بيان
وردت الروايات من طرق أهل السنة أن الآيات نزلت في قصة ابن أم مكتوم الأعمى دخل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و عنده قوم من صناديد قريش يناجيهم في أمر الإسلام فعبس النبي عنه فعاتبه الله تعالى بهذه الآيات و في بعض الأخبار من طرق الشيعة إشارة إلى ذلك.
و في بعض روايات الشيعة أن العابس المتولي رجل من بني أمية كان عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فدخل عليه ابن أم مكتوم فعبس الرجل و قبض وجهه فنزلت الآيات: و سيوافيك تفصيل البحث عن ذلك في البحث الروائي التالي إن شاء الله تعالى.
و كيف كان الأمر فغرض السورة عتاب من يقدم الأغنياء و المترفين على الضعفاء و المساكين من المؤمنين فيرفع أهل الدنيا و يضع أهل الآخرة ثم ينجر الكلام إلى الإشارة إلى هوان أمر الإنسان في خلقه و تناهيه في الحاجة إلى تدبير أمره و كفره مع ذلك بنعم ربه و تدبيره العظيم لأمره و تتخلص إلى ذكر بعثه و جزائه إنذارا و السورة مكية بلا كلام.
قوله تعالى: «عبس و تولى» أي بسر و قبض وجهه و أعرض.
قوله تعالى: «أن جاءه الأعمى» تعليل لما ذكر من العبوس بتقدير لام التعليل.
قوله تعالى: «و ما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى» حال من فاعل «عبس و تولى» و المراد بالتزكي التطهر بعمل صالح بعد التذكر الذي هو الاتعاظ و الانتباه للاعتقاد الحق، و نفع الذكرى هو دعوتها إلى التزكي بالإيمان و العمل الصالح.
و محصل المعنى: بسر و أعرض عن الأعمى لما جاءه و الحال أنه ليس يدري لعل الأعمى الذي جاءه يتطهر بصالح العمل بعد الإيمان بسبب مجيئه و تعلمه و قد تذكر قبل أو يتذكر بسبب مجيئه و اتعاظه بما يتعلم فتنفعه الذكرى فيتطهر.
و في الآيات الأربع عتاب شديد و يزيد شدة بإتيان الآيتين الأوليين في سياق الغيبة لما فيه من الإعراض عن المشافهة و الدلالة على تشديد الإنكار و إتيان الآيتين الأخيرتين في سياق الخطاب لما فيه من تشديد التوبيخ و إلزام الحجة بسبب المواجهة بعد الإعراض و التقريع من غير واسطة.
و في التعبير عن الجائي بالأعمى مزيد توبيخ لما أن المحتاج الساعي في حاجته إذا كان أعمى فاقدا للبصر و كانت حاجته في دينه دعته إلى السعي فيها خشية الله كان من الحري أن يرحم و يخص بمزيد الإقبال و التعطف لا أن ينقبض و يعرض عنه.
و قيل - بناء على كون المراد بالمعاتب هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) -: أن في التعبير عنه أولا بضمير الغيبة إجلالا له لإيهام أن من صدر عنه العبوس و التولي غيره (صلى الله عليه وآله وسلم) لأنه لا يصدر مثله عن مثله، و ثانيا بضمير الخطاب إجلالا له أيضا لما فيه من الإيناس بعد الإيحاش و الإقبال بعد الإعراض.
و فيه أنه لا يلائمه الخطاب في قوله بعد: «أما من استغنى فأنت له تصدى» إلخ و العتاب و التوبيخ فيه أشد مما في قوله: «عبس و تولى» إلخ و لا إيناس فيه قطعا.
قوله تعالى: «أما من استغنى فأنت له تصدى و ما عليك ألا يزكى» الغنى و الاستغناء و التغني و التغاني بمعنى على ما ذكره الراغب فالمراد بمن استغنى من تلبس بالغنى و لازمه التقدم و الرئاسة و العظمة في أعين الناس و الاستكبار عن اتباع الحق قال تعالى: «إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى»: العلق: 7 و التصدي التعرض للشيء بالإقبال عليه و الاهتمام بأمره.
و في الآية إلى تمام ست آيات إشارة إلى تفصيل القول في ملاك ما ذكر من العبوس و التولي فعوتب عليه و محصله أنك تعتني و تقبل على من استغنى و استكبر عن اتباع الحق و ما عليك ألا يزكى و تتلهى و تعرض عمن يجتهد في التزكي و هو يخشى.
و قوله: «و ما عليك ألا يزكى» قيل: «ما» نافية و المعنى و ليس عليك بأس أن لا يتزكى حتى يبعثك الحرص على إسلامه إلى الإعراض و التلهي عمن أسلم و الإقبال عليه.
و قيل: «ما» للاستفهام الإنكاري و المعنى و أي شيء يلزمك أن لم يتطهر من الكفر و الفجور فإنما أنت رسول ليس عليك إلا البلاغ.
