الثواب على الطاعة كما أن مضمون الوعيد هو العقاب على المعصية و الثواب لما كان من حق المطيع على ولي الأمر و في ذمته وجب عليه تأديته و تفريغ ذمته منه بخلاف العقاب فإنه من حق ولي الأمر على المكلف المجرم، و ليس من الواجب أن يتصرف الإنسان في ملكه و يستفيد من حقه إن كان له ذلك، و للكلام تتمة.
3 - العفو و المغفرة؟:
استنتجنا من البحث السابق جواز ترك المجازاة على المعصية بخلاف الطاعة، و هو حكم فطري في الجملة مبني على أن العقاب حق للمعصي على العاصي، و ليس من الواجب إعمال الحق دائما.
غير أنه كما لا يجب إعمال حق العقاب دائما كذلك لا يجوز تركه دائما و إلا لغا القضاء الفطري بثبوت الحق، و لا معنى لثبوت شيء لا أثر له و لا في وقت من الأوقات على أن إلغاء حق العقاب من رأسه هدم للقوانين الموضوعة الحافظة لبنية الاجتماع و في هدمها هدم الاجتماع بلا ريب.
فالحكم - و هو جواز العفو عن الذنب - ثابت في الجملة، و القضية مهملة فإن كان هناك سبب مسوغ بحسب الحكمة للعفو جاز العفو و إلا وجبت المجازاة احتراما للقوانين الحافظة لبنية المجتمع و سعادة الإنسان، و إليه الإشارة بقوله تعالى حكاية عن عيسى (عليه السلام): «و إن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم»: «المائدة: 181».
و يوجد في القرآن الكريم من أسباب المغفرة مما تمضيه الحكمة الإلهية سببان كليان: أحدهما: توبة العبد إلى الله سبحانه أعم من رجوعه من الكفر إلى الإيمان أو رجوعه من المعصية إلى الطاعة على ما تقدم بيانه في الكلام على التوبة في الجزء الرابع من الكتاب، قال تعالى: «قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم، و أنيبوا إلى ربكم و أسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون - و هذه التوبة من الكفر الذي فيه وعيد العذاب الذي لا ينفع فيه ناصر شفيع - و اتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة و أنتم لا تشعرون»: «الزمر: 55» و هذه هي التوبة من المعصية إلى الطاعة، و لم ينف فيه نفع الشفاعة.
و قال تعالى: «إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم و كان الله عليما حكيما، و ليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن و لا الذين يموتون و هم كفار أولئك اعتدنا لهم عذابا أليما»: «النساء: 18».
و ثانيهما: الشفاعة يوم القيامة قال تعالى: «و لا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق و هم يعلمون»: «الزخرف: 86» إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة المتعرضة لأمر الشفاعة، و قد أشبعنا البحث فيها في الكلام على الشفاعة في الجزء الأول من الكتاب.
و يوجد في القرآن الكريم موارد متفرقة يذكر فيها العفو من غير ذكر سببه و إن كان التدبر فيها يهدي إلى إجمال ما روعي فيها من المصلحة و هي مصلحة الدين كقوله تعالى: «و لقد عفا عنكم و الله ذو فضل على المؤمنين»: «آل عمران: 125»، و قوله تعالى: «أ أشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا و تاب الله عليكم فأقيموا الصلاة و آتوا الزكاة و أطيعوا الله و رسوله»: «المجادلة: 13» و قوله تعالى: «لقد تاب الله على النبي و المهاجرين و الأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم»: «التوبة: 171» و قوله تعالى: «و حسبوا أن لا تكون فتنة فعموا و صموا ثم تاب الله عليهم ثم عموا و صموا كثير منهم»: «المائدة: 71»، و قوله تعالى: «الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم و إنهم ليقولون منكرا من القول و زورا و إن الله لعفو غفور»: «المجادلة: 3»، و قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد و أنتم حرم - إلى أن قال - عفا الله عما سلف و من عاد فينتقم الله منه و الله عزيز ذو انتقام»: «المائدة: 95».
فهذه موارد متنوعة من العفو الإلهي و قد بينا خصوصية كل منها في الكلام على الآية المشتملة عليه من الكتاب فليراجع.
و ليس من قبيل ما تقدم قوله تعالى: «عفا الله عنك لم أذنت لهم»: «التوبة: 43» فإنه دعاء نظير قولنا: غفر الله لك لم فعلت كذا و كذا، و نظيره على الخلاف قوله تعالى «إنه فكر و قدر، فقتل كيف قدر»: «المدثر: 19» و ليس من ذاك القبيل أيضا قوله تعالى: «إنا فتحنا لك فتحا مبينا، ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك و ما تأخر»: «الفتح: 2»، و يدل على ذلك جعل المغفرة غاية متفرعة على فتحه تعالى مكة لنبيه و لا رابطة بين مغفرة الذنب بمعنى الإثم و بين الفتح، و سيجيء تمام الكلام في محله إن شاء الله.
4 - للعفو مراتب:
لما كان العفو و المغفرة يتعلق بالذنب الذي يستتبع نوعا من المجازاة و العقاب، و للجزاء كما عرفت - عرض عريض و مراتب مختلفة متشتتة أتبعه العفو في اختلاف المراتب حسب اختلافه، و ليس الاختلاف الواقع في نفس الذنب أعني التبعة السيئة التي يستتبعها العمل فالاختلاف فيها مما لا سبيل إلى إنكاره، و الجزاء سواء كان عقابا أو ثوابا إنما يوزن بزنتها.
