بيان
أحكام و دستورات في الحرب و السلم و المعاهدات و نقضها و غير ذلك، و صدر الآيات يقبل الانطباق على طوائف اليهود التي كانت في المدينة و حولها و قد كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عاهدهم بعد هجرته إلى المدينة أن لا يضروه و لا يغدروا به و لا يعينوا عليه عدوا و يقروا على دينهم و يأمنوا في أنفسهم فنقضوا العهد نقضا بعد نقض حتى أمر الله سبحانه بقتالهم فآل أمرهم إلى ما آل إليه، و سيجيء بعض أخبارهم في البحث الروائي التالي إن شاء الله تعالى.
و على هذا فالآيات الأربع الأول غير نازلة مع ما سبقها من الآيات و لا متصلة بها كما يعطيه سياقها و أما السبع الباقية فليست بواضحة الاتصال بما قبلها من الآيات الأربع و لا بما قبل ما قبلها.
قوله تعالى: «إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون» الكلام مسوق لبيان كون هؤلاء شر جميع الموجودات الحية من غير شك في ذلك لما في تقييد الحكم بقوله: «عند الله» من الدلالة عليه فإن معناه الحكم و ما يحكم و يقضي به الله سبحانه لا يتطرق إليه خطأ و قد قال تعالى: «لا يضل ربي و لا ينسى:» طه: - 52.
و قد افتتح هذه القطعة من الكلام المتعلق بهم بكونهم شر الدواب عنده لأن مغزى الكلام التحرز منهم و دفعهم، و من المغروز في الطباع أن الشر الذي لا يرجى معه خير يجب دفعه بأي وسيلة صحت و أمكنت فناسب ما سيأمره في حقهم بقوله: «فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم» إلخ الافتتاح ببيان كونهم شر الدواب.
و عقب قوله: «الذين كفروا» بقوله: «فهم لا يؤمنون» مبتدأ بفاء التفريع أي إن من وصفهم الذي يتفرع على كفرهم أنهم لا يؤمنون، و لا يتفرع عدم الإيمان على الكفر إلا إذا رسخ في النفس رسوخا لا يرجى معه زواله فلا مطمع حينئذ في دخول الإيمان في قلب هذا شأنه لمكان المضادة التي بين الكفر و الإيمان.
و من هنا يظهر أن المراد بقوله: «الذين كفروا» الذين ثبتوا على الكفر، و عند هذا يرجع معنى هذه الآية إلى نظيرتها السابقة: «إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون و لو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم و لو أسمعهم لتولوا و هم معرضون:» الأنفال: - 23.
على أن الآيتين لما دلتا على حصر الشر عند الله في طائفة معينة من الدواب كانت الآية الأولى مع دلالتها على كون أهلها ممن لا يؤمنون البتة دالة على أن المراد بقوله في الآية الثانية: «الذين كفروا فهم لا يؤمنون» كونهم ثابتين على كفرهم لا يزولون عنه البتة.
قوله تعالى: «الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة و هم لا يتقون» بيان للذين كفروا في الآية السابقة أو بدل منهم بدل البعض من الكل، و يتفرع عليه أن «من» في قوله «منهم» تبعيضية و المعنى: الذين عاهدتهم من بين الذين كفروا، و أما احتمال أن يكون من زائدة و المعنى: الذين عاهدتهم، أو بمعنى مع و المعنى: الذين عاهدت معهم فليس: بشيء.
و المراد بكل مرة مرات المعاهدة أن ينقضون عهدهم في كل مرة عاهدتهم و هم لا يتقون الله في نقض العهد أو لا يتقونكم و لا يخافون نقض عهدكم، و فيه دلالة على تكرر النقض منهم.
قوله تعالى: «فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون» قال في المجمع، الثقف الظفر و الإدراك بسرعة، و التشريد التفريق على اضطراب.
انتهى، و قوله: «فإما تثقفنهم» أصله إن تثقفهم دخل «ما» التأكيد على إن الشرطية ليصحح دخول نون التأكيد على الشرط و الكلام مسوق للتأكيد في ضمن الشرط.
و المراد بتشريد من خلفهم بهم أن يفعل بهم من التنكيل و التشديد ما يعتبر به من خلفهم، و يستولي الرعب و الخوف على قلوبهم فيتفرقوا و ينحل عقد عزيمتهم و اتحاد إرادتهم على قتال المؤمنين و إبطال كلمة الحق.
و على هذا فالمراد بقوله: «لعلهم يذكرون» رجاء أن يتذكروا ما لنقض العهد و الإفساد في الأرض و المحادة مع كلمة الحق من التبعة السيئة و العاقبة المشئومة فإن الله لا يهدي القوم الفاسقين و إن الله لا يهدي كيد الخائنين.
ففي الآية إيماء إلى الأمر بقتالهم ثم التشديد عليهم و التنكيل بهم عند الظفر بهم و ثقفهم، و إيماء إلى أن وراءهم من حاله حالهم في نقض العهد و تربص الدوائر على الحق و أهله.
قوله تعالى: «و إما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين» الخيانة - على ما في المجمع، - نقض العهد فيما يؤتمن عليه، و هذا معنى الخيانة في العهود و المواثيق، و أما الخيانة بمعناها العام فهي نقض ما أبرم من الحق في عهد أو أمانة، و النبذ هو الإلقاء و منه قوله: «فنبذوه وراء ظهورهم:» آل عمران: - 187 و السواء بمعنى الاستواء و العدل.
و قوله: «و إما تخافن» كقوله في الآية السابقة: «فإما تثقفنهم» و معنى الخوف ظهور أمارات تدل على وقوع ما يجب التحرز منه و الحذر عنه و قوله: «إن الله لا يحب الخائنين» تعليل لقوله: «فانبذ إليهم على سواء».
و معنى الآية: و إن خفت من قوم بينك و بينهم عهد أن يخونوك و ينقضوا عهدهم و لاحت آثار دالة على ذلك فانبذ و ألق إليهم عهدهم و أعلمهم إلغاء العهد لتكونوا أنتم و هم على استواء من نقض عهد أو تكون مستويا على عدل فإن من العدل المعاملة بالمثل و السواء لأنك إن قاتلتهم قبل إلغاء العهد كان ذلك منك خيانة و الله لا يحب الخائنين و ملخص الآيتين دستوران إلهيان في قتال الذين لا عهد لهم بالنقض أو بخوفه فإن كان أهل العهد من الكفار لا يثبتون على عهدهم بنقضه في كل مرة فعلى ولي الأمر أن يقاتلهم و يشدد عليهم، و إن كانوا بحيث يخاف من خيانتهم و لا وثوق بعهدهم فيعلمون إلغاء عهدهم ثم يقاتلون و لا يبدأ بقتالهم قبل الإعلام فإنما ذلك خيانة، و أما إن كانوا عاهدوا و لم ينقضوا و لم يخف خيانتهم فمن الواجب حفظ عهدهم و احترام عقدهم و قد قال تعالى: «فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم:» التوبة: - 4.
و قال: «أوفوا بالعقود:» المائدة: - 1.
