بيان
السورة تشتمل من الغرض على مجموع ما تشتمل عليه السور المصدرة بالحروف المقطعة «الم» و السورة المصدرة بحرف «ص» فليكن على ذكر منك حتى نستوفي ما استيفاؤه من البحث في أول سورة حم عسق إن شاء الله تعالى عن الحروف المقطعة القرآنية.
و السورة كأنها تجعل العهد الإلهي المأخوذ من الإنسان على أن يعبد الله و لا يشرك به شيئا أصلا يبحث عما آل إليه أمره بحسب مسير الإنسانية في الأمم و الأجيال فأكثرهم نقضوه و نسوه ثم إذا جاءتهم آيات مذكرة لهم أو أنبياء يدعونهم إليه كذبوا و ظلموا بها و لم يتذكر بها إلا الأقلون.
و ذلك أن العهد الإلهي الذي هو إجمال ما تتضمنه الدعوة الدينية الإلهية إذا نزل بالإنسان - و طبائع الناس مختلفة في استعداد القبول و الرد - تحول لا محالة بحسب أماكن نزوله و الأوضاع و الأحوال و الشرائط الحافة بنفوس الناس فأنتج في بعض النفوس - و هي النفوس الطاهرة الباقية على أصل الفطرة - الاهتداء إلى الإيمان بالله و آياته، و في آخرين و هم الأكثرون ذوو النفوس المخلدة إلى الأرض المستغرقة في شهوات الدنيا خلاف ذلك من الكفر و العتو.
و استتبع ذلك ألطافا إلهية خاصة بالمؤمنين من توفيق و نصر و فتح في الدنيا، و نجاة من النار و فوز بالجنة و أنواع نعيمها الخالد في الآخرة، و غضبا و لعنا نازلا على الكافرين و عذابا واقعا يهلك جمعهم، و يقطع نسلهم، و يخمد نارهم، و يجعلهم أحاديث و يمزقهم كل ممزق، و لعذاب الآخرة أخزى و هم لا ينصرون.
فهذه هي سنة الله التي قد خلت في عباده و على ذلك ستجري، و الله يحكم لا معقب لحكمه و هو على صراط مستقيم.
فتفاصيل هذه السنة إذا وصفت لقوم ليدعوهم ذلك إلى الإيمان بالله و آياته كان ذلك إنذارا لهم، و إذا وصفت لقوم مؤمنين و لهم علم بربهم في الجملة و معرفة بمقامه الربوبي كان ذلك تذكيرا لهم بآيات الله و تعليما بما يلزمه من المعارف و هي معرفة الله و معرفة أسمائه الحسنى و صفاته العليا و سنته الجارية في الآخرة و الأولى و هذا هو الذي يلوح من قوله تعالى في الآية الثانية من السورة: «لتنذر به و ذكرى للمؤمنين» أن غرضها هو الإنذار و الذكرى.
و السورة على أنها مكية - إلا آيات اختلف فيها - وجه الكلام فيها بحسب الطبع إلى المشركين و طائفة قليلة آمنوا بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على ما يظهر من آيات أولها و آخرها إنذار لعامة الناس بما فيها من الحجة و الموعظة و العبرة، و قصة آدم (عليه السلام) و إبليس و قصص نوح و هود و صالح و لوط و شعيب و موسى (عليه السلام)، و هي ذكرى للمؤمنين تذكرهم ما يشتمل عليه إجمال إيمانهم من المعارف المتعلقة بالمبدإ و المعاد و الحقائق التي هي آيات إلهية.
و السورة تتضمن طرفا عاليا من المعارف الإلهية منها وصف إبليس و قبيله، و وصف الساعة و الميزان و الأعراف و عالم الذر و الميثاق و وصف الذاكرين لله، و ذكر العرش، و ذكر التجلي، و ذكر الأسماء الحسنى، و ذكر أن للقرآن تأويلا إلى غير ذلك.