فمما لا محيص عنه في بحثنا هذا هو البحث عن الذنب و اختلاف مراتبه، و التأمل فيما يهدي إليه العقل الفطري فإن البحث و إن كان قرآنيا يراد به الحصول على ما يراه الكتاب الإلهي في هذه الحقائق غير أنه تعالى على ما بين في كلامه يكلمنا على قدر عقولنا و بالموازين الفطرية التي نزن بها الأشياء في مرحلتي النظر و العمل، و قد مرت الإشارة إليه في موارد من الأبحاث الموضوعة في هذا الكتاب، و قد استمد تعالى في موارد من بياناته بالعقل و الفكر الإنساني، و أيد به مقاصد كلامه فقال تعالى: أ فلا تعقلون.
أ فلا تتفكرون، و ما في معناهما.
و الذي يفيده الاعتبار الصحيح هو أن أول ما يتعلق به و يحترمه المجتمع الإنساني هو الأحكام العملية و السنن المحترمة التي تحفظ بالعمل بها و المداومة عليها مقاصده الإنسانية و تهديه إلى سعادته في الحياة، ثم تضع أحكاما جزائية يجازى على طبقها المتخلف العاصي عن القوانين الاجتماعية و يثاب المطيع الممتثل.
و في هذه المرحلة لا يسمى باسم الذنب إلا التخلف عن متون القوانين العملية، و تحاذي الذنوب لا محالة في عددها عدد مواد الأحكام الاجتماعية، و هذا هو المغروز المركوز في أذهاننا معاشر المسلمين أيضا من معنى لفظ الذنب و الألفاظ التي تقارنه في المعنى كالسيئة و المعصية و الإثم و الخطيئة و الحوب و الفسق و نحوها.
لكن الأمر لا يقف على هذا الحد فإن الأحكام العملية إذا عمل بها و روقبت و تحفظ عليها ساق المجتمع إلى أخلاق و أوصاف مناسبة لها ملائمة لمقاصد المجتمع التي هي غاية اجتماعهم، و هذه الأخلاق هي التي يسميها المجتمع بالفضائل الإنسانية و يحرص و يحرض عليها، و تقابلها الرذائل.
و هي و إن كانت مختلفة باختلاف السنن و المقاصد في المجتمعات إلا أن أصل إنتاج الأحكام الاجتماعية لها مما لا سبيل إلى سده و إعفائها عنه.
و هذه الأخلاق الفاضلة و إن كانت أوصافا روحية لا ضامن لإجرائها في مقام العمل في المجتمعات، و كانت غير اختيارية بلا واسطة لكونها ملكات لكنها لكونها في تحققها تتبع تكرر العمل بالأحكام المقررة في المجتمع أو تكرر التخلف عن العمل كانت نفس العمل بالأحكام ضامنة لإجرائها و تعد اختيارية باختيارية مقدمتها و هي تكرر العمل، و تتصور في مواردها أوامر عقلية متعلقه بالأخلاق الفاضلة كالشجاعة و العفة و العدالة، و نواه عقلية تردع عن الأخلاق الرذيلة كالجبن و التهور و الخمود و الشره و الظلم، و كذا يتصور لها عقاب و ثواب يسميان بالعقاب و الثواب العقليين كالمدح و الذم.
و بالجملة تتحقق بذلك مرتبة من مراتب الذنب فوق المرتبة السابق ذكرها، و هي مرتبة التخلف عن الأحكام الخلقية و الأوامر العقلية المتعلقة بها.
و لم تعد هذه الأوامر العقلية أوامر إلا من جهة التلازم بين الأعمال الواجبة التي تسوق إليها و بينها، فهناك حاكم يحكم بالوجوب و يأمر به و هو العقل الإنساني و نظيره القول في تسمية النواهي، العقلية نواهي و هذا دأبنا في جميع موارد التلازم فإذا فرضنا العمل بأحد المتلازمين لا نلبث دون أن نأمر بإتيان الآخر و وجوبه، و نرى التخلف عن ذلك عصيانا لهذا الأمر العقلي، و ذنبا يستحق به نوع من المؤاخذة.
و يظهر من هنا أمر آخر و هو أن هذه الفضائل لما كانت مشتملة على واجبات لا محيص عن التلبس بها - و مثله اشتمال الرذائل على المحرمات - و على أمور مندوبة مستحبة هي كالزينة و الهيأة الجميلة فيها - و هي الآداب الحسنة التي تتعلق بها أوامر عقلية استحسانية إلا أنها إذا فرضت ظرفا لأحد منا كان ما يلازمها من الآداب و هي مندوبة في نفسها - مأمورا به عقلا أمرا إيجابيا قضاء لحق الظرفية المفروضة، مثال ذلك أن البدوي العائش عيشة العشائر البدوية لما كان ظرف حياته بعيدا من المستوي المتوسط في الحياة الحضرية لا يؤاخذ إلا بالضروريات من أحكام المجتمع و السنن العامة التي يناله عقله و فهمه، و ربما أتى بالوقيح من الأعمال أو الركيك من الأقوال فيغمض عنه الحضري معتذرا بقصور الفهم و بعد الدار من السواد الأعظم الذي تكرر مشاهدة الرسوم و الآداب فيه أحسن معلم للناس القاطنين فيه.