قوله تعالى: «و لا تحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون» القراءة المشهورة «تحسبن» بتاء الخطاب، و هو خطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تطييبا لنفسه و تقوية لقلبه كالخطاب الآتي بعد عدة آيات: «يا أيها النبي حسبك الله و من اتبعك من المؤمنين» و كالخطاب الملقى بعده لتحريض المؤمنين: «يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال».
و السبق تقدم الشيء على طالب اللحوق به، و الإعجاز إيجاد العجز، و قوله: «إنهم لا يعجزون» تعليل لقوله: «و لا تحسبن» إلخ، و المعنى: يا أيها النبي لا تحسبن أن الذين كفروا سبقونا فلا ندركهم، لأنهم لا يعجزون الله و له القدرة على كل شيء.
قوله تعالى: «و أعدوا لهم ما استطعتم من قوة و من رباط الخيل».
إلى آخر الآية الإعداد تهيئة الشيء للظفر بشيء آخر و إيجاد ما يحتاج إليه الشيء المطلوب في تحققه كإعداد الحطب و الوقود للإيقاد و إعداد الإيقاد للطبخ، و القوة كل ما يمكن معه عمل من الأعمال، و هي في الحرب كل ما يتمشى به الحرب و الدفاع من أنواع الأسلحة، و الرجال المدربين و المعاهد الحربية التي تقوم بمصلحة ذلك كله، و الرباط مبالغة في الربط و هو أيسر من العقد يقال: ربطه يربطه ربطا و رابطه يرابطه مرابطة و رباطا فالكل بمعنى غير أن الرباط أبلغ من الربط، و الخيل هو الفرس، و الإرهاب قريب المعنى من التخويف.
و قوله: «و أعدوا لهم ما استطعتم من قوة و من رباط الخيل» أمر عام بتهيئة المؤمنين مبلغ استطاعتهم من القوى الحربية ما يحتاجون إليه قبال ما لهم من الأعداء في الوجود أو في الفرض و الاعتبار فإن المجتمع الإنساني لا يخلو من التآلف من أفراد أو أقوام مختلفي الطباع و متضادي الأفكار لا ينعقد بينهم مجتمع على سنة قيمة ينافعهم إلا و هناك مجتمع آخر يضاده في منافعه، و يخالفه في سنته، و لا يعيشان معا برهة من الدهر إلا و ينشب بينهما الخلاف و يؤدي ذلك إلى التغلب و القهر.
فالحروب المبيدة و الاختلافات الداعية إليها مما لا مناص عنها في المجتمعات الإنسانية و المجتمعات هي هذه المجتمعات، و يدل على ذلك ما نشاهده من تجهز الإنسان في خلقه بقوى لا يستفاد منها إلا للدفاع كالغضب و الشدة في الأبدان، و الفكر العامل في القهر و الغلبة، فمن الواجب الفطري على المجتمع الإسلامي أن يتجهز دائما بإعداد ما استطاع من قوة و من رباط الخيل بحسب ما يفترضه من عدو لمجتمعه الصالح.
و الذي اختاره الله للمجتمع الإسلامي بما أنزل عليهم من الدين الفطري الذي هو الدين القيم هي الحكومة الإنسانية التي يحفظ فيها حقوق كل فرد من أفراد مجتمعها، و يراعى فيها مصلحة الضعيف و القوي و الغني و الفقير و الحر و العبد و الرجل و المرأة و الفرد و الجماعة و البعض و الكل على حد سواء دون الحكومة الفردية الاستبدادية التي لا تسير إلا على ما تهواه نفس الفرد المتولي لها الحاكم في دماء الناس و أعراضهم و أموالهم بما شاء و أراد، و لا الحكومة الأكثرية التي تطابق أهواء الجمهور من الناس و تبطل منافع آخرين و ترضي الأكثرين النصف واحد و تضطهد و تسخط الأقلين النصف - واحد.
و لعل هذا هو السر في قوله تعالى: «و أعدوا لهم ما استطعتم من قوة» حيث وجه الخطاب إلى الناس بعد ما كان الخطاب في الآيات السابقة موجها إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كقوله: «فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم» و قوله: «فانبذ إليهم على سواء» و قوله: «و لا تحسبن الذين كفروا سبقوا» و كذا في الآيات التالية كقوله: «و إن جنحوا للسلم فاجنح لها» إلى غير ذلك.
و ذلك أن الحكومة الإسلامية حكومة إنسانية بمعنى مراعاة حقوق كل فرد و تعظيم إرادة البعض و احترام جانبه أي من كان من غير اختصاص الإرادة المؤثرة بفرد واحد أو بأكثر الأفراد.
فالمنافع التي يهددها عدوهم هي منافع كل فرد فعلى كل فرد أن يقوم بالذب عنها، و يعد ما استطاع من قوة لحفظها من الضيعة، و الإعداد و إن كان منه ما لا يقوم بأمره إلا الحكومات بما لها من الاستطاعة القوية و الإمكانات البالغة لكن منها ما يقوم بالأفراد بفرديتهم كتعلم العلوم الحربية و التدرب بفنونها فالتكليف تكليف الجميع.
و قوله تعالى: «ترهبون به عدو الله و عدوكم و آخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم» في مقام التعليل لقوله: «و أعدوا لهم» أي و أعدوا لهم ذلك لترهبوا و تخوفوا به عدو الله و عدوكم، و في عدهم عدوا لله و لهم جميعا بيان للواقع و تأكيد في التحريض.
و في قوله: «و آخرين من دونهم لا تعلمونهم» دلالة على أن المراد بالأولين هم الذين يعرفهم المؤمنون بالعداوة لله و لهم، و المراد بهؤلاء الذين لا يعلمهم المؤمنون - على ما يعطيه إطلاق اللفظ - كل من لا خبرة للمؤمنين بتهديده إياهم بالعداوة من المنافقين الذين هم في كسوة المؤمنين و صورتهم يصلون و يصومون و يحجون و يجاهدون ظاهرا، و من غير المنافقين من الكفار الذين لم يبتل بهم المؤمنون بعد.
و الإرهاب بإعداد القوة، و إن كان في نفسه من الأغراض الصحيحة التي تتفرع عليها فوائد عظيمة ظاهرة غير أنه ليس تمام الغرض المقصود من إعداد القوة، و لذلك أردفه بقوله: «و ما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم و أنتم لا تظلمون» ليدل على جماع الغرض.
و ذلك أن الغرض الحقيقي من إعداد القوى هو التمكن من الدفع مبلغ الاستطاعة، و حفظ المجتمع من العدو الذي يهدده في نفوسه و أعراضه و أمواله، و باللفظ المناسب لغرض الدين إطفاء نائرة الفساد الذي يبطل كلمة الحق و يهدم بنيان دين الفطرة الذي به يعبد الله في أرضه و يقوم ملاك العدل في عباده.