و هي تشتمل على ذكر إجمالي من الواجبات و المحرمات كقوله: «قل أمر ربي بالقسط»: الآية 29، و قوله: «إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها و ما بطن»: الآية 33، و قوله: «قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده و الطيبات من الرزق»: الآية 32 فنزولها قبل نزول سورة الأنعام التي فيها قوله: «قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه» الآية: الأنعام: 145، فإن ظاهر الآية أن الحكم بإباحة غير ما استثني من المحرمات كان نازلا قبل السورة فالإشارة بها إلى ما في هذه السورة.
على أن الأحكام و الشرائع المذكورة في هذه السورة أوجز و أكثر إجمالا مما ذكر في سورة الأنعام في قوله: «قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم» الآيات، و ذلك يؤيد كون هذه السورة قبل الأنعام نزولا على ما هو المعهود من طريقة تشريع الأحكام في الإسلام تدريجا آخذا من الإجمال إلى التفصيل.
قوله تعالى: «المص كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به و ذكرى للمؤمنين» تنكير الكتاب و توصيفه بالإنزال إليه من غير ذكر فاعل الإنزال كل ذلك للدلالة على التعظيم و يتخصص وصف الكتاب و وصف فاعله بعض التخصص بما يشتمل عليه قوله: «فلا يكن في صدرك حرج منه» من التفريع كأنه قيل: هذا كتاب مبارك يقص آيات الله أنزله إليك ربك فلا يكن في صدرك حرج منه كما أنه لو كان كتابا غير الكتاب و ألقاه إليك ربك لكان من حقه أن يتحرج و يضيق منه صدرك لما في تبليغه و دعوة الناس إلى ما يشتمل عليه من الهدى من المشاق و المحن.
و قوله: «لتنذر به» غاية للإنزال متعلقة به كقوله: «و ذكرى للمؤمنين» و تخصيص الذكرى بالمؤمنين دليل على أن الإنذار يعمهم و غيرهم، فالمعنى: أنزل إليك الكتاب لتنذر به الناس و هو ذكرى للمؤمنين خاصة لأنهم يتذكرون بالآيات و المعارف الإلهية المذكورة فيها مقام ربهم فيزيد بذلك إيمانهم و تقر بها أعينهم، و أما عامة الناس فإن هذا الكتاب يؤثر فيهم أثر الإنذار بما يشتمل عليه من ذكر سخط الله و عقابه للظالمين في الدار الآخرة، و في الدنيا بعذاب الاستئصال كما تشرحه قصص الأمم السالفة.
و من هنا يظهر: أن قول بعضهم: إن قوله: «لتنذر به» متعلق بالحرج و المعنى: لا يكن في صدرك حرج للإنذار به، ليس بمستقيم فإن تعقبه بقوله: «و ذكرى للمؤمنين» بما عرفت من معناه يدفع ذلك.
و يظهر أيضا ما في ظاهر قول بعضهم: إن المراد بالمؤمنين كل من كان مؤمنا بالفعل عند النزول و من كان في علم الله أنه سيؤمن منهم! فإن الذكرى المذكور في الآية لا يتحقق إلا فيمن كان مؤمنا بالفعل.
قوله تعالى: «اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم و لا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون» لما ذكر لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه كتاب أنزل إليه لغرض الإنذار شرع في الإنذار و رجع من خطابه (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى خطابهم فإن الإنذار من شأنه أن يكون بمخاطبة المنذرين - اسم مفعول - و قد حصل الغرض من خطاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
و خاطبهم بالأمر باتباع ما أنزل إليهم من ربهم، و هو القرآن الآمر لهم بحق الاعتقاد و حق العمل أعني الإيمان بالله و آياته و العمل الصالح الذين يأمر بهما الله سبحانه في كتابه و ينهى عن خلافهما، و الجملة أعني قوله: «اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم» موضوعة وضع الكناية كنى بها عن الدخول تحت ولاية الله سبحانه و الدليل عليه قوله «و لا تتبعوا من دونه أولياء» حيث لم يقل في مقام المقابلة: و لا تتبعوا غير ما أنزل إليكم.