ثم المتوسط من الناس الحضريين لا يؤاخذ بما يؤاخذ به الآحاد النوادر من المجتمع الذين هم أهل الفهم اللطيف و الأدب الظريف و لا عذر فيما يقع من المتوسط من الناس من ترك دقائق الأدب و ظرائف القول و الفعل إلا أن فهمه على قدر ما يأتي به، لا يشعر من لوازم الأدب بأزيد مما يأتي به و ظرفه هو ظرفه.
و ما يأتي به مما لا ينبغي هو مما يؤاخذ به الأوحديون من الرجال فربما يؤاخذون بلحن خفي في كلام أو بتبطؤ يسير في حركة أو بتفويت آن غير محسوس في سكون أو التفات أو غمض عين و نحو ذلك فيعد ذلك كله ذنبا منهم، و ليس من الذنب بمعنى مخالفة المواد القانونية دينية كانت أو دنيوية، و قد اشتهر بينهم: أن حسنات الأبرار سيئات المقربين.
و كلما دق المسلك و لطف المقام ظهرت هنالك خفايا من الذنوب كانت قبل تحقق هذا الظرف مغفولا عنها لا يحس بها الإنسان المكلف بالتكاليف، و لا يؤاخذ بها ولي المؤاخذة و المحاسبة.
و ينتهي ذلك - فيما يعطيه البحث الدقيق - إلى الأحكام الناشئة في ظرفي الحب و البغض فترى عين المبغض - و خاصة في حال الغضب - عامة الأعمال الحسنة سيئة مذمومة، و يرى المحب إذا تاه في الغرام و استغرق في الوله أدنى غفلة قلبية عن محبوبه ذنبا عظيما و إن اهتم بعمل الجوارح بتمام أركانه، و ليس إلا أنه يرى أن قيمة أعماله في سبيل الحب على قدر توجه نفسه و انجذاب قلبه إلى محبوبه فإذا انقطع عنه بغفلة قلبية فقد أعرض عن المحبوب و انقطع عن ذكره و أبطل طهارة قلبه بذلك.
حتى أن الاشتغال بضروريات الحياة من أكل و شرب و نحوهما يعد عنده من الإجرام و العصيان نظرا إلى أن أصل الفعل و إن كان من الضروري الذي يضطر إليه الإنسان لكن كل واحد واحد من هذه الأفعال الاضطرارية من حيث أصله اختياري في نفسه، و الاشتغال به اشتغال بغير المحبوب و إعراض عنه اختيارا و هو من الذنب، و لذلك نرى أهل الوله و الغرام و كذا المحزون الكئيب و من في عداد هؤلاء يستنكفون عن الاشتغال بأكل أو شرب أو نحوهما.
و على نحو من هذا القبيل ينبغي أن يحمل ما ربما يروى عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) من قوله: «إنه ليغان على قلبي فأستغفر الله كل يوم سبعين مرة»، و عليه يمكن أن يحمل بوجه قوله تعالى: «و استغفر لذنبك و سبح بحمد ربك بالعشي و الإبكار»: «المؤمن: 55» و قوله: «فسبح بحمد ربك و استغفره إنه كان توابا»: «النصر: 3».
و عليه يحمل ما حكى تعالى عن عدة من أنبيائه الكرام كقول نوح: «رب اغفر لي و لوالدي و لمن دخل بيتي مؤمنا»: «نوح: 28» و قول إبراهيم: «ربنا اغفر لي و لوالدي و للمؤمنين يوم يقوم الحساب»: «إبراهيم: 41» و قول موسى لنفسه و أخيه: «رب اغفر لي و لأخي و أدخلنا في رحمتك»: «الأعراف: 115» و ما حكى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «سمعنا و أطعنا غفرانك ربنا و إليك المصير»: «البقرة: 258».
فإن الأنبياء (عليهم السلام) مع عصمتهم لا يتأتى أن تصدر عنهم المعصية، و يقترفوا الذنب بمعنى مخالفة مادة من المواد الدينية التي هم المرسلون للدعوة إليها، و القائمون قولا و فعلا بالتبليغ لها، و المفترض طاعتهم من عند الله، و لا معنى لافتراض طاعة من لا يؤمن وقوع المعصية منه، تعالى الله عن ذلك.
و هكذا يحمل على هذا الباب ما حكي عن بعضهم (عليهم السلام) من الاعتراف بالظلم و نحوه كقول ذي النون: «لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين»: «الأنبياء: 87» إذ كما يجوز عدهم بعض الأعمال المباحة الصادرة عنهم ذنبا لأنفسهم و طلب المغفرة من الله سبحانه، كذلك يجوز عده ظلما من أنفسهم لأن كل ذنب ظلم.
و قد مر أن هنالك محملا آخر و هو أن يكون المراد بالظلم هو الظلم على النفس كما في قول آدم و زوجته: «ربنا ظلمنا أنفسنا و إن لم تغفر لنا و ترحمنا لنكونن من الخاسرين»: «الأعراف: 23».
و إياك أن تتوهم أن معنى قولنا في آية: إن لها محملا كذا و محملا كذا هو تسليم أن ذلك من خلاف ظاهر الكلام ثم الاجتهاد في اختلاف معنى يحمل عليه الكلام، و تطبق عليه الآيات القرآنية تحفظا على الآراء المذهبية، و اضطرارا من قبل التعصب.