و هذا أمر ينتفع به كل فرد من أفراد المجتمع الديني فما أنفقه فرد أو جماعة في سبيل الله، و هو الجهاد لإحياء أمره فهو بعينه يرجع إلى نفسه و إن كان في صورة أخرى فإن أنفق في سبيله مالا أو جاها أو أي نعمة من هذا القبيل فهو من الإنفاق في سبيل الضروريات الذي لا يلبث دون أن يرجع إليه نفسه نفعه و ما استعقبه من نماء في الدنيا و الآخرة، و إن أنفق في سبيله نفسا فهو الشهادة في سبيل الله التي تستتبع حياة باقية خالدة حقة لمثلها فليعمل العاملون لا كما يغر به آحاد الفادين في سبيل المقاصد الدنيوية ببقاء الاسم و خلود الذكر و تمام الفخر فهؤلاء و إن تنبهوا اليوم لهذا التعليم الإسلامي، و أن المجتمع كنفس واحدة تشترك أعضاؤها فيما يعود إليها من نفع و ضرر لكنهم خبطوا في مسيرهم و اشتبه عليهم الأمر في تشخيص الكمال الإنساني الذي لأجله تندبه الفطرة و تدعوه إلى الاجتماع، و هو التمتع من الحياة الدائمة، فحسبوه الحياة الدنيا الدائرة فضاق عليهم المسلك في أمثال التفدية بالنفس لأجل تمتع الغير بلذائذ المادة.
و بالجملة فإعداد القوة إنما هو لغرض الدفاع عن حقوق المجتمع الإسلامي و منافعه الحيوية، و التظاهر بالقوة المعدة ينتج إرهاب العدو، و هو أيضا من شعب الدفع و نوع معه، فقوله تعالى: «ترهبون به عدو الله» إلخ يذكر فائدة من فوائد الإعداد الراجعة إلى أفراد المجتمع، و قوله: «و ما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم و أنتم لا تظلمون» يذكر أن ما أنفقوه في سبيله لا يبطل و لا يفوت بل يرجع إليهم من غير أن يفوت عن ذي حق حقه.
و هذا أعني قوله: «و ما تنفقوا من شيء في سبيل الله» إلخ أعم فائدة من مثل قوله: «و ما تنفقوا من خير يوف إليكم:» البقرة: - 272 فإن الخير منصرف إلى المال فلا يشمل النفس بخلاف قوله هاهنا: «و ما تنفقوا من شيء».
قوله تعالى: «و إن جنحوا للسلم فاجنح لها و توكل على الله إنه هو السميع العليم» في المجمع،: الجنوح الميل، و منه جناح الطائر لأنه يميل به في أحد شقيه، و لا جناح عليه أي لا ميل إلى مأثم.
انتهى، و السلم بفتح السين و كسرها الصلح.
و قوله: «و توكل على الله» من تتمة الأمر بالجنوح فالجميع في معنى أمر واحد، و المعنى: و إن مالوا إلى الصلح و المسالمة فمل إليها و توكل في ذلك على الله و لا تخف من أن يضطهدك أسباب خفية عنك على غفلة منك و عدم تهيؤ لها فإن الله هو السميع العليم لا يغفله سبب و لا يعجزه مكر بل ينصرك و يكفيك و هذا هو الذي يثبته قوله في الآية التالية «و إن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله».
و قد تقدم فيما أسلفناه من معنى التوكل على الله أنه ليس اعتمادا عليه سبحانه بإلغاء الأسباب الظاهرية بل سلب الاعتماد القطعي على الأسباب الظاهرية لأن الذي يبدو للإنسان منها بعض يسير منها دون جميعها، و السبب التام الذي لا يتخلف عن مسببه هو الجميع الذي يحمل إرادته سبحانه.
فالتوكل هو توجيه الثقة و الاعتماد إلى الله سبحانه الذي بمشيته يدور رحى الأسباب عامة، و لا ينافيه أن يتوسل المتوكل بما يمكنه التوسل به من الأسباب اللائحة عليه من غير أن يلغي شيئا منها فيركب مطية الجهل.
قوله تعالى: «و إن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره و بالمؤمنين» الآية متصلة بما قبلها و هي بمنزلة دفع الدخل، و ذلك أن الله سبحانه لما أمر نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) بالجنوح للسلم إن جنحوا له و لم يرض بالخديعة لأنها من الخيانة في حقوق المعاشرة و المواصلة للعامة و الله لا يحب الخائنين كان أمره بالجنوح المذكور مظنة سؤال و هو أن من الجائز أن يكون جنوحهم للسلم خديعة منهم يضلون بها المؤمنين ليغيروا عليهم في شرائط و أحوال مناسبة فأجاب سبحانه بأنا أمرناك بالتوكل فإن أرادوا بذلك أن يخدعوك فإن حسبك الله و قد قال تعالى: «و من يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره.
و هذا مما يدل على أن هناك أسبابا وراء ما ينكشف لنا من الأسباب الطبيعية العادية تجري على ما يوافق صلاح العبد المتوكل إذا خانته الأسباب الطبيعية العادية و لم تساعده على مطلوبه الحق.
و قوله: «هو الذي أيدك بنصره و بالمؤمنين» بمنزلة الاحتجاج على قوله: «فإن حسبك الله» بذكر شواهد تدل على كفايته تعالى و هي أنه أيده بنصره و أيده بالمؤمنين و ألف بين قلوبهم و هي شيء متباغضة.
قوله تعالى: «و ألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم و لكن الله ألف بينهم» إلخ، قال الراغب: الإلف اجتماع مع التيام يقال: ألفت بينهم، و منه الألفة، و يقال: للمألوف إلف و آلف قال تعالى: «إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم» انتهى.
أورد سبحانه في جملة ما استشهد على كفايته لمن توكل عليه أنه كفى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) بتأليف قلوب المؤمنين بعد ذكر تأييده بهم، و الكلام مطلق و الملاك المذكور فيه عام يشمل جميع المؤمنين و إن كانت الآية أظهر انطباقا على الأنصار حيث أيد الله بهم نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) فآووه و نصروه و ألف الله سبحانه بدينه بينهم أنفسهم و قد نشبت فيهم الحروب المبيدة و كانت قائمة على ساقها دهرا طويلا و هي حرب «بغاث» بين الأوس و الخزرج حتى اصطلحوا بنزول الإسلام في دارهم و أصبحوا بنعمته إخوانا.
و قد امتن الله بتأليفه بين قلوب المسلمين في مواضع من كلامه و بين أهمية موقعه بمثل قوله: «لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم و لكن الله ألف. بينهم إنه عزيز حكيم».
و ذلك أن الإنسان مفطور على حب النعم الحيوية التي تتم بها حياته لا بغية له دونها و لا يريد في الحقيقة شيئا و لا يقصده إلا لينتفع به في نفسه و ما ربما يلوح أنه يريد نفعا عائدا إلى غيره فالتأمل الدقيق يكشف عن اشتماله على نفع عائد إليه نفسه، و إذ كان يحب الوجدان فهو يبغض الفقدان.
و بهذين الوصفين الغريزيين أعني الحب و البغض يتم له أمر الحياة و لو أنه أحب كل شيء و منها الأضداد و المتناقضات لبطلت الحياة و لو أنه أبغض كل شيء حتى المتنافيات لبطلت الحياة، و قد فطره الله سبحانه على الحياة الاجتماعية لقصور ما عنده من القوى و الأدوات عن القيام بجميع ما يحتاج إليه من ضروريات حياته و من الضروري أن الاجتماع لا يتم إلا باختصاص كل فرد بما يحرم عنه آخرون من مال أو جاه أو زينة أو جمال أو كل ما يتنافس فيه الطباع الإنساني أو يتعلق به الهوى النفساني على اختلاف فيه بالزيادة و النقيصة.