و المعنى: و لا تتبعوا غيره تعالى - و هم كثيرون - فيكونوا لكم أولياء من دون الله قليلا ما تذكرون، و لو تذكرتم لدريتم أن الله تعالى هو ربكم لا رب لكم سواه فليس لكم من دونه أولياء.
قوله تعالى: «و كم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون» تذكير لهم بسنة الله الجارية في المشركين من الأمم الماضية إذ اتخذوا من دون الله أولياء فأهلكهم الله بعذاب أنزله إليهم ليلا أو نهارا فاعترفوا بظلمهم.
و البيات التبييت و هو قصد العدو ليلا، و القائلون من القيلولة و هو النوم نصف النهار، و قوله: «بياتا أو هم قائلون» و لم يقل ليلا أو نهارا كأنه للإشارة إلى أخذ العذاب إياهم و هم آخذون في النوم آمنون مما كمن لهم من البأس الإلهي الشديد غافلون مغفلون.
قوله تعالى: «فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين» تتميم للتذكير يبين أن الإنسان بوجدانه و سره يشاهد الظلم من نفسه إن اتخذ من دون الله أولياء بالشرك، و أن السنة الإلهية أن يأخذ منه الاعتراف بذلك ببأس العذاب إن لم يعترف به طوعا و لم يخضع لمقام الربوبية فليعترف اختيارا و إلا فسيعترف اضطرارا.
قوله تعالى: «فلنسئلن الذين أرسل إليهم و لنسئلن المرسلين» دل البيان السابق على أنهم مكلفون بتوحيد الله سبحانه موظفون برفض الأولياء من دونه غير مخلين و ما فعلوا، و لا متروكون و ما شاءوا، فإذا كان كذلك فهم مسئولون عما أمروا به من الإيمان و العمل الصالح، و ما كلفوا به من القول الحق، و الفعل الحق و هذا الأمر و التكليف قائم بطرفين: الرسول الذي جاءهم به و القوم الذين جاءهم، و لهذا فرع على ما تقدم من حديث إهلاك القرى و أخذ الاعتراف منهم بالظلم قوله: «فلنسئلن الذين أرسل إليهم و لنسئلن المرسلين».
و قد ظهر بذلك أن المراد بالذين أرسل إليهم الناس و بالمرسلين الأنبياء و الرسل (عليهم السلام)، و ما قيل: إن المراد بالذين أرسل إليهم الأنبياء، و بالمرسلين الملائكة لا يلائم السياق إذ لا وجه لإخراج المشركين عن شمول السؤال و الكلام فيهم.
على أن الآية التالية لا تلائم ذلك أيضا.
على أن الملائكة لم يدخلوا في البيان السابق بوجه لا بالذات و لا بالتبع.
قوله تعالى: فلنقصن عليهم بعلم و ما كنا غائبين» دل البيان السابق على أنهم مربوبون مدبرون فسيسألون عن أعمالهم ليجزوا بما عملوا، و هذا إنما يتم فيما إذا كان السائل على علم من أمر أعمالهم فإن المسئول لا يؤمن أن يكذب لجلب النفع إلى نفسه و دفع الضرر عن نفسه في مثل هذا الموقف الصعب الهائل الذي يهدده بالهلاك الخالد و الخسران المؤبد.
و لذلك فرع عليه قوله: «فلنقصن عليهم بعلم» إلخ، و قد نكر العلماء للاعتناء بشأنه و أنه علم لا يخطىء و لا يغلط، و لذلك أكده بعطف قوله: «و ما كنا غائبين» عليه للدلالة على أنه كان شاهدا غير غائب، و إن وكل عليهم من الملائكة من يحفظ عليهم أعمالهم بالكتابة فإنه بكل شيء محيط.
قوله تعالى: «و الوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون إلى آخر الآيتين» الآيتان تخبران عن الوزن و هو توزين الأعمال أو الناس العاملين من حيث عملهم، و الدليل عليه قوله تعالى: «و نضع الموازين القسط ليوم القيامة - إلى أن قال - و كفى بنا حاسبين» الأنبياء: 47، حيث دل على أن هذا الوزن من شعب حساب الأعمال، و أوضح منه قوله: «يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره و من يعمل مثقال ذرة شرا يره»: الزلزال: 8، حيث ذكر العمل و أضاف الثقل إليه خيرا و شرا.