و قد تقدم البحث الحر في عصمة الأنبياء (عليهم السلام) بالتدبر في الآيات أنفسها من غير اعتماد على المقدمات الغريبة الأجنبية في الجزء الثاني من الكتاب.
و قد بينا هناك و في غيره أن ظاهر الكلام لا يقتصر في تشخيصه على الفهم العامي المتعلق بنفس الجملة المبحوث عنها بل للقرائن المقامية و الكلامية المتصلة و المنفصلة - كالآية المتعرضة لمعنى آية أخرى - تأثير قاطع في الظواهر، و خاصة في الكلام الإلهي الذي بعضه ببعض، و يشهد بعضه على بعض، و يصدق بعضه بعضا.
و الغفلة عن هذه النكتة هي التي أشاعت بين عدة من المفسرين و أهل الكلام إبداع التأويل بمعنى صرف الكلام إلى ما يخالف ظاهره، و ارتكابه في الآيات المخالفة لمذهبهم الخاص على زعمهم فتراهم يقطعون القرآن قطعا ثم يحملون كل قطعة منها على ما يفهمه العامي السوقي من كلام سوقي مثله فإذا سمعوه تعالى يقول: «فظن أن لن نقدر عليه» حملوه على أنه (عليه السلام) - و حاشاه - زعم أو أيقن أن الله سبحانه يعجز عن أخذه مع أن ما في الآية التالية: «و كذلك ننجي المؤمنين» يعده من المؤمنين، و لا إيمان لمن شك في قدرة الله فضلا عن أن يرجح أو يقطع بعجزه.
و إذا سمعوه تعالى يقول: ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك و ما تأخر» تفهموا منه أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أذنب فغفر الله له كما يذنب الواحد منا بمخالفة أمر أو نهي مولوي من الله تنعقد بهما مسألة فرعية فقهية.
و لم يهدهم التدبر حتى بمقدار أن يرجعوا إلى سابقة الآية: «إنا فتحنا لك فتحا مبينا» حتى ينجلي لهم أن هذا الذنب و المغفرة المتعلقة به لو كانا كالذنوب التي لنا و المغفرة التي تتعلق بها لم يكن وجه لتعليق المغفرة على فتح مكة تعليق الغاية على ذي الغاية، و كذا لم يكن وجه لعطف ما عطف عليه أعني قوله: «و يتم نعمته عليك و يهديك صراطا مستقيما، و ينصرك الله نصرا عزيزا»: «الفتح: 3».
و كذا إذا سمعوا سائر الآيات التي تشتمل على عثرات الأنبياء بزعمهم كالتي وردت في قصص آدم و نوح و إبراهيم و لوط و يعقوب و يوسف و داود و سليمان و أيوب و محمد صلى الله عليه و آله و عليهم بادروا إلى الطعن في ساحة نزاهتهم، و لم ينقبضوا عن إساءة الأدب إليهم و هم أنفسهم أولى بما رموا و لا شين كسوء الأدب.
فساقهم سوء الحظ و رداءة النظر إلى أن أبدلوا ربهم رب العالمين برب تنعته التوراة و الأناجيل المحرفة قوة غيبية متجسدة تدير رحى الوجود كما يدير جبار من جبابرة الإنسان مملكته لا هم له إلا إشباع طاغية شهوته و غضبه فجهلوا مقام ربهم ثم سهوا عن مقام النبوة و عفوا مدارجهم العالية الشريفة الروحية و مقاماتهم السامية الحقيقية فعادت بذلك هاتيك النفوس الطاهرة المقدسة تماثل النفوس الرديئة الخسيسة التي ليس لها من شرف الإنسانية إلا التسمي باسمها تهلك من هذا نفسه، و تخون من ذاك عرضه، و تطمع من ذلك في ماله مع أنهم على ما لهم من الجهل لا يرضون بهذه الفضائح فيمن يتقلد أمرا من أمور دنياهم أو يتصدى يوما للقيام بمصلحة بيتهم و أهلهم فكيف يرضون بنسبة هذه الفضائح إلى الله سبحانه و هو العليم الحكيم الذي أرسل رسله إلى عباده لئلا يكون لهم حجة بعدهم؟ و ليت شعري أي حجة تقوم على كافر أو فاسق إذا جاز للرسول أن يكفر أو يفجر أو يدعو إلى الشرك و الوثنية ثم يتبرأ منه و ينسبه إلى الشيطان؟.
و إذا ذكروا ببعض ما لأنبياء الله (عليهم السلام) من العصمة الإلهية و المقامات الموهوبة و المواقف الروحية عدوا ذلك شركا بالله، و غلوا في حق عباد الله، و أخذوا في تلاوة قوله: «قل إنما أنا بشر مثلكم».
و قد أصابوا في ردهم بوجه فإن ما يتصورونه من الرب عز اسمه و ينعتونه بها من النعوت في ذاته و فعله دون ما يذكرون به من مقامات الأنبياء (عليهم السلام) و أخفض منها منزلة و قدرا، و هذا كله من المصائب التي لقيتها الإسلام و أهله مما دسته أهل الكتاب و خاصة اليهود في الروايات و عملته أيديهم، و حركوا بها الرحى على غير محوره، و اعتقدوا في الله سبحانه الذي ليس كمثله شيء أنه مثل الإنسان المتجبر الذي يرى لنفسه أنه حر غير مسئول فيما يفعل و هم المسئولون، و أن ترتب المسببات على أسبابها و استيلاد المقدمات نتائجها، و اقتضاء الخصائص الوجودية صورية أو معنوية لآثارها كل ذلك جزافي لا لرابطة حقيقية.