و هذا أول ما يودع أنواع العداوة و البغضاء في القلوب و الشح في النفوس ثم ما ينبسط بينهم من وجوه الحرمان بالظلم و العدوان و بغي البعض على البعض في دم أو عرض أو مال أو غير ذلك مما يتنعمون به و يتنافسون فيه و يعلمون لأجله، تثير في داخل نفوسهم كل بغضاء و شنآن.
و هذا كله أوصاف و غرائز باطنية في الجماعة لا تلبث دون أن تظهر في أعمالهم و تتلاقى في أفعالهم و يماس بعضها بعضا بينهم في مسير حياتهم و فيه البلوى التي تتعقب الفتن و المصائب الاجتماعية التي تبيد النفوس و تهلك الحرث و النسل، و قد شهدت بذلك الحوادث الجارية على توالي القرون و الأجيال.
و مهما ظنت الأمم المجتمعة أن بغيتها في اجتماعها هي التمتع من العيشة المادية المحدودة بالحياة الدنيوية فلا سبيل إلى قلع مادة هذا الفساد من أصلها و قطع منابته فإن الدار دار التزاحم، و المجتمع قائم على قاعدة الاختصاص، و النفوس مختلفة في الاستعداد، و الحوادث الواقعة و العوامل المؤثرة و الأحوال الخارجة دخيلة في معايشهم و حياتهم.
قال تعالى: «إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا و إذا مسه الخير منوعا:» المعارج: - 21، و قال: «إن النفس لأمارة بالسوء:» يوسف: - 53، و قال: «و لا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك و لذلك خلقهم:» هود: - 119، إلى غير ذلك من الآيات.
و غاية ما يمكن الإنسان في بسط الألفة و إرضاء القلوب المشحونة بالعداوة و البغضاء أن يقنعهم أو يسكتهم ببذل ما يحبون من مال أو جاه أو سائر النعم الدنيوية المحبوبة عندهم غير أنه إنما ينفع في موارد جزئية خاصة، و أما العداوة و البغضاء العامتان فلا سبيل إلى إزالتهما عن القلوب ببذل النعمة فإنه لا يبطل غريزة الاستزادة و الشح الملتهب في كل نفس بما يشاهد من المزايا الحيوية عند غيره.
على أن من النعم ما لا يقبل إلا الاختصاص و الانفراد كالملك و الرئاسة العالية و أمور أخرى تجري مجراهما حتى أن الأمم الراقية ذوي المدنية و الحضارة لم يتمكنوا من معالجة هذا الداء إلا بما يزول به بعض شدته، و يستريح جثمان المجتمع من بعض عذابه، و أما البغضاءات المتعلقة بالأمور التي تختص به بعض مجتمعهم كالرئاسة و الملك فهي على حالها تتقد بشررها القلوب و لا يزال يأكل بعضها بعضا.
على أن ذلك ينحصر فيما بينهم و أما المجتمعات الخارجة من مجتمعهم فلا يعبأ بحالهم و لا يعتنى من منافعهم الحيوية إلا بما يوافق منافع أولئك و إن أعيتهم طوارق البلاء و عفاهم الدهر بالعناء.
و قد من الله على الأمة الإسلامية إذ أزال الشح عن نفوسهم و ألف بين قلوبهم بمعرفة إلهية علمه إياهم و بثه فيما بينهم ببيان أن الحياة الإنسانية حياة خالدة غير محصورة في هذه الأيام القلائل التي ستفنى و يبقى الإنسان و لا خبر عنها، و إن سعادة هذه الحياة الدائمة غير التمتع بلذائذ المادة و الرعي في كلإ الخسة بل هي حياة واقعية و عيشة حقيقية يحيى و يعيش بها الإنسان في كرامة عبودية الله سبحانه، و يتنعم بنعم القرب و الزلفى ثم يتمتع بما تيسر له من متاع الحياة الدنيا مما ساقه إليه الحظ أو الاكتساب عارفا بحقوق النعمة ثم ينتقل إلى جوار الله و يدخل دار رضوانه و يخالط هناك الصالحين من عباده، و يحيى حق الحياة قال تعالى: «و ما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع:» الرعد: - 26، و قال تعالى: «و ما هذه الحياة الدنيا إلا لهو و لعب و إن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون:» العنكبوت: - 64 و قال: «فأعرض عمن تولى عن ذكرنا و لم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله و هو أعلم بمن اهتدى:» النجم: - 30.
فعلى المسلم أن يؤمن بربه و يتربى بتربيته، و يعزم عزمه و يجمع بغيته على ما عند ربه فإنما هو عبد مدبر لا يملك ضرا و لا نفعا و لا موتا و لا حياة و لا نشورا و من كان هذا وصفه لم يكن له شغل إلا بربه الذي بيده الخير و الشر و النفع و الضر و الغنى و الفقر و الموت و الحياة، و كان عليه أن يسير مسير الحياة بالعلم النافع و العمل الصالح فما سعد به من مزايا الحياة الدنيا فموهبة من عند ربه و ما حرم منه احتسب عند ربه أجره، و ما عند الله خير و أبقى.
و ليس هذا من إلغاء الأسباب في شيء و لا إبطالا للفطرة الإنسانية الداعية إلى العمل و الاكتساب، النادبة إلى التوسل بالفكر و الإرادة، المحرضة إلى الاجتهاد في تنظيم العوامل و العلل، الموصلة إلى المقاصد الإنسانية و الأغراض الصحيحة الحيوية فقد فصلنا القول في توضيح ذلك في موارد متفرقة من هذا الكتاب.
و إذا تسنن المسلمون بهذه السنة الإلهية، و حولوا هوى قلوبهم عن ذلك التمتع المادي الذي ليس إلا بغية حيوانية و غرضا ماديا إلى هذا التمتع المعنوي الذي لا تزاحم فيه و لا حرمان عنده، ارتفعت عن قلوبهم العداوة و البغضاء، و خلصت نفوسهم من الشح و الرين، و أصبحوا بنعمة الله إخوانا، و أفلحوا حق الفلاح قال: «يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته و لا تموتن إلا و أنتم مسلمون و اعتصموا بحبل الله جميعا و لا تفرقوا و اذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا:» آل عمران: - 103 و قال: «و من يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون:» الحشر: - 9.
قوله تعالى: «يا أيها النبي حسبك الله و من اتبعك من المؤمنين» تطييب لنفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و قد قال تعالى قبله: «فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره و بالمؤمنين» فالمراد - و الله أعلم - يكفيك الله بنصره و بمن اتبعك من المؤمنين، و ليس المراد أن هناك سببين كافيين أو سببا كافيا ذا جزئين يتألف منهما سبب واحد كاف فالتوحيد القرآني يأبى ذلك.
و ربما قيل: إن المعنى حسبك الله و حسب من اتبعك من المؤمنين بعطف قوله: «من اتبعك» على موضع الكاف من «حسبك».
و الكلام على أي حال مسوق للتحريض على القتال على ما يفيده السياق و القرائن الخارجة فإن تأثير المؤمنين في كفايتهم له (صلى الله عليه وآله وسلم) إنما هو في القتال على ما يسبق إلى الذهن.
و ذكر بعضهم: أن الآية نزلت بالبيداء قبل غزوة بدر، و على هذا لا اتصال لها بما بعدها، و أما اتصالها بما قبلها فغير مقطوع به.