و بالجملة الوزن إنما هو للعمل دون عامله فالآية تثبت للعمل وزنا سواء كان خيرا أو شرا غير أن قوله تعالى: «أولئك الذين كفروا بآيات ربهم و لقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا»: الكهف: 105، يدل على أن الأعمال في صور الحبط - و قد تقدم الكلام فيه في الجزء الثاني من هذا الكتاب - لا وزن لها أصلا، و يبقى للوزن أعمال من لم تحبط أعماله.
فما لم يحبط من الأعمال الحسنة و السيئة، له وزن يوزن به لكن الآيات في عين أنها تعتبر للحسنات و السيئات ثقلا إنما تعتبر فيها الثقل الإضافي و ترتب القضاء الفصل عليه بمعنى أن ظاهرها أن الحسنات توجب ثقل الميزان و السيئات خفة الميزان لا أن توزن الحسنات فيؤخذ ما لها من الثقل ثم السيئات و يؤخذ ما لها من الثقل ثم يقايس الثقلان فأيهما كان أكثر كان القضاء له فإن كان الثقل للحسنة كان القضاء بالجنة و إن كان للسيئة كان القضاء بالنار، و لازم ذلك صحة فرض أن يتعادل الثقلان كما في الموازين الدائرة بيننا من ذي الكفتين و القبان و غيرهما لا بل ظاهر الآيات أن الحسنة تظهر ثقلا في الميزان و السيئة خفة فيه كما هو ظاهر قوله: «فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون و من خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون» و نظيره قوله تعالى: «فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون و من خفت موازينه فأولئك هم الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون»: المؤمنون: 103، و قوله تعالى: «فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية و أما من خفت موازينه فأمه هاوية و ما أدراك ما هيه نار حامية»: القارعة: 11، فالآيات - كما ترى - تثبت الثقل في جانب الحسنات دائما و الخفة في جانب السيئات دائما.
و من هناك يتأيد في النظر أن هناك أمرا آخر تقايس به الأعمال و الثقل له فما كان منها حسنة انطبق عليه و وزن به و هو ثقل الميزان، و ما كان منها سيئة لم ينطبق عليه و لم يوزن به و هو خفة الميزان كما نشاهده فيما عندنا من الموازين فإن فيها مقياسا و هو الواحد من الثقل كالمثقال يوضع في إحدى الكفتين ثم يوضع المتاع في الكفة الأخرى فإن عادل المثقال وزنا بوجه على ما يدل عليه الميزان أخذ به و إلا فهو الترك لا محالة، و المثقال في الحقيقة هو الميزان الذي يوزن به، و أما القبان و ذو الكفتين و نظائرهما فهي مقدمة لما يبينه المثقال من حال المتاع الموزون به ثقلا و خفة كما أن واحد الطول و هو الذراع أو المتر مثلا ميزان يوزن به الأطوال فإن انطبق الطول على الواحد المقياس فهو و إلا ترك.
ففي الأعمال واحد مقياس توزن به فللصلاة مثلا ميزان توزن به و هي الصلاة التامة التي هي حق الصلاة، و للزكاة و الإنفاق نظير ذلك، و للكلام و القول حق القول الذي لا يشتمل على باطل، و هكذا كما يشير إليه قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته»: آل عمران: 102.
فالأقرب إلى هذا البيان أن يكون المراد بقوله: «و الوزن يومئذ الحق» أن الوزن الذي يوزن به الأعمال يومئذ إنما هو الحق فبقدر اشتمال العمل على الحق يكون اعتباره و قيمته و الحسنات مشتملة على الحق فلها ثقل كما أن السيئات ليست إلا باطلة فلا ثقل لها، فالله سبحانه يزن الأعمال يومئذ بالحق فما اشتمل عليه العمل من الحق فهو وزنه و ثقله.
