بيان
تنزيه للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من الجنون - و قد اتهموه به - و لما يأتي به - من القرآن - من مداخلة الشيطان، و أنه كلامه تعالى يلقيه إليه ملك الوحي الذي لا يخون في رسالته، و أنه ذكر للعالمين هاد بإذن الله لمن اهتدى منهم.
قوله تعالى: «فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس» الخنس جمع خانس كطلب جمع طالب، و الخنوس الانقباض و التأخر و الاستتار، و الجواري جمع جارية، و الجري السير السريع مستعار من جرى الماء، و الكنس جمع كانس و الكنوس دخول الوحش كالظبي و الطير كناسة أي بيته الذي اتخذه لنفسه و استقراره فيه.
و تعقب قوله: «فلا أقسم بالخنس» إلخ بقوله: «و الليل إذا عسعس و الصبح إذا تنفس» يؤيد كون المراد بالخنس الجوار الكنس الكواكب كلها أو بعضها لكن صفات حركة بعضها أشد مناسبة و أوضح انطباقا على ما ذكر من الصفات المقسم بها: الخنوس و الجري و الكنوس و هي السيارات الخمس المتحيرة: زحل و المشتري و المريخ و الزهرة و عطارد فإن لها في حركاتها على ما تشاهد استقامة و رجعة و إقامة فهي تسير و تجري حركة متشابهة زمانا و هي الاستقامة و تنقبض و تتأخر و تخنس زمانا و هي الرجعة و تقف عن الحركة استقامة و رجعة زمانا كأنها الوحش تكنس في كناسها و هي الإقامة.
و قيل: المراد بها مطلق الكواكب و خنوسها استتارها في النهار تحت ضوء الشمس و جريها سيرها المشهود في الليل و كنوسها غروبها في مغربها و تواريها.
و قيل: المراد بها بقر الوحش أو الظبي و لا يبعد أن يكون ذكر بقر الوحش أو الظبي من باب المثال و المراد مطلق الوحوش.
و كيف كان فأقرب الأقوال أولها و الثاني بعيد و الثالث أبعد.
قوله تعالى: «و الليل إذا عسعس» عطف على الخنس، و «إذا عسعس» قيد لليل، و العسعسة تطلق على إقبال الليل و على إدباره قال الراغب: «و الليل إذا عسعس» أي أقبل و أدبر و ذلك في مبدإ الليل و منتهاه فالعسعسة و العساس رقة الظلام و ذلك في طرفي الليل.
انتهى و الأنسب لاتصال الجملة بقوله: «و الصبح إذا تنفس» أن يراد بها إدبار الليل.
و قيل: المراد بها إقبال الليل: و هو بعيد لما عرفت.
قوله تعالى: «و الصبح إذا تنفس» عطف على الخنس، و «إذا تنفس» قيد للصبح، و عد الصبح متنفسا بسبب انبساط ضوئه على الأفق و دفعه الظلمة التي غشيته نوع من الاستعارة بتشبيه الصبح و قد طلع بعد غشيان الظلام للآفاق بمن أحاطت به متاعب أعمال شاقة ثم وجد خلاء من الزمان فاستراح فيه و تنفس فعد إضاءته للأفق تنفسا منه كذا يستفاد من بعضهم.
و ذكر الزمخشري فيه وجها آخر فقال في الكشاف،: فإن قلت: ما معنى تنفس الصبح؟ قلت: إذا أقبل الصبح أقبل بإقباله روح و نسيم فجعل ذلك نفسا له على المجاز.
انتهى و الوجه المتقدم أقرب إلى الذهن.
قوله تعالى: «إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين» جواب القسم، و ضمير «إنه» للقرآن أو لما تقدم من آيات السورة بما أنها قرآن بدليل قوله: «لقول رسول» إلخ و المراد بالرسول جبريل كما قال تعالى: «من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله»: البقرة: 97.
و في إضافة القول إليه بما أنه رسول دلالة على أن القول لله سبحانه، و نسبته إلى جبريل نسبة الرسالة إلى الرسول و قد وصفه الله بصفات ست مدحه بها.
فقوله: «رسول» يدل على رسالته و إلقائه وحي القرآن إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و قوله: «كريم» أي ذي كرامة و عزة عند الله بإعزازه، و قوله: «ذي قوة» أي ذي قدرة و شدة بالغة، و قوله: «عند ذي العرش مكين» أي صاحب مكانة عند الله و المكانة القرب و المنزلة، و قوله: «مطاع ثم» أي مطاع عند الله فهناك ملائكة يأمرهم فيطيعونه، و من هنا يظهر أن له أعوانا من الملائكة يأمرهم فيأتمرون بأمره، و قوله: «أمين» أي لا يخون فيما أمر به يبلغ ما حمله من الوحي و الرسالة من غير أي تصرف فيه.