و أن الله تعالى ختم بمحمد النبوة و أنزل عليه القرآن، و خص موسى بالتكليم، و عيسى بالتأييد بالروح لا لخصوصية في نفوسهم الشريفة بل لأنه أراد أن يخصهم بكذا و بكذا، و أن ضرب موسى بعصاه الحجر فانفجرت كضرب أحدنا بعصاه الحجر غير أن الله يفجر ذاك و لا يفجر هذا، و أن قول عيسى للموتى: قوموا بإذن الله مثل أن ينادي أحدنا بين المقابر: قوموا بإذن الله إلا أن الله يحيي أولئك و لا يحيي هؤلاء و هكذا.
و ليس ذلك كله إلا قياسا لنظام التكوين إلى نظام التشريع الذي لا قوام له إلا الوضع و الاصطلاح و التعاهد الذي لا يتجاوز ظرف الاجتماع سعة، و لا يعدو دنيا الإنسان المجتمع.
و لو أنهم تفطنوا قليلا و تدبروا في أطراف الآيات المتعرضة لأمر الذنب و المعصية بالمعنى المصطلح عليه، و هي مخالفة الأمر و النهي المولويين تنبهوا إلى أن من المغفرة ما هو فوق المغفرة المعروفة.
فإن الله سبحانه يكرر في كلامه أن له عبادا يسميهم بالمخلصين مصونين عن المعصية لا مطمع فيهم للشيطان فلا ذنب - بالمعنى المعروف - لهم و لا حاجة إلى المغفرة المتعلقة بذلك الذنب، و قد نص في حق عدة من أنبيائه كإبراهيم و إسحاق و يعقوب و يوسف و موسى أنهم مخلصون كقوله في إبراهيم و إسحاق و يعقوب: «إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار»: «ص: 46»، و قوله في يوسف: «إنه من عبادنا المخلصين»: «يوسف: 24»، و قوله في موسى: «إنه كان مخلصا»: «مريم: 51» و قد حكى عنهم سؤال المغفرة كقول إبراهيم (عليه السلام): «ربنا اغفر لي و لوالدي»: «إبراهيم: 41» و قول موسى (عليه السلام): «رب اغفر لي و لأخي و أدخلنا في رحمتك»: «الأعراف: 115» و لو كانت المغفرة لا يتعلق إلا بالذنب بالمعنى المعروف لم يستقم ذلك.
نعم ربما قال القائل: إنهم (عليهم السلام) يعدون أنفسهم مذنبين تواضعا لله سبحانه و لا ذنب لهم لكن ينبغي لهذا القائل أن يتنبه إلى أنهم (عليهم السلام) لم يخطئوا في نظرهم هذا، و لم يجازفوا في قولهم فلشمول المغفرة لهم معنى صحيح و المسألة جدية.
على أن في دعاء إبراهيم (عليه السلام): «ربنا اغفر لي و لوالدي و للمؤمنين يوم يقوم الحساب» دعاء لكافة المؤمنين - و فيهم المخلصون - بالمغفرة، و كذا في دعاء نوح (عليه السلام): «رب اغفر لي و لوالدي و لمن دخل بيتي مؤمنا و للمؤمنين و المؤمنات»: «نوح: 28» شمول بإطلاقه للمخلصين، و لا معنى لطلب المغفرة على من لا ذنب له يحتاج إلى المغفرة.
فهذا كله ينبهنا إلى أن من الذنب المتعلق به المغفرة ما هو غير الذنب بالمعنى المتعارف و كذا من المغفرة ما هي غير المغفرة بمعناها المتعارف، و قد حكى الله تعالى عن إبراهيم قوله: «و الذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين»: «الشعراء: 82» و لعل هذا هو السبب فيما نشاهد أنه تعالى في موارد من كلامه إذا ذكر الرحمة أو الرحمة الأخروية التي هي الجنة قدم عليه ذكر المغفرة كقوله: «و قل رب اغفر و ارحم»: «المؤمنون: 181» و قوله: «و اغفر لنا و ارحمنا»: «البقرة: 268» و قوله حكاية عن آدم و زوجته: «و إن لم تغفر لنا و ترحمنا»: «الأعراف: 23» و قوله عن نوح (عليه السلام): «و إلا تغفر لي و ترحمني»: «هود: 47».
فتحصل من البيان السابق: أن للذنب مراتب مختلفة مترتبة طولا كما أن للمغفرة مراتب بحذائها، تتعلق كل مرتبة من المغفرة بما يحاذيها من الذنب، و ليس من اللازم أن يكون كل ذنب و خطيئة متعلقا بأمر أو نهي مولوي فيعرفه و يتبينه الأفهام العامية الساذجة، و لا أن يكون كل مغفرة متعلقة بهذا النوع من الذنب.