و لعله إليه الإشارة بالقضاء بالحق في قوله: «و أشرقت الأرض بنور ربها و وضع الكتاب و جيء بالنبيين و الشهداء و قضي بينهم بالحق و هم لا يظلمون»: الزمر: 69 و الكتاب الذي ذكر الله أنه يوضع يومئذ - و إنما يوضع للحكم به - هو الذي أشار إليه بقوله: «هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق»: الجاثية: 29، فالكتاب يعين الحق و ما اشتمل عليه العمل منه، و الوزن يشخص مقدار الثقل.
و على هذا فالوزن في الآية بمعنى الثقل دون المعنى المصدري، و إنما عبر بالموازين - بصيغة الجمع - في قوله:، «فمن ثقلت موازينه» «و من خفت موازينه» الدال على أن لكل أحد موازين كثيرة من جهة اختلاف الحق الذي يوزن به باختلاف الأعمال فالحق في الصلاة و هو حق الصلاة غير الحق في الزكاة و الصيام و الحج و غيرها، و هو ظاهر، فهذا ما ينتجه البيان السابق.
و الذي ذكره جمهور المفسرين في معنى قوله: «و الوزن يومئذ الحق» أن الوزن مرفوع على الابتداء و يومئذ ظرف و الحق صفة الوزن و هو خبره و التقدير: و الوزن يومئذ الوزن الحق و هو العدل، و يؤيده قوله تعالى في موضع آخر: «و نضع الموازين القسط ليوم القيامة»: الأنبياء: 47.
و ربما قيل: إن الوزن مبتدأ و خبره يومئذ و الحق صفة الوزن، و التقدير: و الوزن الحق إنما هو في يوم القيامة، و قال في الكشاف،: و رفعه يعني الوزن على الابتداء و خبره يومئذ، و الحق صفته أي و الوزن يوم يسأل الله الأمم و رسلهم الوزن الحق أي العدل انتهى و هو غريب إلا أن يوجه بحمل قوله: الوزن الحق «إلخ» على الاستئناف.
و قوله تعالى: «فمن ثقلت موازينه» الموازين جمع ميزان على ما تقدم من البيان و يؤيده الآية المذكورة آنفا: «و نضع الموازين القسط ليوم القيامة» و الأنسب بما ذكره القوم في معنى قوله: «و الوزن يومئذ الحق» أن يكون جمع موزون و هو العمل و إن أمكن أن يجعل جمع ميزان و يوجه تعدد الموازين بتعدد الأعمال الموزونة بها.
لكن يبقى الكلام على قول المفسرين: إن الوزن الحق هو العدل في تصوير معنى ثقل الموازين بالحسنات و خفتها بالسيئات فإن فيما يوزن به الأعمال حسناتها و سيئاتها خفاء، و القسط و هو العدل صفة للتوزين و هو نعت لله سبحانه على ما يظهر من قوله «و نضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا و إن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها و كفى بنا حاسبين»: الأنبياء: 47، فإن ظاهر قوله: «فلا تظلم»، إلخ إن الله لا يظلمهم فالقسط قسطه و عدله فليس القسط هو الميزان يومئذ بل وضع الموازين هو وضع العدل يومئذ، فافهم ذلك.
و هذا هو الذي بعثهم على أن فسروا ثقل الموازين برجحانها بنوع من التجوز فالمراد بثقل الموازين رجحان الأعمال بكونها حسنات و خفتها مرجوحيتها بكونها سيئات و معنى الآية: و الوزن يومئذ العدل أي الترجيح بالعدل فمن رجحت أعماله لغلبة الحسنات فأولئك هم المفلحون، و من لم يترجح أعماله لغلبة سيئاته فأولئك الذين خسروا أنفسهم أي ذهبت رأس مالهم الذي هو أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون لتكذيبهم بها.