و قيل: المعنى و لا تبالي بعدم تطهره من دنس الكفر و الفجور و هذا المعنى أنسب لسياق العتاب ثم الذي قبله ثم الذي قبله.
قوله تعالى: «و أما من جاءك يسعى و هو يخشى فأنت عنه تلهى» السعي الإسراع في المشي فمعنى قوله: «و أما من جاءك يسعى» بحسب ما يفيده المقام: و أما من جاءك مسرعا ليتذكر و يتزكى بما يتعلم من معارف الدين.
و قوله: «و هو يخشى» أي يخشى الله و الخشية آية التذكر بالقرآن قال تعالى: «ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى إلا تذكرة لمن يخشى»: طه: 3 و قال: «سيذكر من يخشى»: الأعلى: 10.
و قوله: «فأنت عنه تلهى» أي تتلهى و تتشاغل بغيره و تقديم ضمير أنت في قوله: «فأنت له تصدى» و قوله: «فأنت عنه تلهى» و كذا الضميرين «له» و «عنه» في الآيتين لتسجيل العتاب و تثبيته.
قوله تعالى: «كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره» «كلا» ردع عما عوتب عليه من العبوس و التولي و التصدي لمن استغنى و التلهي عمن يخشى.
و الضمير في «أنها تذكرة» للآيات القرآنية أو للقرآن و تأنيث الضمير لتأنيث الخبر و المعنى أن الآيات القرآنية أو القرآن تذكرة أي موعظة يتعظ بها من اتعظ أو مذكر يذكر حق الاعتقاد و العمل.
و قوله: «فمن شاء ذكره» جملة معترضة و الضمير للقرآن أو ما يذكر به القرآن من المعارف، و المعنى فمن شاء ذكر القرآن أو ذكر ما يذكر به القرآن و هو الانتقال إلى ما تهدي إليه الفطرة مما تحفظه في لوحها من حق الاعتقاد و العمل.
و في التعبير بهذا التعبير: «فمن شاء ذكره» تلويح إلى أن لا إكراه في الدعوة إلى التذكر فلا نفع فيها يعود إلى الداعي و إنما المنتفع بها المتذكر فليختر ما يختاره.
قوله تعالى: «في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة» قال في المجمع،: الصحف جمع صحيفة، و العرب تسمي كل مكتوب فيه صحيفة كما تسميه كتابا رقا كان أو غيره انتهى.
و «في صحف» خبر بعد خبر لأن و ظاهره أنه مكتوب في صحف متعددة بأيدي ملائكة الوحي، و هذا يضعف القول بأن المراد بالصحف اللوح المحفوظ و لم يرد في كلامه تعالى إطلاق الصحف و لا الكتب و لا الألواح بصيغة الجمع على اللوح المحفوظ، و نظيره في الضعف القول بأن المراد بالصحف كتب الأنبياء الماضين لعدم ملاءمته لظهور قوله: «بأيدي سفرة» إلخ في أنه صفة لصحف.
و قوله: «مكرمة» أي معظمة، و قوله: «مرفوعة» أي قدرا عند الله، و قوله: «مطهرة» أي من قذارة الباطل و لغو القول و الشك و التناقض قال تعالى: «لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه»: حم السجدة: 42، و قال: «إنه لقول فصل و ما هو بالهزل»: الطارق: 14 و قال: «ذلك الكتاب لا ريب فيه»: البقرة: 2، و قال: «و لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا»: النساء: 82.
قوله تعالى: «بأيدي سفرة كرام بررة» صفة بعد صفة لصحف، و السفرة هم السفراء جمع سفير بمعنى الرسول و «كرام» صفة لهم باعتبار ذواتهم و «بررة» صفة لهم باعتبار عملهم و هو الإحسان في الفعل.
و معنى الآيات أن القرآن تذكرة مكتوبة في صحف متعددة معظمة مرفوعة قدرا مطهرا من كل دنس و قذارة بأيدي سفراء من الملائكة كرام على ربهم بطهارة ذواتهم بررة عنده تعالى بحسن أعمالهم.
و يظهر من الآيات أن للوحي ملائكة يتصدون لحمل الصحف و إيحاء ما فيها من القرآن فهم أعوان جبريل و تحت أمره و نسبة إلقاء الوحي إليهم لا تنافي نسبته إلى جبريل في مثل قوله: «نزل به الروح الأمين على قلبك»: الشعراء: 194 و قد قال تعالى في صفته: «إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين»: التكوير: 21 فهو مطاع من الملائكة من يصدر عن أمره و يأتي بما يريده و الإيحاء الذي هو فعل أعوانه فعله كما أن فعله و فعلهم جميعا فعل الله و ذلك نظير كون التوفي الذي هو فعل أعوان ملك الموت فعله، و فعله و فعلهم جميعا فعل الله تعالى، و قد تقدمت الإشارة إلى هذا البحث مرارا.
و قيل: المراد بالسفرة الكتاب من الملائكة، و الذي تقدم من المعنى أجلى و قيل: المراد بهم القراء يكتبونها و يقرءونها و هو كما ترى.