و قيل: المراد بالرسول الجاري عليه الصفات هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و هو كما ترى و لا تلائمه الآيات التالية.
قوله تعالى: «و ما صاحبكم بمجنون» عطف على قوله: «إنه لقول» إلخ ورد لرميهم له (صلى الله عليه وآله وسلم) بالجنون.
و في التعبير عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: «صاحبكم» تكذيب لهم في رميهم له بالجنون و تنزيه لساحته - كما قيل - ففيه إيماء إلى أنه صاحبكم لبث بينكم معاشرا لكم طول عمره و أنتم أعرف به قد وجدتموه على كمال من العقل و رزانة من الرأي و صدق من القول و من هذه صفته لا يرمى بالجنون.
و توصيف جبريل بما مر من صفات المدح دون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا دلالة فيه على أفضليته من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأن الكلام مسوق لبيان أن القرآن كلام الله سبحانه منزل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من عنده سبحانه من طريق الوحي لا من أوهام الجنون بإلقاء من شيطان و الذي يفيد في هذا الغرض بيان سلامة طريق الإنزال و تجليل المنزل - اسم فاعل - بذكر أوصافه الكريمة و المبالغة في تنزيهه عن الخطإ و الخيانة، و أما المنزل عليه فلا يتعلق به غرض إلا بمقدار الإشارة إلى دفع ما يرتاب فيه من صفته و قد أفيد بنفي الجنون الذي رموه به و التعبير عنه بقوله: «صاحبكم» كما تقدم توضيحه، كذا قيل.
و في مطاوي كلامه تعالى من نعوت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الكريمة ما لا يرتاب معه في أفضليته (صلى الله عليه وآله وسلم) على جميع الملائكة، و قد أسجد الله الملائكة كلهم أجمعين للإنسان الذي هو خليفته في الأرض.
قوله تعالى: «و لقد رآه بالأفق المبين» ضمير الفاعل في «رآه» للصاحب و ضمير المفعول للرسول الكريم و هو جبريل.
و الأفق المبين الناحية الظاهرة، و الظاهر أنه الذي أشار إليه بقوله: «و هو بالأفق الأعلى»: النجم: 7.
و المعنى و أقسم لقد رآى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) جبريل حال كون جبريل كائنا في الأفق المبين و هو الأفق الأعلى من سائر الآفاق بما يناسب عالم الملائكة.
و قيل: المعنى لقد رآى (صلى الله عليه وآله وسلم) جبريل على صورته الأصلية حيث تطلع الشمس و هو الأفق الأعلى من ناحية المشرق.
و فيه أن لا دليل من اللفظ يدل عليه و خاصة في تعلق الرؤية بصورته الأصلية و رؤيته في أي مثال تمثل به رؤيته، و كأنه مأخوذ مما ورد في بعض الروايات أنه رآه في أول البعثة و هو بين السماء و الأرض جالس على كرسي، و هو محمول على التمثل.
قوله تعالى: «و ما هو على الغيب بضنين» الضمير للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و المراد بالغيب الوحي النازل عليه، و الضنين صفة مشبهة من الضن بمعنى البخل يعني أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يبخل بشيء مما يوحى إليه فلا يكتمه و لا يحبسه و لا يغيره بتبديل بعضه أو كله شيئا آخر بل يعلم الناس كما علمه الله و يبلغهم ما أمر بتبليغه.
قوله تعالى: «و ما هو بقول شيطان رجيم» نفي لاستناد القرآن إلى إلقاء شيطان بما هو أعم من طريق الجنون فإن الشيطان بمعنى الشرير و الشيطان الرجيم كما أطلق في كلامه تعالى على إبليس و ذريته كذلك أطلق على أشرار سائر الجن قال تعالى: «قال فاخرج منها فإنك رجيم»: ص: 77، و قال: «و حفظناها من كل شيطان رجيم»: الحجر: 17.
فالمعنى أن القرآن ليس بتسويل من إبليس و جنوده و لا بإلقاء من أشرار الجن كما يلقونه على المجانين.
قوله تعالى: «فأين تذهبون» أوضح سبحانه في الآيات السبع المتقدمة ما هو الحق في أمر القرآن دافعا عنه ارتيابهم فيه بما يرمون به الجائي به من الجنون و غيره على إيجاز متون الآيات فبين أولا أنه كلام الله و اتكاء هذه الحقيقة على آيات التحدي، و ثانيا أن نزوله برسالة ملك سماوي جليل القدر عظيم المنزلة و هو أمين الوحي جبريل لا حاجز بينه و بين الله و لا بينه و بين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و لا صارف من نفسه أو غيره يصرفه عن أخذه و لا حفظه و لا تبليغه، و ثالثا أن الذي أنزل عليه و هو يتلوه لكم و هو صاحبكم الذي لا يخفى عليكم حاله ليس بمجنون كما يبهتونه به و قد رآى الملك الحامل للوحي و أخذ عنه و ليس بكاتم لما يوحى إليه و لا بمغير، و رابعا أنه ليس بتسويل من إبليس و جنوده و لا بإلقاء من بعض أشرار الجن.