و يعود الكلام حينئذ إلى الملاك الذي به تترجح الحسنة على السيئة و سيما إذا اختلطت الأعمال و اجتمعت حسنات و سيئات، و الحسنات و السيئات مختلفة كبرا و صغرا فيما هو الملاك الذي يعلم به غلبة أحد القبيلين على الآخر؟ فإخباره تعالى بأن أمر الوزن جار على العدل يدل على جريانه بحيث تتم به الحجة يومئذ على العباد فلا محالة هناك أمر تشتمل عليه الحسنة دون السيئة، و به الترجيح، و به يعلم غلبة الثقيل على الخفيف و الحسنة على السيئة إذا اجتمعت من كل منهما عدد مع الأخرى و إلا لزم القول بالجزاف البتة.
و هذا كله مما يؤيد ما قدمناه من الاحتمال، و هو أن يكون توزين الأعمال بالحق، و هو التوزين العادل فمن ثقلت موازينه باشتمال أعماله على الحق فأولئك هم المفلحون، و من خفت موازينه لعدم اشتمال أعماله على الحق الواجب في العبودية فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون بتكذيبهم بها و عدم تزودهم بما يعيشون به هذا اليوم فقد أهلكوا أنفسهم بما أحلوها دار البوار جهنم يصلونها و بئس القرار.
فقد تبين بما قدمناه أولا: أن الوزن يوم القيامة هو تطبيق الأعمال على ما هو الحق فيها، و بقدر اشتمالها عليه تستعقب الثواب و إن لم تشتمل فهو الهلاك، و هذا التوزين هو العدل، و الكلام في الآيات جار على ظاهره من غير تأويل.
و قيل: إن المراد بالوزن هو العدل، و ثقل الميزان هو رجحان العمل فالكلام موضوع على نحو من الاستعارة، و قد تقدم.
و قيل: إن الله ينصب يوم القيامة ميزانا له لسان و كفتان فتوزن به أعمال العباد من الحسنات و السيئات، و قد اختلف هؤلاء في كيفية توزين الأعمال، و هي أعمال انعدمت بصدورها، و لا يجوز إعادة المعدوم من الأعراض عندهم، على أنها لا وزن لها، فقيل: إنما توزن صحائف الأعمال لا أنفسها، و قيل: تظهر للأعمال من حسناتها و سيئاتها آثار و علائم خاصة بها فتوزن العلامات بمشهد من الناس، و قيل: تظهر الحسنات في صور حسنة و السيئات في صور قبيحة منكرة فتوزن الصور، و قيل توزن نفس المؤمن و الكافر دون أعمالهما من حسنة أو سيئة، و قيل: الوزن ظهور قدر الإنسان، و ثقل الميزان كرامته و عظم قدره، و خفة الميزان هوانه و ذلته.
و هذه الأقوال على تشتتها لا تعتمد على حجة من ألفاظ الآيات، و هي جميعا لا تخلو عن بناء الوزن الموصوف على الجزاف لأن الحجة لا تتم بذلك على العبد، و قد تقدمت الإشارة إلى ذلك.
و ثانيا: أن هناك بالنسبة إلى كل إنسان موازين توزن بها أعماله و الميزان في كل باب من العمل هو الحق الذي يشتمل عليه ذلك العمل - كما تقدم - فإن يوم القيامة هو اليوم الذي لا سلطان فيه إلا للحق و لا ولاية فيه إلا لله الحق، قال تعالى: «ذلك اليوم الحق»: النبأ: 39، و قال تعالى: «هنالك الولاية لله الحق»: الكهف: 44، و قال: «هنالك تبلوا كل نفس ما أسلفت و ردوا إلى الله مولاهم الحق و ضل عنهم ما كانوا يفترون»: يونس: 30.
بحث روائي
في الدر المنثور، أخرج ابن الضريس و النحاس في ناسخه و ابن مردويه و البيهقي في الدلائل من طرق عن ابن عباس قال: سورة الأعراف نزلت بمكة:. أقول: و رواه أيضا عن ابن مردويه عن ابن الزبير.
و فيه، أخرج ابن المنذر و أبو الشيخ عن قتادة قال: آية من الأعراف مدنية، و هي «و أسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر» إلى آخر الآية، و سائرها مكية.