قوله تعالى: «يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال» إلى آخر الآية.
التحريض و التحضيض و الترغيب و الحض و الحث بمعنى و الفقه أبلغ و أغزر من الفهم، و قوله: «إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين» أي من الذين كفروا كما قيد به الألف بعدا، و كذلك قوله: «و إن يكن منكم مائة» أي مائة صابرة كما قيد بها «عشرون» قبلا.
و قوله: «بأنهم قوم لا يفقهون» الباء للسببية أو الإله و الجملة تعليلية متعلقة بقوله: «يغلبوا» أي عشرون صابرون منكم يغلبون مائتين من الذين كفروا، و مائة صابرة منكم يغلبون ألفا من الذين كفروا كل ذلك بسبب أن الكفار قوم لا يفقهون.
و فقدان الفقه في الكفار و بالمقابلة ثبوته في المؤمنين هو الذي أوجب أن يعدل الواحد من العشرين من المؤمنين أكثر من العشرة من المائتين من الذين كفروا حتى يغلب العشرون من هؤلاء المائتين من أولئك على ما بني عليه الحكم في الآية فإن المؤمنين إنما يقدمون فيما يقدمون عن إيمان بالله و هو القوة التي لا يعادله و لا يقاومه أي قوة أخرى لابتنائه على الفقه الصحيح الذي يوصفهم بكل سجية نفسانية فاضلة كالشجاعة و الشهامة و الجرأة و الاستقامة و الوقار و الطمأنينة و الثقة بالله و اليقين بأنه على إحدى الحسنيين إن قتل ففي الجنة و إن قتل ففي الجنة و إن الموت بالمعنى الذي يراه الكفار و هو الفناء لا مصداق له.
و أما الكفار فإنما اتكاؤهم على هوى النفس، و اعتمادهم على ظاهر ما يسوله لهم الشيطان، و النفوس المعتمدة على أهوائها لا تتفق للغاية و إن اتفقت أحيانا فإنما تدوم عليه ما لم يلح لائح الموت الذي تراه فناء، و ما أندر ما تثبت النفس على هواها حتى حال ما تهدد بالموت و هي على استقامة من الفكر بل تميل بأدنى ريح مخالف، و خاصة في المخاوف العامة و المهاول الشاملة كما أثبته التاريخ من انهزام المشركين يوم بدر و هم ألف بقتل سبعين منهم، و نسبة السبعين إلى الألف قريبة من نسبة الواحد إلى أربعة عشر فكان انهزامهم في معنى انهزام الأربعة عشر مقاتلا من مقاتل واحد، و ليس ذلك إلا لفقه المؤمنين الذي يستصحب العلم و الإيمان، و جهل الكفار الذي يلازمه الكفر و الهوى.
قوله تعالى: «الآن خفف الله عنكم و علم أن فيكم ضعفا فإن يكن» إلخ أي إن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين من الذين كفروا و إن يكن منكم ألف صابر يغلبوا ألفين من الذين كفروا على وزان ما مر في الآية السابقة.
و قوله: «و علم أن فيكم ضعفا» المراد به الضعف في الصفات الروحية و لا محالة ينتهي إلى الإيمان فإن الإيقان بالحق هو الذي ينبعث عنه جميع السجايا الحسنة الموجبة للفتح و الظفر كالشجاعة و الصبر و الرأي المصيب و أما الضعف من حيث العدة و القوة فمن الضروري أن المؤمنين لم يزالوا يزيدون عدة و قوة في زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
و قوله: «بإذن الله» تقييد لقوله: «يغلبوا» أي إن الله لا يشاء خلافه و الحال أنكم مؤمنون صابرون، و بذلك يظهر أن قوله: «و الله مع الصابرين» يفيد فائدة التعليل بالنسبة إلى الإذن.
و قوله تعالى في الآية السابقة تعليلا للحكم: «بأنهم قوم لا يفقهون» و كذا في هذه الآية: «و علم أن فيكم ضعفا» «و الله مع الصابرين» و عدم الفقه و الضعف الروحي و الصبر من العلل و الأسباب الخارجية المؤثرة في الغلبة و الظفر و الفوز بلا شك يدل على أن الحكم في الآيتين مبني على ما اعتبر من الأوصاف الروحية في الفئتين: المؤمنين و الكفار، و إن القوى الداخلة الروحية التي اعتبرت في الآية الأولى ما في المؤمن الواحد منها غالبة على القوى الداخلة الروحية في عشر من الكفار عادت بعد زمان يسير يشير إليه بقوله: «الآن خفف الله عنكم» لا يربو ما في المؤمن الواحد منها - من متوسطي المؤمنين - إلا على اثنين من الكفار فقد فقدت القوة من أثرها بنسبة الثمانين في المائة، و تبدلت العشرون و المائتان في الآية الأولى إلى المائة و المائتين في الآية الثانية، و المائة و الألف في الأولى إلى الألف و الألفين في الثانية.
و البحث الدقيق في العوامل المولدة للسجايا النفسانية بحسب الأحوال الطارئة على الإنسان في المجتمعات يهدي إلى ذلك فإن المجتمعات المنزلية و الأحزاب المنعقدة في سبيل غرض من الأغراض الحيوية دنيوية أو دينية في أول تكونها و نشأتها تحس بالموانع المضادة و المحن الهادمة لبنيانها من كل جانب فتتنبه قواها الدافعة للجهاد في سبيل هدفها المشروع عندها، و يستيقظ ما نامت من نفسانياتها للتحذر من المكاره و التفدية في طريق مطلوبها بالمال و النفس.
و لا تزال تجاهد و تفدي ليلها و نهارها، و تتقوى و تتقدم حتى تمهد لنفسها حياة فيها بعض الاستقلال، و يصفو لها الجو بعض الصفاء و يكثر جمعها و يضرب بجرانها الأرض أخذت بالاستفادة من فوائد جهدها و التنعم بنعمة الراحة، و التوسع في متسع الأمن، و شرعت القوى الروحية الباسطة الباعثة للعمل في الخمود.
على أن المجتمع و إن قلت أفراده لا يخلو من اختلاف في الإيمان، و السجايا الروحية الجميلة من قوي فيها و ضعيف، و كلما كثرت الأفراد ازداد ضعفاء الإيمان و الذين في قلوبهم مرض و المنافقون فتنزلت القوى الروحية في الفرد المتوسط و ارتفعت كفة الميزان عما كانت عليه من الثقل.
و الجماعات الدينية و الأحزاب الدنيوية في ذلك على السواء و السنة الطبيعية الجارية في النظام الإنساني تجري على الجميع على نسق واحد، و قد أثبتت التجربة القطعية أن المجتمعات المؤتلفة لغرض هام كلما قلت أفرادها و قويت رقباؤها و مزاحموها، و أحاطت بها المحن و الفتن كانت أكثر نشاطا للعمل و أحد في الأثر و كلما كثرت أفرادها و قلت مزاحماتها و الموانع الحائلة بينها و بين مقاصدها و مطالبها كانت أكثر خمودا و أقل تيقظا و أسفه حلما.