بحث روائي
في المجمع، قيل: نزلت الآيات في عبد الله بن أم مكتوم و هو عبد الله بن شريح بن مالك بن ربيعة الفهري من بني عامر بن لؤي. و ذلك أنه أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو يناجي عتبة بن ربيعة و أبا جهل بن هشام و العباس بن عبد المطلب و أبيا و أمية بن خلف يدعوهم إلى الله و يرجو إسلامهم فقال: يا رسول الله أقرئني و علمني مما علمك الله فجعل يناديه و يكرر النداء و لا يدري أنه مشتغل مقبل على غيره حتى ظهرت الكراهة في وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لقطعه كلامه و قال في نفسه: يقول هؤلاء الصناديد إنما أتباعه العميان و العبيد فأعرض عنه و أقبل على القوم الذين كان يكلمهم فنزلت الآيات. و كان رسول الله بعد ذلك يكرمه، و إذا رآه قال: مرحبا بمن عاتبني فيه ربي، و يقول له: هل لك من حاجة؟ و استخلفه على المدينة مرتين في غزوتين.
أقول: روى السيوطي في الدر المنثور القصة عن عائشة و أنس و ابن عباس على اختلاف يسير و ما أورده الطبرسي محصل الروايات.
و ليست الآيات ظاهرة الدلالة على أن المراد بها هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بل خبر محض لم يصرح بالمخبر عنه بل فيها ما يدل على أن المعنى بها غيره لأن العبوس ليس من صفات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع الأعداء المباينين فضلا عن المؤمنين المسترشدين.
ثم الوصف بأنه يتصدى للأغنياء و يتلهى عن الفقراء لا يشبه أخلاقه الكريمة كما عن المرتضى رحمه الله.
و قد عظم الله خلقه (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ قال - و هو قبل نزول هذه السورة -: «و إنك لعلى خلق عظيم» و الآية واقعة في سورة «ن» التي اتفقت الروايات المبينة لترتيب نزول السور على أنها نزلت بعد سورة اقرأ باسم ربك، فكيف يعقل أن يعظم الله خلقه في أول بعثته و يطلق القول في ذلك ثم يعود فيعاتبه على بعض ما ظهر من أعماله الخلقية و يذمه بمثل التصدي للأغنياء و إن كفروا و التلهي عن الفقراء و إن آمنوا و استرشدوا.
و قال تعالى أيضا: «و أنذر عشيرتك الأقربين و اخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين»: الشعراء: 215 فأمره بخفض الجناح للمؤمنين و السورة من السور المكية و الآية في سياق قوله: «و أنذر عشيرتك الأقربين» النازل في أوائل الدعوة.
و كذا قوله: «لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم و لا تحزن عليهم و اخفض جناحك للمؤمنين»: الحجر: 88 و في سياق الآية قوله: «فاصدع بما تؤمر و أعرض عن المشركين»: الحجر: 94 النازل في أول الدعوة العلنية فكيف يتصور منه (صلى الله عليه وآله وسلم) العبوس و الإعراض عن المؤمنين و قد أمر باحترام إيمانهم و خفض الجناح و أن لا يمد عينيه إلى دنيا أهل الدنيا.
على أن قبح ترجيح غنى الغني - و ليس ملاكا لشيء من الفضل - على كمال الفقير و صلاحه بالعبوس و الإعراض عن الفقير و الإقبال على الغني لغناه قبح عقلي مناف لكريم الخلق الإنساني لا يحتاج في لزوم التجنب عنه إلى نهي لفظي.
و بهذا و ما تقدمه يظهر الجواب عما قيل: إن الله سبحانه لم ينهه (صلى الله عليه وآله وسلم) عن هذا الفعل إلا في هذا الوقت فلا يكون معصية منه إلا بعده و أما قبل النهي فلا.
و ذلك أن دعوى أنه تعالى لم ينهه إلا في هذا الوقت تحكم ممنوع، و لو سلم فالعقل حاكم بقبحه و معه ينافي صدوره كريم الخلق و قد عظم الله خلقه (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل ذلك إذ قال: «و إنك لعلى خلق عظيم» و أطلق القول، و الخلق ملكة لا تتخلف عن الفعل المناسب لها.
و عن الصادق (عليه السلام) على ما في المجمع،: أنها نزلت في رجل من بني أمية كان عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فجاء ابن أم مكتوم فلما رآه تقذر منه و جمع نفسه و عبس و أعرض بوجهه عنه فحكى الله سبحانه ذلك و أنكره عليه.
و في المجمع، و روي عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا رأى عبد الله بن أم مكتوم قال: مرحبا مرحبا و الله لا يعاتبني الله فيك أبدا، و كان يصنع به من اللطف حتى كان يكف عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مما يفعل به.
أقول: الكلام فيه كالكلام فيما تقدمه، و معنى قوله: حتى أنه كان يكف «إلخ» أنه كان يكف عن الحضور عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لكثرة صنيعه (صلى الله عليه وآله وسلم) به انفعالا منه و خجلا.
|