أقول: و هو منه اجتهاد و سيأتي ما يتعلق به من الكلام.
و فيه،: قوله تعالى: «فلنسألن الذين أرسل إليهم» الآية: أخرج أحمد عن معاوية بن حيدة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إن ربي داعي و إنه سائلي: هل بلغت عبادي؟ و إني قائل: رب إني قد بلغتهم فليبلغ الشاهد منكم الغائب ثم إنكم تدعون مفدمة أفواهكم بالفدام إن أول ما يبين عن أحدكم لفخذه و كفه.
و فيه،: أخرج البخاري و مسلم و الترمذي و ابن مردويه عن ابن عمر قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): كلكم راع و كلكم مسئول عن رعيته فالإمام يسأل عن الناس، و الرجل يسأل عن أهله، و المرأة تسأل عن بيت زوجها، و العبد يسأل عن مال سيده.
أقول: و في هذا المعنى روايات كثيرة، و الروايات في السؤال يوم القيامة كثيرة واردة من طرق الفريقين سنورد جلها في موضع يناسبها إن شاء الله تعالى.
و فيه، أخرج أبو الشيخ عن جابر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يوضع الميزان يوم القيامة فيوزن الحسنات و السيئات فمن رجحت حسناته على سيئاته دخل الجنة و من رجحت سيئاته على حسناته دخل النار.
و فيه، أخرج ابن أبي الدنيا في الإخلاص عن علي بن أبي طالب قال: من كان ظاهره أرجح من باطنه خفف ميزانه يوم القيامة، و من كان باطنه أرجح من ظاهره ثقل ميزانه يوم القيامة.
أقول: الروايتان لا بأس بهما من حيث المضمون لكنهما لا تصلحان لتفسير الآيتين و لم تردا له لأخذ الرجحان فيهما في جانبي الحسنة و السيئة جميعا.
و فيه،: أخرج ابن مردويه عن عائشة قالت: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: خلق الله كفتي الميزان مثل السماء و الأرض فقالت الملائكة: يا ربنا من تزن بهذا؟ قال: أزن به من شئت، و خلق الله الصراط كحد السيف فقالت الملائكة: يا ربنا من تجيز على هذا؟ قال: أجيز عليه من شئت.
أقول: و روى الحاكم في الصحيح عن سلمان مثله، و ظاهر الرواية أن الميزان يوم القيامة على صفة الميزان الموجود في الدنيا المعمول لتشخيص الأثقال و هناك روايات متفرقة تشعر بذلك، و هي واردة لتقريب المعنى إلى الأفهام الساذجة بدليل ما سيوافيك من الروايات.
و في الإحتجاج، في حديث هشام بن الحكم عن الصادق (عليه السلام): أنه سأله الزنديق فقال أو ليس يوزن الأعمال؟ قال: لا أن الأعمال ليست بأجسام و إنما هي صفة ما عملوا، و إنما يحتاج إلى وزن الشيء من جهل عدد الأشياء، و لا يعرف ثقلها و خفتها، و إن الله لا يخفى عليه شيء، قال: فما معنى الميزان؟ قال: العدل. قال: فما معناه في كتابه فمن ثقلت موازينه؟ قال: فمن رجح عمله، الخبر.
أقول: و في الرواية تأييد ما قدمناه في تفسير الوزن، و من ألطف ما فيها قوله (عليه السلام) «و إنما هي صفة ما عملوا» يشير (عليه السلام) إلى أن ليس المراد بالأعمال في هذه الأبواب هو الحركات الطبيعية الصادرة عن الإنسان لاشتراكها بين الطاعة و المعصية بل الصفات الطارئة عليها التي تعتبر لها بالنظر إلى السنن و القوانين الاجتماعية أو الدينية مثل الحركات الخاصة التي تسمى وقاعا بالنظر إلى طبيعة نفسها ثم تسمى نكاحا إذا وافقت السنة الاجتماعية أو الإذن الشرعي، و تسمى زنا إذا لم توافق ذلك، و طبيعة الحركات الصادرة واحدة، و قد استدل (عليه السلام) لما ذكره من طريقين: أحدهما: أن الأعمال صفات لا وزن لها و الثاني: أن الله سبحانه لا يحتاج إلى توزين الأشياء لعدم اتصافه بالجهل تعالى شأنه.