و التدبر الكافي في مغازي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ينور ذلك فهذه غزوة بدر غلب فيها المسلمون و هم ثلاثمائة و بضعة عشر رجلا على ما بهم من رثاثة الحال و قلة العدة و فقد السلاح و القوة كفار قريش و هم يعدلون ثلاثة أمثال المسلمين أو يزيدون على ما لهم من العزة و الشوكة و القوة ثم ما جرى على المسلمين في غزوة أحد ثم في غزوة الخندق ثم في غزوة خيبر ثم في غزوة حنين و هي أعجبها و قد ذكرها الله سبحانه بما لا يبقى لباحث ريبا في ذلك إذ قال: «و يوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا و ضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين» إلى آخر الآيات.
فالآية تدل أولا على أن الإسلام كان كلما زاد في زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عزة و شوكة ظاهرا زادت نقصا و خمودا في قوى المسلمين الروحية العامة و درجة إيمانهم و سجاياهم الجميلة النفسانية المعنوية باطنا حتى استقرت بعد غزوة بدر - بقليل أو كثير - على خمس ما كانت عليه قبلها كما يشير إليه بعض الإشارة قوله تعالى في الآيات التالية: «ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا و الله يريد الآخرة و الله عزيز حكيم لو لا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم» الآيات.
و ثانيا: أن الظاهر أن الآيتين نزلتا دفعة واحدة فإنهما و إن كانتا تخبران عن حال المؤمنين في زمانين مختلفين كما يشير إليه قوله في الآية الثانية: «الآن خفف الله عنكم» لكن الآيتين تقيسان كما مر طبع قوى المؤمنين الروحية في زمانين مختلفين، و سياق الثانية بالنظر إلى هذا القياس بحيث لا يستقل عن الأولى، و وجود حكمين مختلفين في زمانين لا يوجب أن ينزل الآية المتضمنة لأحدهما في زمان غير زمان نزول الأخرى المتضمنة للآخر.
نعم لو كانت الآيتان مقصورتين في بيان الحكم التكليفي فحسب كان الظاهر نزول الثانية بعد زمان نزلت فيه الأولى.
و ثالثا: أن ظاهر قوله تعالى: «الآن خفف الله عنكم» كما قيل كون الآيتين مسوقتين لبيان الحكم التكليفي لأن التخفيف لا يكون إلا بعد التكليف فاللفظ لفظ الخبر و المراد به الأمر و محصل المراد في الآية الأولى: ليثبت الواحد منكم للعشرة من الكفار و في الآية الثانية: الآن خفف الله في أمره فليثبت الواحد منكم للاثنين من الكفار.
و اختصاص التخفيف بباب التكاليف - كما قيل - و إن أمكنت المناقشة فيه لكن ظهور الآيتين في وجود حكمين مختلفين مترتبين بحسب الزمان أحدهما أخف من الآخر لا ينبغي الارتياب فيه.
و رابعا: أن ظاهر التعليل في الآية الأولى بالفقه، و في الآية الثانية بالصبر مع تقييد المقاتل من المؤمنين في الآيتين جميعا بالصبر يدل على أن الصبر يرجح الواحد في قوة الروح على مثليه، و الفقه يرجحه فيها على خمسة أمثاله فإذا اجتمعا في واحد يرجح على عشرة أمثال نفسه، و الصبر لا يفارق الفقه و إن جاز العكس.
و خامسا: أن الصبر واجب في القتال على أي حال.
بحث روائي
في تفسير البيضاوي، «: في قوله تعالى الذين عاهدت منهم - ثم ينقضون عهدهم في كل مرة» هم يهود بني قريظة عاهدهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن لا يمالئوا عليه فأعانوا المشركين بالسلاح و قالوا: نسينا، ثم عاهدهم فنكثوا و مالئوهم عليه يوم الخندق، و ركب كعب بن الأشرف إلى مكة فحالفهم.
أقول: و روي ذلك عن ابن عباس و مجاهد، و روي عن سعيد بن جبير أن الآية نزلت في ستة رهط من اليهود منهم ابن تابوت.
و إيضاح ما تشير إليه الآية من نقض اليهود ميثاق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مرة بعد مرة و ما قاساه من المحن من ناحيتهم يحتاج إلى سير إجمالي فيما جرى بينه (صلى الله عليه وآله وسلم) و بينهم من الأمر بعد هجرته (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة إلى سبع سنين من الهجرة.
و قد كانت طوائف من اليهود هاجرت من بلادها إلى الحجاز و توطنوا بها و بنوا فيها الحصون و القلاع، و زادت نفوسهم و كثرت أموالهم و عظم أمرهم و قد مرت في ذيل قوله تعالى: «و لما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم و كانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين:» البقرة: - 89 في الجزء الأول من الكتاب روايات في بدء مهاجرتهم إلى الحجاز و كيفية نزولهم حول المدينة و بشارتهم الناس بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
و لما هاجر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة و دعاهم إلى الإسلام استنكفوا عن الإيمان به فصالح يهود المدينة و عاهدهم بكتاب كتب بينه و بينهم و هم ثلاثة رهط حول المدينة: بنو قينقاع، و بنو النضير، و بنو قريظة أما بنو قينقاع فنكثوا العهد في غزوة بدر فسار إليهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في منتصف شوال في السنة الثانية من الهجرة بعد بضعة و عشرين يوما من وقعة بدر فتحصنوا في حصونهم فحاصرهم أشد الحصار، و بقوا على ذلك خمسة عشر يوما.
ثم نزلوا على حكم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في نفوسهم و أموالهم و نسائهم و ذراريهم فأمر بهم فكتفوا، و كلم عبد الله بن أبي بن سلول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيهم و ألح عليه و كانوا حلفاءه فوهبهم له، و أمرهم أن يخرجوا من المدينة و لا يجاوروه بها فخرجوا إلى أذرعات الشام و معهم نساؤهم و ذراريهم، و قبض منهم أموالهم غنيمة الحرب، و كانوا ستمائة مقاتل من أشجع اليهود.
و أما بنو النضير فإنهم كادوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ خرج إليهم في نفر من أصحابه بعد أشهر من غزوة بدر، و كلمهم أن يعينوه في دية نفر أو رجلين من الكلابيين قتلهم عمرو بن أمية الضمري فقالوا: نفعل يا أبا القاسم اجلس هنا حتى نقضي حاجتك، و خلا بعضهم ببعض فتأمروا بقتله و اختاروا من بينهم عمرو بن جحاش أن يأخذ حجر رحى فيصعد فيلقه على رأسه و يشدخه به و حذرهم سلام بن مشكم و قال لهم: لا تفعلوا ذلك فوالله ليخبرن بما هممتم به، و إنه لنقض العهد الذي بيننا و بينه.
فجاءه الوحي و أخبره ربه بما هموا به فقام (صلى الله عليه وآله وسلم) من مجلسه مسرعا و توجه إلى المدينة، و لحقه أصحابه و استفسروه عن قيامه و توجهه فأخبرهم بما همت به بنو النضير، و بعث إليهم من المدينة أن اخرجوا من المدينة و لا تساكنوني بها، و قد أجلتكم فمن وجدته بعد ذلك بها، منكم ضربت عنقه فأقاموا أياما يتجهزون للخروج.