و نتيجة هذا البيان أن القرآن كتاب هدى يهتدي به من أراد الاستقامة على الحق و هو قوله: «إن هو إلا ذكر للعالمين» إلخ.
فقوله: «فأين تذهبون» توطئة و تمهيد لذكر نتيجة البيان السابق، و هو استضلال لهم فيما يرونه في أمر القرآن الكريم أنه من طواري الجنون أو من تسويلات الشيطان الباطلة.
فالاستفهام في الآية توبيخي و المعنى إذا كان الأمر على هذا فأين تذهبون و تتركون الحق وراءكم؟ قوله تعالى: «إن هو إلا ذكر للعالمين» أي تذكرة لجماعات الناس كائنين من كانوا يمكنهم بها أن يتبصروا للحق، و قد تقدم بعض الكلام في نظيرة الآية.
قوله تعالى: «لمن شاء منكم أن يستقيم» بدل من قوله: «للعالمين» مسوق لبيان أن فعلية الانتفاع بهذا الذكر مشروط بأن يشاءوا الاستقامة على الحق و هو التلبس بالثبات على العبودية و الطاعة.
قوله تعالى: «و ما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين» تقدم الكلام في معناه في نظائر الآية.
و الآية بحسب ما يفيده السياق في معنى دفع الدخل فإن من الممكن أن يتوهموا من قوله: «لمن شاء منكم أن يستقيم» أن لهم الاستقلال في مشية الاستقامة إن شاءوا استقاموا و إن لم يشاءوا لم يستقيموا، فلله إليهم حاجة في الاستقامة التي يريدها منهم.
فدفع ذلك بأن مشيتهم متوقفة على مشية الله سبحانه فلا يشاءون الاستقامة إلا أن يشاء الله أن يشاءوها، فأفعال الإنسان الإرادية مرادة لله تعالى من طريق إرادته و هو أن يريد الله أن يفعل الإنسان فعلا كذا و كذا عن إرادته.
بحث روائي
في الدر المنثور، أخرج سعيد بن منصور و الفاريابي و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن أبي حاتم و الحاكم و صححه من طرق عن علي في قوله: «فلا أقسم بالخنس» قال: هي الكواكب تكنس بالليل و تخنس بالنهار فلا ترى.
و في تفسير القمي،: في قوله: «فلا أقسم بالخنس» قال: أي و أقسم بالخنس و هو اسم النجوم. «الجوار الكنس» قال: النجوم تكنس بالنهار فلا تبين.
و في المجمع،: «بالخنس» و هي النجوم تخنس بالنهار و تبدو بالليل «و الجوار» صفة لها لأنها تجري في أفلاكها «الكنس» من صفتها أيضا لأنها تكنس أي تتوارى في بروجها كما تتوارى الظباء في كناسها. و هي خمسة أنجم: زحل و المشتري و المريخ و الزهرة و عطارد عن علي «و الليل إذا عسعس» أي إذا أدبر بظلامه عن علي.
و في تفسير القمي،: «و الليل إذا عسعس» قال: إذا أظلم «و الصبح إذا تنفس» قال: إذا ارتفع.
و في الدر المنثور، أخرج ابن عساكر عن معاوية بن قرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لجبريل: ما أحسن ما أثنى عليك ربك: ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين فما كانت قوتك؟ و ما كانت أمانتك؟ قال: أما قوتي فإني بعثت إلى مدائن لوط و هي أربع مدائن، و في كل مدينة أربع مائة ألف مقاتل سوى الذراري فحملتهم من الأرض السفلى حتى سمع أهل السماء أصوات الدجاج و نباح الكلاب ثم هويت بهم فقتلتهم، و أما أمانتي فلم أومر بشيء فعدوته إلى غيره.
أقول: و الرواية لا تخلو من شيء و قد ضعفوا ابن عساكر و خاصة فيما تفرد به.
و في الخصال، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من قال في كل يوم من شعبان سبعين مرة: أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الحي القيوم و أتوب إليه، كتب في الأفق المبين. قال: قلت: و ما الأفق المبين؟ قال: قاع بين يدي العرش فيه أنهار تطرد و فيه من القدحان عدد النجوم.
و في تفسير القمي، في حديث أسنده إلى أبي عبد الله (عليه السلام): قوله: و ما هو بقول شيطان رجيم» قال: يعني الكهنة الذين كانوا في قريش فنسب كلامهم إلى كلام الشياطين الذين كانوا معهم يتكلمون على ألسنتهم فقال: «و ما هو بقول شيطان رجيم» مثل أولئك.
|