قال بعضهم: إنه بناء على ما هو الحق من تجسم الأعمال في الآخرة، و إمكان تأثير حسن العمل ثقلا فيه، و كون الحكمة في الوزن تهويل العاصي و تفضيحه و تبشير المطيع و ازدياد فرحه و إظهار غاية العدل، و في الرواية وجوه من الإشكال فلا بد من تأويلها إن أمكن و إلا فطرحها أو حملها على التقية، انتهى.
أقول: قد تقدم البحث عن معنى تجسم الأعمال و ليس من الممتنع أن يتمثل الأعمال عند الحساب، و العدل الإلهي القاضي فيها في صورة ميزان توزن به أمتعة الأعمال و سلعها لكن الرواية لا تنفي ذلك و إنما تنفي كون الأعمال أجساما دنيوية محكومة بالجاذبية الأرضية التي تظهر فيها في صورة الثقل و الخفة، أولا.
و الإشكال مبني على كون كيفية الوزن بوضع الحسنات في كفة من الميزان.
و السيئات في كفة أخرى ثم الوزن و القياس، و قد عرفت: أن الآية بمعزل عن الدلالة على ذلك أصلا، ثانيا.
و في التوحيد، بإسناده عن أبي معمر السعداني عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث قال: و أما قوله: «فمن ثقلت موازينه و خفت موازينه» فإنما يعني: الحسنات توزن الحسنات و السسيئات فالحسنات ثقل الميزان و السيئات خفة الميزان.
أقول: و تأييده ما تقدم ظاهر فإنه يأخذ المقياس هو الحسنة و هي لا محالة واحدة يمكن أن يقاس بها غيرها، و ليست إلا حق العمل.
و في المعاني، بإسناده عن المنقري عن هشام بن سالم قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: «و نضع الموازين القسط ليوم القيامة - فلا تظلم نفس شيئا» قال: هم الأنبياء و الأوصياء:. أقول: و رواه في الكافي، عن أحمد بن محمد عن إبراهيم الهمداني رفعه إليه (عليه السلام)، و معنى الحديث ظاهر بما قدمناه فإن المقياس هو حق العمل و الاعتقاد، و هو الذي عندهم (عليهم السلام).
و في الكافي، بإسناده عن سعيد بن المسيب عن علي بن الحسين (عليهما السلام) فيما كان يعظ به قال: ثم رجع القول من الله في الكتاب على أهل المعاصي و الذنوب، فقال عز و جل: «و لئن مستهم نفحة من عذاب ربك - ليقولن يا ويلنا إنا كنا ظالمين» فإن قلتم أيها الناس إن الله عز و جل إنما عنى بها أهل الشرك فكيف ذلك؟ و هو يقول: و نضع الموازين القسط ليوم القيامة - فلا تظلم نفس شيئا - و إن كانت مثقال حبة من خردل أتينا بها - و كفى بنا حاسبين فاعلموا عباد الله أن أهل الشرك لا تنصب لهم الموازين و لا تنشر لهم الدواوين و إنما يحشرون إلى جهنم زمرا، و إنما نصب الموازين و نشر الدواوين لأهل الإسلام، الخبر.
أقول: يشير (عليه السلام) إلى قوله تعالى: «فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا» الآية.
و في تفسير القمي، في قوله: «و الوزن يومئذ الحق» الآية قال (عليه السلام): المجازاة بالأعمال إن خيرا فخيرا و إن شرا فشرا.
أقول: و هو تفسير بالنتيجة.
و فيه، في قوله تعالى: «بما كانوا بآياتنا يظلمون» قال (عليه السلام): بالأئمة يجحدون.
أقول: و هو من قبيل ذكر بعض المصاديق، و في المعاني المتقدمة روايات أخر.
|