فالذي تبين لنا من مراتب الذنب و المغفرة بحسب البحث السابق العام مراتب أربع: أولاها: الذنب المتعلق بالأمر و النهي المولويين و هو المخالفة لحكم شرعي فرعي أو أصلي و إن عممت التعبير قلت: مخالفة مادة من المواد القانونية دينية كانت أو غير دينية، و تتعلق به مغفرة تحاذيه مرتبة.
و الثانية: الذنب المتعلق بالحكم العقلي الخلقي و المغفرة المتعلقة به.
و الثالثة: الذنب المتعلق بالحكم الأدبي ممن ظرف حياته ظرف الأدب و المغفرة المتعلقة به، و هذان القسمان ربما لم يعدا بحسب الفهم العامي من الذنوب و المغفرات، و ربما حسبوهما منها مجازا، و ليس من المجاز في شيء لما عرفت من ترتب الآثار الحقيقية عليهما.
و الرابعة: الذنب الذي يحكم به ذوق الحب و المغفرة المتعلقة به، و في ظرف البغض أيضا ما يشبههما، و هذا النوع لا يعده الفهم العامي من الأقسام، و قد أخطئوا في ذلك لا لجور منهم في الحكم و القضاء بل لقصور فهمهم عن تعقله و تبين معناه.
و ربما قال القائل منهم: أنه من أوهام العشاق و المبرسمين أو تخيل شعري لا يتكىء على حقيقة عقلية، و قد غفل عن أن هذه التصورات على أنها أوهام و تخيلات في طريق الحياة الاجتماعية هي بعينها تعود حقائق - و أي حقائق - في طريق العبودية عن حب إلهي يذيب القلب و يوله اللب، و لا يدع للإنسان شعورا يشعر بغير ربه، و لا إرادة يريد بها إلا ما يريده.
و حينئذ يلوح له أن التفاتة يسيرة منه إلى نفسه أو إلى مشتهاها من شيء ذنب عظيم و حجاب غليظ لا ترفعه إلا المغفرة الإلهية، و قد عد الله سبحانه الذنب حجابا للقلب عن التوجه التام إلى ربه إذ قال: «كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون»: «المطففين: 15».
فهذا ما يعطيه البحث الجدي الذي لا يلعب فيه بالحقائق، و ربما أمكن أن يلوح لأولياء الله السالكين في عبوديتهم سبيل حبه تعالى دقائق من الذنب و لطائف من المغفرة لا تكاد تناله أيدي الأبحاث الكلية العامة.
5 - هل المؤاخذة أو المغفرة تستلزم ذنبا؟:
الباحث في ديدن العقلاء من أهل الاجتماع يعثر على أنهم يبنون المؤاخذة و العقاب على التكليف الاختياري، و من شرائط صحته عندهم العقل، و هناك شرائط أخر تختلف في أصلها و في تحديد ماهياتها و حدودها المجتمعات، و لسنا هاهنا بصدد البحث عنها.
و إنما كلامنا في العقل الذي هو قوة التمييز بين الحسن و القبح و النافع و الضار و الخير و الشر بحسب المتوسط من حال الناس في مجتمعهم، فإن الناس من حيث النظر الاجتماعي يرون أن في الإنسان مبدأ فعالا هذا شأنه و إن كان البحث العلمي ربما أدى إلى أنه ليست قوة من القوى الطبيعية المودعة في الإنسان كالمتخيلة و الحافظة، و إنما هي ملكة حاصلة من توافق عدة من القوى في الفعل كالعدالة.
فالمجتمعات على اختلافها ترى أن التكليف منوط بهذا المسمى عقلا فيتفرع الثواب و العقاب المتفرعين على التكليف عليه لا محالة فيثاب العاقل بطاعته و يعاقب بجرمه.
و أما غير العاقل كالصبي و المجنون و السفيه و كل مستضعف غيرهم فلا ثواب و لا عقاب على ما يأتون به من طاعة أو معصية بحقيقة معنى الثواب و العقاب، و إن كانوا ربما يثابون قبال طاعتهم ثوابا تشويقيا أو يؤاخذون و يساسون قبال جرمهم بما يسمى عقابا تأديبا، و هذا شائع دائر في المجتمعات حتى المجتمع الإسلامي.
و هؤلاء بالنظر إلى السعادة و الشقاوة المكتسبتين بامتثال التكاليف و مخالفتها في الحياة الدنيا، لا سعداء و لا أشقياء إذ لا تكليف لهم فلا ثواب حتى يسعدوا به و لا عقاب حتى يشقوا به، و إن كانوا ربما يشوقون بخير أو يؤدبون بشر.
و أما بالنسبة إلى الحياة الآخرة التي يثبتها الدين الإلهي ثم يقسم الناس إلى قسمين لا ثالث لهما: السعيد و الشقي أو المثاب و المعاقب فالذي يذكره القرآن الشريف في ذلك أمر إجمالي لا يتبين تفصيله إذ لا طريق عقلا إلى تشخيص تفاصيل أحوالهم بعد الدنيا، قال تعالى: «و آخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم و إما يتوب عليهم و الله عليم حكيم»: «التوبة: 160»، و قال تعالى: «إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا أ لم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم و ساءت مصيرا، إلا المستضعفين من الرجال و النساء و الولدان لا يستطيعون حيلة و لا يهتدون سبيلا، فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم و كان الله عفوا غفورا»: «النساء: 99».