و أرسل إليهم المنافق عبد الله بن أبي أن لا تخرجوا من دياركم فإن معي ألفين يدخلون معكم حصنكم و يموتون دونكم، و ينصركم بنو قريظة و حلفاؤكم من غطفان، و أرضاهم بذلك.
فبعث رئيسهم حيي بن أخطب إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: إنا لا نخرج من ديارنا فاصنع ما بدا لك فكبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و كبر أصحابه، و أمر عليا (عليه السلام) بحمل الراية و السير إليهم فساروا و أحاطوا بديارهم، و غدر بهم عبد الله بن أبي، و لم ينصرهم بنو قريظة و لا حلفاؤهم من غطفان.
و قد كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر بقطع نخيلهم و إحراقها فجزعوا من ذلك و قالوا: يا محمد لا تقطع فإن كان لك فخذه، و إن كان لنا فاتركه لنا.
ثم قالوا له بعد أيام: يا محمد نخرج من بلادك فأعطنا أموالنا قال: لا و لكن تخرجون و لكم ما حملت الإبل فلم يقبلوا ذلك و بقوا أياما على ذلك ثم رضوا و سألوه ذلك قال: لا و لكن تخرجون و لا يحمل أحد منكم شيئا، و من وجدنا معه شيئا من ذلك قتلناه فخرجوا فوقع قوم منهم إلى فدك و وادي القرى، و قوم إلى أرض الشام، و كان مالهم فيئا لله و رسوله من غير أن ينال شيئا من ذلك جيش الإسلام، و قصتهم مذكورة في سورة الحشر، و من كيد بني النضير للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تخريب الأحزاب من قريش و غطفان و غيرهم عليه (صلى الله عليه وآله وسلم).
و أما بنو قريظة فقد كانوا على الصلح و السلم حتى وقعت غزوة الخندق و قد كان حيي بن أخطب رئيس بني النضير ركب إلى مكة و حث قريشا على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و حزب الأحزاب، و في ذلك ركب إلى بني قريظة و جاءهم في ديارهم فلم يزل يوسوس إليهم و يعزهم و يلح عليهم و يكلم رئيسهم كعب بن أسد في ذلك و نقض العهد و مناجزة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى أرضاهم بذلك و اشترطوا عليه أن يدخل في حصنهم فيصيبه ما أصابهم فقبل و دخل.
فنقضوا العهد و مالوا إلى الأحزاب الذين حاصروا المدينة و أظهروا سب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أحدثوا ثلمة أخرى.
فلما فرغ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من أمر الأحزاب أتاه جبرئيل بوحي من الله يأمره بالمسير إليهم فسار إليهم و يحمل رايته علي (عليه السلام) و نازل حصون بني قريظة، و حصرهم خمسة و عشرين يوما.
فلما اشتد عليهم الحصار عرض عليهم رئيسهم كعب بن أسد أن يختاروا أحد ثلاث خصال: إما أن يسلموا و يدخلوا في دين محمد، و إما أن يقتلوا ذراريهم و يخرجوا إليه بسيوفهم مصلتة يناجزونه حتى يظفروا به أو يقتلوا عن آخرهم، و إما أن يهجموا عليه و يكسبوه يوم السبت لأنهم - يعني المسلمين - قد أمنوا أن يقاتلوهم فيه!.
فأبوا عليه أن يجيبوه إلى واحدة منهن فبعثوا إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن أرسل إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر نستشيره في الأمر و كان أبو لبابة مناصحا لهم لأن عياله و ذريته و ماله كانت عندهم.
فأرسله إليهم فلما رأوه قاموا إليه يبكون، و قالوا: له كيف ترى أن ننزل على حكم محمد؟ قال: نعم، و أشار بيده إلى حلقه: أنه الذبح، قال أبو لبابة: فوالله ما زلت قدماي حتى علمت أني خنت الله و رسوله، و أوحى الله إلى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) في أمر أبي لبابة.
فندم أبو لبابة و مضى على وجهه حتى أتى المسجد و ربط نفسه على سارية من سواري المسجد تائبا لله، و حلف ألا يحله إلا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو يموت، فبلغ ذلك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: دعوه حتى يتوب الله عليه، ثم إن الله تاب عليه و أنزل توبته و حله النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
ثم إن بني قريظة نزلوا على حكم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و كانوا موالي أوس فكلمته أوس في أمرهم مستشفعين و آل الأمر إلى تحكيم سعد بن معاذ الأوسي في أمرهم و رضوا و رضي به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأحضر سعد و كان جريحا.
و لما كلم سعد رحمه الله في أمرهم قال: لقد آن لسعد أن لا يأخذه في الله لومة لائم ثم حكم فيهم بقتل الرجال و سبي النساء و الذراري و أخذ الأموال فأجري عليهم ما حكم به سعد فضربت أعناقهم عن آخرهم، و كانوا ستمائة مقاتل أو سبعمائة، و قيل أكثر، و لم ينج منهم إلا نفر يسير آمنوا قبل تقتيلهم، و هرب عمرو بن سعدى منهم و لم يكن داخلا معهم في نقض العهد، و سبيت النساء إلا امرأة واحدة ضربت عنقها و هي التي طرحت على رأس خلاد بن السويد بن الصامت رحى فقتلته.
ثم أجلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من كان بالمدينة من اليهود ثم سار (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى يهود خيبر لما كان من كيدهم و سعيهم في حث الأحزاب عليه و تأليفهم من جميع القبائل العربية لحربه فنازل حصونهم و حصرهم أياما، و أرسل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى قتالهم أبا بكر في جمع يوما فانهزم، ثم عمر بن الخطاب في جمع يوما فانهزم.
و عند ذلك قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله و رسوله و يحبه الله و رسوله كرار غير فرار لا يرجع حتى يفتح الله على يديه» و لما كان من غد أعطى الراية عليا (عليه السلام) و أرسله إلى قتال القوم فتقدم إليهم و قتل مرحبا الفارس المعروف منهم، و هزمهم و قلع بيده باب حصنهم و فتح الله على يده الحصن، و كان ذلك بعد صلح الحديبية في المحرم سنة سبع من الهجرة.
ثم أجلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من بقي من اليهود و قد نصح لهم قبل ذلك أن يبيعوا أموالهم و يأخذوا أثمانها.
انتهى ما أردنا تلخيصه من قصة اليهود مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
و في تفسير العياشي، عن جابر: في قوله تعالى: «إن شر الدواب عند الله» الآية نزلت في بني أمية هم شر خلق الله هم «الذين كفروا» في باطن القرآن، و هم «الذين لا يؤمنون»: أقول: و روى مثله القمي عن أبي حمزة عنه (عليه السلام)، و هو من باطن القرآن كما صرح به في الرواية ليس بالظاهر.
و في الكافي، بإسناده عن سهل بن زياد عن بعض أصحابه عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ثلاث من كن فيه كان منافقا و إن صام و صلى و زعم أنه مسلم: من إذا اؤتمن خان، و إن حدث كذب، و إذا وعد أخلف إن الله عز و جل قال في كتابه: «إن الله لا يحب الخائنين» و قال: «إن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين» و في قوله عز و جل: «و اذكر في الكتاب إسماعيل - إنه كان صادق الوعد و كان رسولا نبيا» و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «و أعدوا لهم ما استطعتم من قوة» الآية قال: قال: السلاح. و في التفسير العياشي، عن محمد بن عيسى عمن ذكره عن أبي عبد الله (عليه السلام): في الآية قال: سيف و ترس. و في الفقيه، عن الصادق (عليه السلام) مرسلا: في الآية قال: منه الخضاب بالسواد.