و الآيات - كما ترى - تشتمل على العفو عنهم و التوبة عليهم و لا مغفرة في مورد لا ذنب هناك، و على عذابهم و لا عذاب على من لا تكليف له، غير أنك عرفت أن الذنب و كذا المغفرة و العقاب و الثواب ذوات مراتب مختلفة: منها ما يتعلق بمخالفة التكليف المولوي أو العقلي، و منها ما يتعلق بالهيئات النفسانية الرديئة و أدران القلب التي تحجب الإنسان عن ربه، و هؤلاء و إن كانوا في معزل من تعلق التكليف المتوقف على العقل لكنهم ليسوا بمصونين من ألواث النفوس و أستار القلوب التي يحتاج التنعم بنعيم القرب، و الحضور في ساحة القدس إلى إزالتها و عفوها و الستر عليها و مغفرتها.
و لعل هذا هو المراد مما ورد في بعض الروايات: «أن الله سبحانه يحشرهم ثم يخلق نارا و يأمرهم بدخولها فمن دخلها دخل الجنة و من أبى أن يدخلها دخل النار» و سيجيء ما يتعلق بالروايات من الكلام في تفسير سورة التوبة إن شاء الله، و قد مر بعض الكلام في سورة النساء.
و من استعمال العفو و المغفرة في غير مورد الذنب في كلامه تعالى ما تكرر وقوعه في مورد رفع الحكم بقوله تعالى: «فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم»: «المائدة: 3»، و نظيره ما في سورة الأنعام، و قوله تعالى في رفع الوضوء عن فاقد الماء: «و إن كنتم مرضى أو على سفر - إلى أن قال - فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم و أيديكم إن الله كان عفوا غفورا»: «النساء: 43»، و قوله في حد المفسدين في الأرض: «إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم»: «المائدة: 34»، و قوله في رفع حكم الجهاد عن المعذورين: «ما على المحسنين من سبيل و الله غفور رحيم»: «التوبة: 91»، إلى غير ذلك.
و قال تعالى في البلايا و المصائب التي تصيب الناس: «و ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم و يعفوا عن كثير»: «الشورى: 30».
و ينكشف بذلك أن صفة العفو و المغفرة منه تعالى كصفتي الرحمة و الهداية تتعلق بالأمور التكوينية و التشريعية جميعا فهو تعالى يعفو عن الذنوب و المعاصي فيمحوها من صحيفة الأعمال، و يعفو عن الحكم الذي له مقتض يقتضي وضعه فيمحوه فلا يشرعه، و يعفو عن البلايا و المصائب و أسبابها قائمة فيمحوها فلا تصيب الإنسان.
6 - رابطة العمل و الجزاء:
قد عرفنا فيما تقدم من البحث أن الأوامر و النواهي العقلائية - القوانين الدائرة بينهم - تستعقب آثارا جميلة حسنة على امتثالها و هي الثواب، و آثارا سيئة على مخالفتها و التمرد منها تسمى عقابا، و أن ذلك كالحيلة يحتالون بها إلى العمل بها، فجعلهم الجزاء الحسن للامتثال إنما هو ليكون مشوقا للعامل، و الجزاء السيىء على المخالفة ليكون العامل على خوف و حذر من التمرد.
و من هنا يظهر أن الرابطة بين العمل و الجزاء رابطة جعلية وضعية من المجتمع أو من ولي الأمر، دعاهم إلى هذا الجعل حاجتهم الشديدة إلى العمل ليستفيدوا منه و يرفعوا به الحاجة و يسدوا به الخلة، و لذلك تراهم إذا استغنوا و ارتفعت حاجتهم إلى العمل ساهلوا في الوفاء على ما تعهدوا به من ثواب و عقاب.
و لذلك أيضا ترى الجزاء يختلف كثرة و قلة و الأجر يتفاوت شدة و ضعفا باختلاف الحاجة إلى العمل فكلما زادت الحاجة زاد الأجر و كلما نقصت نقص فالأمر و المأمور و المكلف و المكلف بمنزلة البائع و المشتري كل منهما يعطي شيئا و يأخذ شيئا.
و الأجر و الثواب بمنزلة الثمن، و العقاب بمنزلة الدرك على من أتلف شيئا فضمن قيمته و استقرت في ذمته.
و بالجملة فهو أمر وضعي اعتباري نظير سائر العناوين و الأحكام و الموازين الاجتماعية التي يدور عليها رحى الاجتماع الإنساني كالرئاسة و المرئوسية و الأمر و النهي و الطاعة و المعصية و الوجوب و الحرمة و الملك و المال و البيع و الشراء و غير ذلك، و إنما الحقائق هي الموجودات الخارجية و الحوادث المكتنفة بها التي لا تختلف حالها بغنى و فقر و عز و ذل و مدح و ذم كالأرض و ما يخرج منها و الموت و الحياة و الصحة و المرض و الجوع و الشبع و الظمأ و الري.
فهذا ما عند العقلاء من أهل الاجتماع، و الله سبحانه جارانا في كلامه مجاراة بعضنا بعضا فقلب سعادتنا التي يهدينا إليها بدينه في قالب السنن الاجتماعية فأمر و نهى و رغب و حذر، و بشر و أنذر، و وعد بالثواب و أوعد بالعقاب فصرنا نتلقى الدين على أسهل الوجوه التي نتلقى بها السنن و القوانين الاجتماعية، قال تعالى: «و لو لا فضل الله عليكم و رحمته ما زكى منكم من أحد أبدا»: «النور: 21».
و لم يهمل سبحانه أمر تعليم النفوس المستعدة لإدراك الحقائق فأشار في آيات من كلامه إلى أن وراء هذه المعارف الدينية التي تشتمل عليها ظواهر الكتاب و السنة أمرا هو أعظم، و سرا هو أنفس و أبهى فقال تعالى: «و ما هذه الحياة الدنيا إلا لهو و لعب و إن الدار الآخرة لهي الحيوان»: «العنكبوت: 64».
فعد الحياة الدنيا لعبا لا بنية له إلا الخيال، و لا شأن له إلا أن يشغل الإنسان عما يهمه، و هي الدار الآخرة و سعادة الإنسان الدائمة التي لها حقيقة الحياة، و المراد بالحياة الدنيا إن كان هو عين ما نسميه حياة دون ما يلحق بها من الشئون الحيوية من مال و جاه و ملك و عزة و كرامة و نحوها فكونها لعبا و لهوا مع ما نراها من الحقائق يستلزم كون الشئون الحيوية لعبا و لهوا بطريق أولى، و إن كان المراد الحياة الدنيوية بجميع لواحقها فالأمر أوضح.
فهذه السنن الاجتماعية و المقاصد التي يطلب بها من عز و جاه و مال و غيرها، ثم الذي يشتمل عليه التعليم الديني من مواد و مقاصد هدانا الله سبحانه إليها بالفطرة ثم بالرسالة مثلها كمثل اللعب الذي يضعه الولي المربي العاقل للطفل الصغير الذي لا يميز صلاحه من فساده و خيره من شره ثم يجاريه فيه ليروض بدنه و يروح ذهنه و يهيئه لنظام العمل و ابتغاء الفوز به، فالذي يقع من العمل اللعبي هو من الصبي لعب جميل يهديه إلى حد العمل، و من الولي حكمة و عمل جدي ليس من اللعب في شيء.
و قال تعالى: «و ما خلقنا السماوات و الأرض و ما بينهما لاعبين، و ما خلقناهما إلا بالحق و لكن أكثرهم لا يعلمون»: «الدخان: 39» و الآية قريبة المضمون من الآية السابقة.
ثم شرح تعالى كيفية تأدية هذه التربية الصورية إلى مقاصدها المعنوية في مثل عام ضربه للناس فقال: «أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا و مما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق و الباطل فأما الزبد فيذهب جفاء و أما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض»: «الرعد: 17».
فظهر من بيانه تعالى أن بين العمل و الجزاء رابطة حقيقية وراء الرابطة الوضعية الاعتبارية التي بينهما عند أهل الاجتماع و يجري عليها ظاهر تعليمه تعالى.
7 - و العمل يؤدي الرابطة إلى النفس:
ثم بين تعالى أن العمل يؤدي هذه الرابطة إلى النفس من جهة الهيأة النفسانية التي تحصل لها من العمل و الحالة التي تؤديها إليها فقال تعالى: «و لكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم»: «البقرة: 252»، و قال: «و إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله»: «البقرة: 248» و في هذا المعنى آيات أخر كثيرة.
و يتبين بها أن جميع الآثار المترتبة على الأعمال من ثواب أو عقاب إنما تترتب بالحقيقة على ما تكسبه النفوس من طريق الأعمال، و أن ليس للأعمال إلا الوساطة.
ثم بين تعالى أن الذي سيواجههم من الجزاء على الأعمال إنما هو نفس الأعمال بحسب الحقيقة لا كما يضع الإنسان في مجتمعه عملا ثم يردفه بجزاء بل العمل محفوظ عند الله سبحانه بانحفاظ النفس العاملة ثم يظهره الله عليها يوم تبلى السرائر قال الله تعالى: «يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا و ما عملت من سوء تود لو أن بينها و بينه أمدا بعيدا»: «آل عمران: 30» و قال تعالى: «لا تعتذروا اليوم إنما تجزون ما كنتم تعملون»: «التحريم: 7» و دلالة الآيات ظاهرة، و تلحق بها في ذلك آيات أخر كثيرة.
و من أحسنها دلالة قوله تعالى: «لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد»: «ق: 22» فإن هذا إشارة إلى مقام الجزاء الحاضر، و قد عده غافلا عنه في الدنيا بقرينة قوله: «اليوم» و لا معنى للغفلة إلا عن أمر موجود، ثم ذكر كشف غطائه عنه، و لا وجه للغطاء إلا أن يكون هناك مغطى عليه، فقد كان ما يلقاه و يبصره من الجزاء يوم القيامة حاضرا موجودا في الدنيا غير أنه لم يكشف عنه.
و هذه الآيات تفسر الآيات الأخر الظاهرة في المجازاة و بينونة العمل و الجزاء لكون آيات المجازاة ناظرة إلى مرحلة الرابطة الاجتماعية الوضعية، و هذه الآيات ناظرة إلى مرحلة الرابطة الحقيقية كما بيناه، و قد تعرضنا لهذا البحث بعض التعرض في تفسير قوله تعالى: «ختم الله على قلوبهم»: «البقرة: 7» في الجزء الأول من الكتاب فليراجعه من شاء.
و الله الهادي.
تم و الحمد لله.
|