و في الكافي، بإسناده عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام): دخل قوم على الحسين بن علي (عليهما السلام) فرأوه مختضبا بالسواد فسألوه عن ذلك فمد يده إلى لحيته ثم قال: أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في غزاة غزاها أن يختضبوا بالسواد ليقووا به على المشركين. و في تفسير العياشي، عن جابر الأنصاري قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «و أعدوا لهم ما استطعتم من قوة» قال: الرمي: أقول: و رواه في الكافي، بإسناده عن عبد الله بن المغيرة رفعه عنه (صلى الله عليه وآله وسلم)، و الزمخشري في ربيع الأبرار، عن عقبة بن عامر عنه، و السيوطي في الدر المنثور، عن أحمد و مسلم و أبي داود و ابن ماجة و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبي الشيخ و أبي يعقوب إسحاق بن إبراهيم و البيهقي عن عقبة بن عامر الجهني عنه (صلى الله عليه وآله وسلم). و في الدر المنثور، أخرج أبو داود و الترمذي و ابن ماجة و الحاكم و صححه و البيهقي عن عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة: صانعه الذي يحتسب في صنعته الخير و الذي يجهز به في سبيل الله، و الذي يرمي به في سبيل الله. و قال: ارموا و اركبوا، و أن ترموا خير من أن تركبوا، و قال: كل شيء يلهو به ابن آدم فهو باطل إلا ثلاثة: رميه عن قوسه، و تأديبه فرسه، و ملاعبته أهله فإنهن من الحق، و من علم الرمي ثم تركه فهي نعمة كفرها.
أقول: و في هذه المعاني روايات أخر، و خاصة في الخيل و الرمي و الروايات على أي حال من باب عد المصاديق.
و في الدر المنثور، أخرج سعد و الحارث بن أبي أسامة و أبو يعلى و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن قانع في معجمه و الطبراني و أبو الشيخ و ابن منده و الروياني في مسنده و ابن مردويه و ابن عساكر عن يزيد بن عبد الله بن غريب عن أبيه عن جده عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: في قوله: «و آخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم» قال: هم الجن، و لا تخبل الشيطان إنسانا في داره فرس عتيق.
أقول: و في معناها روايات أخر، و محصل الروايات ربط قوله: «و آخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم» بقوله: «و من رباط الخيل» و هي من قبيل الجري و ليس من التفسير في شيء، و المراد من الآية بظاهرها العدو من الإنسان كالكفار و المنافقين.
و فيه، أخرج ابن مردويه عن عبد الرحمن بن أبزى: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يقرأ: و إن جنحوا للسلم. و فيه، أخرج أبو عبيد و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن ابن عباس: في قوله: «و إن جنحوا للسلم فاجنح لها» قال: نسختها هذه الآية: «قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله و لا باليوم الآخر - إلى قوله - صاغرون».
أقول: و روي نسخها بآية البراءة: «اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم» و الآية لا تخلو عن إيماء إلى كون الحكم مؤجلا حيث قال: «و إن جنحوا للسلم فاجنح لها و توكل على الله إنه هو السميع العليم».
و في الكافي، بإسناده عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله تعالى: «و إن جنحوا للسلم فاجنح لها» قلت: ما السلم؟ قال: الدخول في أمرنا، و في رواية أخرى: الدخول في أمرك.
أقول: و هو من الجري.
و في الدر المنثور، أخرج ابن عساكر عن أبي هريرة قال: مكتوب على العرش لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي محمد عبدي و رسولي أيدته بعلي و ذلك قوله: «هو الذي أيدك بنصره و بالمؤمنين:» أقول: و رواه الصدوق في المعاني، بإسناده عن أبي هريرة، و أبو نعيم في حلية الأولياء، بإسناده عنه، و كذا ابن شهرآشوب مسندا عن أنس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). و في تفسير البرهان، عن شرف الدين النجفي قال: تأويله ذكره أبو نعيم في حلية الأولياء بطريقه عن أبي هريرة قال: نزلت هذه الآية في علي بن أبي طالب، و هو المعني بقوله: المؤمنين.
أقول: و لفظ الآية لا يساعد على ذلك اللهم إلا أن يكون المراد بالاتباع تمام الاتباع الذي لا يشذ عنه شأن من الشئون، و من للتبعيض دون البيان إن ساعد عليه السياق.
و في الدر المنثور، أخرج البزار عن ابن عباس قال: لما أسلم عمر قال المشركون: قد انتصف القوم منا اليوم، و أنزل الله: «يا أيها النبي حسبك الله - و من اتبعك من المؤمنين».
أقول: و روي هذا المعنى في روايات أخر، و الاعتبار لا يساعد عليه فإن الزمان الذي أسلم فيه لم يكن على نعت يصحح الخطاب بمثل قوله: «يا أيها النبي حسبك الله و من اتبعك من المؤمنين» و اليوم يوم الفتنة و العسرة، و قد دام الحال على ذلك بعدة سنين متمادية، و ما كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يومئذ يحتاج إلى شيء يعينه العدة، و في هذه الروايات أنه كان تمام الأربعين أو رابع أربعين.
على أن الظاهر أن الآية مدنية من جملة آيات سورة الأنفال.
و فيه، أخرج ابن إسحاق و ابن أبي حاتم عن الزهري: في قوله: «يا أيها النبي حسبك الله و من اتبعك من المؤمنين» قال: نزلت في الأنصار.
أقول: و سياق الآية في عدم المساعدة عليه كالروايتين السابقتين اللهم إلا أن يكون المراد نزولها يوم آمن به الأنصار أو يوم تابعوه، و الظاهر أن الآية نزلت في تطييب نفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بجميع من كان معه من المؤمنين: مهاجريهم و أنصارهم، و هي توطئة و تمهيد لما في الآية التالية من الأمر بتحريض المؤمنين على القتال.
و في تفسير القمي، قال: قال:، كان الحكم في أول النبوة في أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن الرجل الواحد وجب عليه أن يقاتل عشرة من الكفار فإن هرب منهم فهو الفار من الزحف، و المائة يقاتلون ألفا. ثم علم الله أن فيهم ضعفا لا يقدرون على ذلك فأنزل الله: «الآن خفف الله عنكم و علم أن فيكم ضعفا - فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين» ففرض عليهم أن يقاتل أقل رجل من المؤمنين رجلين من الكفار فإن فر منهما فهو الفار من الزحف فإن كانوا ثلاثة من الكفار و واحدا من المسلمين ففر المسلم منهم فليس هو الفار من الزحف.
أقول: و في تفسير العياشي، عن الحسين بن صالح عن الصادق عن علي (عليه السلام) ما يقرب منه، و روي ما في معناها في الدر المنثور، بطرق عديدة عن ابن عباس و غيره.
و في الدر المنثور، أخرج الشيرازي في الألقاب و ابن عدي و الحاكم و صححه عن ابن عمر: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قرأ: «الآن خفف الله عنكم - و علم أن فيكم ضعفا رفع.
|